سورة المنافقون: الآية 10 - وأنفقوا من ما رزقناكم من...

تفسير الآية 10, سورة المنافقون

وَأَنفِقُوا۟ مِن مَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَآ أَخَّرْتَنِىٓ إِلَىٰٓ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ

الترجمة الإنجليزية

Waanfiqoo min ma razaqnakum min qabli an yatiya ahadakumu almawtu fayaqoola rabbi lawla akhkhartanee ila ajalin qareebin faassaddaqa waakun mina alssaliheena

تفسير الآية 10

وأنفقوا -أيها المؤمنون- بالله ورسوله بعض ما أعطيناكم في طرق الخير، مبادرين بذلك من قبل أن يجيء أحدكم الموت، ويرى دلائله وعلاماته، فيقول نادمًا: ربِّ هلا أمهلتني، وأجَّلت موتي إلى وقت قصير، فأتصدق من مالي، وأكن من الصالحين الأتقياء.

«وأنفقوا» في الزكاة «مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا» بمعنى هلا، أو لا زائدة ولو للتمني «أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّق» بإدغام التاء في الأصل في الصاد أتصدق بالزكاة «وأكن من الصالحين» بأن أحج، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما قصر أحد في الزكاة والحج إلا سأل الرجعة عند الموت.

وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ يدخل في هذا، النفقات الواجبة، من الزكاة والكفارات ونفقة الزوجات، والمماليك، ونحو ذلك، والنفقات المستحبة، كبذل المال في جميع المصالح، وقال: مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ليدل ذلك على أنه تعالى، لم يكلف العباد من النفقة، ما يعنتهم ويشق عليهم، بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم الله الذي يسره لهم ويسر لهم أسبابه.فليشكروا الذي أعطاهم، بمواساة إخوانهم المحتاجين، وليبادروا بذلك، الموت الذي إذا جاء، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير، ولهذا قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان، سائلاً الرجعة التي هي محال: رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي: لأتدارك ما فرطت فيه، فَأَصَّدَّقَ من مالي، ما به أنجو من العذاب، وأستحق به جزيل الثواب، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بأداء المأمورات كلها، واجتناب المنهيات، ويدخل في هذا، الحج وغيره، وهذا السؤال والتمني، قد فات وقته، ولا يمكن تداركه.

ثم حثهم على الإنفاق في طاعته فقال : ( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ) فكل مفرط يندم عند الاحتضار ، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرا ، يستعتب ويستدرك ما فاته ، وهيهات ! كان ما كان ، وأتى ما هو آت ، وكل بحسب تفريطه ، أما الكفار فكما قال الله تعالى : ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) [ إبراهيم : 44 ] وقال تعالى : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) [ المؤمنون : 99 ، 100 ]

ثم حضهم- سبحانه- على الإنفاق في سبيله فقال: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ.والمراد بالإنفاق: إنفاق المال في وجوه الخير والطاعات، فيشمل الزكاة المفروضة، والصدقات المستحبة، وغير ذلك من وجوه البر والخير.و «من» في قوله- تعالى- مِمَّا رَزَقْناكُمْ للتبعيض إذ المطلوب إنفاقه بعض المال الذي يملكه الإنسان، وليس كله، وهذا من باب التوسعة منه- تعالى- على عباده، ومن مظاهر سماحة شريعته- عز وجل-.والمراد بالموت: علاماته وأماراته الدالة على قرب وقوعه.وقوله فَيَقُولَ معطوف على قوله أَنْ يَأْتِيَ ومسبب عنه.ولَوْلا بمعنى هلا فهي حرف تحضيض.وقوله: فَأَصَّدَّقَ منصوب على أنه في جواب التمني، وقوله: وَأَكُنْ بالجزم، لأنه معطوف على محل فَأَصَّدَّقَ كأنه قيل: إن أخرتنى إلى أجل قريب أتصدق وأكن من الصالحين.والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن طاعة الله - تعالى- بل داوموا عليها كل المداومة، وأنفقوا بسخاء وسماحة نفس مما أعطيناكم من أرزاق كثيرة، ومن نعم لا تحصى، وليكن إنفاقكم من قبل أن تنزل بأحدكم أمارات الموت وعلاماته ...وحينئذ يقول أحدكم يا رب، هلا أخرت وفاتي إلى وقت قريب من الزمان لكي أتدارك ما فاتنى من تقصير، ولكي أتصدق بالكثير من مالي، وأكون من عبادك الصالحين.وقال- سبحانه- مِمَّا رَزَقْناكُمْ فأسند الرزق إليه، لكي يكون أدعى إلى الامتثال والاستجابة، لأنه- سبحانه- مع أن الأرزاق جميعها منه، إلا أنه- فضلا منه وكرما- اكتفى منهم بإنفاق جزء من تلك الأرزاق.وقدم- سبحانه- المفعول وهو «أحدكم» على الفاعل وهو «الموت» ، للاهتمام بالمفعول، وللإشعار بأن الموت نازل بكل إنسان لا محالة.والتعبير بقوله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ... يشعر بأن القائل قد قال ذلك زيادة في تأميل الاستجابة، فكأنه يقول: يا رب ألتمس منك أن تؤخر أجلى إلى وقت قريب لا إلى وقت بعيد لكي أتدارك ما فاتنى في هذا الوقت القريب الذي هو منتهى سؤالى، وغاية أملى..

( وأنفقوا من ما رزقناكم ) ، قال ابن عباس : يريد زكاة الأموال ، ( من قبل أن يأتي أحدكم الموت ) ، فيسأل الرجعة ، ( فيقول رب لولا أخرتني ) ، هلا أخرتني أمهلتني . وقيل : " لا " صلة فيكون الكلام بمعنى التمني ، أي : لو أخرتني ، ( إلى أجل قريب فأصدق ) ، فأتصدق وأزكي مالي ، ( وأكن من الصالحين ) ، أي من المؤمنين .نظيره قوله تعالى : " ومن صلح من آبائهم " ( الرعد - 23 ) ( غافر - 8 ) ، هذا قول مقاتل وجماعة . وقالوا : نزلت الآية في المنافقين . وقيل : [ نزلت ] الآية في المؤمنين .والمراد بالصلاح هنا : الحج . وروى الضحاك ، وعطية عن ابن عباس قال : ما من أحد يموت وكان له مال لم يؤد زكاته وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت . وقرأ هذه الآية وقال : " وأكن من الصالحين " قرأ أبو عمرو " وأكون " بالواو ونصب النون على جواب التمني وعلى لفظ فأصدق ، قال : إنما حذفت الواو من المصحف اختصارا .وقرأ الآخرون : " وأكن " بالجزم عطفا على قوله " فأصدق " لو لم يكن فيه الفاء ، لأنه لو لم يكن فيه فاء كان جزما . يعني : إن أخرتني أصدق وأكن ، ولأنه مكتوب في المصحف بحذف الواو .

قوله تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحينفيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة ، ولا يجوز تأخيرها أصلا . وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها .الثانية : قوله تعالى : فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحا . وروى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت . فقال رجل : يا ابن عباس ، اتق الله ، إنما سأل الرجعة الكفار . فقال : سأتلو عليك بذلك قرآنا : يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين إلى قوله : والله خبير بما تعملون قال : فما يوجب الزكاة ؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعدا . قال : فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة .قلت : ذكره الحليمي أبو عبد الله الحسين بن الحسن في كتاب ( منهاج الدين ) مرفوعا فقال : وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان عنده مال يبلغه الحج . . . الحديث ; فذكره . وقد تقدم في " آل عمران " لفظه .الثالثة : قال ابن العربي : " أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل ; فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين . وأما القول في الحج ففيه إشكال ; لأنا إن قلنا : إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء ; فلا تخرج الآية عليه . وإن قلنا : إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح ; لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات . وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء . وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل ; لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها ، وإنما يدخل في المتفق عليه . والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن ; لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد .الرابعة : قوله تعالى : لولا أي هلا ; فيكون استفهاما . وقيل : " لا " صلة ; فيكون الكلام بمعنى التمني . " فأصدق " نصب على جواب التمني بالفاء . " وأكون " عطف على " فأصدق " وهي قراءة ابن عمرو وابن محيصن ومجاهد . وقرأ الباقون " وأكن " بالجزم عطفا على موضع الفاء ; لأن قوله : " فأصدق " لو لم تكن الفاء لكان مجزوما ; أي أصدق . ومثله من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم فيمن جزم . قال ابن عباس : هذه الآية أشد على أهل التوحيد ; لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة .قلت : إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل ، لما يرى من الكرامة .

يقول تعالى ذكره: وأنفقوا أيها المؤمنون بالله ورسوله من الأموال التي رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول إذا نزل به الموت: يا ربّ هلا أخرتني فتُمْهَلَ لي في الأجل إلى أجل قريب. فأصدّق يقول: فأزكي مالي ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) يقول: وأعمل بطاعتك، وأؤدّي فرائضك.وقيل: عنى بقوله: ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) وأحجّ بيتك الحرام.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس وسعيد بن الربيع، قال سعيد، ثنا سفيان، وقال يونس: أخبرنا سفيان، عن أَبي جناب عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس، قال: ما من أحد يموت ولم يؤدّ زكاة ماله ولم يحجّ إلا سأل الكرّة، فقالوا: يا أبا عباس لا تزال تأتينا بالشيء لا نعرفه؛ قال: فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله: ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ) قال: أؤدي زكاة مالي ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: أحجّ.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أَبي سنان، عن رجل، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال يجب عليه فيه الزكاة أن يزكي، وإذا أطاق الحجّ أن يحجّ من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرّة فلا يُعطاها، فقال رجل: أما تتقي الله، يسأل المؤمن الكرّة قال: نعم، أقرأ عليكم قرآنًا، فقرأ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فقال الرجل: فما الذي يوجب عليّ الحجّ، قال: راحلة تحمله، ونفقة تبلغه.حدثنا عباد بن يعقوب الأسديّ وفضالة بن الفضل، قال عباد: أخبرنا يزيد أَبو حازم مولى الضحاك.وقال فضالة: ثنا بزيع عن الضحاك بن مزاحم في قوله: ( لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ) قال: فأتصدّق بزكاة مالي ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال: الحجّ.

وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)هذا إبطال ونقض لكيد المنافقين حين قالوا : { لا تنفقوا على من عند رسول الله } [ المنافقون : 7 ] ، وهو يعمّ الإِنفاق على الملتفين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم والإِنفاقَ على غيرهم فكانت الجملة كالتذييل .وفعل { أنفقوا } مستعمل في الطلب الشامل للواجب والمستحب فإن مدلول صيغة : افعل ، مطلق الطلب ، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب .وفي قوله : { من ما رزقناكم } إشارة إلى أن الإنفاق المأمور به شكر لله على ما رزق المنفِق فإن الشكر صرف العبد ما أنعم الله به عليه فيما خُلق لأجله ، ويعرف ذلك من تلقاء الشريعة .و { مِن } للتبعيض ، أي بعض ما رزقناكم ، وهذه توسعة من الله على عباده ، وهذا البعض منه هو معيّن المقدار مثل مقادير الزكاة وصدقة الفطر . ومنه ما يتعين بسدّ الخلة الواجب سدّها مع طاقة المنفق كنفقات الحج والجهاد والرباط ونفقات العيال الواجبة ونفقات مصالح المسلمين الضرورية والحاجيّة ، ومنه ما يتعين بتعين سببه كالكفارات ، ومنه ما وكل للناس تعيينه مما ليس بواجب من الإِنفاق فذلك موكول إلى رغبات الناس في نوال الثواب فإن ذلك باب عظيم من القربى من رضى الله تعالى ، وفي الحديث « الصدقة تُطفىء الخطايا كما يُطفىء الماءُ النارَ » .وقد ذكَّر الله المؤمنين بما في الإِنفاق من الخير بأن عليهم أن يكثروا منه ما داموا مقتدرين قبل الفوت ، أي قبل تعذر الإِنفاق والإِتيان بالأعمال الصالحة ، وذلك حين يحسّ المرء بحالة تؤذن بقرب الموت ويُغْلَب على قواه فيسأل الله أن يؤخر مَوته ويشفيه ليأتي بكثير مما فرط فيه من الحسنات طمعاً أن يستجاب له فإن كان في أجله تأخير فلعل الله أن يستجيب له ، فإن لم يكن في الأجل تأخير أو لم يقدر الله له الاستجابة فإنه خير كثير .و { لولا } حرف تحضيض ، والتحضيض الطلب الحثيث المضطر إليه ، ويستعمل { لولا } للعرض أيضاً والتوبيخ والتنديم والتمني على المجاز أو الكناية ، وتقدم عند قوله تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت } في سورة [ يونس : 98 ] .وحق الفعل بعدها أن يكون مضارعاً وإنما جاء ماضياً هنا لتأكيد إيقاعه في دعاء الداعي حتى كأنه قد تحقق مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] وقرينة ذلك ترتيب فعلَيْ { فأصدق وأكن من الصالحين } عليه .والمعنى : فيسأل المؤمن ربه سؤالاً حثيثاً أن يحقق تأخير موته إلى أجل يستدرك فيه ما اشتغل عنه من إنفاق وعمل صالح .ووصفُ الأجللِ ب { قريب } تمهيد لتحصيل الاستجابة بناء على متعارف الناس أن الأمر اليسير أرجى لأن يستجيبه المسؤول فيغلب ذلك على شعورهم حين يسألون الله تنساق بذلك نفوسهم إلى ما عرفوا ، ولذلك ورد في الحديث « لا يقولَنَّ أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت وليعزم المسألةَ فإنه لا مُكْره له »تنبيهاً على هذا التوهم فالقرآن حكى عن الناس ما هو الغالب على أقوالهم .وانتصب فعل { فأصدق } على إضمار ( أنْ ) المصدرية إضماراً واجباً في جواب الطلب .وأما قوله : { وأكن } فقد اختلف فيه القراء .فأما الجمهور فقرأوه مجزوماً بسكون آخره على اعتباره جواباً للطلب مباشرة لعدم وجود فاء السببية فيه ، واعتبار الواو عاطفة جملة على جملة وليست عاطفة مفرداً على مفرد . وذلك لقصد تضمين الكلام معنى الشرط زيادة على معنى التسبب فيغني الجزم عن فعل شرط . فتقديره : إنْ تؤخرْني إلى أجل قريب أَكُن من الصالحين ، جمعاً بين التسبب المفاد بالفاء ، والتعليق الشرطي المفاد بجزم الفعل .وإذا قد كان الفعل الأول هو المؤثر في الفعلين الواقِع أحدهُما بعد فاء السببية والآخرُ بعد الواو العاطفة عليه . فقد أفاد الكلام التسبب والتعليق في كلا الفعلين وذلك يرجع إلى مُحسن الاحتباك . فكأنه قيل : لولا أخرتني إلى أجل قريب فَأَصَّدَّقَ وأكونَ من الصالحين . إن تؤخرني إلى أجل قريب أصَّدَّقْ وأكُنْ من الصالحين .ومن لطائف هذا الاستعمال أن هذا السائل بعد أن حثَّ سؤالَه أعقبه بأن الأمر ممكن فقال : إن تؤخرني إلى أجل قريب أصَّدق وأكن من الصالحين . وهو من بدائع الاستعمال القرآني لقصد الإِيجاز وتوفير المعاني .ووجَّه أبو علي الفارسي والزجاجُ قراءة الجمهور بجعل { وأكن } معطوفاً على محل { فأصدق } . وقرأه أبو عمرو وحده من بين العشرة { وأكونَ } بالنصب والقراءة رواية متواترة وإن كانت مخالفة لرسم المصاحف المتواترة . وقيل : إنها يوافقها رسم مصحف أَبيّ بن كعب ومصحفُ ابن مسعود .وقرأ بذلك الحسن والأعمش وابن محيض من القراءات غير المشهورة . ورويت عن مالك بن دينار وابن جبير وأبي رجاء . وتلك أقل شهرة .واعتذر أبو عمرو عن مخالفة قراءته للمصحف بأن الواو حذفت في الخط اختصاراً يريد أنهم حذفوا صورة إشباع الضمة وهو الواو اعتماداً على نطق القارىء كما تحذف الألف اختصاراً بكثرة في المصاحف . وقال القراء العرب : قد تسقط الواو في بعض الهجاء كما أسقطوا الألف من سليمان وأشباهه ، أي كما أسقطوا الواو الثانية من داوود وبكثرة يكتبونه داود . قال الفراء : ورأيت في مصاحف عبد الله «فقُولا» نقلاً بغير واو ، وكل هذا لا حاجة إليه لأن القرآن ملتقىًّ بالتواتر لا بهجاء المصاحف وإنما المصاحف معينة على حفظه .
الآية 10 - سورة المنافقون: (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من...)