سورة عبس (80): مكتوبة كاملة مع التفسير التحميل

تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة عبس بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة عبس مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.

معلومات عن سورة عبس

  • نوع سورة عبس: مكية
  • عدد الآيات في سورة عبس: 42
  • ترتيب سورة عبس في القرآن الكريم: 80
  • ترتيب نزول الوحي: 24
  • اسم السورة باللغة الإنجليزية: He frowned
  • أرقام الصفحات في القرآن الكريم: الصفحة 585
  • التفسير: تنوير المقباس من تفسير ابن عباس

سُورَةُ عَبَسَ
الصفحة 585 (آيات من 1 إلى 42)

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ أَن جَآءَهُ ٱلْأَعْمَىٰ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰٓ أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ وَهُوَ يَخْشَىٰ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ كَلَّآ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍۭ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍۭ بَرَرَةٍ قُتِلَ ٱلْإِنسَٰنُ مَآ أَكْفَرَهُۥ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُۥ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُۥ فَقَدَّرَهُۥ ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُۥ ثُمَّ أَمَاتَهُۥ فَأَقْبَرَهُۥ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُۥ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُۥ فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلْأَرْضَ شَقًّا فَأَنۢبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَآئِقَ غُلْبًا وَفَٰكِهَةً وَأَبًّا مَّتَٰعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَٰمِكُمْ فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ وَصَٰحِبَتِهِۦ وَبَنِيهِ لِكُلِّ ٱمْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ
585

الاستماع إلى سورة عبس

تفسير سورة عبس (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي)

الترجمة الإنجليزية

AAabasa watawalla

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما ، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم ، فأما الضمائر فيبين إبهامها قولُه : { فأنت له تصدى } [ عبس : 6 ] وأما الحادث فيتبين من ذكر الأعمى ومَن استغنى .وهذا الحادث سبب نزول هذه الآيات من أولها إلى قوله : { بررة } [ عبس : 16 ] . وهو ما رواه مالك في «الموطأ» مرسلاً عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال : أنزلت { عبس وتولى } في ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : يا محمد استدنني ، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ( أي عن ابن أم مكتوم ) ويُقبل على الآخر ، ويقول : يا أبا فلان هل ترى بما أقول بأساً فيقول : «لا والدِّماء ما أرى بما تقول يأساً» ، فأنزلت : { عبس وتولى } .ورواه الترمذي مسنداً عن عروة عن عائشة بقريب من هذا ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .وروى الطبري عن ابن عباس : «أن ابن أم مكتوم جاء يستقرىءُ النبي صلى الله عليه وسلم آيةً من القرآن ومثله عن قتادة .وقال الواحدي وغيره : «كان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يناجي عتبَة بن ربيعة وأبا جهل ، والعباسَ بن عبد المطلب ، وأبيَّ بن خلف ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الوليد بن المغيرة يَعرض عليهم الإِسلام . 6

الترجمة الإنجليزية

An jaahu alaAAma

أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) ولا خلاف في أن المراد ب { الأعمى } هو ابن أم مكتوم . قيل : اسمه عبد الله وقيل : اسمه عَمْرو ، وهو الذي اعتمده في «الإِصابة» ، وهو ابن قيس بن زائدة من بني عامر بن لؤي من قريش .وأمه عاتكة ، وكنيت أمَّ مكتوم لأن ابنها عبد الله ولد أعمى والأعمى يكنى عنه بمكتوم . ونسب إلى أمه لأنها أشرف بيتاً من بيت أبيه لأن بني مخزوم من أهل بيوتات قريش فوق بني عامر بن لؤي . وهذا كما نسب عَمْرو بن المنذر ملكُ الحِيرة إلى أمه هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر آكِل المُرار زيادة في تشريفه بوراثة الملك من قبل أبيه وأمه .ووقع في «الكشاف» : أن أم مكتوم هي أم أبيه . وقال الطيبي : إنه وهَم ، وأسلم قديماً وهاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها ، وتوفي بالقادسية في خلافة عمر بعد سنة أربع عشرة أو خمس عشرة .وفيه نزلت هذه السورة وآيةُ { غيرَ أُولي الضرر } من سورة النساء ( 95 ) .وكان النبي يحبّه ويُكرمه وقد استخلفه على المدينة في خروجه إلى الغزوات ثلاث عشرة مرة ، وكان مؤذِّنَ النبي هو وبلال بن رباح .والعُبوسُ بضم العين : تقطيب الوجه وإظهار الغضب .ويقال : رجل عَبوس بفتح العين ، أي متقطب ، قال تعالى : { إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً } [ الإنسان : 10 ] . وعبس من باب ضرَب .والتولي : أصله تحوّل الذات عن مكانها ، ويستعار لعدم اشتغال المرء بكلام يلقَى إليه أو جليس يحلّ عنده ، وهو هنا مستعار لعدم الاشتغال بسؤال سائل ولعدم الإِقبال على الزائر .وحذف متعلق { تولّى } لظهور أنه تولَ عن الذي مجيئه كان سبب التولي .وعبر عن ابن أم مكتوم ب { الأعمى } ترقيقاً للنبيء صلى الله عليه وسلم ليكون العتاب ملحوظاً فيه أنه لما كان صاحب ضَرارة فهو أجدر بالعناية به ، لأن مثله يكون سريعاً إلى انكسار خاطره .و { أن جاءه الأعمى } مجرور بلام الجر محذوففٍ مع { أن } وهو حذف مطرد وهو متعلق بفعلي { عبس وتولى } على طريقة التنازع .والعلم بالحادثة يدل على أن المراد مجيء خاص وأعمى معهود .وصيغة الخبر مستعملة في العتاب على الغفلة عن المقصود الذي تضمنه الخبر وهو اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتناء بالحرص على تبليغ الدعوة إلى من يرجو منه قبولَها مع الذهول عن التأمل فيما يقارن ذلك من تعليم من يرغب في علم الدين ممن آمن ، ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لم يشأ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام ، فوجهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثاً على أن يترقب المعنيَّ من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب ، وهذا تلطف من الله برسوله صلى الله عليه وسلم ليقع العتاب في نفسه مدرجاً وذلك أهون وقعاً ، ونظير هذا قوله : { عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] .قال عياض : قال عون بن عبد الله والسمرقندي : أخبره الله بالعفو قبل أن يخبره بالذنب حتى سكن قلبه ا ه . فكذلك توجيه العتاب إليه مسنداً إلى ضمير الغائب ثم جيء بضمائر الغيبة فذكر الأعمى تظهر المراد من القصة واتضح المراد من ضمير الغيبة .ثم جيء بضمائر الخطاب على طريقة الالتفات .ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجا من ذلك المجلس أن يُسلموا فيسلم بإسلامهم جمهور قريش أو جميعهم فكان دخول ابن أم مكتوم قطعاً لسلك الحديث وجعل يقول للنبيء صلى الله عليه وسلم يا رسول الله استدنني ، علمني ، أرشدني ، ويناديه ويكثر النداء والإِلحاح فظهرت الكراهية في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لعله لقطعه عليه كلامه وخشيته أن يفترق النفر المجتمعون ، وفي رواية الطبري أنه استقرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن .

الترجمة الإنجليزية

Wama yudreeka laAAallahu yazzakka

وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) وجملة { وما يدريك } الخ في موضع الحال .( وما يدريك ) مركبة من ( ما ) الاستفهامية وفعل الدّراية المقترن بهمزة التعدية ، أي ما يجعلك دارياً أي عالماً . ومثله : { ما أدراك } كقوله : { وما أدراك ما الحاقة } [ الحاقة : 3 ] . ومنه { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون }في سورة الأنعام ( 109 ) .والاستفهام في هذه التراكيب مراد منه التنبيه على مغفول عنه ثم تقع بعده جملة نحو { ما أدراك ما القارعة } [ القارعة : 3 ] ونحو قوله هنا : { وما يدريك لعله يزكى } .والمعنى أيُّ شيء يجعلك دارياً . وإنما يستعمل مثله لقصد الإجمال ثم التفصيل .قال الراغب : ما ذكر ما أدراك في القرآن إلا وذكر بيانه بعده ا ه . قلت : فقد يُبينه تفصيلٌ مثل قوله هنا : { وما يدريك لعله يزكى } وقوله : { وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر } [ القدر : 2 3 ] وقد يقع بعده ما فيه تهويل نحو : { وما أدراك ماهيه } [ القارعة : 10 ] أي ما يعلمك حقيقتها وقوله : { وما أدراك ما الحاقة } [ الحاقة : 3 ] أي أيُّ شيء أعلمك جواب : { ما الحاقة } .وفعل : { يدريك } معلق عن العمل في مفعوليه لورود حرف ( لعلّ ) بعده فإن ( لعل ) من موجبات تعليق أفعال القلوب على ما أثبته أبو علي الفارسي في «التذكرة» إلحاقاً للترجي بالاستفهام في أنه طلب . فلما علق فعل { يدريك } عن العمل صار غير متعدَ إلى ثلاثة مفاعيل وبقي متعدياً إلى مفعول واحد بهمزة التعدية التي فيه فصار ما بعده جملة مستأنفة .

الترجمة الإنجليزية

Aw yaththakkaru fatanfaAAahu alththikra

أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)والتذكر : حصول أثر التذكير ، فهو خطور أمر معلوم في الذهن بعد نسيانه إذ هو مشتق من الذُّكر بضم الذال .والمعنى : انظر فقد يكون تزكِّيهِ مرجواً ، أي إذا أقبلت عليه بالإِرشاد زاد الإِيمان رسوخاً في نفسه وفَعل خيرات كثيرة مما ترشده إليه فزاد تزكية ، فالمراد ب «يتزكى» تزكية زائدة على تزكية الإِيمان بالتملّي بفضائل شرائعه ومكارم أخلاقه مما يفيضه هديك عليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة " إذ الهدى الذي يزداد به المؤمن رفعة وكمالاً في درجات الإِيمان هو كاهتداء الكافر إلى الإيمان لا سيما إذ الغاية من الاهتداءين واحدة .و { يزكّى } أصله : يتزكى ، قلبت التاء زاياً لتقارب مخرجيهما قصداً ليتأتى الإِدغام وكذلك فُعِل في { يذّكر } من الإِدغام .والتزكّي : مطاوع زكَّاه ، أي يحصل أثر التزكية في نفسه . وتقدم في سورة النازعات .وجملة { أو يذَّكَّر } عطف على { يزَّكَّى } ، أي ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم ، أي تحصل الذكرى في نفسه بالإِرشاد لما لم يكن يعلمه أو تذكر لِما كان في غفلة عنه .والذكرى : اسم مصدر التذكير .وفي قوله تعالى : { فتنفعه الذكرى } اكتفاء عن أن يقول : فينفعه التزكي وتنفعه الذكرى لظهور أن كليهما نفع له .والذكرى : هو القرآن لأنّه يذكّر الناس بما يغفلون عنه قال تعالى : { وما هو إلا ذكر للعالمين } [ القلم : 52 ] فقد كان فيما سأل عنه ابن أم مكتوم آيات من القرآن .وقرأ الجمهور : { فتنفعُه } بالرفع عطفاً على «يذّكّر» . وقرأه عاصم بالنصب في جواب : { لعله يزكى } .

الترجمة الإنجليزية

Amma mani istaghna

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) تقدم الكلام على { أمَّا } في سورة النازعات أنها بمعنى : مهما يكن شيء ، فقوله : { أما من استغنى } تفسيره مهما يكن الذي استغنى فأنت له تصدّى ، أي مهما يكن شيء فالذي استغنى تتصدى له ، والمقصود : أنت تحرص على التصدي له ، فجعل مضمون الجواب وهو التصدّي له معلقاً على وجود من استغنى وملازماً له ملازمة التعليققِ الشرطي على طريقة المبالغة .والاستغناء : عدّ الشخص نفسه غنياً في أمر يدل عليه السياق قول ، أو فعل أو علم ، فالسين والتاء للحسبان ، أي حسب نفسه غنياً ، وأكثر ما يستعمل الاستغناء في التكبر والاعتزاز بالقوة .فالمراد ب { من استغنى } هنا : مَن عدّ نفسه غنياً عَن هديك بأن أعرض عن قبوله لأنه أجاب قول النبي صلى الله عليه وسلم له : « هل ترى بما أقول بَأساً ، بقوله : لا والدماء . . . » كناية عن أنه لا بأس به يريد ولكني غيرُ محتاج إليه .وليس المراد ب { من استغنى } من استغنى بالمال إذ ليس المقام في إيثار صاحب مال على فقير .وهذا الذي تصدَّى النبي صلى الله عليه وسلم لدعوته وعرض القرآن عليه هو على أشهر الأقوال المروية عن سلف المفسرين الوليد بن المغيرة المخزومي كما تقدم .

الترجمة الإنجليزية

Faanta lahu tasadda

فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)والإِتيان بضمير المخاطب مُظهراً قبلَ المسند الفعلي دون اسْتِتاره في الفعل يجوز أن يكون للتقوي كأنه قيل : تتصدى له تصدياً ، فمناط العتاب هو التصدي القوي .ويجوز أن يكون مفيداً للاختصاص ، أي فأنت لا غيرُك تَتَصدّى له ، أي ذلك التصدّي لا يليق بك . وهذا قريب من قولهم : مثلُك لا يبخل ، أي لو تصدّى له غيرك لكان هَوناً ، فأما أنت فلا يتَصدى مثلك لمثله فمناط العتاب هو أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في جليل قدره .وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الصاد على إدغام إحدى التاءين في الصاد . والباقون بالفتح وتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين .والتصدّي : التعرض ، أطلق هنا على الإِقبال الشديد مجازاً .

الترجمة الإنجليزية

Wama AAalayka alla yazzakka

وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)جملة معترضة بين جملة { أما من استغنى } [ عبس : 5 ] وجملة : { وأما من جاءك يسعى } [ عبس : 8 ] ، والواو اعتراضية .و { ما } نافية و { عليك } خبر مقدم . والمبتدأ { ألا يزكى } ، والمعنى : عدم تزكّيه ليس محمولاً عليك ، أي لست مؤاخذاً بعدم اهتدائه حتى تزيد من الحرص على ترغيبه في الإِيمان ما لم يكلفك الله به . وهذا رفق من الله برسوله صلى الله عليه وسلم

الترجمة الإنجليزية

Waamma man jaaka yasAAa

وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) عطف على جملة { أما من استغنى } [ عبس : 5 ] اقتضى ذكره قصد المقابلة مع المعطوف عليها مقابلة الضدين إتماماً للتقسيم . والمراد : بمن جاء يسعى : هو ابن أم مكتوم ، فحصل بمضمون هذه الجملة تأكيد لمضمون { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } [ عبس : 1 2 ] .والسعي : شدة المشي ، كُنِي به عن الحرص على اللقاء فهو مقابل لحال من استغنى لأن استغناءه استغناء المُمْتَعِض من التصدّي له .

الترجمة الإنجليزية

Wahuwa yakhsha

وَهُوَ يَخْشَى (9) وجملة { وهو يخشى } في موضع الحال ، وحذف مفعول { يخشى } لظهوره لأن الخشية في لسان الشرع تنصرف إلى خشية الله تعالى .والمعنى : أنه جاء طلباً للتزكية لأن يخشى الله من التقصير في الاسترشاد . واختير الفعل المضارع لإفادته التجدد .

الترجمة الإنجليزية

Faanta AAanhu talahha

فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)والقول في { فأنت عنه تلهى } كالقول في : { فأنت له تصدى } [ عبس : 6 ] .والعبرة من هذه الآيات أن الله تعالى زاد نبيئه صلى الله عليه وسلم علماً عظيماً من الحكمة النبوية ، ورفعَ درجة علمه إلى أسمى ما تبلغ إليه عقول الحكماء رعاةِ الأمم ، فنبهه إلى أن في معظم الأحوال أو جميعها نواحيَ صلاح ونفع قد تخفى لقلة اطرادها ، ولا ينبغي ترك استقرائها عند الاشتغال بغيرها ولو ظنه الأهم ، وأنّ ليس الإِصلاح بسلوك طريقة واحدة للتدبير بأخذ قواعد كلية منضبطة تشبهُ قواعد العلوم يطبقها في الحوادث ويغضي عما يعارضها بأن يسرع إلى ترجيح القَويّ على الضعيف مِما فيه صفة الصلاح ، بل شأن مقوّم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجاً واحداً بل الأمر يختلف باختلاف الناس . وهذا غور عميق يخاض إليه من ساحل القاعدة الأصولية في باب الاجتهاد القائلة : إن المجتهد إذا لاح له دليل : «يبحث عن المعارض» والقاعدة القائلة : «إن لله تعالى حكماً قبل الاجتهاد نصب عليه أمارة وكلف المجتهد بإصابته فإن أصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر واحد» .فإذا كان ذلك مقام المجتهدين من أهل العلم لأنه مستطاعهم فإن غوْره هو اللائق بمرتبة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فيما لم يرد له فيه وحي ، فبحثُه عن الحكم أوسع مدىً من مدى أبحاث عموم المجتهدين ، وتنقيبه على المعارض أعمق غَوراً من تناوشهم ، لئلا يفوت سيدَ المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفاً ، ما لم يكن إعماله يُبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يُوحَ إليه فيه .فالتزكية الحق هي المِحْور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني ، وهي مرمى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته ، وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزكَ بالإِيمان .وفي حاليهما حالان آخران سرُّهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيئه صلى الله عليه وسلم وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما ، فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإِيمان حين لاح من لِين نفْسه لسماع القرآن ما أطْمَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد اقتربَ من الإِيمان فمحَّض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإِيمان أعظم غرض بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لأجله ، فالاشتغال به يَبْدُو أهمّ وأرجحَ من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص ، وذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلمغير أن وراء ذلك الظاهر حالاً آخر كامناً عَلِمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوححِ لرسوله صلى الله عليه وسلم التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير ، وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئاً . وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبيء صلى الله عليه وسلم بإعانة الله رجحانَ حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغُر ما أظهره من اللين مصانعةً أو حياءً من المكابرة ، فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم عام للأمة بزيادة عددها ونفع خاص لذاته . وفي ازدياد المؤمن من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له والرسول راع لآحاد الأمة ولمجموعها ، فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص ، بيد أن الكافر صاحبَ هذه القضية تنبىء دخيلتُه بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله ، وبذلك تَعطل الانتفاعُ بها عموماً وخصوصاً وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعاً لخاصة نفسه ولا يخلو من عَود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها .وقد حصل من هذا إشعار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن الاهتداء صنوف عديدة وله مراتب سامية ، وليس الاهتداء مقتصراً على حصول الإِيمان مراتبَ وميادينَ لسبق همم النفوس لا يُغفل عن تعهدها بالتثبيت والرعي والإِثمار ، وذلك التعهد إعانة على تحصيل زيادة الإِيمان .وتلك سرائر لا يعلم حقها وفروقها إلا الله تعالى . فعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خليفة الله في خلقه أن يتوخاها بقدر المستطاع ، فما أوحى الله إليه في شأنه اتبع ما يوحى إليه وما لم ينزل عليه وحي في شأنه فعليه أن يصرف اجتهاده كما أشار إليه قوله تعالى : { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول } [ محمد : 30 ] .فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة للتنبيه إلى الاكتراث بتتبع تلك المراتب وغرس الإِرشاد فيها على ما يرجى من طيب تُربتِهَا ليخرج منها نبات نافع للخاص وللعامة .والحاصل أن الله تعالى أعلم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ذلك المشرك الذي محضه نصحَه لا يُرجى منه صلاح ، وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحاً تفيد المبادرةُ به ، لأنه في حالة تلهفه على التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد استعداداً منه في حين آخر .فهذه الحادثة منوال ينسج عليه الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا ، وأن القرائن قد تَستُر الحقائق .وفي ما قررنا ما يعرف به أن مرجع هذه الآية وقضيتها إلى تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد فيما لم يُوحَ إليه فيه ، وأنه ما حاد عن رعاية أصول الاجتهاد قيد أنملة . وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم ووقوعه ، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر ، لأن السرائر موكولة إلى الله تعالى ، وأن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يخطىء بحسب ما نصبه الله من الأدلة ، ولكنه قد يخالف ما في علم الله ، وأن الله لا يقر رسوله صلى الله عليه وسلم على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر .ونظير هذه القضية قضية أسرى بدر التي حدثت بعد سنين من نزول هذه الآية والموقف فيهما متماثل .وفي قوله تعالى : { وما يدريك لعله يزكى } [ عبس : 3 ] إيماء إلى عذر النبي صلى الله عليه وسلم في تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه ، والمعنى : لعله يزّكى تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشداً حريصاً ، وهذه حالة خفية .وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله : { وما عليك ألا يزكى } [ عبس : 7 ] إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإِقبال على استجابة المؤمن المسترشد .فإن قال قائل : فلماذا لم يُعلِم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم .قلنا : لأن العلم الذي يحصل عن تبيُّن غفلة ، أو إشعارٍ بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبيء صلى الله عليه وسلم مزية كِلا المقامين : مقام الاجتهاد ، ومقام الإِفادة .وحكمة ذلك كله أن يُعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا المهيع من عليِّ الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها .ونظير هذا ما ضَربه الله لموسى عليه السلام من المثَل في ملاقاة الخضر ، وما جرى من المحاورة بينهما ، وقول الخضر لموسى : { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً } [ الكهف : 68 ] ثم قوله له : { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } [ الكهف : 82 ] . وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح : { يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } [ هود : 46 ] وقوله لإبراهيم : { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلاً وتفصيلاً ، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإِعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم ، ومن العُبوس له ، والتولّي عنه ، ومن التصدّي القوي لدعوة المشرك والإِقبال عليه .والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتُه من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم : « مرحباً بمن عاتبني ربي لأجله » إنما هو عتاب على العُبوس والتولّي ، لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوة ، وتأخير إرشاد ، لأن ما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة من سبيل الإِرشاد لا يستدعي عتاباً إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد القويم لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاهُ إرشادَاننِ لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر ، هما : إرشاد كافر إلى الإِسلام عساه أن يسلم ، وإرشاد مؤمن إلى شُعَب الإِسلام عساه أن يزداد تزكية .وليس في حال المؤمن ما يفيت إيماناً وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يُنَاكِد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام .ومن القواعد المستقرَاةِ من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، ونفيُ الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر ، فلم يسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه . وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة : { فاتقوا اللَّه ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] وهو القائل : « إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع . فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقتطع له قطعة من نار » وهو القائل : « أمرت أن أحكم بالظاهر واللَّه يتولى السرائر » وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد . فلا قِبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها ، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاءَ نفس وإشراقَ قلب لا يتهيآن له في كل وقت .وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيئه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة هو وحي له بأمر كان مغيباً عنه حين أقبل على دعوة المشرك وأرجأ إرشاد المؤمن .وليس في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه وما أظهرَ اللَّهُ فيها غيْبَ علمه إلا لإِظهار مزية مؤمن راسخ الإِيمان وتسجيل كفر مشرك لا يُرجى منه الإِيمان ، مع ما في ذلك من تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بما عَلِمه الله من حسن أدبه مع المؤمنين ورفع شأنهم أمام المشركين . فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يَستصغر أمثال ابن أم مكتوم ، فما وقع في خلال هذا العتاب من ذكر حال المؤمن والكافر إنما هو إدماج لأن في الحادثة فرصَةً من التنويه بسمو منزلة المؤمن لانطواء قلبه على أشعة تؤهله لأن يستنير بها ويفيضها على غيره جمعاً بين المعاتبة والتعليم ، على سنن هدي القرآن في المناسبات .

الترجمة الإنجليزية

Kalla innaha tathkiratun

كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) { تلهى } .إبطال وقد تقدم ذكر ( كلاّ ) في سورة مريم ( 79 82 ) ، وتقدم قريباً في سورة النبأ ( 4 ، 5 ) ، وهو هنا إبطال لما جرى في الكلام السابق ولو بالمفهوم كما في قوله : { وما يدريك لعله يزكى } [ عبس : 3 ] . ولو بالتعريض أيضاً كما في قوله : { عبس وتولى } [ عبس : 1 ] .وعلى التفسير الثاني المتقدم ينصرف الإِبطال إلى { عبس وتولى } خاصة .ويجوز أن يكون تأكيداً لقوله : { وما عليك ألاَّ يزكى } [ عبس : 7 ] على التفسيرين ، أي لا تظن أنك مسؤول عن مكابرته وعناده فقد بلَّغت ما أمرتَ بتبليغه .{ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِى سَفَرَةٍ * كِرَامٍ } .استئناف بعد حرف الإِبطال ، وهو استئناف بياني لأن ما تقدم من العتاب ثم ما عقبه من الإِبطال يثير في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم الحيرة في كيف يكون العمل في دعوة صناديد قريش إذا لم يتفرغ لهم لئلا ينفروا عن التدبر في القرآن ، أو يثير في نفسه مخافة أن يكون قصَّر في شيء من واجب التبليغ .وضمير { إنها } عائد إلى الدعوة التي تضمنها قوله : { فأنت له تصدى } [ عبس : 6 ] .ويجوز أن يَكون المعنى : أن هذه الموعظة تذكرة لك وتنبيه لما غفلت عنه وليست ملاماً وإنما يعاتب الحبيبُ حبيبَه .ويجوز عندي أن يكون { كلا إنها تذكرة } استئنافاً ابتدائياً موجهاً إلى من كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه قُبيل نزول السورة فإنه كان يَعرض القرآن على الوليد بن المغيرة ومَن معه ، وكانوا لا يستجيبون إلى ما دعاهم ولا يصدقون بالبعث ، فتكون ( كلاّ ) إبطالاً لما نَعتوا به القرآن من أنه أساطير الأولين أو نحوِ ذلك .فيكون ضمير { إنها تذكرة } عائداً إلى الآيات التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك المجلس ثم أعيد عليها الضمير بالتذكير للتنبيه على أن المراد آيات القرآن .ويؤيد هذا الوجهَ قولُه تعالى عَقبه : { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] الآيات حيث ساق لهم أدلة إثبات البعث .فكان تأنيث الضمير نكتةً خصوصية لتحميل الكلام هذه المعاني .

الترجمة الإنجليزية

Faman shaa thakarahu

فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) والضمير الظاهر في قوله : { ذكره } يجوز أن يعود إلى { تذكرة } لأن مَا صَدْقَها القرآن الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرضه على صناديد قريش قُبيل نزول هذه السورة ، أي فمن شاء ذكرَ القرآن وعمل به .ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الله تعالى فإن إعادة ضمير الغيبة على الله تعالى دون ذِكر معاده في الكلام كثير في القرآن لأن شؤونه تعالى وأحكامه نزل القرآن لأجلها فهو ملحوظ لكل سامع للقرآن ، أي فمن شاء ذكر الله وتوخّى مرضاته .والذِكر على كلا الوجهين : الذكر بالقلب ، وهو توخّي الوقوف عند الأمر والنهي .وتعدية فعل ( ذكر ) إلى ذلك الضمير على الوجهين على حذف مضاف يناسب المقام .والذي اقتضى الإِتيانَ بالضمير وكونه ضمير مذكر مراعاةُ الفواصل وهي : { تذكرهْ ، مطهرهْ ، سفرهْ ، بررهْ } .وجملة : { فمن شاء ذكره } معترضة بين قوله : { تذكرة } وقوله : { في صحف } .والفاء لتفريع مضمون الجملة على جملة { إنها تذكرة } فإن الجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الفاء قائماً ، فالفاء من جملة الاعتراض ، أي هي تذكرة لك بالأصالة وينتفع بها من شاء أن يتذكر على حسب استعداده ، أي يتذكر بها كل مسلم كقوله تعالى : { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] .وفي قوله : { فمن شاء ذكره } تعريض بأن موعظة القرآن نافعة لكل أحد تجرد عن العناد والمكابرة ، فمن لم يتعظ بها فلأنه لم يشأ أن يتعظ . وهذا كقوله تعالى : { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] وقوله : { لمن شاء منكم أن يستقيم } [ التكوير : 28 ] وقوله : { وإنه لتذكرة للمتقين } [ الحاقة : 48 ] ونحوه كثير ، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى : { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } في سورة الإنسان ( 29 ) .والتذكرة : اسم لما يُتذكر به الشيءُ إذا نُسي . قال الراغب : وهي أعم من الدلالة والأمارة قال تعالى : { فما لهم عن التذكرة معرضين } وتقدم نظيره في سورة المدثر ( 49 ) .وكل من تذكرة } و { ذكره } هو من الذكر القلبي الذي مصدره بضم الدال في الغالب ، أي فمن شاء عمل به ولا ينسه .

الترجمة الإنجليزية

Fee suhufin mukarramatin

فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) والصحف : جمع صحيفة ، وهي قطعة من أديم أو وَرَق أو خرقةٌ يكتب فيها الكتاب ، وقياس جمعها صحائف ، وأما جمعها على صحف فمخالف للقياس ، وهو الأفصح ولم يرد في القرآن إلا صُحف ، وسيأتي في سورة الأعلى ، وتطلق الصحيفة على ما يكتب فيه .

الترجمة الإنجليزية

MarfooAAatin mutahharatin

مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) و { مطهرة } اسم مفعول مِن طَهَّره إذا نظَّفه . والمراد هنا : الطهارة المجازية وهي الشرف ، فيجوز أن يحمل الصحف على حقيقته فتكون أوصافها ب { مُكرمة ، مرفوعة ، مطهرة } محمولة على المعاني المجازية وهي معاني الاعتناء بها كما قال تعالى : { قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم } [ النمل : 29 ] . وتشريفها كما قال تعالى : { إن كتاب الأبرار لفي عليين } [ المطففين : 18 ] وقُدسِيةِ معانيها كما قال تعالى : { ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم } [ البقرة : 129 ] ، وكان المرادُ بالصحف الأشياء التي كتب فيها القرآن من رقوق وقراطيسَ ، وأكتاف ، ولِخاف ، وجريد .فقد روي أن كتَّاب الوحي كانوا يكتبون فيها كما جاء في خبر جمع أبي بكر للمصحف حين أمر بكتابته في رقوق أو قراطيس ، ويكون إطلاق الصحف عليها تغليباً ويكون حرف ( في ) للظرفية الحقيقية

الترجمة الإنجليزية

Biaydee safaratin

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) ويكون المراد بالسفرة جمع سافر ، أي كاتب ، وروي عن ابن عباس . قال الزجاج : وإنما قيل للكتاب سفر ( بكسر السين ) وللكاتب سَافر؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه يقال : أسفر الصبح ، إذا أضاء وقاله الفراء .ويجوز أن يراد بالصحف كتب الرسل الذين قبل محمد صلى الله عليه وسلم مثل التوراة والإِنجيل والزبور وصحف إبراهيم عليه السلام .فتكون هذه الأوصاف تأييداً للقرآن بأن الكتب الإلهية السابقة جاءت بما جاء به . ومعنى كون هذه التذكرة في كتب الرسل السابقين : أن أمثال معانيها وأصولها في كتبهم ، كما قال تعالى : { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 18 19 ] وكما قال : { وإنه لفي زبر الأولين } [ الشعراء : 196 ] وكما قال : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } [ الشورى : 13 ] .ويجوز أن يراد بالصحف صحفٌ مجازية ، أي ذوات موجودةٌ قدسيةٌ يتلقى جبريل عليه السلام منها القرآن الذي يؤمر بتبليغه للنبيء صلى الله عليه وسلم ويكون إطلاق الصحف عليها لشبهها بالصحف التي يكتب الناس فيها . ومعنى { مكرمة } عناية الله بها ، ومعنى { مرفوعة } أنها من العالم العلوي ، ومعنى { مطهرة } مقدسة مباركة ، أي هذه التذكرة مما تضمنه علم الله وما كتبه للملائكة في صحف قدسية .وعلى الوجهين المذكورين في المراد بالصحف ( فَسَفَرة ) يجوز أن يكون جمع سَافر ، مثل كاتب وكتبة ، ويجوز أن يكون اسم جمع سَفير ، وهو المرسَل في أمر مهم ، فهو فَعيل بمعنى فاعل ، وقياس جمعه سفراء وتكون ( في ) للظرفية المجازية ، أي المماثلة في المعاني .وتأتي وجوهٌ مناسبة في معنى { سفرة } ، فالمناسب للوجه الأول : أن يكون السفرة كتاب القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يكون المراد قراءُ القرآن ، وبه فسر قتادة وقال : هم بالنبطية القُراء ، وقال غيرهم : الوراقون باللغة العبرانية .وقد عدت هذه الكلمة في عداد ما ورد في القرآن من المعرّب كما في «الإِتقان» عن ابن أبي حاتم ، وقد أغفلها السيوطي فيما استدركه على ابن السبكي وابن حجر في نظميهما في المعرَّب في القرآن أو قَصد عدم ذكرها لوقوع الاختلاف في تعريبها .والمناسب للوجه الثاني : أن يكون محمله الرسل .والمناسب للوجه الثالث : أن يكون محمله الملائكة لأنهم سفراءُ بين الله ورسله .والمراد بأيْديهم : حِفْظهم إياه إلى تبليغه ، فمثّل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعُهود .وإما أن يراد : الرسلُ الذين كانت بأيديهم كتُبهم مثل موسى وعيسى عليهما السلام .وإما أن يراد كتَّاب الوحي مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعمر وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة .وكان بعض المسلمين يكتب ما يتلقاه من القرآن ليدرسه مثل ما ورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب من عُثُوره على سورة طه مكتوبة عند أخته أم جميل فاطمة زوج سعيد بن زيد .وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته قال تعالى : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } [ العنكبوت : 49 ] فهذا معنى السفرة . وفيه بشارة بأنهم سينشرون الإِسلام في الأمم وقد ظهر مما ذكرنا ما لكلمة { سفرة } من الوقع العظيم المعجز في هذا المقام .

الترجمة الإنجليزية

Kiramin bararatin

كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)ووصف { كرام } مما وصف به الملائكة في آيات أخرى كقوله تعالى { كراماً كاتبين } [ الانفطار : 11 ] .ووصف البرَرة ورد صفةً للملائكة في الحديث الصحيح قوله : " الذي يقرأ القرآن وهو ماهِر به مع السَفرة الكرام البرَرَة " .والبررة : جمع بَرّ ، وهو الموصوف بكثرة البرور . وأصل بَرّ مصدر بَرَّ يبَرّ من باب فَرح ، ومصدره كالفَرح ، فهذا من باب الوصف بالمصدر مثل عَدل وقد اختص البررة بجمع بَرّ ولا يكون جمع بارّ .والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة الملائكةُ والأبرارَ الآدميون . قال الراغب : «لأن بررة أبلغ من أبرار إذ هو جمع بَرّ ، وأبرار جمع بَار ، وبَرّ أبلغ من بار كما أن عَدلا أبلغ من عادل» .وهذا تنويه بشأن القرآن لأن التنويه بالآيات الواردة في أول هذه السورة من حيث إنها بعض القرآن فأثني على القرآن بفضيلة أثَره في التذكير والإِرشاد ، وبرفعة مكانته ، وقدس مصدره ، وكرم قراره ، وطهارته ، وفضائل حَمَلَتِه ومبلغيه ، فإن تلك المدائح عائدة إلى القرآن بطريق الكناية .

الترجمة الإنجليزية

Qutila alinsanu ma akfarahu

قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى فإنه أريد به معين واحد أو أكثرُ ، وذلك يبيِّنه مَا وقع من الكلام الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه ابن أم مكتوم .والمناسبة وصفُ القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر ، وإذ قد كان أكبر دواعيهم على التكذيب بالقرآن أنه أخبر عن البعث وطالَبهم بالإِيمان به كان الاستدلال على وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قوله : { فمن شاء ذكره } [ عبس : 12 ] .والذي عُرِّف بقوله : { من استغنى } [ عبس : 5 ] يشمله العموم الذي أفاده تعريف { الإِنسان } من قوله تعالى : { قتل الإنسان ما أكفره } .وفعل قُتل فُلانٌ أصله دعاء عليه بالقتل . والمفسرون الأولون جعلوا : { قتل الإنسان } أنه لُعِن ، رواه الضحاك عن ابن عباس وقاله مجاهد وقتادة وأبو مالك . قال في «الكشاف» : «دعاء عليه وهذا من أشنع دعواتهم» ، أي فمورده غير مورد قوله تعالى : { قاتلهم اللَّه } [ التوبة : 30 ] وقولِهم : قاتَل الله فلاناً يريدون التعجب من حاله ، وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب لأن قوله : { ما أكفره } يغني عن ذلك .والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلهية لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء .وبناء { قتل } للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء ، إذ لا غرض في قاتِل يَقتله ، وكثر في القرآن مبنياً للمجهول نحو { فقتل كيف قدر } [ المدثر : 19 ] .وتعريف { الإنسان } يجوز أن يكون التعريفَ المسمى تعريفَ الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس ، وهو استغراق حقيقي ، وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولَّدَ بصيغة الاستغراق ادعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد ، ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني ، ويسمى العامَّ المرادَ به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول والقرينة هنا ما بُين به كفر الإِنسان من قوله : { من أي شيء خلقه } إلى قوله : { ثم إذا شاء أنشره } فيكون المراد من قوله : { الإنسان } المشركين المنكرين البعث ، وعلى ذلك جملة المفسرين ، فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث .قال مجاهد : ما كان في القرآن { قتل الإنسان } فإنما عُني به الكافر .والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس ، فالاستغراق الذي يقتضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة ، فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به ، بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان ، فقوله : { ما أكفره } تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر .فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإِنسان .فغالب الناس كفروا بالله من أَقدم عصور التاريخ وتفَشَّى الكفر بين أفراد الإِنسان وانتصروا له وناضلوا عنه . ولا أعجبَ من كفر من أَلَّهوا أعْجز الموجودات من حجارة وخشب ، أو نَفَوا أن يكون لهم رب خلقهم .ويجوز أن يكون تعريف { الإنسان } تعريف العهد لشخص معين من الإنسان يُعيِّنه خبر سبب النزول ، فقيل : أريد به أميةُ بن خلف ، وكان ممن حواه المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم ، وعندي أن الأولى أن يكون أراد به الوليد بن المغيرة .وعن ابن عباس أن المراد عتبة بن أبي لهب ، وذكر في ذلك قصة لا علاقة لها بخبر المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، والمناسبة ظاهرة .وجملة { ما أكفره } تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد . وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان .ومعنى شدة الكفر أن كفره شديد كَمّاً وكيْفاً ، ومتىً ، لأنه كفر بوحدانية الله ، وبقدرته على إعادة خلق الأجسام بعد الفناء ، وبإرساله الرسول ، وبالوحي إليه صلى الله عليه وسلم وأنه كفر قوي لأنه اعتقاد قوي لا يقبل التزحزح ، وأنه مستمر لا يقلع عنه مع تكرر التذكير والإِنذار والتهديد .وهذه الجملة بلغت نهاية الإِيجاز وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حدّ المذمة ، جامع للملامة ، ولم يسمع مثلها قبلها ، فهي من جوامع الكلم القرآنية .وحذف المتعلِّق بلفظ { أكفره } لظهوره من لفظ «أكفَرَ» وتقديرُه : ما أكفره بالله .وفي قوله : { قتل الإنسان ما أكفره } محسّن الاتِّزَان فإنه من بحر الرمل من عروضه الأولى المحذوفة .

الترجمة الإنجليزية

Min ayyi shayin khalaqahu

مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) وجملة { من أي شيء خلقه } بيان لجملة { قتل الإنسان ما أكفره } ، لأن مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إحالتهم البعث وذلك الإِنكار من أكبر أصول كفرهم .وجيء في هذا الاستدلال بصورة سؤال وجواب للتشويق إلى مضمونه ، ولذلك قرن الاستفهام بالجواب عنه على الطريقة المتقدمة في قوله تعالى : { عم يتساءلون عن النبأ العظيم } [ النبأ : 1 2 ] .والاستفهام صوري ، وجعل المستفهم عنه تعيين الأمر الذي به خلق الإنسان لأن المقام هنا ليس لإِثبات أن الله خلق الإِنسان ، بل المقام لإِثبات إمكان إعادة الخلق بتنظيره بالخلق الأول على طريقة قوله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول } [ ق : 15 ] أي كما كان خلق الإنسان أول مرة من نطفة يكون خلقه ثاني مرة من كائن مَّا ، ونظيره قوله تعالى : { فلينظر الإِنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر } في سورة الطارق ( 5 8 ) .والضمير المستتر في قوله : خلقه } عائد إلى لله تعالى المعلوم من فعل الخلق لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق الإنسان .

الترجمة الإنجليزية

Min nutfatin khalaqahu faqaddarahu

مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) وقدم الجار والمجرور في قوله : { من نطفة خلقه } محاكاة لتقديم المبيَّن في السؤال الذي اقتضى تقديمَه كونُه استفهاماً يستحق صدر الكلام ، مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق ، لما في تقديمه من التنبيه للاستدلال على عظيم حكمة الله تعالى إذ كوّن أبدع مخلوققٍ معروف من أهون شيء وهو النطفة .وإنما لم يستغن عن إعادة فعل خلقه في جملة الجواب مع العلم به بتقدم ذكر حاصله في السؤال لزيادة التنبيه على دقة ذلك الخلق البديع .فذكر فعل { خلقه } الثاني من أسلوب المساواة ليس بإيجاز ، وليس بإطناب .والنطفة : الماء القليل ، وهي فُعلة بمعنى مفعولة كقولهم : قُبضةُ حَب ، وغُرفة ماء . وغلب إطلاق النطفة على الماء الذي منه التناسل ، فذُكرت النطفة لتعيُّن ذكرها لأنها مادة خلق الحيوان للدلالة على أن صنع الله بديع فإمكان البعث حاصل ، وليس في ذكر النطفة هنا إيماء إلى تحقير أصل نشأة الإنسان لأن قصد ذلك محل نظر ، على أن المقام هنا للدلالة على خلققٍ عظيم وليس مقام زجر المتكبر .وفُرع على فعل { خلقه } فعلُ { فقدره } بفاء التفريع لأن التقدير هنا إيجاد الشيء على مقدار مضبوط منظم كقوله تعالى : { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } [ الفرقان : 2 ] أي جعل التقدير من آثار الخلق لأنه خلقه متهيئاً للنماء وما يلابسه من العقل والتصرف وتمكينه من النظر بعقله ، والأعمال التي يريد إتيانها وذلك حاصل مع خلقه مدرَّجاً مفرعاً .وهذا التفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان في خلال الاستدلال .

الترجمة الإنجليزية

Thumma alssabeela yassarahu

ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) وحرف { ثم } من قوله : { ثم السبيل يسره } للتراخي الرتبي لأن تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله لأنه أثَرُ العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان وهو أقوى في المنة .و { السبيل } : الطريق ، وهو هنا مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيهاً للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي تشبيهَ المحسوس بالمعقول .ويجوز أن يكون مستعاراً لمسقط المولود من بطن أمه فقد أطلق على ذلك المَمر اسم السبيل في قولهم : «السبيلان» فيكون هذا من استعمال اللفظ في مجازيه .

الترجمة الإنجليزية

Thumma amatahu faaqbarahu

ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) وفيه مناسبة لقوله بعده : { ثم أماته فأقبره } ، ف { أماته } مقابل { خلقه } و { أقبره } مقابل { ثم السبيل يسره } لأن الإِقبار إدخال في الأرض وهو ضد خروج المولود إلى الأرض .والتيسير : التسهيل ، و { السبيل } منصوب بفعل مضمر على طريق الاشتغال ، والضمير عائد إلى { السبيل } . والتقدير : يسّر السبيل له ، كقوله : { ولقد يسرنا القرآن للذكر } [ القمر : 17 ] أي لذِكر الناس .وتقديم { السبيل } على فعله للاهتمام بالعبرة بتيسير السبيل بمعنييه المجازيين ، وفيه رعاية للفواصل .وكذلك عطف { ثم أماته } على { يسره } بحرف التراخي هو لتراخي الرتبة فإن انقراض تلك القُوى العقلية والحسيّة بالموت ، بعد أن كانت راسخة زمناً ما ، انقراض عجيب دون تدريج ولا انتظارِ زماننٍ يساوي مدة بقائها ، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة .ومن المعلوم بالضرورة أن الكثير الذي لا يُحصى من أفراد النوع الإنساني قد صار أمره إلى الموت وأن من هو حيّ آيل إلى الموت لا محالة ، فالمعنى : ثم أماته ويُميته .فصيغة المضي في قوله : { أماته } مستعملة في حقيقته وهو موت من مات ، ومجازِه وهو موت من سيموتون ، لأن موتهم في المستقبل محقق . وذكر جملة : { ثم أماته } توطئة وتمهيد لجملة { فأقبره } .وإسناد الإماتة إلى الله تعالى حقيقة عقلية بحسب عرف الاستعمال . وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال كما أدمج : { فقدره ثم السبيل يسره } فيما سبق .و { أقبره } جعله ذا قبر ، وهو أخص من معنى قَبَره ، أي أن الله سَبّب له أن يقبر . قال الفراء : «أي جعله مقبوراً ، ولم يجعله ممن يُلقى للطير والسباع ولا ممن يلقى في النواويس» ( جمع ناووس صندوق من حجر أو خشب يوضع فيه الميت ويجعل في بيت أو نحوه ) .والإِقبار : تهيئة القبر ، ويقال : أقبره أيضاً ، إذا أمر بأن يُقبر ، ويقال : قبر المَيت ، إذا دفنه ، فالمعنى : أن الله جعل الناس ذوي قبور .وإسناد الإِقبار إلى الله تعالى مجاز عقلي لأن الله ألهم الناس الدَّفن كما في قصة دفن أحد ابني آدم أخاه بإلهام تقليده لفعل غراب حفر لغراب آخر ميتتٍ حفرةً فواراه فيها ، وهي في سورة العقود ، فأسند الإِقبار إلى الله لأنه ألهم الناس إياه . وأكد ذلك بما أمر في شرائعه من وجوب دفن المَيت .والقول في أن صيغة المضي مستعملة في حقيقتها ومجازها نظير القول في صيغة { أماته } .وهذه كلها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وهم عَدوها قاصرة على الخلق الثاني ، وهي تتضمن منناً على الناس في خلقهم وتسويتهم وإكمال قواهم أحياء ، وإكرامهم أمواتاً بالدفن لئلا يكون الإنسان كالشيء اللّقي يجتنب بنو جنسه القرب منه ويهينه التقام السباع وتمزيق مخالب الطير والكلاب ، فمحل المنة في قوله : { ثم أماته } هو فيما فرع عليه بالفاء بقوله : { فأقبره } وليست الإِماتة وحدها منة .وفي الآية دليل على أن وجوب دفن أموات الناس بالإِقبار دون الحرق بالنار كما يفعل مجوس الهند ، ودون الإِلقاء لسباع الطير في ساحات في الجبال محوطة بجدران دون سقف كما كان يفعله مجوس الفرس وكما كان يفعله أهل الجاهلية بموتى الحروب والغارات في الفيافي إذ لا يوارونهم بالتراب وكانوا يفتخرون بذلك ويتمنونه قال الشنفَرَى: ... لا تقبروني إن قبري محرَّمعليكم ولكن أبشري أمَّ عامر ... يريد أن تأكله الضبع ، وأبطل الإسلام ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفَن شهداء المسلمين يوم أحد في قبور مشتركة ، ووارَى قتلى المشركين ببدر في قليب ، قال عمرو بن معديكرب قبل الإِسلام: ... آليتُ لا أدفِن قتلاكُمُ

الترجمة الإنجليزية

Thumma itha shaa ansharahu

ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)فدَخِّنُوا المَرْءَ وسِرْبَالَه ... وجملة : { ثم إذا شاء أنشره } رجوع إلى إثبات البعث وهي كالنتيجة عقب الاستدلال . ووقع قوله : { إذا شاء } معترضاً بين جملة { أماته } وجملة : { أنشره } لرد توهم المشركين أن عدم التعجيل بالبعث دليل على انتفاء وقوعه في المستقبل و ( إذا ) ظرف للمستقبل ففعل المضي بعدها مؤول بالمستقبل .والمعنى : ثم حين يشاء ينشره ، أي ينشره حين تتعلق مشيئته بإنشاره .و { أنشره } بعثه من الأرض وأصل النشر إخراج الشيء المخبأ يقال : نشر الثوب ، إذ أزال طيّه ، ونشر الصحيفة ، إذا فَتحها ليقرأها . ومنه الحديث : « فنشروا التوراة » .وأما الإِنشار بالهمز فهو خاص بإخراج الميت من الأرض حيّاً وهو البعث ، فيجوز أن يقال : نُشِر الميت ، والعَرب لم يكونوا يعتقدون إحياء الأموات إلا أن يكونوا قد قالوه في تخيلاتهم التوهمية . فيكون منه قول الأعشى: ... حتى يقول الناس ممّا رأوايا عَجَباً للْمَيِّتتِ النَّاشِر ... ولذلك قال الله تعالى : { ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } [ هود : 7 ] .وفي قوله : { إذا شاء } ردّ لشبهتهم إذ كانوا يطلبون تعجيل البعث تحدياً وتهكماً ليجعلوا عدم الاستجابة بتعجيله دليلاً على أنه لا يكون ، فأعلمهم الله أنه يقع عندما يشاء الله وقوعه لا في الوقت الذي يسألونه لأنه موكول إلى حكمة الله ، واستفادة إبطال قولهم من طريق الكناية .

الترجمة الإنجليزية

Kalla lamma yaqdi ma amarahu

كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)تفسير هذه الآية معضل وكلمات المفسرين والمتأوِلين فيها بعضها جَافَّ المَنال ، وبعضها جاففٍ عن الاستعمال . ذلك أن المعروف في { كلاَّ } أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق ، وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يُزجر عنه ولا أن يُبطل ، فتعين المصير إلى تأويل مورد { كَلاَّ } .فأما الذين التزموا أن يكون حرف { كَلاَّ } للردع والزجر وهم الخليل وسيبويه وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقف عليها كما يجيزون الابتداء بها ، فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإِنكار إلى ما يُومىء إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه .فمنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما قبل { كَلاَّ } ممّا يومىء إليه قوله تعالى : { ثم إذا شاء أنشره } [ عبس : 22 ] ، أي إذا شاء الله ، إذ يومىء إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله ويعتلَّ بأنه لم ينشر أحداً منذ القدم إلى الآن . وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين كما تقدم .وموقع { كَلاَّ } على هذا التأويل موقع الجواب بالإِبطال ، وموقع جملة : { لما يقض ما أمره } موقع العلة للإِبطال ، أي لو قَضَى ما أمره الله به لعِلم بطلان زعمه أنه لا ينشر .وتأوله في «الكشاف» بأنه : «ردْع للإِنسان عما هو عليه» أي مِمَّا ذكر قبله من شدة كفره واسترساله عليه دون إقلاع ، يريد أنه زجر عن مضمون : { ما أكفره } [ عبس : 17 ] .ومنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما بعد { كلاّ } مما يومىء إليه قوله تعالى : { لما يقض ما أمره } أي ليس الأمر كما يقول هذا الإِنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه ، ويُتسروح هذا من كلام روي عن مجاهد ، وهو أقرب لأن ما بعد { كَلاَّ } لما كان نفياً ناسب أن يُجعل { كلاّ } تمهيداً للنفي .وموقع { كلاّ } على هذا الوجه أنها جزء من استئناف .وموقع جملة : { لما يقض ما أمره } استئناف بياني نشأ عن مضمون جملة : { من أي شيء خلقه إلى قوله : أنشره } [ عبس : 18 22 ] ، أي إنما لم يَهتد الكافرُ إلى دلالة الخلق الأول على إمكاننِ الخلق الثاني ، لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله .وأما الذين لم يلتزموا معنى الزجر في { كلاّ } وهم الكسائي القائل : تكون { كلاّ } بمعنى حقاً ، ووافقه ثعلب وأبو حاتم السجستاني القائل : تكون { كلا } بمعنى ( ألاّ ) الاستفتاحية .والنضر بن شميل والفرّاء القائلان : تكون { كلاّ } حَرفَ جواب بمعنى نعم . فهؤلاء تأويل الكلام على رأيهم ظاهر .وعن الفراء { كلاّ } تكون صلة ( أي حرفاً زائداً للتأكيد ) كقولك : كلاَّ ورب الكعبة ا ه . وهذا وجه إليه ولا يتأتى في هذه الآية .فالوجه في موقع { كلاّ } هنا أنه يجوز أن تكون زجراً عما يفهم من قوله :{ ثم إذا شاء أنشره } [ عبس : 22 ] المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع فيكون الكلام على هذا تأكيداً للإِبطال الذي في قوله : { كلا إنها تذكرة } [ عبس : 11 ] باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غيرَ باطل فقوله : { إذا شاء } مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذن بإبطال أن يقع البعث عندما يسألون وقوعه ، أي أنا لا نشاء إنشارهم الآن وإنما ننشرهم عندما نشاء ممّا قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي .وتكون جملة : { لما يقض ما أمره } تعليلاً للردع ، أي الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن ، ويكون المراد بالأمر في قوله : { ما أمره } أمر التكوين ، أي لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل لآدم : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } [ البقرة : 36 ] .ويجوز أن يكون زجراً عما أفاده قوله : { لما يقض ما أمره } وقدمت { كلاّ } في صدر الكلام الواردة لإبطاله للاهتمام بمبادرة الزجر .وتقدم الكلام في { كلاّ } في سورة مريم وأحَلْتُ هنالك على ما هنا .و { لَمَّا } حرف نفي يدل على نفي الفعل في الماضي مثل ( لَمْ ) ويزيد بالدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم كقوله تعالى : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] .والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مِما دعاه إليه .والقضاء : فعل ما يجب على الإنسان كاملاً لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلاً تاماً ، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضاً عن الإيمان الذي أمره الله به ، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطوره أطواراً إلى الموت قال تعالى : { فلينظر الإنسان مما خلق } [ الطارق : 5 ] ، وما أمره من التدَبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه . ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر .والضمير المستتر في { أمره } عائد إلى ما عادت إليه الضمائر المستترة في ( خلقه ، وقدره ، ويسره ، وأماته ، وأقبره ، وأنشره ) .

الترجمة الإنجليزية

Falyanthuri alinsanu ila taAAamihi

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24). إما مفرع على قوله : { لما يقض ما أمره } [ عبس : 23 ] فيكون مما أمره الله به من النظر ، وإما على قوله : { ما أكفره } [ عبس : 17 ] فيكون هذا النظر مما يبطل ويزيل شدة كفر الإنسان . والفاء مع كونها للتفريع تفيد معنى الفصيحة ، إذ التقدير : إن أراد أن يقضي ما أمره فلينظر إلى طعامه أو إن أراد نقض كفره فلينظر إلى طعامه . وهذا نظير الفاء في قوله تعالى : { إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق } [ الطارق : 4 ، 5 ] ، أي إن أراد الإنسان الخلاص من تبعات ما يكتبه عليه الحافظ فلينظر مِمَّ خُلق ليهتدي بالنظر فيؤمن فينجو .وهذا استدلال آخر على تقريب كيفية البعث انتقل إليه في معرض الإرشاد إلى تدارك الإِنسان ما أهملَه وكان الانتقال من الاستدلال بما في خَلْق الإنسان من بديع الصنع من دلائل قائمة بنفسه في آية : { من أي شيء خلقه } [ عبس : 18 ] إلى الاستدلال بأحوال موجودة في بعض الكائنات شديدة الملازمة لحياة الإنسان ترسيخاً للاستدلال ، وتفنناً فيه ، وتعريضاً بالمنة على الإِنسان في هذه الدلائل ، من نعمة النبات الذي به بقاء حياة الإنسان وحياة ما ينفعه من الأنعام .وتعدية فعل النظر هنا بحرف { إلى } تدل على أنه من نظر العين إشارة إلى أن العبرة تحصل بمجرد النظر في أطواره . والمقصود التدبر فيما يشاهده الإنسان من أحوال طعامه بالاستدلال بها على إيجاد الموجودات من الأرض . وجُعل المنظور إليه ذاتَ الطعام مع أن المراد النظر إلى أسباب تكونه وأحوال تطوره إلى حالة انتفاع الإنسان به وانتفاع أنعام الناس به .وذلك من أسلوب إناطة الأحكام بأسماء الذوات ، والمراد أحوالها مثل قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أي أكلها ، فأمر الله الإنسان بالتفكير في أطوار تكوّن الحبوب والثمار التي بها طعامه ، وقد وُصف له تطور ذلك ليَتَأمل ما أودع إليه في ذلك من بديع التكوين سواء رأى ذلك ببصره أم لم يَره ، ولا يخلو أحد عن علممٍ إجمالي بذلك ، فيزيده هذا الوصف علماً تفصيلياً ، وفي جميع تلك الأطوار تمثيل لإحياء الأجساد المستقرة في الأرض ، فقد يكون هذا التمثيل في مجرد الهيئة الحاصلة بإحياء الأجساد ، وقد يكون تمثيلاً في جميع تلك الأطوار بأن تُخرج الأجساد من الأرض كخروج النبات بأن يكون بَذرها في الأرض ويُرسل الله لها قُوى لا نعلمها تُشابه قوة الماء الذي به تحيا بذور النبات ، قال تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } [ نوح : 17 ، 18 ] .وفي «تفسير ابن كثير» عند قوله تعالى : { وإذا النفوس زوجت } [ التكوير : 7 ] عن ابن ( أبي ) حاتم بسنده إلى ابن عباس : «يسيل واد من أصل العرش فيما بين الصيحتين فينبت منه كلُّ خلق بَلِي إنساننٍ أو دابة ولو مرّ عليهم مارٌّ قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم قد نبتوا على وجه الأرض ، ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد» ا ه .وأمور الآخرة لا تتصورها الأفهام بالكُنْه وإنما يجزم العقل بأنها من الممكنات وهي مطيعة لتعلق القدرة التنجيزي .والإِنسان المذكور هنا هو الإِنسان المذكور في قوله : { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] وإنما جيء باسمه الظاهر دون الضمير كما في قوله : { من أي شيء خلقه } [ عبس : 18 ] ، لأن ذلك قريب من معاده وما هنا ابتداءُ كلام فعبر فيه بالاسم الظاهر للإِيضاح .وأدمج في ذلك منة عليه بالإمداد بالغذاء الذي به إخلاف ما يضمحل من قوته بسبب جهود العقل والتفكير الطبيعية التي لا يشعر بحصولها في داخل المزاج ، وَبِسبب كد الأعمال البدنية والإِفرازات ، وتلك أسباب لتبخر القوى البدنية فيحتاج المزاج إلى تعويضها وإخلافها وذلك بالطعام والشراب .وإنما تعلق النظر بالطعام مع أن الاستدلال هو بأحوال تكوين الطعام ، إجراءً للكلام على الإِيجاز ويبينه ما في الجمل بعده من قوله : { إنا صببنا الماء صباً } إلى آخرها .فالتقدير : فلينظر الإِنسان إلى خَلق طعامه وتهيئة الماء لإنمائه وشق الأرض وإنباته وإلى انتفاعه به وانتفاع مواشيه في بقاء حياتهم .

الترجمة الإنجليزية

Anna sababna almaa sabban

أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) وقرأ الجمهور : { إنا صببنا } بكسر همزة ( إنَّا ) على أن الجملة بيان لجملة : { فلينظر الإنسان إلى طعامه } لتفصيل ما أجمل هنالك على وجه الإيجاز . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بفتح الهمزة على أنه اسم بدلُ اشتمال من { طعامه } أو البدلُ الذي يسميه بعض النحويين بدل مفصَّل من مجمل .والصَّب : إلقاء صبرة متجمعة من أجزاء مائعة أو كالمائعة في الدقة في وعاء غير الذي كانت فيه ، يقال : صَب الماء في الجَرة ، وصب القَمح في الهَرِي ، وصَبَّ الدراهم في الكِيس . وأصله : صبّ الماء ، مثل نزول المطر وإفراغ الدلو .

الترجمة الإنجليزية

Thumma shaqaqna alarda shaqqan

ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) والشق : الإِبعاد بين ما كان متصلاً . والمراد هنا شقّ سطح الأرض بخرق الماء فيه أو بآلة كالمحراث والمسحاة ، أو بقوة حرّ الشمس في زمن الصيف لتتهيأ لقبول الأمطار في فصل الخريف والشتاء .وإسناد الصّب والشق والإِنبات إلى ضمير الجلالة لأن الله مقدِّر نظام الأسباب المؤثرة في ذلك ، ومُحْكِمُ نواميسها ومُلهمُ الناس استعمالها .فالإسناد مجاز عقلي في الأفعال الثلاثة . وقد شاع في { صببنا } و { أنبتنا } حتى ساوَى الحقيقة العقلية .وانتصب { صبّاً } و { شقاً } على المفعول المطلق ل { صببنا } و { شققنا } مؤكّداً لعامله ليتأتى تنوينه لما في التنكير من الدلالة على التعظيم وتعظيم كل شيء بما يناسبه وهو تعظيم تعجيب .

الترجمة الإنجليزية

Faanbatna feeha habban

فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) والفاء في قوله : { فأنبتنا } للتفريع والتعقيب وهو في كل شيء بحسبه .والحَب أريد منه المقتات منه للإِنسان ، وقد تقدم في قوله تعالى : { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } في سورة البقرة ( 261 ) .

الترجمة الإنجليزية

WaAAinaban waqadban

وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) والعِنب : ثمر الكَرم ، ويتخذ منه الخمر والخل ، ويؤكل رَطباً ، ويتخذ منه الزبيب .والقضبُ : الفِصْفصة الرطبة ، سميت قضباً لأنها تعلف للدواب رطبة فتقضب ، أي تقطع مرة بعد أخرى ولا تزال تُخلف ما دام الماء ينزل عليها ، وتسمى القَت .

الترجمة الإنجليزية

Wazaytoonan wanakhlan

وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) والزيتون : الثمر الذي يعصر منه الزيت المعروف .والنخل : الشجر الذي ثمرته التمر وأطوارهُ .

الترجمة الإنجليزية

Wahadaiqa ghulban

وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) والحدائق : جمع حديقة وهي الجنة من نخل وكَرم وشجرِ فواكهَ ، وعطفُها على النخل من عطف الأعم على الأخص ، ولأن في ذكر الحدائق إدماجاً للامتنان بها لأنها مواضع تنزههم واخترافهم .وإنما ذكر النخل دون ثمرته ، وهو التمر ، خلافاً لما قُرن به من الثمار والفواكهِ والكلأ ، لأن منافع شجر النخيل كثيرة لا تقتصر على ثمره ، فهم يقتاتون ثمرته من تمر ورُطب وبُسر ، ويأكلون جُمَّاره ، ويَشربون ماء عود النخلة إذا شُق عنه ، ويتخذون من نَوى التمر علفاً لإبلهم ، وكل ذلك من الطعام ، فضلاً عن اتخاذهم البيوت والأواني من خشبه ، والحُصُر من سَعَفه ، والحبالَ من لِيفه . فذِكْرُ اسم الشجرة الجامعة لهذه المنافع أجمع في الاستدلال بمختلف الأحوال وإدماج الامتنان بوفرة النعم ، وقد تقدم قريباً في سورة النبأ .والغُلْب : جمع غلباء ، وهي مؤنث الأغلب ، وهو غَليظُ الرقبة ، يقال : غلب كفرح ، يوصف به الإنسان والبعير ، وهو هنا مستعار لغلظ أصول الشجر فوصف الحدائق به؛ إما على تشبيه الحديقة في تكاثف أوراق شجرها والتفافها بشخص غليظ الأوداج والأعصاب فتكون استعارة ، وإما على تقدير محذوف ، أي غُلْببٍ شَجَرُها ، فيكون نعتاً سببيّاً وتكون الاستعارة في تشبيه كل شجرة بامرأة غليظة الرقبة ، وذلك من محاسن الحدائق لأنها تكون قد استكملت قوة الأشجار كما في قوله : { وجنات ألفافاً } [ النبأ : 16 ] .وخصت الحدائق بالذكر لأنها مواضع التنزه والاختراف ، ولأنها تجمع أصنافاً من الأشجار .

الترجمة الإنجليزية

Wafakihatan waabban

وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) والفاكهة : الثمار التي تؤكل للتفكه لا للإقتيات ، مثل الرُّطَب والعِنب الرَّطْب والرمان واللوز .والأبُّ : بفتح الهمزة وتشديد الباء : الكلأ الذي ترعاه الأنعام ، روي أن أبا بكر الصديق سُئل عن الأبّ : ما هو؟ فقال : «أيُّ سماءٍ تُظلني ، وأيُّ أرض تُقِلَّني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به» وروي أن عمر بن الخطاب قرأ يوماً على المنبر : { فأنبتنا فيها حباً } إلى { وأبّاً } فقال : كلّ هذا قد عرفناه فما الأبّ؟ ثم رفع عصا كانت في يده ، وقال : هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ ابتغوا ما بُيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فَكِلوه إلى ربه» . وفي «صحيح البخاري» عن عُمر بعض هذا مختصراً .والذي يظهر لي في انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول الأبّ وهما من خُلّص العرببِ لأحد سببين :إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسي من استعمالهم فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتُنسى في بعضها مثل اسم السِّكين عندَ الأوس والخزرج ، فقد قال أنس بن مالك : «ما كُنَّا نَقول إلا المُدْية حتى سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان عليه السلام قال :" ائيتوني بالسكين أقْسِمْ الطفْلَ بينهما نصفين " .وإما لأن كلمة الأبّ تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام ، ومنها التبن ، ومنها يابس الفاكهة ، فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين

الترجمة الإنجليزية

MataAAan lakum walianAAamikum

مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)، وهل الأبّ مما يرجع إلى قوله : { متاعاً لكم } أو إلى قوله : { ولأنعامكم } في جمْع ما قُسِّم قبله .وذكر في «الكشاف» وجهاً آخر خاصاً بكلام عُمر فقال : « إن القوم كانتْ أكبر همتهم عاكفة على العمل ، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يُعمل به تكلفاً عندهم ، فأراد عمر أن الآية مسوقة في الامتنان على الإِنسان . وقد علم من فحوى الآية أنّ الأبَّ بعض ما أنبته الله للإِنسان متاعاً له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك مما عُدد من نعمه ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ، ثم وصى الناس بأن يَجروا على هذا السَنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن ا ه» . ولم يأت كلام «الكشاف» بأزيد من تقرير الإِشكال .وقوله : { متاعاً لكم } حال من المذكورات يعود إلى جميعها على قاعدة ورود الحال بعد مفردات متعاطفة ، وهذا نوع من التنازع .وقوله : { ولأنعامكم } عطَف قوله : { لكم } .والمتاع : ما يُنتفع به زمناً ثم ينقطع ، وفيه لف ونشر مُشَوَّش ، والسامع يرجع كل شيء من المذكورات إلى ما يصلح له لظهوره . وهذه الحال واقعة موقع الإِدماج أدمجت الموعظة والمنة في خلال الاستدلال .

الترجمة الإنجليزية

Faitha jaati alssakhkhatu

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) الفاء للتفريع على اللوْم والتوبيخ في قوله : { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] وما تبعه من الاستدلال على المشركين من قوله : { من أي شيء خلقه } إلى قوله { أنا صببنا الماء صباً } [ عبس : 18 25 ] ، ففُرع على ذلك إنذار بيوم الجزاء ، مع مناسبة وقوع هذا الإِنذار عقب التعريض والتصريح بالامتنان في قوله : { إلى طعامه } [ عبس : 24 ] وقوله : { متاعاً لكم ولأنعامكم } [ عبس : 32 ] على نحو ما تقدم في قوله : { فإذا جاءت الطامة الكبرى } من سورة النازعات ( 34 ) .والصَّاخّة } : صيحة شديدة من صيحات الإِنسان تَصُخ الأسماع ، أي تُصِمها . يقال : صَخَّ يصخ قاصراً ومتعدياً ، ومضارعه يصُخ بضم عينه في الحالين . وقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقها اختلافاً لا جدوَى له ، وما ذكرناه هو خلاصة قول الخليل والراغب وهو أحسن وأجرى على قياس اسم الفاعل من الثلاثي ، فالصاخّة صارت في القرآن عَلماً بالغَلبة على حادثةِ يوم القيامة وانتهاءِ هذا العالم ، وتحصل صيحات منها أصوات تزلزل الأرض واصطدام بعض الكواكب بالأرض مثلاً ، ونفخة الصُّور التي تبعث عندها الناس . و ( إذا ) ظرف وهو متعلق ب { جاءت الصاخّة } وجوابه قوله : { وجوه يومئذ مسفرة } الآيات .والمجيء مستعمل في الحصول مجازاً ، شُبه حصول يوم الجزاء بشخص جاء من مكان آخر .

الترجمة الإنجليزية

Yawma yafirru almaro min akheehi

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) و { يوم يفر المرء من أخيه } بدل من { إذا جاءت الصاخة } بدلاً مطابقاً .والفرار : الهروب للتخلص من مُخيف .وحرف ( من ) هنا يجوز أن يكون بمعنى التعليل الذي يُعدّى به فعل الفرار إلى سبب الفرار حين يقال : فَرّ من الأسد ، وفرّ من العدو ، وفرّ من الموت ، ويجوز أن يكون بمعنى المجاوزة مثل ( عن ) .وكون أقرب الناس للإِنسان يفرّ منهم يقتضي هولَ ذلك اليوم بحيث إذا رأى ما يحل من العذاب بأقرب الناس إليه توهم أن الفرار منه يُنْجِيه من الوقوع في مثله ، إذ قد علم أنه كان مماثلاً لهم فيما ارتكبوه من الأعمال فذكرت هنا أصناف من القرابة ، فإن القرابة آصرة تكون لها في النفس معزة وحرص على سلامة صاحبها وكرامته . والألفَ يحدث في النفس حرصاً على الملازمة والمقارنة . وكلا هذين الوجدانين يصد صاحبه عن المفارقة فما ظنك بهول يغْشَى على هذين الوجدانين فلا يَترك لهما مجالاً في النفس .ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه تدرجاً في تهويل ذلك اليوم .فابتدىء بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة ، ثم ارتُقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قرباً لابْنيهما ، وقدمت الأم في الذكر لأن إلْفَ ابنها بها أقوى منه بأبيه وللرعي على الفاصلة ، وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مُجتمع عائلة الإِنسان وأشد الناس قرباً به وملازمة .وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال : يوم يفر المرء من أقرب قرابته مثلاً لإحضار صورة الهول في نفس السامع .

الترجمة الإنجليزية

Waommihi waabeehi

وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وكون أقرب الناس للإِنسان يفرّ منهم يقتضي هولَ ذلك اليوم بحيث إذا رأى ما يحل من العذاب بأقرب الناس إليه توهم أن الفرار منه يُنْجِيه من الوقوع في مثله ، إذ قد علم أنه كان مماثلاً لهم فيما ارتكبوه من الأعمال فذكرت هنا أصناف من القرابة ، فإن القرابة آصرة تكون لها في النفس معزة وحرص على سلامة صاحبها وكرامته . والألفَ يحدث في النفس حرصاً على الملازمة والمقارنة . وكلا هذين الوجدانين يصد صاحبه عن المفارقة فما ظنك بهول يغْشَى على هذين الوجدانين فلا يَترك لهما مجالاً في النفس .ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه تدرجاً في تهويل ذلك اليوم .فابتدىء بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة ، ثم ارتُقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قرباً لابْنيهما ، وقدمت الأم في الذكر لأن إلْفَ ابنها بها أقوى منه بأبيه وللرعي على الفاصلة ، وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مُجتمع عائلة الإِنسان وأشد الناس قرباً به وملازمة .وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال : يوم يفر المرء من أقرب قرابته مثلاً لإحضار صورة الهول في نفس السامع .

الترجمة الإنجليزية

Wasahibatihi wabaneehi

وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) وكل من هؤلاء القرابة إذا قدرتَه هو الفارّ كان مَن ذُكر معه مفروراً منه إلا قولَه : { وصاحبته } لظهور أن معناه : والمرأةِ من صاحبها ، ففيه اكتفاء ، وإنما ذُكرتْ بوصف الصاحبة الدال على القرب والملازمة دون وصف الزوج لأن المرأة قد تكون غير حسنة العشرة لزوجها فلا يكون فراره منها كناية عن شدة الهول فذكر بوصف الصاحبة .والأقرب أن هذا فرار المؤمن من قرابته المشركين خشية أن يؤاخذ بتبعتهم إذْ بَقُوا على الكفر .وتعليق جار الأقرباء بفعل : { يفر المرء } يقتضي أنهم قد وقعوا في عذاب يخشون تعديه إلى من يتصل بهم .وقد اجتمع في قوله : { يوم يفر المرء من أخيه } إلى آخره أبلغ ما يفيد هول ذلك اليوم بحيث لا يترك هوله للمرء بقية من رشده فإن نفس الفرار للخائف مسبة فيما تعارفوه لدلالته على جبن صاحبه وهم يتعيرون بالجبن وكونَه يترك أعز الأعزة عليه مسبة عظمى .وجملة : { لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لزيادة تهويل اليوم ، وتنوينُ { شأن } للتعظيم .وحيث كان فرار المرء من الأقرباء الخمسة يقتضي فرار كل قريب من أولئك من مثله كان الاستئناف جامعاً للجميع تصريحاً بذلك المقتضَى ، فقال : { لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه } أي عن الاشتغال بغيره من المذكورات بَلْهَ الاشتغال عمن هو دون أولئك في القرابة والصحبة .والشأن : الحال المهم .

الترجمة الإنجليزية

Likulli imriin minhum yawmaithin shanun yughneehi

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وتقديم الخبر في قوله : { لكل امرىء } على المبتدأ ليتأتى تنكير { شأن } الدال على التعظيم لأن العرب لا يبتدئون بالنكرة في جملتها إلا بمسوغ من مسوغاتتٍ عَدَّها النحاة بضعةَ عشر مسوغاً ، ومنها تقديم الخبر على المبتدإ .والإِغناء : جعل الغير غنياً ، أي غير محتاج لشيء في غرضهِ . وأصل الإِغناء والغنى : حصول النافع المحتاج إليه ، قال تعالى : { وما أغنى عنكم من اللَّه من شيء } [ يوسف : 67 ] وقال : { ما أغنى عني ماليه } [ الحاقة : 28 ] . وقد استعمل هنا في معنى الإِشغال والإِشغال أعم .فاستعمل الإغناء الذي هو نفع في معنى الإِشغال الأعم على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة إيماء إلى أن المؤمنين يشغلهم عن قرابتهم المشركين فرط النعيم ورفع الدرجات كما دل عليه قوله عقبه : { وجوه يومئذٍ مسفرة } إلى آخر السورة .

الترجمة الإنجليزية

Wujoohun yawmaithin musfiratun

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) وجملة : { وجوه يومئذٍ مسفرة } جواب ( إذا ) ، أي إذا جاءت الصاخة كان الناس صنفين صنف وجوههم مسفرة وصنف وجوههم مغبرة .وقدم هنا ذكر وجوه أهل النعيم على وجوه أهل الجحيم خلافَ قوله في سورة النازعات ( 37 ) { فأما من طغى } ثم قوله : { وأما من خاف مقام ربه } [ النازعات : 40 ] إلى آخره لأن هذه السورة أقيمت على عماد التنويه بشأن رجل من أفاضل المؤمنين والتحقير لشأن عظيم من صناديد المشركين فكان حظ الفريقين مقصوداً مسوقاً إليه الكلام وكان حظ المؤمنين هو الملتفت إليه ابتداء ، وذلك من قوله :{ وما يدريك لعله يزكى } [ عبس : 3 ] إلى آخره ، ثم قوله : { أما من استغنى فأنت له تصدى } [ عبس : 5 ، 6 ] .وأما سورة النازعات فقد بُنِيت على تهديد المنكرين للبعث ابتداء من قوله : { يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة } [ النازعات : 6 8 ] فكان السياق للتهديد والوعيد وتهويل ما يلقونه يوم الحشر ، وأما ذكر حظ المؤمنين يومئذ فقد دعا إلى ذكره الاستطراد على عادة القرآن من تعقيب الترهيب بالترغيب .وتنكير { وجوه } الأول والثاني للتنويع ، وذلك مسوغ وقوعهما مبتدأ .وإعادة { يومئذ } لتأكيد الربط بين الشرط وجوابه ولطول الفصل بينهما والتقدير : وجوه مسفرة يوم يفرّ المرء من أخيه إلى آخره .وقد أغنت إعادة { يومئذ } عن ربط الجواب بالفاء .والمسفرة ذات الإسفار ، والإِسفار النور والضياء ، يقال : أسفر الصبح ، إذا ظهر ضوء الشمس في أفق الفجر ، أي وجوه متهللة فرحاً وعليها أثر النعيم .

الترجمة الإنجليزية

Dahikatun mustabshiratun

ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) و { ضاحكة } أي كناية عن السرور .و { مستبشرة } معناه فَرِحة ، والسين والتاء فيه للمبالغة مثل : استجاب ، ويقال : بَشَر ، أي فرِح وسُرَّ ، قال تعالى : { قال يا بشراي هذا غلام } [ يوسف : 19 ] أي يا فرحتي .وإسناد الضحك والاستبشار إلى الوجوه مجاز عقلي لأن الوجوه محلّ ظهور الضحك والاستبشار ، فهو من إسناد الفعل إلى مكانه ، ولك أن تجعل الوجوه كناية عن الذوات كقوله تعالى : { ويبقى وجه ربك } [ الرحمن : 27 ] .

الترجمة الإنجليزية

Wawujoohun yawmaithin AAalayha ghabaratun

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) وهذه وجوه أهل الجنة المطمئنين بالاً المكرمين عَرْضاً وحُضوراً .والغَبَرة بفتحتين الغُبار كلَّه ، والمراد هنا أنها معفّرة بالغُبار إهانة ومن أثر الكَبوات .

الترجمة الإنجليزية

Tarhaquha qataratun

تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) و { ترهقها } تغلب عليها وتعلوها .والقترة : بفتحتين شِبه دخان يغشى الوجه من الكرب والغم ، كذا قال الراغب ، وهو غير الغَبَرة كما تقتضيه الآية لئلا يكون من الإِعادة ، وهي خلاف الأصل ولا داعي إليها . وسوَّى بينهما الجوهري وتبعه ابن منظور وصاحب «القاموس» .وهذه وجوه أهل الكفر ، يعلم ذلك من سياق هذا التنويع ، وقد صرح بذلك بقوله : { أولئك هم الكفرة الفجرة } زيادة في تشهير حالهم الفظيع للسامعين .وجيء باسم الإشارة لزيادة الإِيضاح تشهيراً بالحالة التي سببت لهم ذلك .وضمير الفصل هنا لإفادة التقوي .

الترجمة الإنجليزية

Olaika humu alkafaratu alfajaratu

أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)وأتبع وصف { الكفرة } بوصف { الفجرة } مع أن وصف الكُفر أعظم من وصف الفجور لما في معنى الفجور من خساسة العمل فذُكر وصفاهم الدالان على مجموع فساد الاعتقاد وفساد العمل .وذكر وصف { الفجرة } بدون عاطف يفيد أنهم جمعوا بين الكفر والفجور .
585