سورة النساء (4): مكتوبة كاملة مع التفسير التحميل

تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة النساء بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة النساء مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.

معلومات عن سورة النساء

سُورَةُ النِّسَاءِ
الصفحة 77 (آيات من 1 إلى 6)

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءً ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا وَءَاتُوا۟ ٱلْيَتَٰمَىٰٓ أَمْوَٰلَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا۟ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوٓا۟ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰٓ أَمْوَٰلِكُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا۟ فِى ٱلْيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُوا۟ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُوا۟ وَءَاتُوا۟ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيٓـًٔا مَّرِيٓـًٔا وَلَا تُؤْتُوا۟ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُوا۟ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَٱبْتَلُوا۟ ٱلْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُوا۟ ٱلنِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَٱدْفَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا۟ ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ فَأَشْهِدُوا۟ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبًا
77

الاستماع إلى سورة النساء

تفسير سورة النساء (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي)

الترجمة الإنجليزية

Ya ayyuha alnnasu ittaqoo rabbakumu allathee khalaqakum min nafsin wahidatin wakhalaqa minha zawjaha wabaththa minhuma rijalan katheeran wanisaan waittaqoo Allaha allathee tasaaloona bihi waalarhama inna Allaha kana AAalaykum raqeeban

} ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .جاء الخطاب بيأيُّها الناس : ليشمل جميع أمّة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان . فضمير الخطاب في قوله : { خلقكم } عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن ، أي لئلاّ يختصّ بالمؤمنين ، إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفّار العرب وهم الذين تلقّوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأنّ الخطاب جاء بلغتهم ، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم . فلمَّا كان ما بعد هذا النداء جامعاً لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر ، نودي جميع الناس ، فدعاهم الله إلى التذكّر بأنّ أصلهم واحد ، إذ قال : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد ، فالمقصود من التقوى في { اتّقوا ربّكم } اتّقاء غضبه ، ومراعاة حقوقه ، وذلك حقّ توحيده والاعتراف له بصفات الكمال ، وتنزيهه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات .وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية ، فكانت بمنزلة الديباجة .وعبّر ب ( ربّكم ) ، دون الاسم العلم ، لأنّ في معنى الربّ ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته ، إذ الربّ هو المالك الذي يربّ مملوكه أي ، يدبّر شؤونه ، وليتأتّى بذكر لفظ ( الربّ ) طريق الإضافة الدالّة على أنّهم محقوقون بتقواه حقّ التقوى ، والدالّة على أنّ بين الربّ والمخاطبين صلة تعدّ إضاعتها حماقة وضلالاً . وأمّا التقوى في قوله : { واتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام } فالمقصد الأهمّ منها : تقوى المؤمنين بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال . ثم جاء باسم الموصول { الذي خلقكم } للإيماء إلى وجه بناء الخبر لأنّ الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتّقى .ووَصْل { خلقكم } بصلة { من نفس واحدة } إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقّه بالاعتبار . وفي الآية تلويح للمشركين بأحقّيّة اتّباعهم دعوة الإسلام ، لأنّ الناس أبناء أب واحد ، وهذا الدين يدعو الناس كلّهم إلى متابعته ولم يخصّ أمّة من الأمم أو نسباً من الأنساب ، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر ، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرّحة باختصاصها بأمم معيّنة . وفي الآية تعريض للمشركين بأنّ أولى الناس بأن يتّبعوه هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه من ذوي رحمهم . وفي الآية تمهيد لما سَيُبَيَّنُ في هذه السورة من الأحكام المرتّبة على النسب والقرابة .والنفس الواحدة : هي آدم . والزوج : حوّاء ، فإنّ حوّاء أخرجت من آدم . من ضلعه ، كما يقتضيه ظاهر قوله : { منها } .و ( مِن ) تبعيضية . ومعنى التبعيض أنّ حوّاء خلقت من جزء من آدم .قيل : من بقية الطينة التي خلق منها آدم . وقيل : فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في «الصحيحين» .ومن قال : إنّ المعنى وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل ، لأنّ ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوعه .وعُطف قوله : { وخلق منها زوجها } على { خلقكم من نفس واحدة } ، فهو صلة ثانية . وقوله : { وبث منهما } صلة ثالثة لأنّ الذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتّقى ، ولأنّ في معاني هذه الصلات زيادة تحقيق اتّصال الناس بعضهم ببعض ، إذ الكلّ من أصل واحد ، وإن كان خَلْقهم ما حصل إلاّ من زوجين فكلّ أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه .وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة . وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي للإتيان باسم الموصول ، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب . ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصّلة دون سبق إجمال ، فقيل : الذي خلقكم من نفس واحدة وبثّ منها رجالاً كثيراً ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة . وقد ورد في الحديث : أنّ حواء خلقت من ضلع آدم ، فلذلك يكون حرف ( مِن ) في قوله : { وخلق منها } للابتداء ، أي أخرج خلق حواء من ضلع آدم . والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر ، وهي حوّاء . وأطلق عليها اسمُ الزوج لأنّ الرجل يكون منفرداً فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجاً في بيت ، فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار ، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين ، فإطلاق الزوج على كلّ واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية ، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنّه من الوصف بالجامد ، فلا يقال للمرأة ( زوجة ) ، ولم يسمع في فصيح الكلام ، ولذلك عدّه بعض أهل اللغة لحناً . وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار قيل له : فقد قال ذو الرمّة :أذو زوجة بالمصِر أمْ ذو خصومة ... أراك لها بالبصرة العام ثاويافقال : إنّ ذا الرّمة طالما أكل المالح والبقْل في حوانيت البقّالين ، يريد أنّه مولّد .وقال الفرزدق :وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلهاوشاع ذلك في كلام الفقهاء ، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام ، وهي تفرقة حسنة . وتقدّم عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } في سورة البقرة ( 35 ) .وقد شمل وخلق منها زوجها } العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد ، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص ، والمنّة على الذكران بخلق النساء لهم ، والمنّة على النساء بخلق الرجال لهنّ ، ثم منّ على النوع بنعمة النسل في قوله : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب .والبثّ : النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى :{ يوم يكون الناس كالفراش المبثوب } [ القارعة : 4 ] .ووصف الرجال ، وهو جمع ، بكثير ، وهو مفرد ، لأنّ كثير يستوي فيه المفرد والجمع ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير } في سورة آل عمران ( 146 ) . واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجل به ما يقتضيه فعل البث من الكثرة .شروع في التشريع المقصود من السورة ، وأعيد فعل { اتّقوا } : لأنّ هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصّة ، فإنّهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها ، وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام .واستحضر اسم الله العلم هنا دون ضمير يعود إلى ربّكم لإدخال الرّوع في ضمائر السامعين . لأنّ المقام مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة بخلاف مقام قوله : { اتقوا ربكم } فهو مقام ترغيب . ومعنى { تسَّاءلون به } يَسْأل بعضكم بعضاً به في القسم فالمسايلة به تؤذن بمنتهى العظمة ، فكيف لا تتّقونه .وقرأ الجمهور { تسَّاءلون } بتشديد السين لإدغام التاء الثانية ، وهي تاء التفاعل في السين ، لقرب المخرج واتّحاد الصفة ، وهي الهمس . وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : تساءلون بتخفيف السين على أنّ تاء الافتعال حذفت تخفيفاً .{ والأرحام } قرأه الجمهور بالنصب عطفاً على اسم الله . وقرأه حمزة بالجرّ عطفاً على الضمير المجرور . فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأموراً بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها ، وهو على حذف مضاف ، أي اتّقاء حقوقها ، فهو من استعمال المشترك في معنييه ، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى : { وخلق منها زوجها } وعلى قراءة حمزة يكون تعظيماً لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضاً بها ، وذلك قول العرب : «ناشدتك اللَّه والرحم» كما روى في «الصحيح» : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصّلت حتّى بلغ : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 13 ] فأخذت عتبة رهبة وقال : ناشدتك اللَّه والرحم . وهو ظاهر محمل هذه الرواية وإن أباه جمهور النحاة استعظاماً لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ ، حتّى قال المبرّد : «لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة» وهذا من ضيق العطن وغرور بأنّ العربية منحصرة فيما يعلمه ، ولقد أصاب ابن مالك في تجويزه العطف على المجرور بدون إعادة الجارّ ، فتكون تعريضاً بعوائد الجاهلية ، إذ يتساءلون بينهم بالرحم وأواصر القرابة ثم يهملون حقوقها ولا يصلونها ، ويعتدون على الأيتام من إخوتهم وأبناء أعمامهم ، فناقضت أفعالُهم أقوالَهم ، وأيضاً هم قد آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وظلموه ، وهو من ذوي رحمهم وأحقّ الناس بصلتهم كما قال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] وقال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] . وقال : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] . وعلى قراءة حمزة يكون معنى الآية تتمّة لمعنى التي قبلها .

الترجمة الإنجليزية

Waatoo alyatama amwalahum wala tatabaddaloo alkhabeetha bialttayyibi wala takuloo amwalahum ila amwalikum innahu kana hooban kabeeran

مناسبة عطف الأمر على ماقبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام ، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم ، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله . وشيء هذا شأنه حقيق بأن تُراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك . وهذا ممَّا أشار إليه قوله تعالى : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء . . . } [ النساء : 1 ] .والإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي ، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء وجعله حقّاً له ، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر } [ الكوثر : 1 ] وفي الحديث : « رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هَلَكَتِه في الحقّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها » . واليتامى جمع يتيم وجمع يتيمة ، فإذا جمعت به يتيمة فهو فعائل أصله يَتَائِم ، فوقع فيه قلب مَكَانِيّ فقالوا يَتَامِىءُ ثم خفّفوا الهمزة فصارت ألفاً وحرّكت الميم بالفتح ، وإذا جمع به يتيم فهو إمّا جَمْع الجمع بأن جمع أوّلاً على يَتْمَى ، كما قالوا : أسير وأسْرى ، ثم جمع على يتامى مثل أسارى بفتح الهمزة ، أو جمع فعيل على فعائل لكونه صار اسماً مثل أفيل وأفائل ، ثم صنع به من القلب ما ذكرناه آنفاً . وقد نطقت العرب بجمع يتيمة على يتائم ، وبجمع فعيل على فعائل في قول بشر النجدي :أأطْلالَ حُسْن في البِراق اليَتَائِم ... سَلام على أطلالِكُنّ القَدَائِمواشتقاق اليتيم من الإنفراد ، ومنه الدرّة اليتيمة أي المنفردة بالحسن ، وفعله من باب ضرب وهو قاصر ، وأطلقه العرب على من فُقد أبوه في حال صغره كأنّه بقي منفرداً لا يجد من يدفع عنه ، ولم يعتدّ العرب بفقد الأمّ في إطلاق وصف اليتيم إذ لا يعدم الولد كافلة ، ولكنّه يعدم بفقد أبيه من يدافع عنه وينفقه . وقد ظهر ممّا راعَوه في الاشتقاق أنّ الذي يبلغ مبلغ الرجال لا يستحقّ أن يسمّى يتيماً إذ قد بلغ مبلغ الدفع عن نفسه ، وذلك هو إطلاق الشريعة لا سم اليتيم ، والأصل عدم النقل .وقيل : هو في اللغة من فُقد أبوه ، ولو كان كبيراً ، أو كان صغيراً وكَبر ، ولا أحسب هذا الإطلاق صحيحاً . وقد أريد باليتامى هنا ما يشمل الذكور والإناث وغُلب في ضمير التذكير في قوله : { أموالهم } .وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم ، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقاً عليه اسم اليتيم ، إذ اليتيم خاصّ بمن لم يبلغ ، وهو حينئذ غير صالح للتصرّف في ماله ، فتعيّن تأويل الآية إمّا بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم ، فلنا أن نؤوّل { آتوا } بغير معنى ادفعوا . وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنّه قال : نزلت هذه الآية في الذين لا يُورّثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية ، فيكون { آتوا } بمعنى عيّنوا لهم حقوقهم ، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام ، لا تأكيد بعضها لبعض ، أو تقييد بعضها لبعض .وقال صاحب «الكشاف» : «يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتّى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة» فهو تأويل للإيتاء بلازمه وهو الحفظ الذي يترتّب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم ، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء ، وعليه فيكون هو معنى قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } . وعلى هذين الوجهين فالمراد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجيء في قوله : { وابتلوا اليتامى } [ النساء : 6 ] الآية . ولنا أن نؤوّل اليتامى بالذين جاوزوا حدّ اليُتْم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع ، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حدّ اليتيم ، أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيّداً بقوله الآتي : { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] . ومن الناس من قال : اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنّه مشتقّ من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه ، ولا يخفى أنّ هذا القول جمود على توهّم أنّ الانفراد حقيقيّ وإنّما وضع اللفظ للانفراد المجازي ، وهو انعدام الأب المنزّل منزلة بقاء الولد منفرداً وما هو بمنفرد فإنّ له أمّا وقوماً .قيل : نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان له ابن أخ في حجره ، فلمّا بلغ طلب ماله ، فمنعه عمّه ، فنزلت هذه الآية ، فرَدّ المال لابن أخيه ، وعلى هذا فهو المراد من قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم } .وقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } أي لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيّب . والقول في تعدية فعل تبدّل ونظائره مضى عند قوله تعالى في سورة فالبقرة ( 61 ) قال : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } وعلى ما تقرّر هناك يتعيّن أن يكون الخبيث هو المأخوذ ، والطيّب هو المتروك .والخبيث والطيّب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي ، وهما استعارتان؛ فالخبيث المذموم أو الحرام ، والطيّب عكسه وهو الحلال : وتقدّم في قوله تعالى : { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } في البقرة ( 168 ) . فالمعنى : ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام ، فالمنهي عنه هنا هو ضدّ المأمور به من قبل تأكيداً للأمر ، ولكنّ النهي بيَّن ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر ، وهذا الوجه ينبىء عن جعل التبدّل مجازاً والخبيث والطيّب كذلك ، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال . وعن السديّ ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي .وقوله : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمّها إلى أموال أوليائهم ، فينتسق في الآية أمر ونهيان : أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام ، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها ، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول .والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده ، ولا مطمع في إرجاعه ، وضمّن ( تأكلوا ) معنى تضمّوا فلذلك عدي بإلى أي : لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم .وليس قيد { إلى أموالكم } محطّ النهي ، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقاً سواء كان للآكل مال يَضُمّ إليه مالَ يتيمه أم لم يكن ، ولكن لمّا كان الغالب وجود أموال للأوصياء ، وأنّهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثّر ، ذكر هذا القيد رعياً للغالب ، ولأنّه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنّهم أغنياء؛ على أنّ التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين ، ولذلك روي : أنّ المسلمين تجنّبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة ( 220 ) : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } فقد فهموا أنّ ضمّ مال اليتيم إلى مال الوصيّ حرام ، مع علمهم بأنّ ذلك ليس مشمولاً للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضمّ . وهما في فهم العرب نهيان ، وليس هو نهياً عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتاً بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدْوَنُ بصالح لأن يكون مفهوم موافقة .والحُوب بضمّ الحاء لغة الحجاز ، و بفتحها لغة تميم ، وقيل : هي حبشية ، ومعناه الإثم ، والجملة تعليل للنهي : لموقع إنّ منها ، أي نهاكم الله عن أكل أموالهم لأنّه إثم عظيم . ولكون إنّ في مثله لمجرد الاهتمام لتفيد التعليل أكِّد الخبر بكان الزائدة .

الترجمة الإنجليزية

Wain khiftum alla tuqsitoo fee alyatama fainkihoo ma taba lakum mina alnnisai mathna wathulatha warubaAAa fain khiftum alla taAAdiloo fawahidatan aw ma malakat aymanukum thalika adna alla taAAooloo

اشتمال هذه الآية على كلمة { اليتامى } يؤذن بمناسبتها للآية السابقة ، بيد أنّ الأمر بنكاح النساء وعددهنّ في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى ممّا خفي وجهُه على كثير من علماء سلف الأمة ، إذ لا تظهر مناسبة أي ملازمة بين الشرط وجوابه . واعلم أنّ في الآية إيجازاً بديعاً إذ أطلق فيها لفظ اليتامى في الشرط وقوبل بلفظ النساء في الجزاء فعلم السامع أنّ اليتامى هنا جمع يتيمة وهي صنف من اليتامى في قوله السابق : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] . وعلم أنّ بين عدم القسط في يتامى النساء ، وبين الأمر بنكاح النساء ، ارتباطاً لا محالة وإلاّ لكان الشرط عبثاً . وبيانه ما في «صحيح البخاري» : أنّ عروة بن الزبير سأل عائشة عن هذه الآية فقالت : «يابنَ أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشرَكه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها فلا يعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنُهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء غيرهنّ . ثم إنّ الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] . فقول الله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلاّ بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال» . وعائشة لم تسند هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سياق كلامها يؤذن بأنّه عن توقيف ، ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة اعتداداً بأنها ما قالت ذلك إلاّ عن معاينة حال النزول ، وأَفهام المسلمين التي أقرّها الرسول عليه السلام ، لا سيما وقد قالت : ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله ، وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتداداً بما فهمه الناس ممّا يعلمون من أحوالهم ، وتكون قد جمعت إلى حكم حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقّها البنات اليتامى من مهور أمثالهنّ ، وموعظة الرجال بأنّهم لمّا لم يجعلوا أواصر القرابة شافعة النساء اللاتي لا مرغِّب فيهنّ لهم فيرغبون عن نكاحهنّ ، فكذلك لا يجعلون القرابة سبباً للإجحاف بهنّ في مهورهنّ . وقولها : ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله ، معناه استفتوه طلباً لإيضاح هذه الآية . أو استفتوه في حكم نكاح اليتامى ، وله يهتدوا إلى أخذه من هذه الآية ، فنزل قوله : { ويستفتونك في النساء } الآية ، وأنّ الإشارة بقوله : { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء } أي ما يتلى من هذه الآية الأولى ، أي كان هذا الاستفتاء في زمن نزول هذه السورة .وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية . وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والسدّي ، وقتادة : كانت العرب تتحرّج في أموال اليتامى ولا تتحّرج في العدل بين النساء ، فكانوا يتزوّجون العشر فأكثر فنزلت هذه الآية في ذلك ، وعلى هذا القول فمحلّ الملازمة بين الشرط والجزاء إنّما هو فيما تفرّع عن الجزاء من قوله : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } ، فيكون نسج الآية قد حيك على هذا الأسلوب ليدمج في خلاله تحديد النهاية إلى الأربع . وقال عكرمة : نزلت في قريش ، كان الرجل يتزوّج العشر فأكثر فإذا ضاق ماله عن إنفاقهنّ أخذ مال يتيمه فتزوّج منه ، وعلى هذا الوجه فالملازمة ظاهرة ، لأنّ تزوّج ما لا يستطاع القيام به صار ذريعة إلى أكل أموال اليتامى ، فتكون الآية دليلاً على مشروعية سدّ الذرائع إذا غلبت . وقال مجاهد : الآية تحذير من الزنا ، وذلك أنّهم كانوا يتحرّجون من أكل أموال اليتامى ولا يتحرّجون من الزنا ، فقيل لهم : إن كنتم تخافون من أموال اليتامى فخافوا الزنا ، لأنّ شأن المتنسّك أن يهجر جميع المآثم لا سيما ما كانت مفسدته أشدّ . وعلى هذا الوجه تضعف الملازمة بين الشرط وجوابه ويكون فعل الشرط ماضياً لفظاً ومعنى . وقيل في هذا وجوه أخر هي أضعف ممّا ذكرنا .ومعنى { ما طاب } ما حسن بدليل قوله : { لكم } ويفهم منه أنّه ممّا حلّ لكم لأن الكلام في سياق التشريع .وما صَدْقُ { ما طاب } النساء فكان الشأن أن يؤتى ب ( مَن ) الموصولة لكن جيء ب ( ما ) الغالبة في غير العقلاء ، لأنّها نُحِي بها مَنْحى الصفة وهو الطيّب بِلا تعيين ذات ، ولو قال ( مَنْ ) لتبادر إلى إرادة نسوة طيّبات معروفات بينهم ، وكذلك حال ( ما ) في الاستفهام ، كما قال صاحب «الكشاف» وصاحب «المفتاح» . فإذا قلت : ما تزوجت؟ فأنت تريد ما صفتها أبكرا أم ثيّباً مثلاً ، وإذا قلت : مَن تزوجت؟ فأنت تريد تعيين اسمها ونسبها .والآية ليست هي المثبتة لمشروعية النكاح ، لأنّ الأمر فيها معلّق على حالة الخوف من الجور في اليتامى ، فالظاهر أنّ الأمر فيها للإرشاد ، وأنّ النكاح شرع بالتقرير للإباحة الأصلية لما عليه الناس قبل الإسلام مع إبطال ما لا يرضاه الدين كالزيادة على الأربع ، وكنكاح المقت ، والمحرّمات من الرضاعة ، والأمر بأن لا يُخْلوه عن الصداق ، ونحو ذلك .وقوله : { مثنى وثلاث ورباع } أحوال من { طاب } ولا يجوز كونها أحوالاً من النساء لأنّ النساء أريد به الجنس كلّه لأن ( مِنْ ) إمَّا تبعيضية أو بيانية وكلاهما تقتضي بقاء البيان على عمومه ، ليصلح للتبعيض وشبهه ، والمعنى : أنّ الله وسّع عليكم فلكم في نكاح غير أولئك اليتامى مندوحة عن نكاحهنّ مع الإضرار بهنّ في الصداق ، وفي هذا إدماج لحكم شرعي آخر في خلال حكم القسط لليتامى إلى قوله : { ذلك أدنى ألا تعولوا } .وصيغة مَفْعَل وفُعَال في أسماء الأعداد من واحد إلى أربعة ، وقيل إلى ستة وقيل إلى عشرة ، وهو الأصح ، وهو مذهب الكوفيّين ، وصحّحه المعرّي في «شرح ديوان المتنبيّ» عند قول أبي الطّيب :أُحَاد أم سُدَاسٌ في آحاد ... لُيَبْلَتُنَا المَنوطةُ بالتناديتدُلّ كلّها على معنى تكرير اسم العدد لقصد التوزيع كقوله تعالى : { أولي أجنحة مَثْنَى وثُلاث ورُباع } [ فاطر : 1 ] أي لطائفة جناحان ، ولطائفة ثلاثة ، ولطائفة أربعة . والتوزيع هنا باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطَّول ، فمنهم فريق يستطيع أن يتزوّجوا اثنتين ، فهؤلاء تكون أزواجهم اثنتين اثنتين ، وهلمّ جرّا ، كقولك لجماعة : اقتسِموا هذا المال درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، على حسب أكبركم سنّاً . وقد دل على ذلك قوله بعد : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } . والظاهر أنّ تحريم الزيادة على الأربع مستفاد من غير هذه الآية لأنّ مجرّد الاقتصار غير كاف في الاستدلال ولكنّه يُستأنس به ، وأنّ هذه الآية قرّرت ما ثبت من الاقتصار ، على أربع زوجات كما دلّ على ذلك الحديث الصحيح : إنّ غيلان بن سلمة أسلم على عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أمسك أربعاً وفارق سائرهنّ " . ولعلّ الآية صدرت بذكر العدد المقرّر من قبل نزولها ، تمهيداً لشرع العدل بين النساء ، فإنّ قوله : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } صريح في اعتبار العدل في التنازل في مراتب العدد ينزل بالمكلّف إلى الواحدة . فلا جرم أن يكون خوفه في كلّ مرتبة من مراتب العدد ينزل به إلى التي دونها . ومن العجيب ما حكاه ابن العربي في الأحكام عن قوم من الجهّال لم يعيّنهم أنّهم توهّموا أنّ هذه الآية تبيح للرجال تزوّج تسع نساء توهّما بأنّ مثنَى وثُلاث ورُباع مرادفة لاثنين وثلاثاً وأربعاً ، وأنّ الواو للجمع ، فحصلت تسعة وهي العدد الذي جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه ، وهذا جهل شنيع في معرفة الكلام العربي . وفي «تفسير القرطبي» نسبة هذا القول إلى الرافضة ، وإلى بعض أهل الظاهر ، ولم يعيّنه . وليس ذلك قولاً لداوود الظاهري ولا لأصحابه ، ونسبه ابن الفرس في أحكام القرآن إلى قوم لا يعبأ بخلافهم ، وقال الفخر : هم قوم سُدى ، ولم يذكر الجصّاص مخالفاً أصلاً . ونسب ابن الفرس إلى قوم القول بأنّه لا حصر في عدد الزوجات وجعلوا الاقتصار في الآية بمعنى : إلى ما كان من العدد ، وتمسّك هذان الفريقان بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع نسوة ، وهو تمسّك واه ، فإنّ تلك خصوصية له ، كما دلّ على ذلك الإجماع ، وتطلُّب الأدلّة القواطع في انتزاع الأحكام من القرآن تطلّب لما يقف بالمجتهدين في استنباطهم موقف الحيرة ، فإنّ مبنى كلام العرب على أساس الفطنة .ومسلكه هو مسلك اللمحة الدالّة .وظاهر الخطاب للناس يعم الحرّ والعبد ، فللعبد أن يتزوّج أربع نسوة على الصحيح ، وهو قول مالك ، ويعزى إلى أبي الدرداء ، والقاسم بن محمد ، وسالم ، وربيعة بن أبي عبد الرحمان ، ومجاهد ، وذهب إليه داوود الظاهري . وقيل : لا يتزوّج العبد أكثر من اثنتين ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وينسب إلى عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن سيرين ، والحسن . وليس هذا من مناسب التنصيف للعبيد ، لأنّ هذا من مقتضى الطبع الذي لا يختلف في الأحرار والعبيد . ومن ادّعى إجماع الصحابة على أنّه لا يتزوّج أكثر من اثنتين فقد جازف القول .وقوله : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } ، أي فواحدة لكلّ من يخاف عدم العدل . وإنّما لم يقل فأُحاد أو فمَوْحَد لأنّ وزن مَفعل وفُعال في العدد لا يأتي إلاّ بعد جمع ولم يجر جمع هنا . وقرأ الجمهور : فواحدة بالنصب ، وانتصب واحدة على أنّه مفعول لمحذوف أي فانكحوا واحدة . وقرأه أبو جعفر بالرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي كفاية .وخوف عدم العدل معناه عدم العدل بين الزوجات ، أي عدم التسوية ، وذلك في النفقة والكسوة والبشاشة والمعاشرة وترك الضرّ في كلّ ما يدخل تحت قدرة المكلّف وطوقه دون ميل القلب .وقد شرع الله تعدّد النساء للقادر العادل لِمصالح جمّة : منها أنّ في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها ، ومنها أنّ ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هنّ أكثر من الرجال في كلّ أمّة لأنّ الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة ، ولأنّ الرجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء ، ولأنّ النساء أطول أعماراً من الرجال غالباً ، بما فطرهنّ الله عليه ، ومنها أنّ الشريعة قد حرّمت الزنا وضيّقت في تحريمه لمّا يجرّ إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات ، فناسب أن توسّع على الناس في تعدّد النساء لمن كان من الرجال ميّالاً للتعدّد مجبولاً عليه ، ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلاّ لضرورة .ولم يكن في الشرائع السالفة ولا في الجاهلية حدّ للزوجات ، ولم يثبت أن جاء عيسى عليه السلام بتحديد للتزوّج ، وإن كان ذلك توهّمه بعض علمائنا مثل القرافي ، ولا أحسبه صحيحاً ، والإسلام هو الذي جاء بالتحديد ، فأمّا أصل التحديد فحكمته ظاهرة : من حيث إنّ العدل لا يستطيعه كلّ أحد ، وإذا لم يقم تعدّدُ الزوجات على قاعدة العدل بينهنّ اختلّ نظام العائلة ، وحدثت الفتن فيها ، ونشأ عقوق الزوجات أزواجهنّ ، وعقوق الأبناء آباءهم بأذاهم في زوجاتهم وفي أبنائهم ، فلا جرم أن كان الأذى في التعدّد لمصلحة يجب أن تكون مضبوطة غير عائدة على الأصل بالإبطال .وأمّا الانتهاء في التعدّد إلى الأربع فقد حاول كثير من العلماء توجيهه فلم يبلغوا إلى غاية مرضية ، وأحسب أنّ حكمته ناظرة إلى نسبة عدد النساء من الرجال في غالب الأحوال ، وباعتبار المعدّل في التعدّد فليس كلّ رجل يتزوّج أربعاً ، فلنفرض المعدّل يكشف عن امرأتين لكلّ رجل ، يدلّنا ذلك على أنّ النساء ضعف الرجال . وقد أشار إلى هذا ما جاء في «الصحيح» : أنه يكثر النساء في آخر الزمان حتّى يكون لخمسين امرأةً القيِّم الواحد .وقوله : { أو ما ملكت أيمانكم } إن عطف على قوله : { فواحدة } ، فقد خيّر بينه وبين الواحدة باعتبار التعدّد ، أي فواحدة من الأزواج أو عدد ممّا ملكت أيمانكم ، وذلك أنّ المملوكات لا يشترط فيهنّ من العدل ما يشترط في الأزواج ، ولكن يشترط حسن المعاملة وترك الضرّ ، وإن عطفتَه على قوله : { فانكحوا ما طاب } كان تخييراً بين التزوّج والتسرّي بحسب أحوال الناس ، وكان العدل في الإماء المتّخذات للتسرّي مشروطاً قياساً على الزوجات ، وكذلك العدد بحسب المقدرة غير أنّه لا يمتنع في التسرّي الزيادة على الأربع لأنّ القيود المذكورة بين الجمل ترجع إلى ما تقدّم منها . وقد منع الإجماع من قياس الإماء على الحراير في نهاية العدد ، وهذا الوجه أدخل في حكمة التشريع وأنظم في معنى قوله : { ذلك أدنى ألا تعولوا } والإشارة بقوله { ذلك أدنى ألا تعولوا } إلى الحكم المتقدّم ، وهو قوله : { فانكحوا ما طاب لكم } إلى قوله : { أو ما ملكت أيمانكم } باعتبار ما اشتمل عليه من التوزيع على حسب العدل . وإفراد اسم الإشارة باعتبار المذكور كقوله تعالى : { ومن يفعل ذلك يلق أثاماً } .و ( أدنى ) بمعنى أقرب ، وهو قرب مجازي أي أحقّ وأعون على أن لا تعُولوا ، و«تعولوا» مضارع عال عَوْلاً ، وهو فعل واوي العين ، بمعنى جار ومال ، وهو مشهور في كلام العرب ، وبه فسّر ابن عباس وجمهور السلف ، يقال : عَال الميزان عَولاً إذا مال ، وعال فلان في حكمه أي جار ، وظاهر أنّ نزول المكلّف إلى العدد الذي لا يخاف معه عدم العدل أقرب إلى عدم الجور ، فيكون قوله : { أدنى ألا تعولوا } في معنى قوله : { فإن خفتم ألا تعدلوا } فيفيد زيادة تأكيد كراهية الجور .ويجوز أن تكون الإشارة إلى الحكم المتضمّن له قوله : { فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } أي ذلك أسلم من الجور ، لأنّ التعدّد يعرّض المكلّف إلى الجور وإن بذل جهده في العدل ، إذ للنفس رغبات وغفلات ، وعلى هذا الوجه لا يكون قوله : { أدنى ألا تعولوا } تأكيداً لمضمون { فإن خفتم ألا تعدلوا } ويكون ترغيباً في الاقتصار على المرأة الواحدة أو التعدّد بملك اليمين ، إذ هو سدّ ذريعة الجور ، وعلى هذا الوجه لا يكون العدل شرطاً في ملك اليمين ، وهو الذي نحاه جمهور فقهاء الأمصار في ملك اليمين .وقيل : «معنى ألا تعولوا» أن لا تكثر عيالكم ، مأخوذ من قولهم عال الرجل أهله يعولهم بمعنى مالهم ، يعني فاستعمل نفي كثرة العيال على طريق الكناية لأنّ العول يستلزم وجود العيال ، والإخبار عن الرجل بأنّه يعول يستلزم كثرة العيال ، لأنّه إخبار بشيء لا يخلو عنه أحد فما يخبر المخبر به إلاّ إذا رآه تجاوز الحدّ المتعارف . كما تقول فلان يأكل ، وفلان ينام ، أي يأكل كثيراً وينام كثيراً ، ولا يصحّ أن يراد كونه معنى لعال صريحاً ، لأنّه لا يقال عال بمعنى كثرت عياله ، وإنّما يقال أعال . وهذا التفسير مأثور عن زيد بن أسلم ، وقاله الشافعي ، وقال به ابن الأعرابي من علماء اللغة وهو تفسير بعيد ، وكناية خفيّة ، لا يلائم إلاّ أن تكون الإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تضمنّه قوله : { فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } ويكون في الآية ترغيب في الاقتصار على الواحدة لخصوص الذي لا يستطيع السعة في الإنفاق ، لأنّ الاقتصار على الواحدة يقلل النفقة ويقلّل النسل فيُبقي عليه مالَه ، ويدفع عنه الحاجة ، إلاّ أنّ هذا الوجه لا يلائم قوله : { أو ما ملكت أيمانكم } لأنّ تعدّد الإماء يفضي إلى كثرة العيال في النفقة عليهنّ وعلى ما يتناسل منهنّ ، ولذلك ردّ جماعة على الشافعي هذا الوجه بين مُفرط ومقتصد .وقد أغلظ في الردّ أبو بكر الجصّاص في أحكامه حتّى زعم أنّ هذا غلط في اللغة ، اشتبه به عال يَعيل بعال يَعُول . واقتصد ابن العربي في ردّ هذا القول في كتاب الأحكام . وانتصر صاحب «الكشاف» للشافعي ، وأُورد عليهم أنّ ذلك لا يلاقي قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانكم } فإن تعدّد الجواري مثل تَعدّد الحرائر فلا مفرّ من الإعالة على هذا التفسير . وأجيب عنه بجواب فيه تكلّف .وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } [ النساء : 1 ] .

الترجمة الإنجليزية

Waatoo alnnisaa saduqatihinna nihlatan fain tibna lakum AAan shayin minhu nafsan fakuloohu haneean mareean

جانبان مُسْتَضْعَفَان في الجاهلية : اليتيم ، والمرأة . وحقّان مغبون فيهما أصحابهما : مال الأيتام ، ومال النساء ، فلذلك حرسهما القرآن أشدّ الحراسة فابتدأ بالوصاية بحق مال اليتيم ، وثنّى بالوصاية بحقّ المرأة في مال ينجرّ إليها لا محالة ، وكان توسّط حكم النكاح بين الوصايتين أحسن مناسبة تهَيّىء لعطف هذا الكلام .فقوله : { وآتوا النساء } عطف على قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] والقول في معنى الإيتاء فيه سواء . وزاده اتّصالاً بالكلام السابق أنّ ما قبله جرى على وجوب القسط في يتامى النساء ، فكان ذلك مناسبة الانتقال . والمخاطَب بالأمر في أمثال هذا كلّ من له نصيب في العمل بذلك ، فهو خطاب لعموم الأمّة على معنى تناوله لكلّ من له فيه يد من الأزواج والأولياء ثم ولاة الأمور الذين إليهم المرجع في الضرب على أيدي ظلمة الحقوق أربابَها . والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج ، لكيلا يتذرّعوا بحياء النساء وضعفهنّ وطلبهنّ مرضاتَهم إلى غمص حقوقهنّ في أكل مهورهنّ ، أو يجعلوا حاجتهنّ للتزوّج لأجل إيجاد كافل لهنّ ذريعة لإسقاط المهر في النكاح ، فهذا ما يمكن في أكل مهورهنّ ، وإلاّ فلهنّ أولياء يطالبون الأزواج بتعيين المهور ، ولكن دون الوصول إلى ولاة الأمور متاعب وكلف قد يملّها صاحب الحقّ فيترك طلبه ، وخاصّة النساء ذوات الأزواج . وإلى كون الخطاب للأزواج ذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن جريج ، فالآية على هذا قرّرت دفع المهور وجعلته شرعاً ، فصار المهر ركناً من أركان النكاح في الإسلام ، وقد تقرّر في عدّة آيات كقوله : { فآتوهن أجورهن فريضة وغير ذلك } [ النساء : 24 ] .والمهر علامة معروفة للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة ، لكنّهم في الجاهلية كان الزوج يعطي مالاً لولي المرأة ويسمّونه حلواناً بضم الحاء ولا تأخذ المرأة شيئاً ، فأبطل الله ذلك في الإسلام بأن جعل المال للمرأة بقوله : { وآتوا النساء صداقتهن } .وقال جماعة : الخطاب للأولياء ، ونقل ذلك عن أبي صالح قال : لأنّ عادة بعض العرب أن يأكل وليّ المرأة مهرها فرفع الله ذلك بالإسلام . وعن الحضرمي : خاطبتْ الآية المتشاغرين الذين كانوا يتزوّجون امرأة بأخرى ، ولعلّ هذا أخذ بدلالة الإشارة وليس صريحَ اللفظ ، وكل ذلك ممّا يحتمله عموم النساء وعموم الصدقات .والصدُقات جمع صدُقة بضمّ الدال والصدُقة : مهر المرأة ، مشتقّة من الصدق لأنّها عطية يسبقها الوعد بها فيصدقه المعطي .والنِّحلة بكسر النون العطيّة بلا قصد عوض ، ويقال : نُحْل بضم فسكون . وانتصب نحلة على الحال من «صدقاتهنّ» ، وإنّما صحّ مجيء الحال مفردة وصاحبها جمع لأنّ المراد بهذا المفرد الجنس الصالح للأفراد كلّها ، ويجوز أن يكون نِحلة منصوباً على المصدرية لآتوا لبيان النوع من الإيتاء أي إعطاءَ كرامة .وسمّيت الصدُقات نحلة إبعاداً للصدقات عن أنواع الأعواض ، وتقريباً بها إلى الهدية ، إذ ليس الصداق عوضاً عن منافع المرأة عند التحقيق ، فإنّ النكاح عقد بين الرجل والمرأة قصد منه المعاشرة ، وإيجاد آصرة عظيمة ، وتبادل حقوق بين الزوجين ، وتلك أغلى من أن يكون لها عوض مالي ، ولو جعل لكان عوضُها جزيلاً ومتجدّداً بتجدّد المنافع ، وامتداد أزمانها ، شأن الأعواض كلّها ، ولكنّ الله جعله هدية واجبة على الأزواج إكراماً لزوجاتهم ، وإنّما أوجبه الله لأنّه تقرّر أنّه الفارق بين النكاح وبين المخادنة والسفاح ، إذ كان أصل النكاح في البشر اختصاص الرجل بامرأة تكون له دون غيره ، فكان هذا الاختصاص يُنال بالقُوّة ، ثمّ اعتاض الناس عن القوّة بذْل الأثمان لأولياء النساء ببيعهم بناتهم ومَوْلَيَاتِهم ، ثمّ ارتقى التشريع وكمُل عقد النكاح ، وصارت المرأة حليلة الرجل شريكته في شؤونه وبقيت الصدُقات أمارات على ذلك الاختصاص القديم تميّز عقد النكاح عن بقية أنواع المعاشرة المذمومة شرعاً وعادة ، وكانت المعاشرة على غير وجه النكاح خالية عن بذل المال للأولياء إذ كانت تنشأ عن الحبّ أو الشهوة من الرجل للمرأة على انفراد وخفية من أهلها ، فمن ذلك الزنى الموقّت ، ومنه المخادنة ، فهي زنا مستمرّ ، وأشار إليها القرآن في قوله :{ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } [ النساء : 25 ] ودون ذلك البغاء وهو الزنا بالإماء بأجور معيّنة ، وهو الذي ذكر الله النهي عنه بقوله : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } [ النور : 33 ] وهنالك معاشرات أخرى ، مثل الضماد وهو أن تتّخذ ذات الزوج رجلاً خليلاً لها في سنة القحط لينفق عليها مع نفقة زوجها . فلأجل ذلك سمّى الله الصداق نِحلة ، فأبعد الذين فسّروها بلازم معناها فجعلوها كناية عن طيب نفس الأزواج أو الأولياء بإيتاء الصدقات ، والذين فسروها بأنّها عطية من الله للنساء فرضها لهنّ ، والذين فسّروها بمعنى الشرع الذي يُنتحل أي يُتَّبع .وقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } الآية أي فإن طابت أنفسهنّ لكم بشيء منه أي المذكور . وأفرد ضمير «منه» لتأويله بالمذكور حملاً على اسم الإشارة كما قال رؤبة :فيها خُطوط من سواد وبلَق ... كأنَّه في الجِلد توليع البَهَقفقال له أبو عبيدة : إمّا أن تقول : كأنّها إن أردت الخطوط ، وإما أن تقول : كأنّهما إن أردت السواد والبلَق فقال : أردْتُ كأنّ ذلك ، ويْلَك أي أجرى الضمير كما يُجرى اسم الإشارة . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { عوان بين ذلك } في سورة البقرة ( 68 ) . وسيأتي الكلام على ضمير ( مثله ) عند قوله تعالى : { ومثله معه ليفتدوا به } في سورة العقود ( 36 ) .وجيء بلفظ نفساً مفرداً مع أنّه تمييز نسبة { طبن } إلى ضمير جماعة النساء لأنّ التمييز اسم جنس نكرة يستوي فيه المفرد والجمع . وأسند الطيب إلى ذوات النساء ابتداء ثم جيء بالتمييز للدلالة على قوّة هذا الطيب على ما هو مقرّر في علم المعاني : من الفرق بين واشتعل الرأس شيباً وبين اشتعل شيب رأسي ، ليعلم أنه طيب نفس لا يشوبه شيء من الضغط والإلجاء .وحقيقة فعل ( طاب ) اتّصاف الشيء بالملاءمة للنفس ، وأصله طيب الرائحة لحسن مشمومها ، وطيب الريح موافقتها للسائر في البحر : { وجرين بهم بريح طيّبة } [ يونس : 22 ] ، ومنه أيضاً ما ترضى به النفس كما تقدّم في قوله تعالى : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } [ البقرة : 168 ] ثم استعير لما يزكو بين جنسه كقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] ومنه فعل { طبن لكم عن شيء منه نفساً } هنا أي رضين بإعطائه دون حرج ولا عسف ، فهو استعارة .وقوله : { فكلوه } استعمل الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به ، أي في معنى تمام التملّك . وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه ، لأنّ الأكل أشدّ أنواع الانتفاع حائلاً بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقّه . ولكنّه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة مع قوله السابق : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] فتلك محسّن الاستعارة .و { هنيئاً مريئاً } حالان من الضمير المنصوب وهما صفتان مشبّهتان من هنَا وهَنِيء بفتح النون وكسرها بمعنى ساغ ولم يعقب نغصاً . والمريء من مُرو الطعام مثلث الراء بمعنى هنىء ، فهو تأكيد يُشبه الاتباع . وقيل : الهنيء الذي يلذّه الآكل والمريء ما تحمد عاقبته . وهذان الوصفان يجوز كونهما ترشيحاً لاستعارة { كلوه } بمعنى خذوه أخذ ملك ، ويجوز كونهما مستعملين في انتفاء التبعة عن الأزواج في أخذ ما طابت لهم به نفوس أزواجهم ، أي حلالاً مباحاً ، أو حلالاً لا غرم فيه . وإنّما قال : { عن شيء منه } فجيء بحرف التبعيض إشارة إلى أن الشأن أنّ لا يَعرى العقد عن الصداق ، فلا تسقطه كلّه إلاّ؛ أنّ الفقهاء لمّا تأوّلوا ظاهر الآية من التبعيض ، وجعلوا هبة جميع الصداق كهبته كلّه أخذاً بأصل العطايا ، لأنّها لمّا قبضته فقد تقرّر ملكها إيّاه ، ولم يأخذ علماء المالكية في هذا بالتهمة لأنّ مبنى النكاح على المكارمة ، وإلاّ فإنّهم قالوا في مسائل البيع : إنّ الخارج من اليد ثم الراجع إليها يعتبر كأنّه لم يخرج ، وهذا عندنا في المالكات أمر أنفسهنّ دون المحجورات تخصيصاً للآية بغيرها من أدلّة الحجر فإنّ الصغيرات غير داخلات هنا بالإجماع . فدخل التخصيص للآية . وقال جمهور الفقهاء : ذلك للثيّب والبكر ، تمسّكاً بالعموم . وهو ضعيف في حمل الآدلّة بعضها على بعض .واختلف الفقهاء في رجوع المرأة في هبتها بعضَ صداقها : فقال الجمهور : لا رجوع لها ، وقال شريح ، وعبد الملك بن مروان : لها الرجوع ، لأنّها لو طابت نفسها لما رجعت . ورووا أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى قضاته «إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيّما امرأة أعطته ، ثمّ أرادت أن ترجع فذلك لها» وهذا يظهر إذا كان ما بين العطيّة وبين الرجوع قريباً ، وحدث من معاملة الزوج بعد العطيّة خلاف ما يؤذن حسن المعاشرة السابق للعطيّة .وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله تعالى : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } [ النساء : 1 ] .

الترجمة الإنجليزية

Wala tutoo alssufahaa amwalakumu allatee jaAAala Allahu lakum qiyaman waorzuqoohum feeha waoksoohum waqooloo lahum qawlan maAAroofan

عطف على قوله : { وآتوا النساء صدقاتهن } [ النساء : 4 ] لدفع توهّم إيجاب أن يؤتى كلّ مال لمالكه من أجل تقدّم الأمر بإتيان الأموال مالكيها مرّتين في قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم وآتوا النساء صدقاتهن } [ النساء : 2 ، 4 ] . أو عطف على قوله : { وآتوا اليتامى } وما بينهما إعتراض .والمقصود بيان الحال التي يمنع فيها السفيه من ماله ، والحال التي يؤتى فيها مالَه ، وقد يقال كان مقتضى الظاهر على هذا الوجه أن يقدّم هنالك حكم منع تسليم مال اليتامى لأنّه أسبق في الحصول ، فيتّجه لمخالفة هذا المقتضى أن نقول قدّم حكم التسليم ، لأنّ الناس أحرص على ضدّه ، فلو ابتدأ بالنهي عن تسليم الأموال للسفهاء لاتّخذه الظالمون حجّة لهم ، وتظاهروا بأنّهم إنّما يمنعون الأيتام أموالهم خشية من استمرار السفه فيهم ، كما يفعله الآن كثير من الأوصياء والمقدّمين غير الأتقياء ، إذ يتصدّون للمعارضة في بيّنات ثبوت الرشد لمجرّد الشغب وإملال المحاجير من طلب حقوقهم .والخطاب في قوله : { ولا تؤتوا السفهاء } كمثل الخطاب في { وآتوا اليتامى وآتوا النساء } هو لعموم الناس المخاطبين بقوله : { يا أيها الناس اتّقوا ربكم } [ الحج : 1 ] ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظّه من الامتثال .والسفهاء يجوز أن يراد به اليتامى ، لأنّ الصغر هو حالة السفه الغالبة ، فيكون مقابلاً لقوله : { وآتوا اليتامى } لبيان الفرق بين الإيتاء بمعنى الحفظ والإيتاء بمعنى التمكين ، ويكون العدول عن التعبير عنهم باليتامى إلى التعبير هنا بالسفهاء لبيان علّة المنع . ويجوز أن يراد به مطلق من ثبت له السفه ، سواء كان عن صغر أم عن اختلال تصرّف ، فتكون الآية قد تعرّضت للحجر على السفيه الكبير استطراداً للمناسبة ، وهذا هو الأظهر لأنّه أوفر معنى وأوسع تشريعاً . وتقدّم بيان معاني السفه عند قوله تعالى : { إلا من سفه نفسه } في سورة البقرة ( 130 ) .والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم ، ألا ترى إلى قوله : وارزقوهم فيها } وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين ب ( يا أيّها الناس ) إشارة بديعة إلى أنّ المال الرائج بين الناس هو حقّ لمالكية المختصّين به في ظاهر الأمر ، ولكنّه عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها ، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة ، فمن تلك الأموال يُنفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف ، ومتى قلَّت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة ، فأصبحوا في ضنك وبؤس ، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم ، وامتلاك بلادهم ، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم ، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة .وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيماً من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها . وقد أبْعَدَ جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة ، لأنّ الأموال في يد الأولياء ، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصّة . وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين لأنّ الأموال من نوع أموالهم ، وإن لم تكن أموالهم حقيقة ، وإليه مال الزمخشري . وجماعة جعلوا الإضافة لأنّ السفهاء من نوع المخاطبين فكأنّ أموالَهم أموالُهم وإليه مال فخر الدين . وقارب ابن العرب إذ قال : «لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك» وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن . وأبعَدَ فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا يا أصحاب الأموال أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم ، وهذا أبعد الوجوه ، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلاّ الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء ، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين ، وإنّما وصفته بالبعد لأنّ قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجهاً جائزاً يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه بناء على ما تقرّر في المقدّمة التاسعة .وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحاً وهي قوله : { التي جعل اللَّه لكم قياماً } فجاء في الصفة بموصول إيماء إلى تعليل النهي ، وإيضاحاً لمعنى الإضافة ، فإنّ ( قيما ) مصدر على وزن فِعَل بمعنى فِعَال : مثل عِوذَ بمعنى عياذ ، وهو من الواوي وقياسُه قِوَم ، إلاّ أنّه أعلّ بالياء شذوذاً كما شذّ جياد في جمع جَواد وكما شذّ طيال في لغة ضَبَّةَ في جمع طويل ، قصدوا قلب الواو ألفاً بعد الكسرة كما فعلوه في قيام ونحوه ، إلاّ أنّ ذلك في وزن فِعال مطّرد ، وفي غيره شاذّ لكثرة فِعال في المصادر ، وقلّة فِعَل فيها ، وقيم من غير الغالب . كذا قرأه نافع ، وابن عامر : «قيما» بوزن فِعَل ، وقرأه الجمهور «قياماً» ، والقيام ما به يتقوّم المعاش وهو واوي أيضاً وعلى القراءتيْن فالإخبار عن الأموال به إخبار بالمصدر للمبالغة مثل قول الخنساء :فإنَّمَا هي إقْبَال وإدْبَار ... والمعنى أنّها تقويم عظيم لأحوال الناس . وقيل : قيما جمع قِيمة أي التي جعلها الله قيماً أي أثماناً للأشياء ، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدّم .ومعنى قوله : { وارزقوهم فيها واكسوهم } واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرّف مطلق ، ولكن آتوهم إيّاها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة ، ولذلك قال فقهاؤنا : تسلّم للمحجور نفقته وكِسْوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله ، وعدل عن تعدية { ارزقوهم واكسوهم } ب ( مِن ) إلى تعديتها ب ( في ) الدالّة على الظرفية المجازية ، على طريقة الاستعمال في أمثاله ، حين لا يقصد التبعيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء ، بل يراد أنّ في جملة الشيء ما يحصل به الفعل : تارة من عينه ، وتارة من ثمنه ، وتارة من نتاجه ، وأنّ ذلك يحصل مكرّراً مستمرّاً .وانظر ذلك في قول سَبرة بن عمرو الفَقْعسي :نُحابِي بها أكفاءنَا ونُهيِنَها ... ونَشْرَب في أثْمَانِها ونُقامِريريد الإبل التي سيقت إليهم في دية قتيل منهم ، أي نشرب بأثمانها ونقامر ، فإمّا شربنا بجميعها أو ببعضها أو نسترجع منها في القمار ، وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسّرون هنا ، فأهمل معظمهم التنبيه على وجه العدول إلى ( في ) ، واهتدى إليه صاحب «الكشاف» بعض الاهتداء فقال : أي اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتّجروا فيها وتتربَّحوا حتّى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال . فقوله : «لا من صلب المال» مستدرك ، ولو كان كما قال لاقتضى نهياً عن الإنفاق من صلب المال .وإنّما قال : { وقولوا لهم قولاً معروفاً } ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى ، فإنّ شأن من يُخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال ، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي ، والتي من مال المعطَى ، ولأنّ جانب السفيه ملموز بالهون ، لقلّة تدبيره ، فلعلّ ذلك يحمل ولّيه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أنّ نقصان عقله خلل في الخلقة ، فلا ينبغي أن يشتم عليه ، ولأنّ السفيه غالباً يستنكر منعَ ما يطلبُه من واسع المطالب ، فقد يظهر عليه ، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليّه ، فأمر الله لأجل ذلك كلّه الأولياء بأن لا يبتدئوا محاجيرهم بسَيّىء الكلام ، ولا يجيبوهم بما يسوء ، بل يعظون المحاجير ، ويعلّمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا ، ويذكّرونهم بأنّ المال مالهم ، وحفظه حفظ لمصالحهم ، فإنّ في ذلك خيراً كثيراً ، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم ، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم حتّى لا يكونوا كما قال :إذا نُهِي السفيهُ جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلافوقد شمل القَول المعروف كلّ قول له موقع في حال مقاله . وخرج عنه كلّ قول منكر لا يشهد العقل ولا الخُلُق بمصادفته المحزّ ، فالمعروف قد يكون ممّا يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه .

الترجمة الإنجليزية

Waibtaloo alyatama hatta itha balaghoo alnnikaha fain anastum minhum rushdan faidfaAAoo ilayhim amwalahum wala takulooha israfan wabidaran an yakbaroo waman kana ghaniyyan falyastaAAfif waman kana faqeeran falyakul bialmaAAroofi faitha dafaAAtum ilayhim amwalahum faashhidoo AAalayhim wakafa biAllahi haseeban

{ وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } .يجوز أن يكون جملة { وابتلوا } معطوفة على جملة { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } [ النساء : 5 ] لتنزيلها منها منزلة الغاية للنهي . فإن كان المراد من السفهاء هنالك خصوص اليتامى فيتّجه أن يقال : لماذا عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وعن الاسم الظاهر المساوي للأوّل إلى التعبير بآخر أخصّ وهو اليتامى ، ويجاب بأنّ العدول عن الإضمار لزيادة الإيضاح والاهتمام بالحكم ، وأنّ العدول عن إعادة لفظ السفهاء إيذان بأنّهم في حالة الابتلاء مرجو كمال عقولهم ، ومتفاءل بزوال السفاهة عنهم ، لئلاّ يلوح شبه تناقض بين وصفهم بالسفه وإيناس الرشد منهم ، وإن كان المراد من السفهاء هنالك أعمّ من اليتامى ، وهو الأظهر ، فيتّجه أن يقال : ما وجه تخصيص حكم الابتلاء والاستيناس باليتامى دون السفهاء؟ ويجاب بأنّ الإخبار لا يكون إلاّ عند الوقت الذي يرجى فيه تغيّر الحال ، وهو مراهقة البلوغ ، حين يرجى كمال العقل والتنقّل من حال الضعف إلى حال الرشد ، أمّا من كان سفهه في حين الكبر فلا يعرف وقت هو مظنّة لانتقال حاله وابتلائه .ويجوز أن تكون جملة { وابتلوا } معطوفة على جملة { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] لبيان كيفية الإيتاء ومقدّماته ، وعليه فالإظهار في قوله : { اليتامى } لبعد ما بين المعاد والضمير ، لو عبّر بالضمير .والابتلاء : الاختبار ، وحتّى ابتدائية ، وهي مفيدة للغاية ، لأنّ إفادتها الغاية بالوضع ، وكونَها ابتدائية أو جارّة استعمالاتٌ بحسب مدخولها ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } في سورة [ آل عمران : 152 ] . و ( إذا ) ظرف مضمّن معنى الشرط ، وجمهور النحاة على أنّ ( حتّى ) الداخلة على ( إذا ) ابتدائية لا جارّة .والمعنى : ابتلوا اليتامى حتّى وقت إن بلغوا النكاح فادفعوا إليهم أموالهم وما بعد ذلك ينتهي عنده الابتلاء ، وحيث علم أنّ الابتلاء لأجل تسليم المال فقد تقرّر أنّ مفهوم الغاية مراد منه لازمه وأثره ، وهو تسليم الأموال . وسيصرّح بذلك في جواب الشرط الثاني .والابتلاء هنا : هو اختبار تصرّف اليتيم في المال باتّفاق العلماء ، قال المالكية : يدفع لليتيم شيء من المال يمكنه التصرّف فيه من غير إجحاف ، ويردّ النظر إليه في نفقة الدار شهراً كاملاً ، وإن كانت بنتاً يفوّض إليها ما يفوّض لربّة المنزل ، وضبط أموره ، ومعرفة الجيّد من الرديء ، ونحو ذلك ، بحسب أحوال الأزمان والبيوت . وزاد بعض العلماء الاختبار في الدين ، قاله الحسن ، وقتادة ، والشافعي . وينبغي أن يكون ذلك غير شرط إذ مقصد الشريعة هنا حفظ المال ، وليس هذا الحكم من آثار كليّة حفظ الدين .وبلوغ النكاح على حذف مضاف ، أي بلوغ وقت النكاح أي التزوّج ، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى ، وللبلوغ علامات معروفة ، عبّر عنها في الآية ببلوغ النكاح بناء على المتعارف عند العرب من التبكير بتزويج البنت عن البلوغ .ومن طلب الرجل الزواج عند بلوغه ، وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة ، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوّة والضعف ، والمزاج الدموي والمزاج الصفراوي ، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح ، والغالب في بلوغ البنت أنّه أسبق من بلوغ الذكر ، فإن تخلّفت عن وقت مظنّتها فقال الجمهور : يستدلّ بالسنّ الذي لا يتخلّف عنه أقصى البلوغ عادة ، فقال مالك ، في رواية ابن القاسم عنه : هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث ، وروي مثله عن أبي حنيفة في الذكور ، وقال : في الجاري سَبْع عشرة سنة ، وروى غيْر ابن القاسم عن مالك أنّه سبع عشرة سنة . والمشهور عن أبي حنيفة : أنّه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات ، وقال الجمهور : خمس عشرة سنة . قاله القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بننِ عُمر ، وإسحاق ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، وابن الماجشون ، وبه قال أصبغ ، وابن وهب ، من أصحاب مالك ، واختاره الأبهري من المالكية ، وتمسّكوا بحديث ابن عمر أنّه عرضَه رسولُ الله يوم بدر وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزه ، وعرضه يوم أحُد وهو ابن خمس عشرة فأجازه . ولا حجّة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين ، فصادف أن رآه النبي وعليه ملامح الرجال ، فأجازه ، وليس ذكر السنّ في كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة . وقد غفل عن هذا ابن العربي في أحكام القرآن ، فتعجّب من ترك هؤلاء الأيمّة تحديد سنّ البلوغ بخمس عشرة سنة ، والعجبُ منه أشدّ من عجبه منهم ، فإنّ قضية ابن عمر قضية عَين ، وخلاف العلماء في قضايا الأعيان مَعلوم ، واستدلّ الشافعية بما روى أنّ النبي قال : إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما لَه وما عليه ، وأقيمت عليه الحدود . وهو حديث ضعيف لا ينبغي الاستدلال به .ووقت الابتلاء يكون بعد التمييز لا محالة ، وقبل البلوغ : قاله ابن الموّاز عن مالك ، ولعلّ وجهه أنّ الابتلاء قبل البلوغ فيه تعريض بالمال للإضاعة لأنّ عقل اليتيم غير كامل ، وقال البغداديون من المالكية : الابتلاء قبل البلوغ . وعبّر عن استكمال قوّة النماء الطبيعي ببلغوا النكاح } ، فأسند البلوغ إلى ذواتهم لأنّ ذلك الوقت يدعو الرجل للتزوّج ويدعو أولياء البنت لتزويجها ، فهو البلوغ المتعارف الذي لا متأخّر بعده ، فلا يشكل بأنّ الناس قد يزوّجون بناتهم قبل سنّ البلوغ ، وأبناءهم أيضاً في بعض الأحوال ، لأنّ ذلك تعجّل من الأولياء لأغراض عارضة ، وليس بلوغاً من الأبناء أو البنات .وقوله : { فإن آنستم منهم رشداً } شرط ثان مقيّد للشرط الأول المستفاد من { إذا بَلغوا } . وهو وجوابه جواب ( إذا ) ، ولذلك قرن بالفاء ليكون نصّاً في الجواب ، وتكون ( إذا ) نصّاً في الشرط ، فإنّ جواب ( إذا ) مستغن عن الربط بالفاء لولا قصد التنصيص على الشرطية .وجاءت الآية على هذا التركيب لتدلّ على أنّ انتهاء الحجر إلى البلوغ بالأصالة ، ولكن بشرط أن يُعرف من المحجور الرشد ، وكلّ ذلك قطع لمعاذير الأوصياء من أن يمسكوا أموال محاجيرهم عندهم مدّة لزيادة التمتّع بها .ويتحصّل من معنى اجتماع الشرطين في الكلام هنا ، إذ كان بدون عطف ظاهر أو مقدّر بالقرينة ، أنّ مجموعهما سبب لتسليم المال إلى المحجور ، فلا يكفي حصول أحدهما ولا نظر إلى الذي يحصل منهما ابتداء ، وهي القاعدة العامّة في كلّ جملة شرط بنيت على جملة شرط آخر ، فلا دلالة لهما إلاّ على لزوم حصول الأمرين في مشروط واحد ، وعلى هذا جرى قول المالكية ، وإماممِ الحرمين . ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين يفيد كون الثاني منهما في الذكر هو الأوّل في الحصول . ونسبه الزجّاجي في كتاب «الأذكار» إلى ثعلب ، واختاره ابن مالك وقال به من الشافعية : البغوي ، والغزالي في الوسيط ، ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين في الحصول يكون على نحو ترتيبهما في اللفظ ، ونسبه الشافعية إلى القفّال ، والقاضي الحسين ، والغزالي في «الوجيز» ، والإمام الرازي في «النهاية» ، وبنوا على ذلك فروعاً في تعليق الشرط على الشرط في الإيمان ، وتعليق الطلاق والعتاق ، وقال إمام الحرمين : لا معنى لاعتبار الترتيب ، وهو الحقّ ، فإنّ المقصود حصولها بقطع النظر عن التقدّم والتأخّر ، ولا يظهر أثر للخلاف في الإخبار وإنشاء الأحكام ، كما هنا ، وإنّما قد يظهر له أثر في إنشاء التعاليق في الأيمان ، وأيمان الطلاق والعتاق ، وقد علمت أنّ المالكية لا يرون لذلك تأثيراً . وهو الصواب .واعلم أنّ هذا إذا قامت القرينة على أنّ المراد جعل الشرطين شرطاً في الجواب ، وذلك إذا تجرّد عن العطف بالواو ولو تقديراً ، فلذلك يتعيّن جعل جملة الشرط الثاني وجوابه جواباً للشرط الأول ، سواء ارتبطت بالفاء كما في هذه الآية أم لم ترتبط ، كما في قوله : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } [ هود : 34 ] . وأمّا إذا كان الشرطان على اعتبار الترتيب فلكلّ منهما جواب مستقلّ نحو قوله تعالى : { يأيّها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء إن أراد النبي أن يستنكحها } [ الأحزاب : 50 ] . فقوله : { إن وهبت } شرط في إحلال امرأة مؤمنة له ، وقوله : { إنْ أرَادَ النَّبِىُّ } شرط في انعقاد النكاح ، لئلاّ يتوهّم أنّ هبة المرأة نفسها للنبي تعيِّن عليه تزوّجها ، فتقدير جوابه : إن أراد فله ذلك ، وليسا شرطين للإحلال لظهور أنّ إحلال المرأة لا سبب له في هذه الحالة إلاّ أنّها وهبت نفسها .وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط يجعل جواب أحدهما محذوفاً دلّ عليه المذكور ، أو جواب أحدهما جواباً للآخر : على الخلاف بين الجمهور والأخفش ، إذ ليس ذلك من تعدّد الشروط وإنَّما يتأتَّى ذلك في نحو قولك : «إن دخلت دار أبي سفيان ، وإن دخلت المسجد الحرام ، فأنت آمن» وفي نحو قولك : «إن صليت إن صمت أُثْبِت» من كلّ تركيب لا تظهر فيه ملازمة بين الشرطين ، حتَّى يصير أحدهما شرطاً في الآخر .هذا تحقيق هذه المسألة الذي أطال فيه كثير وخصّها تقيّ الدين السبكي برسالة وهي مسألة سأل عنها القاضي ابنُ خلكان الشيخ ابن الحاجب كما أشار إليه في ترجمته من كتاب «الوفيات» ، ولم يفصّلها ، وفصّلها ، الدماميني في «حاشية مغني اللبيب» .وإيناس الرشد هنا علمه ، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان ، ثمّ أطلق على أوّل ما يتبادر من العلم ، سواء في المبصرات ، نحو : { آنس من جانب الطُّور ناراً } [ القصص : 29 ] أم في المسموعات ، نحو قول الحارث بن حلزة في بقرة وحشية :ءانَسَتْ نَبْأةً وأفْزَعَهَا القُن ... اصُ عَصْراً وقد دَنا الإمْساءوكأنّ اختيار { آنستم } هنا دون علمتم للإشارة إلى أنّه إن حصل أوّل العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل .والرشد بضم الراء وسكون الشين ، وتفتح الراء فيفتح الشين ، وهما مترادفان وهو انتظام تصرّف العقل ، وصدور الأفعال عن ذلك بانتظام ، وأريد به هنا حفظ المال وحسن التدبير فيه كما تقدّم في { ابتلوا اليتامى } .والمخاطب في الآية الأوصياء ، فيكون مقتضى الآية أنّ الأوصياء هم الذين يتولَّون ذلك ، وقد جعله الفقهاء حكماً ، فقالوا : يتولّى الوصيّ دفع مال محجوره عندما يأنس منه الرشد ، فهو الذي يتولّى ترشيد محجوره بتسليم ماله إليه .وقال اللخمي : من أقامه الأب والقاضي لا يقبل قوله بترشيد المحجور إلاّ بعد الكشف لفساد الناس اليوم وعدم أمنهم أن يتواطئوا مع المحاجير ليرشِّدوهم فيسمحوا لهم بما قبلَ ذلك . وقال ابن عطية : والصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغنى عن رفعهم إلى السلطان وثبوت الرشد عنده لما عرف من تواطؤ الأوصياء على أن يرشّد الوصيّ محجوره ويبرىء المحجور الوصيّ لسفهه وقلّة تحصيله في ذلك الوقت . إلاّ أنّ هذا لم يجر عليه عمل ، ولكن استحسن الموثّقون الإشهاد بثبوت رشد المحجور الموصى عليه من أبيه للاحتياط ، أمّا وصيّ القاضي فاختلفت فيه أقوال الفقهاء ، والأصحّ أنّه لا يرشّد محجوره إلاّ بعد ثبوت ذلك لدى القاضي ، وبه جرى العمل .وعندي أنّ الخطاب في مثله لعموم الأمّة ، ويتولّى تنفيذه مَن إليه تنفيذ ذلك الباب من الولاة ، كشأن خطابات القرآن الواردة لجماعة غير معيّنين ، ولا شك أنّ الذي إليه تنفيذ أمور المحاجير والأوصياء هو القاضي ، ويحصل المطلوب بلا كلفة .والآية ظاهرة في تقدّم الابتلاء والاستيناس على البلوغ لمكان ( حتّى ) المؤذنة بالانتهاء ، وهو المعروف من المذهب ، وفيه قول أنّه لا يُدفع للمحجور شيء من المال للابتلاء إلا بعد البلوغ .والآية أيضاً صريحة في أنّه إذا لم يحصل الشرطان معاً : البلوغ والرشد ، لا يدفع المال للمحجور . واتّفق على ذلك عامّة علماء الإسلام ، فمن لم يكن رشيداً بعد بلوغه يستمرّ عليه الحجر ، ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو حنيفة . قال : ينتظر سبعَ سنين بعد البلوغ فإن لم يؤنس منه الرشد أطلق من الحجر . وهذا يخالف مقتضى الشرط من قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشداً } لأنّ أبا حنيفة لا يعتبر مفهوم الشرط ، وهو أيضاً يخالف القياس إذ ليس الحجر إلاّ لأجل السفه وسوء التصرّف فأي أثر للبلوغ لولا أنّه مظنّة الرشد ، وإذا لم يحصل مع البلوغ فما أثر سبع السنين في تمام رشده .ودلّت الآية بحكم القياس على أنّ من طرأَ عليه السفه وهو بالغ أو اختلّ عقله لأجل مرض في فكره ، أو لأجل خرف من شدّة الكبر ، أنّه يحجّر عليه إذ علّة التحجير ثابتة ، وخالف في ذلك أيضاً أبو حنيفة . وقال : لا حجر على بالغ .وحكم الآية شامل للذكور والإناث بطريق التغليب : فالأنثى اليتيمة إذا بلغت رشيدة دُفع مالها إليها .والتنكير في قوله : { رشداً } تنكير النوعية ، ومعناه إرادة نوع الماهية لأنّ المواهي العقلية متّحدة لا أفراد لها ، وإنّما أفرادها اعتبارية باعتبار تعدد المحَال أو تعدّد المتعلّقات ، فرشد زيد غير رشد عمرو ، والرشد في المال غير الرشد في سياسة الأمّة ، وفي الدعوة إلى الحقّ ، قال تعالى : { وما أمر فرعون برشيد } [ هود : 97 ] ، وقال عن قوم شعيب { إنك لأنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] . وماهية الرشد هي انتظام الفكر وصدور الأفعال على نحوه بانتظام ، وقد علم السامعون أنّ المراد هنا الرشد في التصرّف المالي ، فالمراد من النوعية نحو المراد من الجنس ، ولذلك ساوى المعرّف بلام الجنس النكرةَ ، فمن العجائب توهّم الجصّاص أنّ في تنكير ( رشداً ) دليلاً لأبي حنيفة في عدم اشتراط حسن التصرّف واكتفائه بالبلوغ ، بدعوى أنّ الله شرط رشداً مَّا وهو صادق بالعقل إذ العقل رشد في الجملة ، ولم يشترط الرشّد كلّه . وهذا ضعف في العربية ، وكيف يمكن العموم في المواهي العقلية المحضة مع أنّها لا أفراد لها . وقد أُضيفت الأموال هنا إلى ضمير اليتامى : لأنّها قَوي اختصاصها بهم عندما صاروا رشداء فصار تصرّفهم فيها لا يخاف منه إضاعة ما للقرابة ولعموم الأمّة من الحقّ في الأموال .وقوله : { ولا تأكلوها إسرافاً } عطف على { وابتلوا اليتامى } باعتبار ما اتّصل به من الكلام في قوله : { فإن آنستم منهم رشداً } إلخ وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى الذي تقدّم في قوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشُدّهم : وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهّيئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم ، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق ، وذلك أنّ أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعياناً من أنعام وتمر وحبّ وأصواف فلم يكن شأنها ممّا يكتم ويختزن ، ولا ممّا يعسر نقل الملك فيه كالعقار ، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم ، فإذا وجد الوليّ مال محجوره جَشِع إلى أكله بالتوسّععِ في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه ممّا لم يكن ينفق فيه مال نفسه ، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه بالإسراف ، فإنّ الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسّع في شؤون اللذات .وانتصب ( إسرافاً ) على الحال : أو على النيابة عن المفعول المطلق ، وأيّا ما كان ، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك ، بل المقصود تشويه حالة الأكل .والبدار مصدر بادره ، وهو مفاعلة من البَدْر ، وهو العجلة إلى الشيء ، بَدَره عجله ، وبادره عاجله ، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ ، وتوقّع الأولياء سرعة إبَّانه ، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها ، كأنّ المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله ، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ منه ، فيذهب يدّعي عليه ، ويقيم البيّنات حتّى يعجز عن إثبات حقوقه ، فقوله : { أن يكبروا } في موضع المفعول لمصدر المفاعلة . ويكبر بفتح الموحدة مضارع كبر كعَلِم إذا زاد في السنّ ، وأمّا كبُر بضم الموحدة فهو إذا عظم في القدر ، ويقال : كبر عليه الأمر بضم الموحدة شَقّ .عطف على { ولا تأكلوها إسرافاً } الخ المقرّر به قوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] ليتقرّر النهي عن أكل أموالهم . وهو تخصيص لعموم النهي عن أكل أموال اليتامى في الآيتين السابقتين للترخيص في ضرب من ضروب الأكل ، وهو أن يأكل الوصيّ الفقير من مال محجوره بالمعروف ، وهو راجع إلى إنفاق بعض مال اليتيم في مصلحته ، لأنّه إذا لم يُعْط وصيّه الفقير بالمعروف ألهاه التدبير لقوته عن تدبير مال محجوره .وفي لفظ المعروف ( حوالة على ما يناسب حال الوصيّ ويتيمه بحسب الأزمان والأماكن وقد أرشد إلى ذلك حديث أبي داوود : أنّ رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إني فقير وليس لي شيء» قال : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متاثل " . وفي «صحيح مسلم» عن عائشة : نزلت الآية في ولي اليتيم إذا كان محتاجاً أن يأكل منه بقدر ماله بالمعروف ، ولذلك قال المالكية : يأخذ الوصي بقدر أجرة مثله ، وقال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وأبو عبيدة ، وابن جبير ، والشعبي ، ومجاهد : إنّ الله أذن في القرض لا غير . قال عمر : «إني نزّلت نفسي من مال الله منزلة الوصيّ من مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت» وقال عطاء ، وإبراهيم : لا قضاء على الوصيّ إن أيسر .وقال الحسن ، والشعبي ، وابن عباس ، في رواية : إنّ معناه أن يشرب اللبن ويأكل من الثمر ويهنأ الجربي من إبله ويلوط الحوض . وقيل : إنّما ذلك عند الاضطرار كأكل الميتة والخنزير : روي عن عكرمة ، وابن عباس ، والشعبي ، وهو أضعف الأقوال لأنّ الله ناط الحكم بالفقر لا بالاضطرار ، وناطه بمال اليتيم ، والاضطرار لا يختصّ بالتسليط على مال اليتيم بل على كلّ مال . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يأخذ إلاّ إذا سافر من أجل اليتيم يأخذ قوته في السفر . واختلف في وصيّ الحاكم هل هو مثل وصيّ الأب . فقال الجمهور : هما سواء ، وهو الحقّ ، وليس في الآية تخصيص .ثم اختلفوا في الوصيّ الغنيّ هل يأخذ أجر مثله على عمله بناء على الخلاف في أنّ الأمر في قوله : { فليستعفف } للوجوب أو للندب ، فمن قال للوجوب قال : لا يأكل الغني شيئاً ، وهذا قول كلّ من منعه الانتفاع بأكثر من السلف والشيء القليل ، وهم جمهور تقدّمت أسماءهم . وقيل : الأمر للندب فإذا أراد أن يأخذ أجر مثله جاز له إذا كان له عمل وخدمة ، أمّا إذا كان عمله مجرّد التفقّد لليتيم والإشراف عليه فلا أجر له .وهذا كله بناء على أنّ الآية محكمة . ومن العلماء من قال : هي منسوخة بقوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [ النساء : 10 ] الآية ، وقوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] وإليه مال أبو يوسف ، وهو قول مجاهد ، وزيد بن أسلم .ومن العلماء من سلك بالآية مسلك التأويل فقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : المراد فمن كان غنياً أي من اليتامى ، ومن كان فقيراً كذلك ، وهي بيان لكيفية الإنفاق على اليتامى فالغنيّ يعطى كفايته ، والفقير يعطى بالمعروف ، وهو بعيد ، فإنّ فعل ( استعفف : يدلّ على الاقتصاد والتعفّف عن المسألة .وقال النخعي ، وروي عن ابن عباس : من كان من الأوصياء غنيّا فليستعفف بماله ولا يتوسّع بمال محجوره ومن كان فقيراً فإنّه يقتّر على نفسه لئلا يمدّ يده إلى مال يتيمه . واستحسنه النحاس والكِيَا الطبري في أحكام القرآن .{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً } وهو أمر بالإشهاد عند الدفع ، ليظهر جليّا ما يسلمه الأوصياء لمحاجيرهم ، حتى يمكن الرجوع عليهم يوماً ما بما يطّلع عليه ممّا تخلّف عند الأوصياء ، وفيه براءة للأوصياء أيضاً من دعاوي المحاجير من بعدُ . وحسبك بهذا التشريع قعطا للخصومات .والأمر هنا يحتمل الوجوب ويحتمل الندب ، وبكلّ قالت طائفة من العلماء لم يسمّ أصحابها : فإن لوحظ ما فيه من الاحتياط لحقّ الوصيّ كان الإشهاد مندوباً لأنّه حقّه فله أن لا يفعله ، وإن لوحظ ما فيه من تحقيق مقصد الشريعة من رفع التهارج وقع الخصومات ، كان الإشهاد واجباً نظير ما تقدّم في قوله تعالى : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه }[ البقرة : 282 ] وللشريعة اهتمام بتوثيق الحقوق لأنّ ذلك أقوم لنظام المعاملات . وأياما كان فقد جعل الله الوصيّ غير مصدّق في الدفع إلاّ ببينة عند مالك قال ابن الفرس : لولا أنّه يَضمن إذا أنكره المحجور لم يكن للأمر بالتوثّق فائدة ، ونقل الفخر عن الشافعي موافقة قول مالك ، إلاّ أنّ الفخر احتجّ بأنّ ظاهر الأمر للوجوب وهو احتجاج واه لأنّه لا أثر لكون الأمر للوجوب أو للندب في ترتّب حكم الضمان ، إذ الضمان من آثار خطاب الوضع ، وسببه هو انتفاء الإشهاد ، وأمّا الوجوب والندب فمن خطاب التكليف وأثرهما العقاب والثواب . وقال أبو حنيفة : هو مصدّق بيمينه لأنّه عدّه أمينا ، وقيل : لأنّه رأى الأمر للندب . وقد علمت أنّ محمل الأمر بالإشهاد لا يؤثّر في حكم الضمان . وجاء بقوله : { وكفى بالله حسيباً تذييلا لهذه الأحكام كلها ، لأنّها وصيّات وتحريضات فوكل الأمر فيها إلى مراقبة الله تعالى . والحسيب : المحاسب . والباء زائدة للتوكيد .
77