سورة البقرة (2): مكتوبة كاملة مع التفسير التحميل

تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة البقرة بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة البقرة مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.

معلومات عن سورة البقرة

سورة البقرة في القرآن الكريم

سورة البقرة هي ثاني سورة من سور القرآن الكريم، وتتألف من 286 آية. تعتبر سورة البقرة من أطول السور في القرآن الكريم، وتحتوي على مواضيع متنوعة تتعلق بالعقيدة والشريعة والأخلاق والتشريعات الاجتماعية.

تتضمن سورة البقرة العديد من الحكم والأوامر الإلهية التي تهدف إلى توجيه الإنسان في حياته وتربيته على القيم الإسلامية. كما تحتوي على قصص وأمثال تعبر عن الحكمة والعبرة للمؤمنين.

من بين المواضيع الرئيسية التي تتناولها سورة البقرة هي الإيمان والتوحيد، والشريعة والأحكام الشرعية، والأخلاق والتربية، والتاريخ الإسلامي والقصص القرآنية.

يعتبر قراءة سورة البقرة والتفكير في مضمونها من الأمور المهمة في الحياة اليومية للمسلم، حيث تحتوي على توجيهات ونصائح تساعد على تحسين الحياة الروحية والاجتماعية.

بالإضافة إلى ذلك، يعتقد الكثيرون أن قراءة سورة البقرة تحمي المنزل وأهله من الشرور والأذى، وتجلب البركة والرزق.

سُورَةُ البَقَرَةِ
الصفحة 2 (آيات من 1 إلى 5)

الاستماع إلى سورة البقرة

تفسير سورة البقرة (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي)

الترجمة الإنجليزية

Aliflammeem

تحير المفسرون في محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السور ، وفي فواتح سور أخرى عدة جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية ، وكان بعضها في ثاني سورة نزلت وهي { ن والقلم } [ القلم : 1 ] ، وأَخْلِقْ بها أن تكون مثار حيرة ومصدر ، أقوال متعددة وأبحاث كثيرة ، ومجموع ما وقع من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفاً وهي نصف حروف الهجاء وأكثر السور التي وقعت فيها هذه الحروف : السورُ المكية عدا البقرة وآل عمران ، والحروف الواقعة في السور هي : أ ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، ه ، ي ، بعضها تكرر في سور وبعضها لم يتكرر وهي من القرآن لا محالة ومن المتشابه في تأويلها .ولا خلاف أن هاته الفواتح حين ينطق بها القارىء أسماء الحروف التهجي التي يُنطق في الكلام بمسمياتها وأن مسمياتها الأصوات المكيفة بكيفيات خاصة تحصل في مخارج الحروف ولذلك إنما يقول القارىء : ( أَلِفْ لاَمْ ميمْ ) مثلاً ولا يقول ( أَلَمَ ) . وإنما كتبوها في المصاحف بصور الحروف التي يتهجى بها في الكلام التي يَقُوم رسمُ شكلها مقام المنطوق به في الكلام ولم يكتبوها بدَوَالِّ ما يقرأُونَها به في القرآن لأن المقصود التهجي بها وحروف التهجي تكتب بصورها لا بأسمائها . وقيل لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليه وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال المندرجة تحتها ، وإلى هنا خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة وهي كونها تلك الحروف لتبكت المعاندين وتسجيلاً لعجزهم عن المعارضة ، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها ، أو كونها أقساماً أقسم بها لتشريف قدر الكتابة ، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية ، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها ، فإن الأقوال الثاني والسابع والثامن والثاني عشر والخامس عشر والسادس عشر يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان حق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها؛ لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليها ، وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال .وعرفت اسميتها من دليلين : أحدهما اعتوار أحوال الأسماء عليها مثل التعريف حين تقول : الألف ، والباء ، ومثل الجمع حين تقول الجيمات ، وحين الوصف حين تقول ألف ممدودة والثاني ما حكاه سيبويه في «كتابه» : قال الخليل يوماً وسأل أصحابه كيف تلفظون بالكاف التي في لك والباء التي في ضرب فقيل نقول كافْ ، باء ، فقال إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف وقال أقول كه ، وبه ( يعني بهاء وقعت في آخر النطق به ليعتمد عليها اللسان عند النطق إذْ أبقيت على حرف واحد لا يظهر في النطق به مفرداً ) .والذي يستخلص من أقوال العلماء بعد حذف متداخِلِه وتوحيد متشاكله يؤول إلى واحد وعشرين قولاً ولشدة خفاء المراد من هذه الحروف لم أر بداً من استقصاء الأقوال على أننا نضبط انتشارها بتنويعها إلى ثلاثة أنواع :ةالنوع الأول يرجع إلى أنها رموز اقتضبت من كَلم أو جمل ، فكانت أسراراً يفتح غلقها مفاتيح أهل المعرفة ويندرج تحت هذا النوع ثمانية أقوال : الأول أنها علم استأثر الله تعالى به ونسب هذا إلى الخلفاء الأربعة في روايات ضعيفة ولعلهم يثبتون إطلاع الله على المقصود منها رسوله صلى الله عليه وسلم وقاله الشعبي وسفيان .والثاني أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات لله تعالى المفتتحة بحروف مماثلة لهذه الحروف المقطعة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقاله محمد بن القرظي أو الربيع بن أنس فألم مثلاً الألف إشارة إلى أحد أو أول أو أزلي ، واللام إلى لطيف ، والميم إلى ملك أو مجيد ، ونحو ذلك ، وعلى هذا يحتاج في بيانها إلى توقيف وأنى لهم به .الثالث أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم والملائكة فألم مثلاً ، الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد ، قاله الضحاك ، ولا بد من توقيف في كل فاتحة منها ، ولعلنا سننبه على ذلك في مواضعه .الرابع جزم الشيخ محي الدين في الباب الثامن والتسعين والمائة في الفصل 27 منه من كتابه «الفتوحات» أن هاته الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للملائكة وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكتها فتصغي أصحاب تلك الأسماء إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها ، فيقولون صدقت إن كان ما بعدها خبر ، ويقولون هذا مؤمن حقاً نطق حقاً وأخبر بحق فيستغفرون له ، وهذا لم يقله غيره وهو دعوى .الخامس أنها رموز كلها لأسماء النبيء صلى الله عليه وسلم وأوصافه خاصة قاله الشيخ محمد بن صالح المعروف بابن مُلوكة التونسي في «رسالة» له قال إن كل حرف من حروف الهجاء في فواتح السور مكنى به عن طائفة من أسمائة الكريمة وأوصافه الخاصة ، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف كأحمد وأبي القاسم ، واللام مكنيّ به عن صفاته مثل لب الوجود ، والميم مكني به عن محمد ونحوه مثل مبشر ومنذر ، فكلها منادًى بحرف نداء مقدر بدليل ظهور ذلك الحرف في يس . ولم يَعْزُ هذا القول إلى أحد ، وعلق على هذه «الرسالة» تلميذه شيخ الإسلام محمد معاوية «تعليقة» أكثر فيها من التعداد ، وليست مما ينثلج لمباحثه الفؤاد ( وهي وأصلها موجودة بخزنة جامع الزيتونة بتونس عدد 514 ) ويرُدُّ هذا القولَ التزام حذف حرف النداء وما قاله من ظهروه في يس مبني على قول من قال : إن يس بمعنى يا سيد وهو ضعيف؛ لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء لأن الشيخ نفسه عد يس بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولاً لنحو الياء من{ كهيعص } [ مريم : 1 ] .القول السادس أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجُمَّل قاله أبو العالية أخذاً بقصة رواها ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله بن وثاب قال : «جاء أبو ياسر بن أخطب وحُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوا رسول الله عن ألم وقالوا هذا أجل هذه الأمة من السنين إحدى وسبعون سنة فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم ص والمر فقالوا اشتبه علينا الأمر فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟» ا ه . وليس في جواب رسول الله إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقريرٌ لاعتبارها رموزاً لأعداد مدة هذه الأمة ، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيداً لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل ومرجعُها إلى المَنع والمانع لا مذهب له . وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم فهو تعجب من جهلهم .القول السابع أنها رموز كل حرف رمز إلى كلمة فنحو : ( ألم ) أنا الله أعلم ، و ( ألمر ) أنا الله أرى ، و ( ألمص ) أنا الله أعلم وأفصل . رواه أبو الضحى عن ابن عباس ، ويوهنه أنه لا ضابط له لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرففِ أول الكلمة ، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة أو آخرها . ونظروه بأن العرب قد تتكلم بالحروف المقطعة بدلاً من كلمات تتألف من تلك الحروف نظماً ونثراً ، من ذلك قول زهير :بالخير خيرات وإن شرٌّ فَا ... ولا أُريد الشر إلا أنْ تَاأراد وإن شر فشر وأراد إلا أن تَشا ، فأتى بحرف من كل جملة . وقال الآخر ( قرطبي ) :ناداهم ألا الجموا ألا تا ... قالوا جميعاً كلهم ألا فاأراد بالحرف الأول ألا تركبون ، وبالثاني ألا فاركبوا . وقال الوليد بن المغيرة عامل عثمان يخاطب عدي بن حاتم :قلت لها قفي لنا قالتْ قافْ ... لا تَحْسِبَنِّي قد نسيت الإيجافأراد قالت وقفت . وفي الحديث : " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة " قال شقيق : هو أن يقول أُقْ مكان اقتل . وفي الحديث أيضاً : «كفى بالسيف شَا» ، أي شاهداً . وفي «كامل المبرد» من قصيدة لعلي بن عيسى القمي وهو مولد :وليس العجاجة والخافقا ... تتِ تريك المَنَا برؤوس الأسلأي تريك المنايا . وفي «تلع» من «صحاح الجوهري» قال لبيد :دَرَسَ المَنَا بمتالععٍ فأبَانِ ... فتقادمت بالحبس فالسوبانأراد درس المنازل . وقال علقمة الفحل ( «خصائص» ص 82 ) :كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بِسَبَا الكَتان ملثومأراد بسبائب الكتان . وقال الراجز :حين ألقت بقُباء بَرْكها ... واستمر القتلُ في عبد الأشَلأي عبد الأشهل . وقول أبي فؤاد :يدرين حَندل حائر لجنوبها ... فكأنما تُذْكى سنابكها الحُبَاأراد الحباحب . وقال الأخطل :أمست مَنَاهَا بأرض ما يبلغها ... بصاحب الهم إلا الجَسْرَة الأُجُدأراد منازلها . ووقع ( «طراز المجالس» المجلس ) للمتأخرين من هذا كثير مع التورية كقول ابن مكانس :لم أنس بدراً زارني ليلة ... مستوفزاً مطلعاً للخطرفلم يقم إلا بمقدار ما ... قلت له أهلاً وسهلاً ومَرْأراد بعض كلمة مرحباً وقد أكثرت من شواهده توسعة في مواقع هذا الاستعمال الغريب ولست أريد بذلك تصحيح حمل حروف فواتح السور على ذلك لأنه لا يحسن تخريج القرآن عليه وليس معها ما يشير إليه مع التورية بجعل مَرَّ من المرور .القول الثامن أنها إشارات إلى أحوال من تزكية القلب ، وجعَلها في «الفتوحات» في الباب الثاني إيماء إلى شعب الإيمان ، وحاصله أن جملة الحروف الواقعة في أوائل سور القرآن على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفاً والثمانية هنا هي حقيقة البضع حصل له ذلك بالكشف فيكون عدد الحروف ثمانية وسبعين وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم " الإيمان بضع وسبعون شعبة " فهذه الحروف هي شعب الإيمان ، ولا يكمل لأحد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها . وكيف يزعم زاعم أنها واردة في معان غير معروفة مع ثبوت تلقي السامعين لها بالتسليم من مؤمن ومعاند ، ولولا أنهم فهموا منها معنى معروفاً دلت عليه القرائن لسأل السائلون وتورك المعاندون .قال القاضي أبو بكر بن العربي : لولا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبيء صلى الله عليه وسلم بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة قلت وقد سألوا عن أوضح من هذا فقالوا { وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] ، وأما ما استشهدوا به من بيت زهير وغيره فهو من نوادر كلام العرب ، ومما أخرج مخرج الألغاز والتمليح وذلك لا يناسب مقام الكتاب المجيد .النوع الثاني يجمع الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالاً وفيه من الأقوال أربعة .التاسع في عداد الأقوال في أولها لجماعة من العلماء والمتكلمين واختاره الفخر أنها أسماء للسور التي وقعت فيها ، قاله زيد بن أسلم ونسب لسيبويه في «كتابه» باب أسماء السور من أبواب ما لا ينصرف أو للخليل ونسبه صاحب «الكشاف» للأكثر ويعضده وقوع هاته الحروف في أوائل السور فتكون هاته الحروف قد جعلت أسماء بالعلامة على تلك السور ، وسميت بها كما نقول الكراسة ب والرزمة ج ونظره القفال بما سمت العرب بأسماء الحروف كما سموا لاَمَ الطائي والد حارثة ، وسموا الذهب عَيْن ، والسحاب غَيْن ، والحوتَ نونْ ، والجبل قاف ، وأقوال ، وحاء قبيلة من مَذحج ، وقال شريح بن أوفى العنسي أو العبسي :يذكرني حَامِيمَ والرمحُ شاجر ... فهَلاَّ تلا حاميمَ قبل التقدميريد { حم عسق } [ الشورى : 1 ، 2 ] التي فيها : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] . ويبعد هذا القول بعداً مَّا إن الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى وقد وجدنا هذه الحروف مقروءة مع السور بإجماع المسلمين ، على أنه يرده اتحاد هذه الحروف في عدة سور مثل آلم وآلر وحم .وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها .القول العاشر وقال جماعة إنها أسماء للقرآن اصطلح عليها قاله الكلبي والسدي وقتادة ويبطله أنه قد وقع بعد بعضها ما لا يناسبها لو كانت أسماء للقرآن ، نحو { آلم غلبت الروم } [ الروم : 1 ، 2 ] ، و { آلم أحسب الناس } [ العنكبوت : 1 ، 2 ] .القول الحادي عشر أن كل حروففٍ مركبةِ منها هي اسم من أسماء الله رووا عن علي أنه كان يقول يا كهيعص يا حم عسق وسكت عن الحروف المفردة فيُرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال ويبطله عدم الارتباط بين بعضها وبين ما بعده لأن يكون خبراً أو نحوه عن اسم الله مثل { الم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 ، 2 ] و { آلمص كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 1 ، 2 ] .الثاني عشر قال الماوردي : هي أفعال فإن حروف المص كتاب فعل ألمّ بمعنى نزل فالمراد { آلم ذلك الكتاب } أي نزل عليكم ، ويبطل كلامه أنها لا تُقْرَأ بصيغ الأفعال على أن هذا لا يتأتى في جميعها نحو كهيعص وأَلمص والر ولولا غرابة هذا القول لكان حرياً بالإعراض عنه .النوع الثالث تندرج فيه الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك وفيه من الأقوال :القول الثالث عشر : أن هاته الحروف أقسم الله تعالى بها كما أقسم بالقلم تنويهاً بها لأن مسمياتها تألفت منها أسماء الله تعالى وأصول التخاطب والعلوم قاله الأخفش ، وقد وهن هذا القول بأنها لو كانت مقسماً بها لذكر حرف القسم إذ لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين وبأنها قد ورد بعدها في بعض المواضع قسم نحو : { ن والقلم } [ القلم : 1 ] و { حم والكتاب المبين } [ الزخرف : 1 ] ، قال صاحب الكشاف : وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم واحد حتى قال الخليل في قوله تعالى : { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى } [ الليل : 1 ، 2 ] أن الواو الثانية هي التي تضم الأسماء للأسماء أي واو العطف ، والجواب عن هذا أن اختصاص الحذف باسم الجلالة مختلف فيه وأن كراهية جمع قسمين تنفع بجعل الواو التالية لهاته الفواتح واو العطف على أنهم قد جمعوا بين قسمين ، قال النابغة :واللَّهِ واللَّهِ لَنِعْمَ الفتى الْ ... حارثُ لا النكسُ ولا الخاملُالقول الرابع عشر : أنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتاً للمشركين وإيقاظاً لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تُحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق تعريضاً بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة ، فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتّاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزاً لا معذرة لهم فيه ، وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء ، قال في «الكشاف» وهذا القول من القوة والخلافة بالقبول بمنزلة ، وقلت وهو الذي نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول :{ فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره وأن التهجي معروف عندهم للتعليم فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ ، ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته إلا في { كهيعص } [ مريم : 1 ] و { الم أحسِب الناسُ } [ العنكبوت : 1 ، 2 ] و { الم غلبت الروم } [ الروم : 1 ، 2 ] ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض ، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه ولعله لمراعاة فصاحة الكلام ، ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية وآل عمران ، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي ، ويؤيده أيضاً الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء والهاء والراء والطاء والحاء قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتَّاب طلباً للخفة كما سيأتي قريباً في آخر هذا المبحث من تفسير { الم } .القول الخامس عشر : أنها تعليم للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم الصبيان الحروف المقطعة ، ثم يتعلمونها مركبة قاله عبد العزيز بن يحيى ، يعني إذ لم يكن فيهم من يحسن الكتابة إلا بعض المدن كأهل الحيرة وبعض طيء وبعض قريش وكنانة من أهل مكة ، ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور المختلفة ، فكانوا بادىء الأمر أهل كتابة لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراق بعد تبلبل الألسن ، والعراق مهد القراءة والكتابة وقد أثبت التاريخ أن ضخم بن إرم أول من علم العرب الكتابة ووضع حروف المعجم التسعة والعشرين ، ثم إن العرب لما بادوا ( أي سكنوا البادية ) تناست القبائل البادية بطول الزمان القراءة والكتابة ، وشغلهم حالهم عن تلقي مبادىء العلوم ، فبقيت الكتابة في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز ، ثم لما تفرقوا بعد سيل العرم نقلوا الكتابة إلى المواطن التي نزلوها فكانت طيء بنجد يعرفون القراءة والكتابة ، وهم الفرقة الوحيدة من القحطانيين ببلاد نجد ولذلك يقول أهل الحجاز ونجد إن الذين وضعوا الكتابة ثلاثة نفر من بني بولان من طيء يريدون من الوضع أنهم علموها للعدنانيين بنجد ، وكان أهل الحيرة يعلمون الكتابة فالعرب بالحجاز تزعم أن الخط تعلموه عن أهل الأنبار والحيرة ، وقصة المتلمس في كتب الأدب تذكرنا بذلك إذ كان الذي قرأ له الصحيفة غلام من أغيلمة الحيرة .ولقد كان الأوس والخزرج مع أنهم من نازحة القحطانيين ، قد تناسوا الكتابة إذ كانوا أهل زرع وفروسية وحروب ، فقد ورد في السير أنه لم يكن أحد من الأنصار يحسن الكتابة بالمدينة وكان في أسرى المشركين يوم بدر من يحسن ذلك فكان من لا مال له من الأسرى يفتدي بأن يعلم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة فتعلم زيد بن ثابت في جماعة ، وكانت الشفاء بنت عبد الله القرشية تحسن الكتابة وهي علمتها لحفصة أم المؤمنين . ويوجد في أساطير العرب ما يقتضي أن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل مدين في جوارهم فقد ذكروا قصة وهي أن المحض بن جندل من أهل مدين وكان ملكاً كان له ستة أبناء وهم : أبجد ، وهوز ، وحطي ، وكلمن ، وسعفص ، وقرشت ، فجعل أبناءه ملوكاً على بلاد مدين وما حولها فجعل أبجد بمكة وجعل هوزاً وحطياً بالطائف ونجد ، وجعل الثلاثة الباقين بمدين ، وأن كلمناً كان في زمن شعيب وهو من الذين أخذهم عذاب يوم الظلة قالوا فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك ثم ألحقوا بها ثخذ وضغط فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة تناسب عقولهم وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم أهل مدين فألحقها أهل الحجاز ، وحقاً إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور بل الموجود نصفها كما سيأتي بيانه من كلام «الكشاف» .القول السادس عشر : أنها حروف قصد منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك يَافتى لإيقاظ ذهن السامع قاله ثعلب والأخفش وأبو عبيدة ، قال ابن عطية كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لاَ وبل لا ، قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت : إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو مشغول البال يُقدِّم على الكلام المقصود شيئاً ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك المقدم ثم يشرع في المقصود فقد يكون ذلك المقدم كلاماً مثل النداء وحروففِ الاستفتاح ، وقد يكون المقدم صوتاً كمن يصفق ليُقْبِل عليه السامع فاختار الحكيم للتنبيه حروفاً من حروف التهجي لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة إذ ليس لها مفهوم فتمحضت للتنبيه على غرض مهم .القول السابع عشر : أنها إعجاز بالفعل وهو أن النبيء الأمي الذي لم يقرأ قد نطق بأصول القراءة كما ينطق بها مهرة الكتبة فيكون النطق بها معجزة وهذا بيِّن البطلان لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف .القول الثامن عشر : أن الكفار كانوا يُعرضون عن سماع القرآن فقالوا :{ لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه } [ فصلت : 26 ] فأوردت لهم هذه الحروف ليقبلوا على طلب فهم المراد منها فيقع إليهم ما يتلوها بلا قَصد ، قاله قُطرب وهو قريب من القول السادس عشر .القول التاسع عشر : أنها علامة لأهل الكتاب وُعدوا بها من قِبَل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة .القول العشرون : قال التبريزي : علم الله أن قوماً سيقولون بقدم القرآن فأراهم أنه مؤلف من حروف كحروف الكلام ، وهذا وهم لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف المقطعة لقلة أصواتها .القول الحادي والعشرون : روي عن ابن عباس أنها ثناء أثنى الله به على نفسه وهو يرجع إلى القول الأول أو الثاني .هذا جماع الأقوال ، ولا شك أن قراءة كافة المسلمين إياها بأسماء حروف الهجاء مثل ألف . لاَمْ . ميمْ دون أن يقرأوا ألَمْ وأن رسْمها في الخط بصورة الحروف يزيف جميع أقوال النوع الأول ويعين الاقتصار على النوعين الثاني والثالث في الجملة ، على أن ما يندرج تحت ذينك النوعين متفاوت في درجات القبول ، فإن الأقوال الثاني ، والسابع ، والثامن ، والثاني عشر ، والخامس عشر ، والسادس عشر ، يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبَة من أسماء أو كلمات لكان الحق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها . فإذا تعين هذان النوعان وأسقطنا ما كان من الأقوال المندرجة تحتمها واهياً ، خلَص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة : وهي كون تلك الحروف لتبكيتتِ المعاندين وتسجيلاً لعجزهم عن المعارضة ، أو كونُها أسماء للسور الواقعة هي فيها ، أو كونُها أقساماً أقسم بها لتشريف قدر الكتابة وتنبيهِ العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأُمية وأرجح هذه الأقوال الثلاثةِ هو أولها .قال في «الكشاف» : ما ورد في هذه الفواتح من أسماء الحروف هو نصف أسامي حروف المعجم إذ هي أربعة عشر وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون ، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، وهذه الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس صفات الحروف ففيها من المهموسة نصفها : الصاد ، والكاف ، والهاء ، والسين ، والحاء ، ومن المجهورة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والعين ، والطاء ، والقاف ، والياء ، والنون ، ومن الشديدة نصفها : الألف ، والكاف ، والطاء ، والقاف ، ومن الرخوة نصفها : اللام ، والميم ، والراء ، والصاد ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والياء ، والنون . ومن المُطْبَقَة نصفها : الصاد ، والطاء . ومن المنفتحة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والسين ، والقاف ، والياء ، والنون . ومن المستعلية نصفها القاف ، والصاد ، والطاء . ومن المستَفِلة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والنون . ومن حروف القَلْقلة نصفها : القاف ، والطاء . ثم إن الحروف التي ألغى ذكرها مكثورة بالمذكورة ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته ا ه وزاد البيضاوي على ذلك أصنافاً أخرى من صفات الحروف لا نطيل بها فمن شاء فليراجعها .ومحصول كلامهما أنه قد قضى بذكر ما ذُكر من الحروف وإهمال ذكر ما أهمل منها حقُّ التمثيل لأنواع الصفات بذكر النصف ، وترك النصف من باب «وليُقس ما لم يقل» لحصول الغرض وهو الإشارة إلى العناية بالكتابة ، وحقُّ الإيجاز في الكلام . فيكون ذكر مجموع هذه الفواتح في سور القرآن من المعجزات العلمية وهي المذكورة في الوجه الثالث من وجوه الإعجاز التي تقدمت في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير .وكيفيةُ النطققِ أن يُنطق بها موقوفة دون علاماتتِ إعراب على حكم الأسماء المسرودة إذ لم تكن معمولة لعوامل فحَالها كحال الأعداد المسرودة حين تقول ثلاثهْ أربعهْ خمسهْ . وكحال أسماء الأشياء التي تُملى على الجارد لها ، إذ تقول مثلاً : ثَوْب ، بِساطْ ، سَيْف ، دون إعراب ، ومن أعربها كان مخطئاً . ولذلك نطق القراء بها ساكنة سكون الموقوف عليه فما كان منها صحيح الآخِرِ نُطق به ساكناً نحو أَلِفْ ، لاَمْ ، مِيمْ . وما كان من أسماء الحروف ممدود الآخر نُطق به في أوائل السور أَلفاً مقصوراً لأنها مسوقة مَساق المتهجَّى بها وهي في حالة التهجي مقصورة طلباً للخفة لأن التهَجِّي إنما يكون غالباً لتعليم المبتدىء ، واستعمالها في التهجي أكثر فوقعت في فواتح السور مقصورة لأنها على نمط التعْديد أو مأخوذة منه .ولكن الناس قد يجعلون فاتحة إحدى السور كالاسم لها فيقولون قرأتُ : { كهيعص } كما يجعلون أول كلمة من القصيدة اسماً للقصيدة فيقولون قرأت : «قِفَا نَبْكِ» و«بانت سعاد» فحينئذٍ قد تعامل جملة الحروف الواقعة في تلك الفاتحة معاملة كلمة واحدة فيجري عليها من الإعراب ما هو لنظائر تلك الصيغة من الأسماء فلا يصرف حَامِيم كما قال شُريح بن أَوفى العَنْسي المتقدم آنفاً :يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ والرُّمْحُ شَاجِر ... فهلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قبلَ التَّقَدُّموكما قال الكميت :قرأْنا لَكُم في آللِ حَامِيمَ آية ... تأوَّلها مِنَّا فقيهٌ ومُعْرِبولا يعرب { كهيعص } [ مريم : 1 ] إذ لا نظير له في الأسماء إفراداً ولا تركيباً . وأما طسم فيعرب اعترابَ المركب المزجى نحو حَضْرَمَوْتَ ودَارَاَبجِرْدَ وقال سيبويه : إنك إذا جعلت ( هُود ) اسم السورة لم تَصرفها فتقول قرأت هُودَ للعَلَمِيَّة والتأنيث قال لأنها تصير بمنزلة امرأة سميتَها بعَمْرو . ولك في الجميع أن تأتي به في الإعراب على حاله من الحكاية وموقع هاته الفواتح مع ما يليها من حيث الإعراب ، فإن جعلتها حروفاً للتهجي تعريضاً بالمشركين وتبكيتاً لهم فظاهر أنها حينئذٍ محكية ولا تقبَل إعراباً ، لأنها حينئذٍ بمنزلة أسماء الأصوات لا يقصد إلا صُدورها فدلالتها تشبه الدلالة العقلية فهي تدل على أن الناطق بها يهيّىء السامع إلى ما يرد بعدها مثل سرد الأعداد الحِسابية على من يراد منه أن يجمع حاصلها ، أو يَطرح ، أو يقسم ، فلا إعراب لها مع ما يليها ، ولا معنى للتقدير بالمؤلف من هذه الحروف إذ ليس ذلك الإعلام بمقصودٍ لظهوره وإنما المقصود ما يحصل عند تعدادها من التعريض لأن الذي يتهجَّى الحروف لمن ينافي حالُه أن يقصد تعليمُه يتعين من المقام أنه يَقصِد التعريض .وإذا قَدَّرتها أسماء للسور أو للقرآن أو لله تعالى مقسَماً بها فقيل إن لها أحكاماً مع ما يليها من الإعراب بعضُها محتاج للتقدير الكثير ، فدع عنك الإطالة بها فإن الزمان قصير .وهاته الفواتح قرآن لا محالة ولكن اختلف في أنها آيات مستقلة والأظهر أنها ليست بآيات مستقلة بل هي أجزاء من الآيات الموالية لها على المختار من مذاهب جمهور القراء . وروى عن قراء الكوفة أن بعضها عدُّوه آياتتٍ مستقلة وبعضها لم يعدوه وجعلوه جزء آية مع ما يليه ، ولم يظهر وجه التفصيل حتى قال صاحب «الكشاف» إن هذا لا دخل للقياس فيه . والصحيح عن الكوفيين أن جميعها آيات وهو اللائق بأصحاب هذا القول إذ التفصيل تحكم؛ لأن الدليل مفقود . والوجه عندي أنها آيات لأن لها دلالة تعريضية كنائية إذ المقصود إظهار عجزهم أو نحو ذلك فهي تطابق مقتضى الحال مع ما يعقُبها من الكلام ولا يشترط في دلالة الكلام على معنى كنائي أن يكون له معنى صريح بل تعتبر دلالةُ المطابقة في هذه الحروف تقديريةً إن قلنا باشتراط ملازمة دلالة المطابقة لدلالة الالتزام . ويدل لإجراء السلف حكم أجزاء الآيات عليها أنهم يقرأونها إذا قرأوا الآية المتصلة بها ، ففي «جامع الترمذي» في كتاب التفسير في ذكر سبب نزول سورة الروم فنَزلت : { الم غلبت الروم } [ الروم : 1 ، 2 ] ، وفيه أيضاً : «فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكةٍ { الم غلبت الروم وفي سيرة ابن إسحاق } من رواية ابن هشام عنه : «فقرأ رسول الله على عُتبة بن ربيعة : { حم تنزيل من الرحمن الرحيم حتى بلغ قوله : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 1 13 ] الحديث .وعلى هذا الخلاف اختُلف في إجزاء قراءتها في الصلاة عند الذين يكتفون في قراءة السورة مع الفاتحة بآية واحدة مثل أصحاب أبي حنيفة .

الترجمة الإنجليزية

Thalika alkitabu la rayba feehi hudan lilmuttaqeena

مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف { الم } [ البقرة : 1 ] كما علمتَ مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر . وقد جوز صاحب «الكشاف» علَى احتمال أن تكون حروف { ألم } مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن ، أَن يكون اسمُ الإشارة مشاراً به إلى { الم } باعتباره حرفاً مقصوداً للتعجيز ، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتابُ أي منها تراكيبه فما أَعجزَكم عن معارضته ، فيكون { الم } جملة مستقلة مسوقة للتعريض .واسم الإشارة مبتدأ و ( الكتابُ ) خبراً . وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لَدَيْهم يومئذٍ واسم الإشارة مبتدأ و ( الكتاب ) بدل وخبرُه ما بعده ، فالإشارة إلى ( الكتاب ) النازِل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به ، فيكون ( الكتاب ) على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كُتب بالفعل ، ويكون قوله ( الكتاب ) على هذا الوجه خبراً عن اسم الإشارة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقَّب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان ، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله ( الكتاب ) حينئذٍ بدلاً أو بياناً من { ذلك } والخبر هو { لا ريب فيه } .ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد ، قال الرضي «وُضِع اسم الإشارة للحضور والقرببِ لأنه للمشار إليه حسًّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب ، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل ، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول : «واللَّهِ وذلك قسم عظيم» لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارةُ بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم» ا ه ، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر ، وعكس ذلك في الإشارة للقول .وابن مالك في «التسهيل» سوَّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال : وقد يتعاقبان ( أي اسم القريب والبعيد ) مشاراً بهما إلى ماوَلياه أي من الكلام ، ومثَّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى : { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } [ آل عمران : 58 ] ثم قال : { إن هذا لهو القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد ، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة .وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثلَ الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضاً ، ففي القرآن : { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه } [ القصص : 15 ] فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالاً لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال ، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرِّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى ، مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا ، وكما قال خُفاف بن نَدْبة :أقول لَه والرمحُ يأطر مَتْنَه ... تأمل خُفَافاً إِنني أَنَا ذلكوقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخَطِيم في «الحماسة» :متَى يأتتِ هذَا الموتُ لا يلففِ حاجة ... لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءهافلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة . وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صوناً له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال ، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في { الم } [ البقرة : 1 ] كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهُجر القول كقولهم : { افتراه } [ يونس : 38 ] وقولهم : { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] . ولا يرد على هذا قوله : { وهذا كتاب أنزلناه } [ الأنعام : 92 ] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والإتعاظ بأوامره ونواهيه . ولعل صاحب «الكشاف» بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعُدَّ : { ذلك الكتاب } تنبيهاً على التعظيم أو الاعتبار ، فللَّه در صاحب «المفتاح» إذ لم يُغفل ذلك فقال في مقتضِيات تعريف المسند إليه بالإشارة : أوْ أنْ يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عز وعلا : { الم ذلك الكتاب } ذهاباً إلى بعده درجةً .وقوله : { الكتاب } يجوز أن يكون بدلاً من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته ، فالتعريف فيه إذن للعهد ، ويكون الخبر هو جملة { لا ريب فيه } ، ويجوز أن يكون ( الكتاب ) خبراً عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجُزءين فهو إذن قصر ادِّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصفُ الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب ، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه الم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير ، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغواً بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال .و ( الكتاب ) فِعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتَب المصوغ للمبالغة في الكتابة ، فإن المصدر يجىء بمعنى المفعول كالخَلق ، وإما فعال بمعنى مَفعول كلِباس بمعنى ملبوس وعِماد بمعنى مَعمود به . واشتقاقه من كَتَب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه ، فإن النبيء صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتاباً ، وتسمية القرآن كتاباً إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه . وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين .{ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } .حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريباً . والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس ، وريبُ الزماننِ وريبُ المنون نوائِب ذلك ، قال الله تعالى : { تتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بِجَعللِ ما أوجب الشك في حاله فهو متعد ، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لَحِق وأَلْحق ، وزَلَقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قَرَّبه من أن يشك قاله أبو زيد ، وعلى التفرقة بينهما قال بشار :أخوك الذي إن ربته قال إنما ... أرَبْتَ وإن عاتبتَه لان جانبهوفي الحديث : " دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك " أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح .ولم يختلف متواتر القراء في فتح { لا ريب } نفياً للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفعَ لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كان الإشارة بقوله : { ذلك } إلى الحروف المجتمعة في { الم } على إرادة التعريض بالمتحَدَّيْنَ وكان قوله : { الكتاب } خبراً لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله : { لا ريب } نفياً لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفاً من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله ، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء ، فتكون جملة { لا ريبَ } منزَّلة منزِلةَ التأكيد لمفاد الإشارة في قوله : { ذلك الكتاب } وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله : { فيه } متعلقاً بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله : { فيه ، وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى : { وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه } [ الشورى : 7 ] وقوله : { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران : 9 ] ويجوز أن يكون قوله : { فيه } ظرفاً مستقراً خبراً لقوله بعده : { هدى للكتقين } ومعنى «في» هو الظرفية المجازية العرفية تشبيهاً لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا :{ لا تسمعوا لهذا القرآن } [ فصلت : 26 ] استنزالاً لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبيء صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : " إنك امْرؤ فيك جاهلية " ويكون خبر ( لا ) محذوفاً لظهوره أي لا ريب موجود ، وحذف الخبر مستعمل كثيراً في أمثاله نحو : { قالوا لا ضير } [ الشعراء : 50 ] وقول العرب لا بأس ، وقول سعد بن مالك :من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا بَرَاحُأي لا بقاء في ذلك ، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله : { لا ريب } وفي «الكشاف» أن نافعاً وعاصماً وقفا على قوله : { ريب .وإن كانت الإشارة بقوله : ذلك } إلى { الكتاب } باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله { الكتاب } بدلاً من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله : { فيه } ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله ، والوقف على قوله { فيه } ، فيه معنى نفي وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفي الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجىء خطابهم بقوله : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] فارتيابهم واقع مشتهر ، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم . قال صاحب «المفتاح» : «ويقلبون القضية مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام : الإسلام حق وقوله عز وجل في حق القرآن : { لا ريب فيه } وكم من شقي مرتاب فيه وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملاً في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلاً على طريقة التمثيل .ومن المفسرين من فسر قوله تعالى : { لا ريب فيه } بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتياباً في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازاً في سببه ويكون المجرور ظرفاً مستقراً خبرَ ( لا ) فيَنظُر إلى قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] أي إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين ، من كلام يناقض بعضه بعضاً أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة ، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبَّر فيه المتدبرُ وجده مفيداً اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة .وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذٍ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر ، هَذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله : { ذلك الكتاب } كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنتَ ساكت : هذا الكلام صوابٌ تعرض بغيره .وبهذا الوجه أيضاً يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على { فيه } ولَدى من وقف { على ريب } ، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفاً أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة ، وقد ذكر «الكشاف» أن الظرف وهو قوله : { فيه } لم يقدم على المسند إليه وهو { ريب } ( أي على احتمال أن يكون خبراً عن اسم لا ) كما قُدم الظرف في قوله : { لا فيها غول } [ الصافات : 47 ] لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتاباً آخر فيه الريب ا ه . يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيداً أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا . وليس الحصر في قوله : { لا ريب فيه } بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدَّيْنَ بالقرآن وليسوا من أهل كتاب حتى يُرد عليهم . وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دُعوا إلى معارضته فعَجزوا . نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآنَ لعلو شأنه بين نظرائه من الكُتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلاً من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدللِ المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها . والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها . وقد بنَى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفي وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفىَ القصر ، وأمثلة صاحب «المفتاح» في تقديم المسند للاختصاص سوَّى فيها بين ما جاء بالإثبات وما جاء بالنفي . وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى : { ليس عليك هداهم } [ البقرة : 272 ] . وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها .وقوله : { هدى للمتقين } الهدى اسم مصدر الهَدْي ليس له نظير في لغة العرب إلا سُرًى وتُقىً وبُكًى ولُغًى مصدر لغي في لغة قليلة . وفعله هدَى هدياً يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى :{ اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] .والهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هُدى مرادفاً لدل ولأن المفهوم من الهُدى الدلالة الكاملة وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي . وهو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري مِنْ خلق الله تعالى في قلب الموفَّق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدي يوصل الهداية الشرعية . فالقرآن هدى ووصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد .والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل . وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون ، وهذا معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية . وتفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى : { اهدنا الصراط } . ومحل ( هدى ) إن كان هو صدر جملة أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف هو ضمير ( الكتاب ) فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كانَ هو عين الهُدى تنبيهاً على رجحان هُداه على هدى ما قبله من الكتب ، وإن كان الوقف على قوله { لا ريب } وكان الظرف صدرَ الجملةِ الموالية وكان قوله { هدى } مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخباراً بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجهَ المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى .والمتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية ، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر ، والمراد هنا المتقين الله ، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرىء عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا .والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهراً وباطناً أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجباً غضبه وعقابه ، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم .والمراد من الهُدَى ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله هذا هو الظاهر ، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى :{ الذين يؤمنون بالغيب إلى قوله من قبلك } [ البقرة : 3 ، 4 ] .وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة :الأول : أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق . والمتقون هم المتقون في الحال أيضاً لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا ، أي إن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب ، أو يزيده هدى كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } [ محمد : 17 ] .الثاني : أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب ، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحاً للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى ، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب .الثالث : أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتُعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في { هدى } لأن المصدر لا يدل على زمان معين .حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل ، لو وُصف باسم الفاعل فقيل هادٍ للمتقين ، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه ، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين ، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى ، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم ، فمن منتفع بهديه في الدين ، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة ، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل ، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين ، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم . وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى ، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] فإن قَصَّر بأحد سعيُه عن كمال الانتفاع به ، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية ، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن .وتلتئم الجمل الأربع كمالَ الالتئمام : فإن جملة { الم } [ البقرة : 1 ] تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم .وجملة : { ذلك الكتاب } تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب ، فذلك موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامكم ، وهو بالغ حد الكمال من بين الكتب ، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأنْ منحتموه فإنكم تعُدون أنفسكم أفضل الأمم ، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا إلى قوله :{ ورحمة } [ الأنعام : 156 ، 157 ] ، وموَجَّه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه .وجملةُ : { لا ريب } إن كان الوقف على قوله : { لا ريب } تعريضٌ بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي إن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة ، وأن ( لا ريب ) فإنه الكتاب الكامل ، وإن كان الوقف على قوله : { فيه } كان تعريضاً بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس ، قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] .وقال في «الكشاف» : ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذاتتِ جزالة : ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر وهو الهدى موضع الوصف وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين ا ه . فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير ، وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات . قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهتماماً بشأنها .

الترجمة الإنجليزية

Allatheena yuminoona bialghaybi wayuqeemoona alssalata wamimma razaqnahum yunfiqoona

يتعين أن يكون كلاماً متصلاً بقوله : { للمتقين } [ البقرة : 2 ] على أنه صفة لإرْدَاف صفتِهم الإجمالية بتفصيللٍ يعرف به المراد ، ويكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوَّه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين ، فقد كانوا قبل الهجرة صِنفاً مؤمنين وصنفاً كافرين مصارحين ، فزاد بعد الهجرة صنفان : هما المنافقون وأهل الكتاب ، فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام الأولون ، والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر ، وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام ، فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفُّوا مع المنافقين وظاهَروا المشركين . وقد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان : فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين وكان القرآن هُدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } [ البقرة : 4 ] الخ . فالمثنيُّ عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا ، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة ، فوائل بن حجر مثلاً لما جاء من اليمن راغباً في الإسلام هو من المتقين ، ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعاً في الملك هو من غير المتقين . وفريق آخر يجيء ذكره بقوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } [ البقرة : 4 ] الآيات .وقد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة ، ولذلك وصفهم بقوله : { يؤمنون بالغيب } أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة ، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصِّلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدُّد إيذاناً بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن .وجوز صاحب «الكشاف» كونه كلاماً مستأنفاً مبتدأ وكون : { أولئك على هدى } [ البقرة : 5 ] خبره . وعندي أنه تجويز لما لا يليق ، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر ، وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع ، وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما ، وإلا كان تقصيراً من الخطيب والمتكلم لا سيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن .والغيب مصدر بمعنى الغيبة : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } [ يوسف : 52 ] { ليعلم الله من يخافه بالغيب } [ المائدة : 94 ] وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة :كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لام بظهر الغيب تأتينيوفي الحديث : " دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة " والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صريحاً بأنه واقع أو سيقع مثل وجودِ الله ، وصفاتِه ، ووجودِ الملائكة ، والشياطين ، وأشراطِ الساعة ، وما استأثر الله بعلمه . فإن فسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفاً مستقراً فالوصف تعريض بالمنافقين ، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية ، كانت الباء متعلقة بيؤمنون ، فالمعنى حينئذٍ : الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك . وفي حديث الإيمان : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره " وهذه كلها من عوالم الغيب .كان الوصف تعريضاً بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } [ سبأ : 7 ] فجَمَع هذا الوصف بالصراحة ثناءً على المؤمنين ، وبالتعريض ذماً للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب ، وذماً للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر ، وسيُعْقَب هذا التعريضُ بصريح وصفهم في قوله : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم } [ البقرة : 6 ] الآيات . وقوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] .ويؤمنون معناه يصدقون ، وآمن مزيد أمن وهمزته المزيدة دلت على التعدية ، فأصل آمن تعدية أَمِن ضد خاف فآمن معناه جعل غيره آمناً ثم أطلقوا آمن على معنى صدَّق ووَثِق حكَى أبو زيد عن العرب : «ما آمنت أَنْ أجد صحابةً» يقوله المسافر إذا تأخر عن السفر ، فصار آمن بمعنى صدَّق على تقدير أنه آمن مُخبِرَه من أن يُكذِّبه ، أو على تقدير أنه آمن نفسه من أن تخاف من كَذِب الخبر مبالغة في أمن كأقدم على الشيء بمعنى تقدم إليه وعمد إليه ، ثم صار فعلاً قاصراً إما على مراعاة حذف المفعول لكثرة الاستعمال بحيث نزل الفعل منزلة اللازم ، وإما على مراعاة المبالغة المذكورة أي حصل له الأمْن أي من الشك واضطراب النفس واطمأن لذلك لأن معنى الأمن والاطمئنان متقارب ، ثم إنهم يضمنون آمن معنى أَقر فيقولون آمن بكذا أي أقر به كما في هذه الآية ، ويضمنونه معنى اطمأَن فيقولون آمن له : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } [ البقرة : 75 ] .ومجيء صلة الموصول فعلاً مضارعاً لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفاً ، أي لايطرأ على إيمانهم شك ولا ريبة .وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي ، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلِّغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة ، وأما مَن يعتقدُ أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسموْن بالدُّهْريين الذين قالوا :{ ما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا يثبتون من الغيب وجودَ الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك . والكلام على حقيقة الإيمان ليس هذا موضعه ويجىء عند قوله تعالى : { وما هم بمؤمنين } [ البقرة : 8 ] .{ وَيُقِيمُونَ الصلاة } .الإقامة مصدر أقام الذي هو معدى قام ، عدي إليه بالهمزة الدالة على الجعل ، والإقامة جعلها قائمة ، مأخوذ من قامت السوق إذا نَفَقَت وتداول الناس فيها البيع والشراء وقد دل على هذا التقدير تصريح بعض أهل اللسان بهذا المقدر . قال أيمن ابن خرَيم الأنطري :أقامت غزالةُ سُوقَ الضِّرابْ ... لأَهل العراقَين حَوْلاً قميطاًوأصل القيام في اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع ، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا يتأتى من قعود ، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة ولذلك أطلق مجازاً على النشاط في قولهم قام بالأمر ، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم قامت السوق وقامت الحرب ، وقالوا في ضده ركدت ونامت ، ويفيد في كل ما يتعلق به معنى مناسباً لنشاطه المجازي وهو من قبيل المجاز المرسل وشاع فيها حتى ساوى الحقيقة فصارت كالحقائق ولذلك صح بناء المجاز الثاني والاستعارة عليها ، فإقامة الصلاة استعارة تبعية شبهت المواظبة على الصلوات والعناية بها بجعل الشيء قائماً ، وأحسب أن تعليق هذا الفعل بالصلاة من مصطلحات القرآن وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله فقد ورد في سورة المزمل ( 20 ) : { وأقيموا الصلاة } وهي ثالثة السور نزولاً . وذكر صاحب الكشاف } وجوهاً أُخر بعيدة عن مساق الآية .وقد عبر هنا بالمضارع كما وقع في قوله : { يؤمنون } ليصلح ذلك للذين أقاموا الصلاة فيما مضى وهم الذين آمنوا من قبل نزول الآية ، والذين هم بصدد إقامة الصلاة وهم الذين يؤمنون عند نزول الآية ، والذين سيهتدون إلى ذلك وهم الذين جاءوا من بعدهم إذ المضارع صالح لذلك كله لأن من فعل الصلاة في الماضي فهو يفعلها الآن وغداً ، ومن لم يفعلها فهو إما يفعلها الآن أو غداً وجميع أقسام هذا النوع جعل القرآن هدى لهم . وقد حصل من إفادة المضارع التجدد تأكيد ما دل عليه مادة الإقامة من المواظبة والتكرر ليكون الثناء عليهم بالمواظبة على الصلاة أصرح .والصلاة اسم جامد بوزن فَعَلة محرَّك العين ( صَلَوة ) ورد هذا اللفظ في كلام العرب بمعنى الدعاء كقول الأعشى :تقول بنتي وقد يَمَّمتُ مُرتحلا ... يا ربِّ جنِّبْ أبي الأوصاب والوجَعاعليككِ مثلُ الذي صليتتِ فاغْتمضِي ... جَفْنا فإن لجنببِ المرء مضطَجَعاوورد بمعنى العبادة في قول الأعشى :يُراوِح من صلوات المَلِي ... ككِ طَوْراً سُجوداً وطَوراً جُؤَاراًفأما الصلاة المقصودة في الآية فهي العبادة المخصوصة المشتملة على قيام وقراءة وركوع وسجود وتسليم .قال ابن فارس كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونقلت ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات ، ومما جاء في الشرع الصلاة وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود وإن لم يكن على هاته الهيأة قال النابغة :أو دُرةٌ صَدفيَّةٌ غَوَّاصُها ... بَهِيجٌ متى يَرَها يُهلِّ ويسجدِوهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد والمواقيت ا ه .قلت لا شك أن العرب عرفوا الصلاة والسجود والركوع وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام فقال : { ربنا ليقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 37 ] وقد كان بين ظهرانيهم اليهود يصلون أي يأتون عبادتهم بهيأة مخصوصة ، وسمَّوا كنيستهم صَلاة ، وكان بينهم النصارى وهم يصلون وقد قال النابغة في ذكر دَفن النعمان بن الحارث الغساني :فآب مُصلُّوه بعين جلية ... وغودِر بالجولان حزمٌ ونايلعلى رواية مصلوه بصاد مهملة أراد المصلين عليه عند دفنه من القسس والرهبان ، إذ قد كان منتصراً ومنه البيت السابق . وعرفوا السجود قال النابغة :أو درة صدفية غَوَّاصها ... بَهِج متى يَرَها يُهلِّ ويسجدِوقد تردد أئمة اللغة في اشتقاق الصلاة ، فقال قوم مشتقة من الصلا وهو عرق غليظ في وسط الظهر ويفترق عند عَجْب الذنب فيكتنفه فيقال : حينئذٍ هما صَلَوان ، ولما كان المصلي إذا انحنى للركوع ونحوه تحرك ذلك العرق اشتقت الصلاة منه كما يقولون أَنِفَ من كذا إذا شمخ بأنفه لأنه يرفعه إذا اشمأز وتعاظم فهو من الاشتقاق من الجامد كقولهم استنوق الجمل وقولهم تنمر فلان ، وقولها : «زَوجي إذا دَخل فَهِدْ وإذا خَرج أَسِدْ» والذي دل على هذا الاشتقاق هنا عدم صلوحية غيره فلا يعد القول به ضعيفاً لأجل قلة الاشتقاق من الجوامد كما توهمه السيد .وإنما أطلقت على الدعاء لأنه يلازم الخشوع والانخفاض والتذلل ، ثم اشتقوا من الصلاة التي هي اسم جامد صلى إذا فعل الصلاة واشتقوا صلى من الصلاة كما اشتقوا صلّى الفرس إذا جاء معاقباً للمجلي في خيل الحلبة ، لأنه يجىء مزاحماً له في السبق ، واضعاً رأسه على صَلاَ سابقه واشتقوا منه المصلّي اسماً للفرس الثاني في خيل الحلبة ، وهذا الرأي في اشتقاقها مقتضب من كلامهم وهو الذي يجب اعتماده إذْ لم يصلح لأصل اشتقاقها غير ذلك . وما أورده الفخر في «التفسير» أنّ دعوى اشتقاقها من الصلْوَيْن يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل ، فإذا جوزنا أنه خَفِي واندرس حتى لا يعرفه إلا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ فلا نقطع بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر منها إلى أفهامنا في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعان أخر خفيت علينا ا ه يَرُده بالاستعمال أنه لا مانع من أن يكون لفظ مشهور منقولاً من معنى خفي لأنه العبرة في الشيوع بالاستعمال وأما الاشتقاق فبحث علمي ولهذا قال البيضاوي : «واشتهارُ هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه» .ومما يؤيد أنها مشتقة من هذا كتابتها بالواو في المصاحف إذ لولا قصد الإشارة إلى ما اشتقت منه ما كان وجه لكتابتها بالواو وهم كتبوا الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى الأصل . وأما قول «الكشاف» : وكتابتها بالواو على لفظ المفخم أي لغة تفخيم اللام يرده أن ذلك لم يصنع في غيرها من اللامات المفخمة .ومصدر صلَّى قياسه التصلية وهو قليل الورود في كلامهم . وزعم الجوهري أنه لا يقال صلَّى تصلية وتبعه الفيروزابادي ، والحق أنه ورد بقلة في نقل ثعلب في «أماليه» .وقد نقلت الصلاة في لسان الشرع إلى الخضوع بهيأة مخصوصة ودعاء مخصوص وقراءة وعدد . والقول بأن أصلها في اللغة الهيئة في الدعاء والخضوع هو أقرب إلى المعنى الشرعي وأوفق بقول القاضي أبي بكر ومن تابعه بنفي الحقيقة الشرعية ، وأن الشرع لم يستعمل لفظاً إلا في حقيقته اللغوية بضميمة شروط لا يقبل إلا بها . وقالت المعتزلة الحقائق الشرعية موضوعة بوضع جديد وليست حقائق لغوية ولا مجازات . وقال صاحب «الكشاف» : الحقائق الشرعية مجازات لغوية اشتهرت في معان . والحق أن هاته الأقوال ترجع إلى أقسام موجودة في الحقائق الشرعية .{ وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } .صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله؛ لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجاً إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال ، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه : { الذين يؤمنون بالغيب } ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به . ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالاً لأمر الله بذلك .والرزق ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته وَينال بها مُلائَمه ، فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة في الحياة من الأطعمة والأنعام والحيوان والشجر المثمر والثياب وما يقتني به ذلك من النقدين ، قال تعالى : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } [ النساء : 8 ] أي مما تركه الميت وقال : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا } [ الرعد : 26 ] وقال في قصة قارون : { وآتيناه من الكنوز إلى قوله ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ القصص : 76 82 ] مراداً بالرزق كنوزُ قارون وقال : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبَغوا في الأرض } [ الشورى : 27 ] واشْهَرُ استعماله بحسب ما رأيتُ من كلام العرب وموارد القرآن أنه ما يحصل من ذلك للإنسان ، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء فهو على المجاز ، كما في قوله تعالى :{ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] وقوله : { وجد عندها رزقاً } [ آل عمران : 37 ] وقوله : { لا يأتيكما طعام ترزقانه } [ يوسف : 37 ] .والرزق شرعاً عند أهل السنة كالرزق لغة إذ الأصل عدمُ النقل إلا لدليل ، فيصدق اسم الرزق على الحلال والحرام لأن صفة الحل والحرمة غير مُلتفت إليها هنا فبيان الحلال من الحرام له مواقع أخرى ولا يقبل الله إلا طيباً وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع مثل الخمر والتجارة فيها قبل تحريمها ، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم . وخالفت المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلْق المفاسد والشرور وتقديرهما ، ومسألة الرزق من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين الأشاعرة والمعتزلة كمسألة الآجال ، ومسألة السعر ، وتمسك المعتزلة في مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب .والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يُرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس . وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل ، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه؛ فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق ، للقرابة وللمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش والزكاة ، وبعضه محدد وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجية وذلك مفصل في تضاعيف الأحكام الشرعية في كتب الفقه ، ومن الإنفاق تطوع وهو ما فيه نفع من دَعَا الدينُ إلى نفعه .وفي إسناده فعل ( رزقنا ) إلى ضمير الله تعالى وجعْل مفعوله ضميرَ { الذين يؤمنون } تنبيه على أن ما يصير الرزق بسببه رزقاً لصاحبه هو حق خاص له خَوَّله اللَّهُ إياه بحكم الشريعة على حسب الأسباب والوسائل التي يتقرر بها ملك الناس للأموال والأرزاق ، وهو الوسائل المعتبرة في الشريعة التي اقتضت استحقاق أصحابها واستئثارهم بها بسبب الجُهد مما عمله المرء بقوة بدنه التي لا مريَة في أنها حقه مثلُ انتزاع الماء واحتطاب الحطب والصيد وجنْي الثمار والتقاطِ ما لا مِلْك لأحدٍ عليه ولا هو كائنٌ في ملك أحد ، ومثلُ خدمتِه بقوته من حَمل ثقل ومَشي لقضاء شؤون من يؤجره وانحباس للحراسة ، أو كان مما يصنع أشياء من مواد يَملكها وله حق الانتفاع بها كالخَبْز والنسج والتَّجْر وتطريق الحديد وتركيب الأطعمة وتصوير الآنية من طين الفخار ، أو كان مما أنتجه مثل الغرس والزرع والتوليد ، أو مما ابتكره بعقله مثل التعليم والاختراع والتأليف والطب والمحاماة والقضاء ونحو ذلك من الوظائف والأعمال التي لنفع العامة أو الخاصة ، أو مما أعطاه إياه مالِكُ رزققٍ مِن هبات وهدايا ووصايا ، أو أذِن بالتصرف كإحياءِ الموات ، أو كان مما ناله بالتعارض كالبيوع والإجارات والأكرية والشركات والمغارسة ، أو مما صار إليه من مال انعدم صاحبه بكونِه أحقَّ الناس به كالإرث .وتملك اللُّقطة بعد التعريف المشروط ، وحق الخمس في الركاز . فهذه وأمثالها مما شمله قول الله تعالى : { مما رزقناهم } .وليس لأحد ولا لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزق الواحد منهم لأنه لا حق لأحد في مال لم يسْع لاكتسابه بوسائله وقد جاءت هند بنت عقبة زوج أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : «إن أبا سفيان رجل مِسِّيكٌ فهل أنفق من الذي له عيالَنا فقال لها : «لاَ إلا بالمعروف» أي إلا ما هو معروف أنه تتصرف فيه الزوجة مما في بيتها مما وضعه الزوج في بيته لذلك دون مسارقة ولا خلسة .وتقديم المجرور المعموللِ على عامله وهو { ينفقون } لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزَّة على النفس كقوله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه } [ الإنسان : 8 ] ، مع رعي فواصل الآيات على حَرف النون ، وفي الإتيان بِمنْ التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعاً هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجاً ، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين . فالواجب منه ما قَدرت الشريعة نُصُبَه ومقاديره من الزكاة وإنفاققِ الأزواج والأبناءِ والعبيدِ ، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير ، ولم يشرع الإسلامُ وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره . وإنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعارَ المسلمين وهي الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن ، ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خُوَيصَّة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب . أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى إِنه يَتبقَى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليقين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة ، ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي مُحسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية ، ولأن الزكاة أداء المال وقد عُلم شح النفوس قال تعالى : { وإذا مسه الخير منوعاً } [ المعارج : 21 ] ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام .

الترجمة الإنجليزية

Waallatheena yuminoona bima onzila ilayka wama onzila min qablika wabialakhirati hum yooqinoona

عطف على { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] طائفة ثانية على الطائفة الأولى المعنية بقوله : { الذين يؤمنون بالغيب } وهما معاً قسمان للمتقين ، فإنه بعد أن أخبر أن القرآن هدى للمتقين الذين آمنوا بعد الشرك وهم العرب من أهل مكة وغيرهم ووصفهم بالذين يؤمنون بالغيب لأنهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين ، ذَكر فريقاً آخر من المتقين وهم الذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلهية قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بمحمد ، وهؤلاء هم مؤمنو أهل الكتاب وهم يومئذٍ اليهود الذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد الله بن سلام ، وبعضُ النصارى مثل صهيب الرومي ودِحية الكلبي ، وهم وإن شاركوا مسلمي العرب في الاهتداء بالقرآن والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة فإن ذلك كان من صفاتهم قبل مجيء الإسلام فذكرت لهم خصلة أخرى زائدة على ما وُصف به المسلمون الأوَّلون ، فالمغايرة بين الفريقين هنا بالعموم والخصوص ، ولما كان قصد تخصيصهم بالذكر يستلزم عطفهم وكان العطف بدون تنبيه على أنهم فريق آخر يوهم أن القرآن لا يهدي إلا الذين آمنوا بما أنزل من قبل لأن هذه خاتمة الصفات فهي مرادة فيظن أن الذين آمنوا عن شرك لا حظ لهم من هذا الثناء ، وكيف وفيهم مِن خِيرة المؤمنين من الصحابة وهم أشد اتقاءً واهتداءً إذْ لم يكونوا أهل ترقب لبعثة رسول من قبل فاهتداؤهم نشأ عن توفيق رباني ، دُفع هذا الإيهام بإعادة الموصول ليؤذِن بأن هؤلاء فريق آخر غير الفريق الذي أجريت عليهم الصفات الثلاث الأول ، وبذلك تبين أن المراد بأهل الصفات الثلاث الأوَل هم الذين آمنوا بعد شرك لوجود المقابلة . ويكون الموصُولاَننِ للعهد ، وعلم أن الذين يؤمنون بما أنزل من قبل هم أيضاً ممن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة وينفق لأن ذلك مما أنزل إلى النبيء ، وفي التعبير بالمضارع من قوله { يؤمنون بما أُنزل إليك } من إفادة التجدُّد مثل ما تقدم في نظائره لأن إيمانهم بالقرآن حدَثَ جديداً ، وهذا كله تخصيص لهم بمزية يجب اعتبارها وإن كان التفاضل بعد ذلك بقوة الإيمان ورسوخه وشدة الاهتداء ، فأبو بكر وعمر أفضل من دحيَة وعبد الله بن سلام .والإنزالُ جعل الشيء نازلاً ، والنزول الانتقال من علو إلى سُفل وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو ، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معان راجعة إلى تشبيه عمللٍ بالنزول لاعتبار شرففٍ ورفعةٍ معنوية كما في قوله تعالى : { قد أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ] وقوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] لأن خلق الله وعطاءَه يُجعل كوصول الشيء من جهة عُليا لشرفه ، وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعاً لنزول المَلك مبلِّغه الذي يتصل بهذا العالَم نازلاً من العالم العلوي قال تعالى :{ نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 194 ، 195 ] فإن المَلك ملابس للكلام المأمور بتبليغه ، وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تُلقى إلى النبيء بشيء وصل من مكان عاللٍ ، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاماً سَمعه الرسول كالقرآن وكما أُنزل إلى موسى وكما وصفَ النبيء صلى الله عليه وسلم بعضَ أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله : " وأحياناً يأتيني مثلَ صَلْصَلَة الجَرَس فيفصم عني وقد وَعيت ما قال " وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم فلا تسمَّى إنزالاً .والمراد بما أنزل إلى النبيء صلى الله عليه وسلم المقدار الذي تحقق نزوله من القرآن قبل نزول هذه الآية فإن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا تَوقَّعُ إيمانهم بما سَينزل لأن ذلك لا يحتاج للذكر إذ من المعلوم أن الذي يؤمن بما أُنزل يستمر إيمانه بكل ما يَنزل على الرسول لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكون في أول الأمر ، فإذا زالا بالإيمان أَمِنوا من الارتداد وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب . فالإيمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب وهي الدلالة الأخروية فإيمانهم بما سينزل مراد من الكلام وليس مدلولاً للفظ الذي هو للماضي فلا حاجة إلى دعوى تغليب الماضي على المستقبل في قوله تعالى : { بما أنزل } والمراد ما أنزل وما سينزل كما في «الكشاف» .وعدي الإنزال بإلى لتضمينه معنى الوصف فالمُنْزَل إليه غاية للنزول والأكثر والأصل أنه يُعدَّى بحرف على لأنه في معنى السقوط كقوله تعالى : { نزل عليك الكتاب بالحق } [ آل عمران : 3 ] وإذا أريد أن الشيء استقر عند المنزل عليه وتمكن منه قال تعالى : { وأنزلنا عليكم المن والسلوى } [ البقرة : 57 ] واختيار إحدى التعديتين تفنن في الكلام .ثم إن فائدة الإتيان بالموصول هنا دون أن يقال : والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الإسلام ككون التوراة لا تقبل النسخ وأنه يجىء في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأَسر والعبودية ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة ، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبيء صلى الله عليه وسلموقوله : { وبالآخرة هم يوقنون } عطف صفة ثانية وهي ثبوت إيمانهم بالآخرة أي اعتقادهم بحياة ثانية بعد هذه الحياة ، وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية أوصافهم لأنه مِلاَك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب وذلك الذي ساقهم إلى الإيمان بالنبيء صلى الله عليه وسلم ولأن هذا الإيقان بالآخرة من مزايا أهل الكتاب من العرب في عهد الجاهلية فإن المشركين لا يوقنون بحياة ثانية فهم دُهريون ، وأما ما يحكى عنهم من أنهم كانوا يربطون راحلة الميت عند قبره ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى الموت ويزعمون أنه إذا حيي يركبها فلا يحشر راجلاً ويسمونها البَلِية فذلك تخليط بين مزاعم الشرك وما يتلقونه عن المتنصرين منهم بدون تأمل .والآخرة في اصطلاح القرآن هي الحياة الآخرة فإن الآخرة صفة تأنيث الآخر بالمد وكسر الخاء وهو الحاصل المتأخر عن شيء قبله في فعل أو حال ، وتأنيث وصف الآخرة منظور فيه إلى أن المراد إجراؤه على موصوف مؤنث اللفظ حُذف لكثرة استعماله وصيرورته معلوماً وهو يقدر بالحياة الآخرة مراعاة لضده وهو الحياة الدنيا أي القريبة بمعنى الحاضرة ، ولذلك يقال لها العاجلة ثم صارت الآخرة علماً بالغلبة على الحياة الحاصلة بعد الموت وهي الحاصلة بعد البعث لإجراء الجزاء على الأعمال . فمعنى : { وبالآخرة هم يوقنون } أنهم يؤمنون بالبعث والحياة بعد الموت .واليقين هو العلم بالشيء عن نظر واستدلال أو بعد شك سابق ولا يكون شك إلا في أمر ذي نظر فيكون أخص من الإيمان ومن العلم . واحتج الراغب لذلك بقوله تعالى : { لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم } [ التكاثر : 6 ، 7 ] ولذلك لا يطلقون الإيقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية وقيل : هو العلم الذي لا يقبل الاحتمال وقد يطلق على الظن القوي إطلاقاً عرفياً حيث لا يخطر بالبال أنه ظن ويشتبه بالعلم الجازم فيكون مرادفاً للإيمان والعلم .فالتعبير عن إيمانهم بالآخرة بمادة الإيقان لأن هاته المادة ، تشعر بأنه علم حاصل عن تأمل وغوص الفكر في طريق الاستدلال لأن الآخرة لما كانت حياة غائبة عن المشاهدة غريبة بحسب المتعارف وقد كثرت الشبه التي جرت المشركين والدهريين على نفيها وإحالتها ، كان الإيمان بها جديراً بمادة الإيقان بناء على أنه أخص من الإيمان ، فلإيثَار { يوقنون } هنا خصوصية مناسبة لبلاغة القرآن ، والذين جعلوا الإيقان والإيمان مترادفين جعلوا ذكر الإيقان هنا لمجرد التفنن تجنباً لإعادة لفظ { يؤمنون } بعد قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } .وفي قوله تعالى : { وبالآخرة هم يوقنون } تقديم للمجرور الذي هو معمول { يوقنون } على عامله ، وهو تقديم لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة ، وأرى أن في هذا التقديم ثناء على هؤلاء بأنهم أَيقنوا بأَهم ما يوقن به المؤمن فليس التقديم بمفيد حصراً إذ لا يستقيم معنى الحصر هنا بأن يكون المعنى أنهم يوقنون بالآخرة دون غيرها ، وقد تكلف صاحب «الكشاف» وشارحوه لإفادة الحصر من هذا التقديم ويخرج الحصر عن تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله وهذا غير معهود في الحصر .وقوله : { هم يوقنون } جيء بالمسند إليه مقدماً على المسند الفعلي لإفادة تقوية الخبر إذ هو إيقان ثابت عندهم من قبل مجيء الإسلام على الإجمال ، وإن كانت التوراة خالية عن تفصيله والإنجيل أشار إلى حياة الروح ، وتعرض كتابا حزقيال وأشعياء لذكره وفي كلا التقديمين تعريض بالمشركين الدهريين ونداء على انحطاط عقيدتهم ، وأما المتبعون للحنيفية في ظنهم مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نُفيل فلم يلتفت إليهم لقلة عددهم أو لأنهم ملحقون بأهل الكتاب لأخذهم عنهم كثيراً من شرائعهم بعلة أنها من شريعة إبراهيم عليه السلام .

الترجمة الإنجليزية

Olaika AAala hudan min rabbihim waolaika humu almuflihoona

اسم الإشارة متوجه إلى { المتقين } [ البقرة : 2 ] الذين أجرى عليهم من الصفات ما تقدم ، فكانوا فريقين . وأصل الإشارة أن تعود إلى ذات مشاهدة معينة إلا أن العرب قد يخرجون بها عن الأصل فتعود إلى ذات مستحضرة من الكلام بعد أن يذكر من صفاتها وأحوالها ما ينزلها منزلة الحاضر في ذهن المتكلم والسامع ، فإن السامع إذا وعَى تلك الصفات وكانت مهمة أو غريبة في خير أو ضده صار الموصوف بها كالمشاهد ، فالمتكلم يبني على ذلك فيشير إليه كالحاضر المشاهد ، فيؤتى بتلك الإشارة إلى أنه لا أوضح في تشخصه ، ولا أغنى في مشاهدته من تعرف تلك الصفات ، فتكفي الإشارة إليها ، هذا أصل الاستعمال في إيراد الإشارة بعد ذكر صفات مع عدم حضور المشار إليه . ثم إنهم قد يتُبِعون اسمَ الإشارة الوارد بعد تلك الأوصاف بأحكام فيدل ذلك على أن منشأ تلك الأحكام هو تلك الصفات المتقدمة على اسم الإشارة ، لأنها لما كانت هي طريق الاستحضار كانت الإشارة لأهل تلك الصفات قائمة مقام الذوات المشار إليها ، فكما أن الأحكام الواردة بعد أسماء الذوات تفيد أنها ثابتة للمسميات فكذلك الأحكام الواردة بعد ما هو للصفات تفيد أنها ثبتت للصفات ، فكقوله : { أولئك على هدى من ربهم } بمنزلة أن يقول إن تلك الأوصاف هي سبب تمكنهم من هدي ربهم إياهم . ونظيره قول حاتم الطائي :ولله صُعْلُوكٌ يساوِر هَمَّه ... ويَمضى على الأحداث والدَّهرِ مُقْدِماًفَتَى طَلَبات لا يَرى الخَمص تُرْحة ... ولا شُبْعَةً إِنْ نالها عَدَّ مغنَماًإلى أن قال :فذلك إن يَهْلِكْ فحُسْنى ثَناؤه ... وإن عاش لم يقْعُد ضعيفاً مذمماًفقوله : { أولئك على هدى } جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن السامع إذا سمع ما تقدم من صفات الثناء عليهم ترقب فائدة تلك الأوصاف ، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر ضميرهم والإشارة أحسن منه وقعاً لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة فقد حققه التفتزاني في باب الفصل والوصل من الشرح المطول أن الاستئناف بذكر اسم الإشارة أبلغ من الاستئناف الذي يكون بإعادة اسم المستأنف عنه . وهذا التقدير أظهر معنى وأنسب بلاغة وأسعد باستعمال اسم الإشارة في مثل هاته المواقع ، لأنه أظهر في كون الإشارة لقصد التنويه بتلك الصفات المشار إليها وبما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم الناشىء عنها ، وهذا لا يحصل إلا بجعل اسم الإشارة مبتدأ أول صدر جملة استئناف . فقوله : { أولئك على هدى من ربهم } رجوع إلى الإخبار عنهم بأن القرآن هدى لهم والإتيان بحرف الاستعلاء تمثيل لحالهم بأن شبهت هيئة تمكنهم من الهدى وثباتهم عليه ومحاولتهم الزيادة به والسير في طريق الخيرات بهيأة الراكب في الاعتلاء على المركوب والتمكن من تصريفه والقدرة على إراضته فشبهت حالتهم المنتزعة من متعدد بتلك الحالة المنتزعة من متعدد تشبيهاً ضمنياً دل عليه حرف الاستعلاء لأن الاستعلاء أقوى أنواع تمكن شيء من شيء ، ووجه جعلنا إياها مؤذنة بتقدير مركوب دون كرسي أو مسطبة مثلاً ، لأن ذلك هو الذي تسبق إليه أفهامهم عند سماع ما يدل على الاستعلاء ، إذ الركوب هو أكثر أنواع استعلائهم فهو الحاضر في أذهانهم ، ولذلك تراهم حين يصرحون بالمشبه به أو يرمزون إليه ما يذكرون إلا المركوب وعلائقه ، فيقولون جعل الغَواية مركباً وامتطى الجهل وفي «المقامة» : «لما اقتعدتُ غارب الاغتراب وقالوا في الأمثال : ركب متن عمياء ، تخبط خبط عشواء .وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل الغنوي :فإن يكُ عامر قد قال جَهْلا ... فإن مَطِيَّةَ الجَهْللِ الشبابُفتكون كلمة «على» هنا بعض المركب الدال على الهيأة المشبه بها على وجه الإيجاز وأصله أولئك على مطية الهدى فهي تمثيلية تصريحية إلا أن المصرح به بعض المركّب الدال لا جميعه . هكذا قرر كلام «الكشاف» فيها شارحوه والطيبي ، والتحتاني والتفتزاني والبيضاوي . وذهب القزويني في «الكشف» والسيد الجرجاني إلى أن الاستعارة في الآية تبعية مقيدة بأن شبه التمسك بالهدى عند المتقين بالتمكن من الدابة للراكب ، وسرى التشبيه إلى معنى الحرف وهو علَى ، وجوز السيد وجهاً ثالثاً وهو أن يكون هنا استعارة مكنية مفردة بأن شُبه الهدى بمركوب وحرف الاستعلاء قرينة على ذلك على طريقة السكاكي في رد التبعية للمكنية . ثم زاد الطيبي والتفتزاني فجعلا في الآية استعارة تبعية مع التمثيلية قائلين إن مجيء كلمة على يعين أن يكون معناها مستعاراً لما يماثله وهو التمكن فتكون هنالك تبعية لا محالة .وقد انتصر سعد الدين التفتزاني لوجه التمثيلية وانتصر السيد الجرجاني لوجه التبعية . واشتد السيد في إنكار كونها تمثيلية ورآه جمعاً بين متنافيين لأن انتزاع كل من طرفي التشبيه من أمور متعددة يستلزم تركبه من معان متعددة ، كيف ومتعلق معنى الحرف من المعاني المفردة كالاستعلاء هنا؛ فإذا اعتبر التشبيه هنا مركباً استلزم أن لا يكون معنى على ومتعلق معناها مشبهاً به ولا مستعاراً منه لا تبعاً ولا أصالة ، وأطال في ذلك في «حاشيته للكشاف» و«حاشيته على المطول» كما أطال السعد في «حاشية الكشاف» وفي «المطول» ، وتراشقا سهام المناظرة الحادة . ونحن ندخل في الحكومة بين هذين العلمين بأنه لا نزاع بين الجميع أن في الآية تشبيه أشياء بأشياء على الجملة حاصلة من ثبوت الهدى للمتقين ومن ثبوت الاستعلاء على المركوب غير أن اختلاف الفريقين هو في تعيين الطريقة الحاصل بها هذا التشبيه فالأكثرون يجعلونها طريقة التمثيلية بأن يكون تشبيه تلك الأشياء حاصلاً بالانتزاع والتركيب لهيئة ، والسيد يجعلها طريقة التبعية بأن يكون المشبه والمشبه به هما فردان من تلك الأشياء ويحصل العلم ببقية تلك الأشياء بواسطة تقييد المفردين المشبه والمشبه به ، ويجوز طريقة التمثيل وطريقة المكنية .فينصرف النظر هنا إلى أي الطريقتين أرجح اعتباراً وأوفى في البلاغة مقداراً .وإلى أن الجمع بين طريقتي التمثيلية والتبعية هل يعد متناقضاً في اعتبار القواعد البيانية كما زعمه السيد؟ تقرر في علم البيان أن أهله أشد حرصاً على اعتبار تشبيه الهيئة فلا يعدلون عنه إلى المفرد مهما استقام اعتباره ولهذا قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» عند ذكر بيت بشار :كَأَنَّ مُثَار النَّقْع فوق رُؤوسنا ... وأسيافَنَا ليل تَهاوَى كواكبُه«قصد تشبيه النقع والسيوف فيه بالليل المتهاوية كواكبه ، لا تشبيه النقع بالليل من جانب والسيوف بالكواكب من جانب ، ولذلك وجب الحكم بأن أسيافنا في حكم الصلة للمصدر ( أي مثار ) لئلا يقع في تشبيهه تفرق ، فإن نصب الأسياف على أن الواو بمعنى مع لا على العطف» . إذا تقرر هذا تبين لديك أن للتشبيه التمثيلي الحظ الأوْفى عند أهل البلاغة ووجهه أن من أهم أغراض البلغاء وأولها باب التشبيه وهو أقدم فنونها ، ولا شك أن التمثيل أخص أنواع التشبيه لأنه تشبيه هيئة بهيئة فهو أوقع في النفوس وأجلى للمعاني .ونحن نجد اعتبار التمثيلية في الآية أرجح لأنها أوضح وأبلغ وأشهر وأسعد بكلام «الكشاف» ، أما كونها أوضح فلأن تشبيه التمثيل منزع واضح لا كلفة فيه فيفيد تشبيه مجموع هيئة المتقين في اتصافهم بالهدى بهيئة الراكب إلخ بخلاف طريقة التبعية فإنها لا تفيد إلا تشبيه التمكن بالاستعلاء ثم يستفاد ما عدا ذلك بالتقييد . وأما كونها أبلغ فلأن المقام لما سمح بكلا الاعتبارين باتفاق الفريقين لا جرم كان أولاهما بالاعتبار ما فيه خصوصيات أقوى وأعز . وأما كونها أشهر فلأن التمثيلية متفق عليها بخلاف التبعية . وأما كونه أسعد بكلام «الكشاف» فلأن ظاهر قوله : «مَثَل» أنه أراد التمثيل ، لأن كلام مثله من أهل هذه الصناعة لا تخرج فيه اللفظة الاصطلاحية عن متعارف أهلها إلى أصل المعنى اللغوي .فإذا صح أن التمثيلية أرجح فلننقل الكلام إلى تصحيح الجمع بينها وبين التبعية وهو المجال الثاني للخلاف بين العلامتين فالسعد والطيبي يجوزان اعتبار التبعية مع التمثيلية في الآية والسيد يمنع ذلك كما علمتم ويقول إذا كان التشبيه منتزعاً من متعدد فقد انتزع كل جزء في المشبَّه من جزئي المشبَّه به وهو معنى التركيب فكيف يعتبر بعض المشبه به مستعاراً لبعض المشبه فينتقض التركيب . وهذا الدليل ناظر إلى قول أئمة البلاغة إن أصل مفردات المركب التمثيلي أن تكون مستعملة في معانيها الحقيقية وإنما المجاز في جملة المركب أي في إطلاقه على الهيئة المشبهة ، فكلام السيد وقوف عندها . ولكن التفتزاني لم ير مانعاً من اعتبار المجاز في بعض مفردات المركب التمثيلي إذا لم يكن فيه تكلف ، ولعله يرى ذلك زيادة في خصوصيات إعجاز هذه الآية ، ومن شأن البليغ أن لا يفيت ما يقتضيه الحال من الخصوصيات ، وبهذا تفاوتت البلغاء كما تقرر في مبحث تعريف البلاغة وحد الإعجاز هو الطرف الأعلى للبلاغة الجامع لأقصى الخصوصيات كما بيناه في موضعه وهو المختار فلما وجد في الهيئة المشبهة والهيئة المشبه بها شيئان يصلحان لأن يشبه أحدهما بالآخر تشبيهاً مستقلاً غير داخل في تشبيه الهيئة كان حق هذا المقام تشبيه التمكن بالاستعلاء وهو تشبيه بديع وأشير إليه بكلمة على وأما غير هذين من أجزاء الهيأتين فلما لم يحسن تشبيه شيء منها بآخر أُلْغي التشبيه المفرد فيها إذ لا يحسن تشبيه المتقي بخصوص الراكب ولا الهُدى بالمركوب فتكون «على» على هذا الوجه بعضاً من المجاز المركب دليلاً عليه باعتبار ومجازاً مفرداً باعتبار آخر .والذي أَخْتاره في هذه الآية أن يكون قوله تعالى : { أولئك على هدى } استعارة تمثيلية مكنية شبهت الحالة بالحالة وحذف لفظ المشبه به وهو المركب الدال على الركوب كأن يقال رَاكِبِين مطية الهدى وأبقى ما يدل على المشبه وهو { أولئك } والهدى ، ورمز للمركب الدال على المشبه به بشيء من لوازمه وهو لفظ ( على ) الدال على الركوب عرفاً كما علمتم ، فتكمل لنا في أقسام التمثيلية الأقسام الثلاثة : الاستعارة كما في الاستعارة المفردة فيكون التمثيل منه مجاز مرسل كاستعمال الخبر في التحسر ومنه استعارة مصرحة نحو أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ومنه مكنية كما في الآية على رأينا ، ومنه تبعية كما في قول الحماسي :وفارسٍ في غمار الموت منغمسٍ ... إذا تألَّى على مكروهة صدقافإن منغمس تمثيل لهيئة إحاطة أسباب الموت به من كل جانب بهيئة من أحاطت به المياه المهلكة من كل جانب ولفظ منغمس تبعية لا محالة .وإنما نكر هدى ولم يعرف باللام لمساواة التعريف والتنكير هنا إذ لو عُرِّف لكان التعريف تعريفَ الجنس فرجح التنكير تمهيداً لوصفه بأنه من عند ربهم ، فهو مغاير للهدى السابق في قوله : { هدى للمتقين } مغايرةً بالاعتبار إذ القصد التنويه هنا بشأن الهدى وتوسلاً إلى إفادة تعظيم الهدى بقرينة مقام المدح وبذكر ما يدل على التمكن فتعين قصد التعظيم . فقوله : { من ربهم } تنويه بهذا الهدى يقتضي تعظيمه وكل ذلك يرجع إلى تعظيم المتصفين بالتمكن منه .وإنما وصف الهدى بأنه من ربهم للتنويه بذلك الهدى وتشريفه مع الإشارة بأنهم بمحل العناية من الله وكذلك إضافة الرب إليهم هي إضافة تعظيم لشأن المضاف إليه بالقرينة .{ وأولئك هُمُ المفلحون } .مرجع الإشارة الثانية عين مرجع الأولى ، ووجه تكرير اسم الإشارة التنبيه على أن كلتا الأثرتين جديرة بالاعتناء والتنويه ، فلا تذكر إحداهما تبعاً للأخرى بل تخص بجملة وإشارة خاصة ليكون اشتهارهم بذلك اشتهاراً بكلتا الجملتين وأنهم ممن يقال فيه كلا القولين .ووجه العطف بالواو دون الفَصْللِ أن بين الجملتين توسطاً بين كمالي الاتصال والانقطاع لأنك إن نظرت إلى اختلاف مفهومهما وزمن حصولهما فإن مفهوم إحداهما وهو الهدى حاصل في الدنيا ومفهوم الأخرى وهو الفلاح حاصل في الآخرة كانتا منقطعتين .وإن نظرت إلى تسبب مفهوم إحداهما عن مفهوم الأخرى ، وكون كل منهما مقصوداً بالوصف كانتا متصلتين ، فكان التعارض بين كمالي الاتصال والانقطاع منزلاً إياهما منزلة المتوسطين ، كذا قرر شراح «الكشاف» ومعلوم أن حالة التوسط تقتضي العطف كما تقرر في علم المعاني ، وتعليله عندي أنه لما تعارض المقتضيان تعين العطف لأنه الأصل في ذكر الجمل بعضها بعد بعض .وقوله : { هم المفلحون } الضمير للفصل ، والتعريف في المفلحون للجنس وهو الأظهر إذ لا معهود هنا بحسب ظاهر الحال ، بل المقصود إفادة أن هؤلاء مفلحون ، وتعريف المسند بلام الجنس إذا حمل على مسندٍ إليه معرففٍ أفاد الاختصاص فيكون ضمير الفصل لمجرد تأكيد النسبة ، أي تأكيداً للاختصاص . فأما إذا كان التعريف للجنس وهو الظاهر فتعريف المسند إليه مع المسند من شأنه إفادة الاختصاص غالباً لكنه هنا مجرد عن إفادة الاختصاص الحقيقي ، ومفيد شيئاً من الاهتمام بالخبر ، فلذلك جلب له التعريف دون التنكير وهذا مثَّله عبد القاهر بقولهم : هو البطل الحامي ، أي إذا سمِعْت بالبطل الحامي وأحطت به خبراً فهو فلان . وإليه أشار في «الكشاف» هنا بقوله : «أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم» والسكاكي لم يتابع الشيخين على هذا فعدل عنه في «المفتاح» ولله دره .والفلاح : الفوز وصلاح الحال ، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة ، والمراد به في اصطلاح الدين الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة . والفعل منه أفلح أي صار ذا فلاح ، وإنما اشتق منه الفعل بواسطة الهمزة الدالة على الصيرورة لأنه لا يقع حدثاً قائماً بالذات بل هو جنس تحف أفراده بمن قدرت له ، قال في «الكشاف» : انظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره وتعريف المفلحين ، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين { أولئك } ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا .
2