سورة الأحزاب: الآية 53 - يا أيها الذين آمنوا لا...

تفسير الآية 53, سورة الأحزاب

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَدْخُلُوا۟ بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ إِلَّآ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُوا۟ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنتَشِرُوا۟ وَلَا مُسْتَـْٔنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى ٱلنَّبِىَّ فَيَسْتَحْىِۦ مِنكُمْ ۖ وَٱللَّهُ لَا يَسْتَحْىِۦ مِنَ ٱلْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَٰعًا فَسْـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا۟ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓا۟ أَزْوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦٓ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا

الترجمة الإنجليزية

Ya ayyuha allatheena amanoo la tadkhuloo buyoota alnnabiyyi illa an yuthana lakum ila taAAamin ghayra nathireena inahu walakin itha duAAeetum faodkhuloo faitha taAAimtum faintashiroo wala mustaniseena lihadeethin inna thalikum kana yuthee alnnabiyya fayastahyee minkum waAllahu la yastahyee mina alhaqqi waitha saaltumoohunna mataAAan faisaloohunna min warai hijabin thalikum atharu liquloobikum waquloobihinna wama kana lakum an tuthoo rasoola Allahi wala an tankihoo azwajahu min baAAdihi abadan inna thalikum kana AAinda Allahi AAatheeman

تفسير الآية 53

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تدخلوا بيوت النبي إلا بإذنه لتناول طعام غير منتظرين نضجه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا أكلتم فانصرفوا غير مستأنسين لحديث بينكم؛ فإن انتظاركم واستئناسكم يؤذي النبي، فيستحيي من إخراجكم من البيوت مع أن ذلك حق له، والله لا يستحيي من بيان الحق وإظهاره. وإذا سألتم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة من أواني البيت ونحوها فاسألوهن من وراء ستر؛ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال؛ فالرؤية سبب الفتنة، وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله، ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد موته أبدًا؛ لأنهن أمهاتكم، ولا يحلُّ للرجل أن يتزوج أمَّه، إنَّ أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده إثم عظيم عند الله. (وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر، واجتنبت ما نهى الله عنه منه).

«يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم» في الدخول بالدعاء «إلى طعام» فتدخلوا «غير ناظرين» منتظرين «إناه» نضجه مصدر أنى يأنى «ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا» تمكثوا «مستأنسين لحديث» من بعضكم لبعض «إن ذلكم» المكث «كان يؤذي النبي فيستحيي منكم» أن يخرجكم «والله لا يستحيي من الحق» أن يخرجكم، أي لا يترك بيانه، وقرئ يستحي بياء واحدة «وإذا سألتموهن» أي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم «متاعا فاسألوهن من وراء حجابٍ» ستر «ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن» من الخواطر المريبة «وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله» بشيء «ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله» ذنبا «عظيما».

يأمر تعالى عباده المؤمنين، بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، في دخول بيوته فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ أي: لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها، لأجل الطعام. وأيضًا لا تكونوا نَاظِرِينَ إِنَاهُ أي: منتظرين ومتأنين لانتظار نضجه، أو سعة صدر بعد الفراغ منه. والمعنى: أنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين:الإذن لكم بالدخول، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة، ولهذا قال: وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي: قبل الطعام وبعده.ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال: إِنَّ ذَلِكُمْ أي: انتظاركم الزائد على الحاجة، كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ أي: يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته، واشتغاله فيه فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أن يقول لكم: اخرجوا كما هو جاري العادة، أن الناس -وخصوصًا أهل الكرم منهم- يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم، و لكن اللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فالأمر الشرعي، ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء، فإن الحزم كل الحزم، اتباع الأمر الشرعي، وأن يجزم أن ما خالفه، ليس من الأدب في شيء. واللّه تعالى لا يستحي أن يأمركم، بما فيه الخير لكم، والرفق لرسوله كائنًا ما كان.فهذا أدبهم في الدخول في بيوته، وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته، فإنه، إما أن يحتاج إلى ذلك، أو لا يحتاج إليه، فإن لم يحتج إليه، فلا حاجة إليه، والأدب تركه، وإن احتيج إليه، كأن يسألن متاعًا، أو غيره من أواني البيت أو نحوها، فإنهن يسألن مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أي: يكون بينكم وبينهن ستر، يستر عن النظر، لعدم الحاجة إليه.فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال، وكلامهن فيه التفصيل، الذي ذكره اللّه، ثم ذكر حكمة ذلك بقوله: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ لأنه أبعد عن الريبة، وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر، فإنه أسلم له، وأطهر لقلبه.فلهذا، من الأمور الشرعية التي بين اللّه كثيرًا من تفاصيلها، أن جميع وسائل الشر وأسبابه ومقدماته، ممنوعة، وأنه مشروع، البعد عنها، بكل طريق.ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة: وَمَا كَانَ لَكُمْ يا معشر المؤمنين، أي: غير لائق ولا مستحسن منكم، بل هو أقبح شيء أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي: أذية قولية أو فعلية، بجميع ما يتعلق به، وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا هذا من جملة ما يؤذيه، فإنه صلى اللّه عليه وسلم، له مقام التعظيم، والرفعة والإكرام، وتزوج زوجاته [بعده] مخل بهذا المقام.وأيضا، فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده، لأحد من أمته. إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا وقد امتثلت هذه الأمة، هذا الأمر، واجتنبت ما نهى اللّه عنه منه، وللّه الحمد والشكر.

هذه آية الحجاب ، وفيها أحكام وآداب شرعية ، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، فقلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) [ البقرة : 125 ] . وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو حجبتهن ؟ فأنزل الله آية الحجاب . وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة : ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ) [ التحريم : 5 ] ، فنزلت كذلك .وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر ، وهي قضية رابعة .وقد قال البخاري : حدثنا مسدد ، عن يحيى ، عن حميد ، أن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل الله آية الحجاب .وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه ، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة ، في قول قتادة والواقدي وغيرهما .وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى ، وخليفة بن خياط : أن ذلك كان في سنة ثلاث ، فالله أعلم .قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي ، حدثنا معتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مجلز ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا هو [ كأنه ] يتهيأ للقيام فلم يقوموا . فلما رأى ذلك قام ، فلما قام [ قام ] من قام ، وقعد ثلاثة نفر . فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقت ، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا . فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل ، فألقى [ الحجاب ] بيني وبينه ، فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي ) الآية .وقد رواه أيضا في موضع آخر ، ومسلم والنسائي ، من طرق ، عن معتمر بن سليمان ، به . ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، [ بنحوه . ثم قال : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك ] قال : بني [ على ] النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعيا ، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون . فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه ، فقلت : يا نبي الله ، ما أجد أحدا أدعوه . قال : " ارفعوا طعامكم " ، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة ، فقال : " السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته " . قالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ، بارك الله لك ؟ فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة [ في البيت ] يتحدثون . وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء ، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة ، فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا ؟ فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله ، وأخرى خارجه ، أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب .انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب [ الستة ] ، سوى النسائي في اليوم والليلة ، من حديث عبد الوارث .ثم رواه عن إسحاق - هو ابن منصور - عن عبد الله بن بكر السهمي ، عن حميد ، عن أنس ، بنحو ذلك ، وقال : " رجلان " انفرد به من هذا الوجه . وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو المظفر ، حدثنا جعفر بن سليمان ، عن الجعد - أبي عثمان اليشكري - عن أنس بن مالك قال : أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه ، فصنعت أم سليم حيسا ثم وضعته في تور ، فقالت : اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقرئه مني السلام ، وأخبره أن هذا منا له قليل - قال أنس : والناس يومئذ في جهد - فجئت به فقلت : يا رسول الله ، بعثت بهذا أم سليم إليك ، وهي تقرئك السلام ، وتقول : أخبره أن هذا منا له قليل ، فنظر إليه ثم قال : " ضعه " فوضعته في ناحية البيت ، ثم قال : " اذهب فادع لي فلانا وفلانا " . وسمى رجالا كثيرا ، وقال : " ومن لقيت من [ المسلمين " . فدعوت من قال لي ، ومن لقيت من ] المسلمين ، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس - فقلت : يا أبا عثمان ، كم كانوا ؟ فقال : كانوا زهاء ثلاثمائة - قال أنس : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جئ به " . فجئت به إليه ، فوضع يده عليه ، ودعا وقال : " ما شاء الله " . ثم قال : " ليتحلق عشرة عشرة ، وليسموا ، وليأكل كل إنسان مما يليه " . فجعلوا يسمون ويأكلون ، حتى أكلوا كلهم . فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارفعه " . قال : فجئت فأخذت التور فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت ؟ قال : وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله ، وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط ، فأطالوا الحديث ، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أشد الناس حياء - ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزا - فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فسلم على حجره وعلى نسائه ، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ، ابتدروا الباب فخرجوا ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ، ودخل البيت وأنا في الحجرة ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيرا ، وأنزل الله عليه القرآن ، فخرج وهو يقرأ هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ) إلى قوله : ( بكل شيء عليما ) . قال أنس : فقرأهن علي قبل الناس ، فأنا أحدث الناس بهن عهدا .وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن جعفر بن سليمان ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح وعلقه البخاري في كتاب النكاح فقال :وقال إبراهيم بن طهمان ، عن الجعد أبي عثمان ، عن أنس ، فذكر نحوه .ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الجعد ، به . وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك ، عن شريك ، عن بيان بن بشر ، عن أنس ، بنحوه .وروى البخاري والترمذي ، من طريقين آخرين ، عن بيان بن بشر الأحمسي الكوفي ، عن أنس ، بنحوه .ورواه ابن أبي حاتم أيضا ، من حديث أبي نضرة العبدي ، عن أنس بن مالك ، بنحوه ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد ، ومن حديث الزهري ، عن أنس ، بنحو ذلك .وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز وهاشم بن القاسم قالا حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليزيد " اذهب فاذكرها علي " . قال : فانطلق زيد حتى أتاها ، قال : وهي تخمر عجينها ، فلما رأيتها عظمت في صدري . . . وذكر تمام الحديث ، كما قدمناه عند قوله : ( فلما قضى زيد منها وطرا ) ، وزاد في آخره بعد قوله : ووعظ القوم بما وعظوا به . قال هاشم في حديثه : ( لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ) .وقد أخرجه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن المغيرة ، به .وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثني عمي عبد الله بن وهب ، حدثني يونس عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع - وهو صعيد أفيح - وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك . فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة . حرصا أن ينزل الحجاب ، قالت : فأنزل الله الحجاب .هكذا وقع في هذه الرواية . والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب ، كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم ، من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، فرآها عمر بن الخطاب فقال : يا سودة ، أما والله ما تخفين علينا ، فانظري كيف تخرجين ؟ قالت : فانكفأت راجعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، وإنه ليتعشى ، وفي يده عرق ، فدخلت فقالت : يا رسول الله ، إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا . قالت : فأوحى الله إليه ، ثم رفع عنه وإن العرق في يده ، ما وضعه . فقال : " إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن " . لفظ البخاري .فقوله : ( لا تدخلوا بيوت النبي ) : حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام ، حتى غار الله لهذه الأمة ، فأمرهم بذلك ، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة; ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والدخول على النساء " .ثم استثنى من ذلك فقال : ( إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ) .قال مجاهد وقتادة وغيرهما : أي غير متحينين نضجه واستواءه ، أي : لا ترقبوا الطعام حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول ، فإن هذا يكرهه الله ويذمه . وهذا دليل على تحريم التطفيل ، وهو الذي تسميه العرب الضيفن ، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتابا في ذم الطفيليين . وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها .ثم قال تعالى : ( ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ) . وفي صحيح مسلم عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دعا أحدكم أخاه فليجب ، عرسا كان أو غيره " . وأصله في الصحيحين وفي الصحيح أيضا ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو دعيت إلى ذراع لأجبت ، ولو أهدي إلي كراع لقبلت ، فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل ، وانتشروا في الأرض " ; ولهذا قال : ( ولا مستأنسين لحديث ) أي : كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث ، ونسوا أنفسهم ، حتى شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال [ الله ] تعالى : ( إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم ) .وقيل : المراد أن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به ، لكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه ، عليه السلام ، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك; ولهذا قال : ( والله لا يستحيي من الحق ) أي : ولهذا نهاكم عن ذلك وزجركم عنه .ثم قال تعالى : ( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) أي : وكما نهيتكم عن الدخول عليهن ، كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية ، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن ، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن مسعر ، عن موسى بن أبي كثير ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيسا في قعب ، فمر عمر فدعاه ، فأصابت إصبعه إصبعي ، فقال : حس - أو : أوه - لو أطاع فيكن ما رأتك عين . فنزل الحجاب .( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) أي : هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب .وقوله : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ) : قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي حماد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) قال : نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم . قال رجل لسفيان : أهي عائشة ؟ قال : قد ذكروا ذاك .وكذا قال مقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وذكر بسنده عن السدي أن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله ، رضي الله عنه ، حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك; ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزويجها من بعده ; لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين ، كما تقدم . واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين ، مأخذهما : هل دخلت هذه في عموم قوله : ( من بعده ) أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فما نعلم في حلها لغيره - والحالة هذه - نزاعا ، والله أعلم .وقال ابن جرير : حدثني [ محمد ] بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا داود ، عن عامر; أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة بنت الأشعث - يعني : ابن قيس - فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك ، فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة ، فقال له عمر : يا خليفة رسول الله ، إنها ليست من نسائه ، إنها لم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يحجبها ، وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها . قال : فاطمأن أبو بكر ، رضي الله عنهما وسكن .وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك ، وشدد فيه وتوعد عليه بقوله : ( إن ذلكم كان عند الله عظيما ) ،

ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... روايات متعددة منها، ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال:وافقت ربي في ثلاث. فقلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله- تعالى-: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لما تمالأن عليه في الغيرة عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزل كذلك.وروى البخاري عن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام، فلما قام صلّى الله عليه وسلّم قام معه من قام، وقعد ثلاثة نفر.فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... الآية.قال ابن كثير: وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش: التي تولى الله- تعالى- تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة، في قول قتادة والواقديّ وغيرهما .والمراد ببيوت النبي: المساكن التي أعدها صلّى الله عليه وسلّم لسكنى أزواجه.والاستثناء في قوله- تعالى-: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ استثناء مفرغ من أعم الأحوال.وقوله: غَيْرَ ناظِرِينَ. حال من ضمير تَدْخُلُوا وإِناهُ أى: نضجه وبلوغه الحد الذي يؤكل معه. يقال: أنى الطعام يأنى أنيا وإنى- كقلى يقلى- إذا نضج وكان معدا للأكل.والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، لا تدخلوا بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم في حال من الأحوال، إلا في حال الإذن لكم بدخولها من أجل حضور طعام تدعون إلى تناوله، وليكن حضوركم في الوقت المناسب لتناوله، لا قبل ذلك بأن تدخلوا قبل إعداده بفترة طويلة، منتظرين نضجه وتقديمه إليكم للأكل منه.قالوا: وكان من عادة بعضهم في الجاهلية أنهم يلجون البيوت بدون استئذان، فإذا وجدوا طعاما يعد، انتظروا حتى ينضج ليأكلوا منه.فالنهي في الآية الكريمة مخصوص بمن دخل من غير دعوة، وبمن دخل بدعوة ولكنه مكث منتظرا للطعام حتى ينضج، دون أن تكون هناك حاجة لهذا الانتظار. أما إذا كان الدخول بدعوة أو لحضور طعام بدون انتظار مقصود لوقت نضجه، فلا يتناوله النهى.قال الآلوسى: والآية على ما ذهب إليه جمع من المفسرين، خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبي صلّى الله عليه وسلّم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه، فهي مخصوصة بهم وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم في المستقبل. فالنهي مخصوص بمن دخل بغير دعوة، وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فلا تفيد النهى عن الدخول بإذن لغير طعام، ولا من الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر .وقوله- سبحانه- وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا استدراك على ما فهم من النهى عن الدخول بغير إذن، وفيه إشعار بأن الإذن متضمن معنى الدعوة.أى: لا تدخلوا بدون إذن، فإذا أذن لكم ودعيتم إلى الطعام فادخلوا لتناوله وقوله - تعالى- فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ بيان للون آخر من ألوان الآداب الحكيمة التي شرعها الإسلام في تناول الطعام عند الغير.أى: إذا دعيتم لحضور طعام في بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فادخلوا، فإذا ما انتهيتم من طعامكم عنده، فتفرقوا ولا تمكثوا في البيت مستأنسين لحديث بعضكم مع بعض، أو لحديثكم مع أهل البيت.فقوله مُسْتَأْنِسِينَ مأخوذ من الأنس بمعنى السرور والارتياح للشيء. تقول: أنست، لحديث فلان، إذا سررت له، وفرحت به.وأطلق- سبحانه- نفى الاستئناس للحديث، من غير بيان صاحب الحديث، للإشعار بأن المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق، مادام ليس هناك من حاجة إلى هذا المكث. وهذا أدب عام لجميع المسلمين.واسم الإشارة في قوله: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ يعود إلى الانتظار والاستئناس للحديث، والدخول بغير إذن. والجملة بمثابة التعليل لما قبلها.أى: إن ذلكم المذكور كان يؤذى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويدخل الحزن على قلبه، لأنه يتنافى مع الأدب الإسلامى الحكيم، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم كان يستحيى أن يصرح لكم بذلك، لسمو خلقه، وكمال أدبه، كما أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يستحيى أن يقول لكم كلاما تدركون منه أنه يريد انصرافكم.وقوله- تعالى-: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أى: والله- تعالى- لا يستحيى من إظهار الحق ومن بيانه، بل من شأنه- سبحانه- أن يقول الحق، ولا يسكت عن ذلك.وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد منعه حياؤه من أن يقول قولا تفهمون منه ضجره من بقائكم في بيته بعد تناول طعامكم عنده.. فإن الله- تعالى- وهو خالقكم لا يمتنع عن بيان الحق في هذه الأمور وفي غيرها، حتى تتأدبوا بأدب دينه القويم. ثم ذكر- سبحانه- بعض الآداب التي يجب عليهم أن يلتزموها مع نساء نبيهم صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..أى: وإذا طلبتم- أيها المؤمنون- من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا يتمتع به سواء أكان هذا الشيء حسيا كالطعام أم معنويا كمعرفة بعض الأحكام الشرعية.. إذا سألتموهن شيئا من ذلك فليكن سؤالكم لهن من وراء حجاب ساتر بينكم وبينهن..لأن سؤالكم إياهن بهذه الطريقة، أطهر لقلوبكم وقلوبهن، وأبعد عن الوقوع في الهواجس الشيطانية التي قد تتولد عن مشاهدتكم لهن، ومشاهدتهن لكم..ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً.أى: وما صح وما استقام لكم- أيها المؤمنون- أن تؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأى لون من ألوان الأذى، سواء أكان بدخول بيوته بغير إذنه، أم بحضوركم إليها انتظارا لنضج الطعام أم بجلوسكم بعد الأكل بدون مقتض لذلك، أم بغير ذلك مما يتأذى به صلّى الله عليه وسلم.كما أنه لا يصح لكم بحال من الأحوال أن تنكحوا أزواجه من بعده، أى: من بعد وفاته.إِنَّ ذلِكُمْ أى: إيذاءه ونكاح أزواجه من بعده كانَ عِنْدَ اللَّهِ- تعالى- ذنبا عَظِيماً وإثما جسيما، لا يقادر قدره.

قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) الآية . قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني أنس ابن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، قال : وكانت أم هانئ تواظبني على خدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فخدمته عشر سنين ، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن عشرين سنة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ، فكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش ، أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها عروسا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا ، وبقي رهط منهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطالوا المكث ، فقام النبي لله فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشيت حتى جاء حجرة عائشة ، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه ، حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا ، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا ، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينه الستر ، وأنزل الحجاب .وقال أبو عثمان - واسمه الجعد - عن أنس قال : فدخل يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة ، وهو يقول : ( ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) إلى قوله : ( والله لا يستحيي من الحق ) .وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأذى بهم فنزلت( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) يقول : إلا أن تدعوا ) ( إلى طعام ) فيؤذن لكم فتأكلونه ( غير ناظرين إناه ) غير منتظرين إدراكه ووقت نضجه ، يقال : أنى الحميم : إذا انتهى حره ، وإنى أن يفعل ذلك : إذا حان ، إنى بكسر الهمزة مقصورة ، فإذا فتحتها مددت فقلت الإناء ، وفيه لغتان إنى يأنى ، وآن يئين ، مثل : حان يحين .( ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم ) أكلتم الطعام ) ( فانتشروا ) تفرقوا واخرجوا من منزله ( ولا مستأنسين لحديث ) ولا طالبين الأنس للحديث ، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلا فنهوا عن ذلك .( إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ) أي : لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء .( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) أي : من وراء ستر ، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتقبة كانت أو غير منتقبة ( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) من الريب .وقد صح في سبب نزول آية الحجاب ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، وكان عمر يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - : احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة - حرصا على أن ينزل الحجاب - فأنزل الله تعالى آية الحجاب .أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب ابن أحمد الطوسي ، أخبرنا عبد الرحيم بن منيب ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حميد ، عن أنس قال : قال عمر : وافقني ربي في ثلاث قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، وقلت : يا رسول الله إنه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل الله آية الحجاب ، قال : وبلغني بعض ما آذى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساؤه ، قال : فدخلت عليهن استقربهن واحدة واحدة ، قلت : والله لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن ، حتى أتيت على زينب فقالت : يا عمر ما كان في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، قال : فخرجت فأنزل الله - عز وجل - : " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " ( التحريم - 5 ) ، إلى آخر الآية .قوله - عز وجل - : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء ( ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ) نزلت في رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لئن قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنكحن عائشة .قال مقاتل بن سليمان : هو طلحة بن عبيد الله ، فأخبره الله - عز وجل - أن ذلك محرم وقال : ( إن ذلكم كان عند الله عظيما ) أي : ذنبا عظيما .وروى معمر عن الزهري ، أن العالية بنت ظبيان التي طلق النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجت رجلا وولدت له ، وذلك قبل تحريم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس .

قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما .فيه ست عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ( أن ) في موضع نصب على معنى : إلا بأن يؤذن لكم ، ويكون الاستثناء ليس من الأول . طعام غير ناظرين نصب على الحال ، أي لا تدخلوا في هذه الحال . ولا يجوز في غير الخفض على النعت للطعام ، لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين ، وكان يقول : غير ناظرين إناه أنتم . ونظير هذا من النحو : هذا رجل مع رجل ملازم له ، وإن شئت قلت : هذا رجل مع رجل ملازم له هو . وهذه الآية تضمنت قصتين : إحداهما : الأدب في أمر الطعام والجلوس .والثانية : أمر الحجاب . وقال حماد بن زيد : هذه الآية نزلت في الثقلاء . فأما القصة الأولى فالجمهور من المفسرين على أن : سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش امرأة زيد أولم عليها ، فدعا الناس ، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته مولية وجهها إلى الحائط ، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أنس : فما أدري أأنا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني . قال : فانطلق حتى دخل البيت ، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب . قال : ووعظ القوم بما وعظوا به ، وأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي - إلى قوله - إن ذلكم كان عند الله عظيما أخرجه الصحيح . وقال قتادة ومقاتل في كتاب الثعلبي : إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة . والأول الصحيح ، كما رواه الصحيح . وقال ابن عباس : نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام ، فيقعدون إلى أن يدرك ، ثم يأكلون ولا يخرجون . وقال إسماعيل بن أبي حكيم : وهذا أدب أدب الله به الثقلاء . وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي : حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم .وأما قصة الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة : سببها أمر القعود في بيت زينب ، القصة المذكورة آنفا . وقالت عائشة رضي الله عنها وجماعة : سببها أن عمر قال قلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت الآية . وروى الصحيح عن ابن عمر قال : قال عمر : وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم ، وفي الحجاب ، وفي أسارى بدر . هذا أصح ما قيل في أمر الحجاب ، وما عدا هذين القولين من الأقوال والروايات فواهية ، لا يقوم شيء منها على ساق ، وأضعفها ما روي عن ابن مسعود : أن عمر أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب ، فقالت زينب بنت جحش : يا بن الخطاب ، إنك تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا فأنزل الله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب وهذا باطل ; لأن الحجاب نزل يوم البناء بزينب ، كما بيناه . أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم . وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصاب يد رجل منهم يد عائشة ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت آية الحجاب . قال ابن عطية : وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه . وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك ، فنهى الله المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك ، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل ، لا قبله لانتظار نضج الطعام .الثانية : قوله تعالى : بيوت النبي دليل على أن البيت للرجل ، ويحكم له به ، فإن الله تعالى أضافه إليه . فإن قيل : فقد قال الله تعالى : واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا قلنا : إضافة البيوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إضافة ملك ، وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة محل ، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم والإذن إنما يكون للمالك .الثالثة : واختلف العلماء في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يسكن فيها أهله بعد موته ، هل هي ملك لهن أم لا على قولين : فقالت طائفة : كانت ملكا لهن ، بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاتهن ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب ذلك لهن في حياته . الثاني : أن ذلك كان إسكانا كما يسكن الرجل أهله ولم يكن هبة ، وتمادى سكناهن بها إلى الموت . وهذا هو الصحيح ، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وابن العربي وغيرهم ، فإن ذلك من مئونتهن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهن ، كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال : لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما ، ما تركت بعد نفقة أهلي ومئونة عاملي فهو صدقة . هكذا قال أهل العلم ، قالوا : ويدل على ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن . قالوا : ولو كان ذلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن . قالوا : وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكا . وإنما كان لهن سكن حياتهن ، فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه ، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين لسبيلهن ، فزيد إلى أصل المال فصرف في منافع المسلمين مما يعم جميعهم نفعه . والله الموفق .قوله تعالى : غير ناظرين إناه أي غير منتظرين وقت نضجه . و ( إناه ) مقصور ، وفيه لغات : ( إنى ) بكسر الهمزة . قال الشيباني :وكسرى إذ تقسمه بنوه بأسياف كما اقتسم اللحام تمخضت المنون له بيومأنى ولكل حاملة تماموقرأ ابن أبي عبلة : ( غير ناظرين إناه ) مجرورا صفة ل ( طعام ) . الزمخشري : وليس بالوجه ، لأنه جرى على غير ما هو له ، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ ، فيقال : غير ناظرين إناه أنتم ، كقولك : هند زيد ضاربته هي . وأنى ( بفتحها ) ، وأناء ( بفتح الهمزة والمد ) قال الحطيئة :وأخرت العشاء إلى سهيل أو الشعرى فطال بي الأناءيعني إلى طلوع سهيل . وإناه مصدر أنى الشيء يأني إذا فرغ وحان وأدرك .الرابعة : قوله تعالى : ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا فأكد المنع ، وخص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب ، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة . قال ابن العربي : وتقدير الكلام : ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا ، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول . والفاء في جواب إذا لازمة لما فيها من معنى المجازاة .الخامسة : قوله تعالى : فادخلوا فإذا طعمتم أمر تعالى بعد الإطعام بأن يتفرق جميعهم وينتشروا . والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل . والدليل على ذلك أن الدخول حرام ، وإنما جاز لأجل الأكل ، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح وعاد التحريم إلى أصله .السابعة : في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف لا على ملك نفسه ، لأنه قال : فإذا طعمتم فانتشروا فلم يجعل له أكثر من الأكل ، ولا أضاف إليه سواه ، وبقي الملك على أصله .السابعة : قوله تعالى : ولا مستأنسين لحديث عطف على قوله : غير ناظرين و ( غير ) منصوبة على الحال من الكاف والميم في ( لكم ) أي غير ناظرين ولا مستأنسين ، والمعنى المقصود : لا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب . ( إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ) أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره . ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر . وفي الصحيح عن أم سلمة قالت : جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن الله لا يستحيي من الحق ، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأت الماء .الثامنة : قوله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا روى أبو داود الطيالسي عن أنس بن مالك قال قال عمر : وافقت ربي في أربع . . الحديث . وفيه : قلت : يا رسول الله ، لو ضربت على نسائك الحجاب ، فإنه يدخل عليهن البر والفاجر ، فأنزل الله عز وجلوإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب .واختلف في المتاع ، فقيل : ما يتمتع به من العواري . وقيل فتوى . وقيل صحف القرآن . والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا .التاسعة : في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض ، أو مسألة يستفتين فيها ، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى ، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة ، بدنها وصوتها ، كما تقدم ، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها ، أو داء يكون ببدنها ، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها .العاشرة : استدل بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى ، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها . وعلى إجازة شهادته أكثر العلماء ، ولم يجزها أبو حنيفة والشافعي وغيرهما . قال أبو حنيفة : تجوز في الأنساب . وقال الشافعي : لا تجوز إلا فيما رآه قبل ذهاب بصره .الحادية عشرة : قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء ، وللنساء في أمر الرجال ، أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية . وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له ; فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته .الثانية عشرة : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الآية . هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها ، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام .الثالثة عشرة : قوله تعالى : ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا روى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة أن رجلا قال : لو قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة ، فأنزل الله تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله الآية . ونزلت : وأزواجه أمهاتهم . وقال القشيري أبو نصر عبد الرحمن : قال ابن عباس قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء - في نفسه - لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة ، وهي بنت عمي . قال مقاتل : هو طلحة بن عبيد الله . قال ابن عباس : وندم هذا الرجل على ما حدث به في نفسه ، فمشى إلى مكة على رجليه وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله ، وأعتق رقيقا فكفر الله عنه . وقال ابن عطية : روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال : لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به ، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة . وحكى مكي عن معمر أنه قال : هو طلحة بن عبيد الله .قلت : وكذا حكى النحاس عن معمر أنه طلحة ، ولا يصح . قال ابن عطية : لله در ابن عباس ! وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله . قال شيخنا الإمام أبو العباس : وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة ، وحاشاهم عن مثله ! والكذب في نقله ، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال . يروى أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة ، وحفصة بعد خنيس بن حذافة : ما بال محمد يتزوج نساءنا ! والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه ، فنزلت الآية في هذا ، فحرم الله نكاح أزواجه من بعده ، وجعل لهن حكم الأمهات . وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته صلى الله عليه وسلم . قال الشافعي رحمه الله : وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن ، ومن استحل ذلك كان كافرا ، لقوله تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا . وقد قيل : إنما منع من التزوج بزوجاته ، لأنهن أزواجه في الجنة ، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها . قال حذيفة لامرأته : إن سرك أن تكوني زوجتي في الجنة إن جمعنا الله فيها فلا تزوجي من بعدي ، فإن المرأة لآخر أزواجها . وقد ذكرنا ما للعلماء في هذا في ( كتاب التذكرة ) من أبواب الجنة .الرابعة عشرة : اختلف العلماء في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، هل بقين أزواجا أم زال النكاح بالموت ، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا ؟ فقيل : عليهن العدة ، لأنه توفي عنهن ، والعدة عبادة . وقيل : لا عدة عليهن ، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة . وهو الصحيح ، لقوله عليه السلام : ما تركت بعد نفقة عيالي وروي أهلي وهذا اسم خاص بالزوجية ، فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه ، وحرمن على غيره ، وهذا هو معنى بقاء النكاح . وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام لهن بمنزلة المغيب في حق غيره ، لكونهن أزواجا له في الآخرة قطعا بخلاف سائر الناس ؛ لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة ، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار ، فبهذا انقطع السبب في حق الخلق وبقي في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه السلام : زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة . وقال عليه السلام : كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة .فرع : فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكلبية وغيرها ، فهل كان يحل لغيره نكاحهن ؟ فيه خلاف . والصحيح جواز ذلك ، لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل على ما تقدم . وقيل : إن الذي تزوجها الأشعث بن قيس الكندي . قال القاضي أبو الطيب : الذي تزوجها مهاجر بن أبي أمية ، ولم ينكر ذلك أحد ، فدل على أنه إجماع .الخامسة عشرة : قوله تعالى : أبدا إن ذلكم كان عند الله يعني أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نكاح أزواجه ، فجعل ذلك من جملة الكبائر ولا ذنب أعظم منه .السادسة عشرة : قد بينا سبب نزول الحجاب من حديث أنس وقول عمر ، وكان يقول لسودة إذا خرجت وكانت امرأة طويلة : قد رأيناك يا سودة ، حرصا على أن ينزل الحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب . ولا بعد في نزول الآية عند هذه الأسباب كلها - والله أعلم - بيد أنه لما ماتت زينب بنت جحش قال : لا يشهد جنازتها إلا ذو محرم منها ، مراعاة للحجاب الذي نزل بسببها . فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة ، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر . وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم .

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)يقول تعالى ذكره لأصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت نبي الله إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) يعني: غير منتظرين إدراكه وبلوغه، وهو مصدر من قولهم: قد أنى هذا الشيء يأني إنى وأنيا وإناء، قال الحطيئة:وآنيتُ العَشاءَ إلَى سُهَيلٍأوِ الشِّعْرَى فطال بيَ الأنَاءُ (1)وفيه لغة أخرى يقال: قد آن لك، أي: تبين لك أينا ونال لك، وأنال لك، ومنه قول رؤبة بن العجاج:هاجَتْ وَمِثْلِي نَوْلُهُ أن يَرْبَعاحمامةٌ ناختْ حَمَامًا سُجَّعًا (2)وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) قال: متحيِّنين نضجه.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) يقول: غير ناظرين الطعام أن يصنع.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) قال: غير متحينين طعامه.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله. ونصب (غير) في قوله (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) على الحال من الكاف والميم في قوله (إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) لأن الكاف والميم معرفة وغير نكرة، وهي من صفة الكاف والميم. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: لا يجوز في (غَيْرَ) الجر على الطعام، إلا أن تقول: أنتم، ويقول: ألا ترى أنك لو قلت: أبدى لعبد الله عليَّ امرأة مبغضًا لها، لم يكن فيه إلا النصب، إلا أن تقول: مبغض لها هو، لأنك إذا أجريت صفته عليها، ولم تظهر الضمير الذي يدل على أن الصفة له لم يكن كلامًا، لو قلت هذا رجل مع امرأة مُلازِمِها، كان لحنًا حتى ترفع فتقول: ملازمُها، أو تقول: ملازِمَها هو فتجر.وكان بعض نحويي الكوفة يقول: لو جعلت (غَيْرَ) في قوله (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) خفضًا كان صوابًا، لأن قبلها الطعام وهو نكرة، فيجعل فعلهم تابعًا للطعام، لرجوع ذكر الطعام في إناه، كما تقول العرب: رأيت زيدًا مع امرأةٍ محسنًا إليها ومحسنٍ إليها؛ فمن قال محسنًا جعله من صفة زيد، ومن خفضه فكأنه قال: رأيته مع التي يحسن إليها، فإذا صارت الصلة للنكرة أتبعتها وإن كانت فعلا لغير النكرة، كما قال الأعشى:فقُلتُ لهُ هذهِ هاتِهاإلينا بأدْمَاءَ مُقْتَادِها (3)فجعل المقتاد تابعًا لإعراب (بِأدْمَاء)، لأنه بمنزلة قولك: بأدماء تقتادها، فخفضه لأنه صلة لها، قال: وينشد: بأدماءِ مقتادِها، بخفض الأدماء لإضافتها إلى المقتاد، قال: ومعناه: هاتها على يدي من اقتادها. وأنشد أيضًا:وإنِ امرَءًا أهْدَى إلَيكِ وَدُونُهَمنَ الأرضِ موْمَاةٌ وَبَيْدَاءُ فَيْهَقُلَمَحْقُوقَةٌ أن تَستجيبي لِصوتِهِوأن تعْلَمِي أنَّ المُعَانَ مُوَفَّقُ (4)وحكي عن بعض العرب سماعًا ينشد:أرأيت إذْ أَعطَيتكِ الودَّ كلَّهولم يكُ عندي إن أبيتِ إباءُأمُسلِمتي للموت أنت فميِّتٌوهل للنفوس المسلماتِ بقاءُ (5)ولم يقل: فميت أنا، وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: يدك باسطها يريدون: أنت، وهو كثير في الكلام، قال: فعلى هذا يجوز خفض (غير).والصواب من القول في ذلك عندنا، القول بإجازة جر (غير) في (غَيْرَ نَاظِرِينَ) في الكلام، لا في القراءة لما ذكرنا من الأبيات التي حكيناها، فأما في القراءة فغير جائز في (غير) غير النصب، لإجماع الحجة من القراء على نصبها.وقوله (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) يقول: ولكن إذا دعاكم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله (فإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) يقول: فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم لأكله فانتشروا، يعني: فتفرقوا واخرجوا من منزله (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) فقوله (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) في موضع خفض عطفًا به على ناظرين، كما يقال في الكلام: أنت غير ساكت ولا ناطق. وقد يحتمل أن يقال: مستأنسين في موضع نصب عطفًا على معنى ناظرين، لأن معناه إلا أن يؤذن لكم إلى طعام لا ناظرين إناه، فيكون قوله (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ) نصبًا حينئذ، والعرب تفعل ذلك إذا حالت بين الأول والثاني؛ فترد أحيانًا على لفظ الأول وأحيانًا على معناه، وقد ذكر الفراء أن أبا القمقام أنشده:أجِدكَ لستَ الدهرَ رائيَ رامَةولا عاقلٍ إلا وانت جنِيبُولا مُصعِدٍ في المُصعِدينَ لمنْعِجٍولا هابطًا ما عِشْتُ هَضْبَ شطيبِ (6)فرد مصعد على أن رائي فيه باء خافضة، إذ حال بينه وبين المصعد مما حال بينهما من الكلام.ومعنى قوله (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) : ولا متحدثين بعد فراغكم من &; 20-310 &; أكل الطعام إيناسًا من بعضكم لبعض به.كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) بعد أن تأكلوا.واختلف أهل العلم في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه؛ فقال بعضهم: نزلت بسبب قوم طعموا عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في وليمة زينب بنت جحش، ثم جلسوا يتحدثون في منزل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وبرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى أهله حاجة فمنعه الحياء من أمرهم بالخروج من منزله .* ذكر من قال ذلك:حدثني عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: بنى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بزينب بنت جحش، فبعثت داعيًا إلى الطعام، فدعوت، فيجيء القوم يأكلون ويخرجون، ثم يجيء القوم يأكلون ويخرجون، فقلت: يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحدًا أدعوه، قال: ارفعوا طعامكم، وإن زينب لجالسة في ناحية البيت، وكانت قد أعطيت جمالا وبقي ثلاثة نفر يتحدثون في البيت، وخرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم منطلقًا نحو حجرة عائشة، فقال: " السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ " فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ قال: فأتى حجر نسائه فقالوا مثل ما قالت عائشة، فرجع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فإذا الثلاثة يتحدثون في البيت، وكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شديد الحياء، فخرج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم منطلقًا نحو حجرة عائشة، فلا أدري أخبرته، أو أخبر أن الرهط قد خرجوا، فرجع حتى وضع رجله في أسكفة داخل البيت، والأخرى خارجه، إذ أرخي الستر بيني وبينه، وأُنزلت آية الحجاب.حدثني أَبو معاوية بشر بن دحية، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: سألني أُبي بن كعب عن الحجاب فقلت: أنا أعلم الناس به، نزلت في شأن زينب؛ أولم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عليها بتمر وسويق، فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ...) إلى قوله (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) .حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي، قال: أخبرني يونس، عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى المدينة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل في مبتنى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بزينب بنت جحش، أصبح رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بها عروسًا، فدعا القوم فأصابوا من الطعام حتى خرجوا وبقِي منهم رهط عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأطالوا المكث، فقام رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وخرج، وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ومشيت معه، حتى جاء عتبة حجرة عائشة زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ثم ظن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، حتى دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب بيني وبينه سترًا، وأُنزل الحجاب.حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أَبي عدي، عن حميد، عن أنس، قال: دعوت المسلمين إلى وليمة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، صبيحة بنى بزينب بنت جحش، فأوسعهم خبزًا ولحمًا، ثم رجع كما كان يصنع، فأتى حجر نسائه فسلم عليهن، فدعون له، ورجع إلى بيته وأنا معه، فلما انتهينا إلى الباب إذا رجلان قد جرى بهما الحديث في ناحية البيت، فلما أبصرهما ولى راجعًا، فلما رأيا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولَّى عن بيته، ولَّيا مسرعين، فلا أدري أنا أخبرته أو أخبر فرجع إلى بيته، فأرخي الستر بيني وبينه، ونزلت آية الحجاب.حدثني ابن بشار، قال: ثنا ابن أَبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: قلت لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لو حجبت عن أمهات المؤمنين؛ فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب.حدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أَبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية؛ آية الحجاب: لما أهديت زينب إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم صنع طعامًا، ودعا القوم، فجاءوا فدخلوا وزينب مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في البيت، وجعلوا يتحدثون، وجعل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يخرج ثم يدخل وهم قعود، قال: فنزلت هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ...) إلى (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) قال: فقام القوم وضرب الحجاب.حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد، قال: ثنا أبي، عن بيان، عن أنس بن مالك، قال: بنى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بامرأة من نسائه، فأرسلني فدعوت القوم إلى الطعام، فلما أكلوا وخرجوا، قام رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم منطلقًا قبل بيت عائشة، فرأى رجلين جالسين، فانصرف راجعًا، فأنزل الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ).حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أَبو داود، قال: ثنا المسعودي، قال: ثنا ابن نهشل، عن أَبي وائل عن عبد الله، قال: أمر عمر نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله (وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) .حدثني محمد بن مرزوق، قال: ثنا أشهل بن حاتم، قال: ثنا ابن عون، عن عمرو بن سعد، عن أنس، قال: وكنت مع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وكان &; 20-313 &; يمر على نسائه، قال: فأتى بامرأة عروس، ثم جاء وعندها قوم، فانطلق فقضى حاجته، واحتبس وعاد وقد خرجوا، قال: فدخل فأرخي بيني وبينه سترًا، قال: فحدثت أبا طلحة فقال: لئن كان كما تقول، لينزلن في هذا شيء، قال: ونزلت آية الحجاب.وقال آخرون: كان ذلك في بيت أم سلمة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ) قال: كان هذا في بيت أم سلمة، قال: أكلوا، ثم أطالوا الحديث، فجعل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يدخل ويخرج ويستحي منهم، والله لا يستحي من الحق.قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) قال: بلغنا أنهن أمرن بالحجاب عند ذلك.وقوله (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ) يقول: إن دخولكم بيوت النبي من غير أن يؤذن لكم وجلوسكم فيها مستأنسين للحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له كان يؤذي النبي فيستحي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتم فيها للحديث بعد الفراغ من الطعام، أو يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهيته لذلك منكم (وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أن يتبين لكم، وإن استحيا نبيكم فلم يبين لكم كراهية ذلك حياء منكم.( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) يقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعًا(فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) يقول تعالى ذكره: سؤالكم إياهن المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل.وقد قيل: إن سبب أمر الله النساء بالحجاب، إنما كان من أجل أن رجلا كان يأكل مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعائشة معهما، فأصابت يدها يد الرجل، فكره ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .* ذكر من قال ذلك:حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ؛ فنزلت آية الحجاب.وقيل: نزلت من أجل مسألة عمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .* ذكر من قال ذلك:حدثنا أَبو كريب ويعقوب، قالا ثنا هشيم، قال: ثنا حميد الطويل، عن أنس، قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟ قال: فنزلت آية الحجاب.حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا حميد، عن أنس، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه.حدثني أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثني عمرو بن عبد الله بن وهب، قال: ثني يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: إن أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع؛ وهو صعيد أفيح، وكان عمر يقول: يا رسول الله احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة، زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة؛ حرصًا أن ينزل الحجاب، قال: فأنزل الله الحجاب.حدثنا ابن وكيع ، قال: ثنا ابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: خرجت سودة لحاجتها بعد ما ضرب علينا الحجاب، وكأنت امرأة تفرع النساء طولا فأبصرها عمر، فناداها: يا سودة إنك والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين أو كيف تصنعين؟ فانكفأت فرجعت إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وإنه ليتعشى، فأخبرته بما كان وما قال لها، وإن في يده لعرقًا (7) فأوحي إليه ثم رفع عنه، وإن العرق لفي يده، فقال: " لَقَدْ أذنَ لَكُنَّ أنْ تَخْرجنَ لحَاجَتكُن ".حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا همام، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن أَبي وائل، عن ابن مسعود، قال: أمر عمر نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحجاب فقالت زينب: يا ابن الخطاب، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟ فأنزل الله (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) .حدثني أبو أيوب النهراني سليمان بن عبد الحميد، قال: ثنا يزيد بن عبد ربه، قال: ثني ابن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة؛ حرصًا على أن ينزل الحجاب، قالت عائشة: فأنزل الله الحجاب، قال الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا ...) الآية.وقوله (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله، وما يصلح ذلك لكم (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) يقول: وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا لأنهن أمهاتكم، ولا يحل للرجل أن يتزوج أمه.وذكر أن ذلك نزل في رجل كان يدخل قبل الحجاب، قال: لئن مات محمد لأتزوجن امرأة من نسائه سماها، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) .* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ) قال: ربما بلغ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن الرجل يقول: لو أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم توفي تزوجت فلانة من بعده، قال: فكان ذلك يؤذي النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ؛ فنزل القرآن (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ...) الآية .حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مات، وقد ملك قيلة بنت الأشعث، فتزوجها عكرِمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشق على أَبي بكر مشقة شديدة، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنها لم يخيرها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولم يحجبها، وقد برأها منه بالردة التي أرتدت مع قومها، فاطمأن أَبو بكر وسكن.حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود عن عامر، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم توفي وقد ملك بنت الأشعث بن قيس ولم يجامعها، ذكر نحوه.وقوله (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) يقول: إن أذاكم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيم من الإثم.-------------------الهوامش:(1) البيت للحطيئة (اللسان: أني). وآنيت الشيء: أخرته، والاسم منه الأناء على فعال بالفتح. يريد أنه آخر عشاءه إلى طلوع سهيل أو طلوع الشعري، فطال انتظاره. قال: ورواه أبو سعيد (الأصمعي): وأنيت، بتشديد النون. ويقال: أنيت الطعام في النار: إذا أطلعت مكثه. وأنى الشيء يأني أنيا وإني وأني: حان وأدرك. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة ص 1197) (إلى طعام غير ناظرين إناه) : أي إدراكه وبلوغه. ويقال: أنى لك يأني أنيا: أي بلغ وأدرك.تمخط المنون له بيومأني ولكل حاملة تمام.(2) البيتان: من مشطور الرجز، لرؤبة الراجز المشهور (ديوانه - طبعة ليبسج - سنة 1903 ص 87). وفي (اللسان: نول): أما نول فتقول: نولك أن تفعل كذا: أي ينبغي لك فعل كذا. وفي الصحاح: أي حقك أن تفعل كذا. وأصله من التناول، كأنه يقول: تناولك كذا وكذا. قال العجاج: (هاجت ... إلخ): أي حقه أن يكف. وقيل: الرجز لرؤبة. وأصل النول مصدر ناله بالخير ينوله نوالا، ونولا، ونيلا. ويقال: أناله بخير إنالة.(3) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة ص 69) ورواية البيت فيه:فَقُلنَا لَهُ هَذِهِ هاتِهابأَدْماءَ فِي حَبْلِ مُقْتادِهاوهي غير رواية المؤلف التي استشهد بها. وليس في رواية الديوان شاهد للمؤلف. والشاعر يمدح بالقصيدة سلامة ذافانش من أقيال اليمن. وفي مقدمة القصيدة أبيات في الغزل والخمر، ومنها هذا البيت. وقوله "هذه": إشارة إلى الخمر التي جاء بها الساقي يؤامر الشاعر في شربها ويساومه في ثمنها وقد رضي الشاعر بأن يشتري الخمر التي وصف، على أن يكون ثمنها ناقته الأدماء التي يقودها خادمه بحبلها، والأدمة في الإبل: البياض مع سواد المقلتين (اللسان). هذا تفسير البيت على رواية الديوان. فأما على رواية المؤلف، فإنه جعل إعراب (مقتادها) بالجر إتباعا لأدماء، لأنها نكرة، وإن كان الاقتياد لخادمه المفهوم من المقام، فهي صفة جارية على غير صاحبها، ولم يصرح بضمير النعت إذا كان لغير المنعوت فلا بد أن يقال: مقتادها أنت أي صاحب الخمر. أو يقول: مقتادها هو: أي يقتادها الخادم. فأما إذا كان المنعوت معرفة كما في قوله تعالى: (إلا أن يؤذون لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) فيجوز في (غير) النصب على الحال من الضمير في لكم، ويجوز الجر عند الكوفيين بالإتباع على النعت، وإن لم يبرز معه الضمير. وقد أوضح المؤلف المقام توضيحا كاملا، لا يحتاج معه إلى مزيد من القول.(4) البيتان للأعشى. وقد سبق الاستشهاد بهما في كلام المؤلف على مثل ما استشهد بهما عليه هنا (انظر 17 : 197). والشاهد في قوله: (لمحقوقة)، فإنه خبر عن قوله: (وإن امرءًا). والخبر، هنا: غير المخبر عنه، لأن المبتدأ هنا مذكر، والخبر مؤنث. وقد اختلف النحاة في مثل هذا فقال البصريون كان يجب أن يقول: (لمحقوقة أنت) بإبراز الضمير، لأن تركه يحدث لبسا في الكلام ولا يعلم المراد بالمحقوقة أي شخص هو؟ وأما الكوفيون فقد جوزوا في هذه الحالة وأمثالها في الخبر والنعت اللذين لا يطابقان صاحبهما، أن يبرز الضمير، وألا يبرز، على خلاف ما قاله البصريون، واستشهدوا ببيتي الأعشى على مجيء الخبر غير مطابق لما هو له، بدون إبراز الضمير. وحمل البصريون ذلك في البيت على الاتساع والحذف. (وانظر المسألة مفصلة في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف، بين البصريين والكوفيين، لأبي البركات عبد الرحمن بن الأنباري، طبع القاهرة ص 45 - 48 المسألة رقم 8).(5) هذان البيتان لم أجدهما في معاني القرآن للفراء، ولا في مجاز القرآن لأبي عبيدة. والشاهد فيهما أن قوله فميت معطوف على قوله: (أمسلمتي)، والمعطوف هنا غير المعطوف عليه في المعنى، فكان مقتضى ذلك أن يقول: فميت أنا، بإبراز الضمير على مذهب البصريين، ولكنه لم يبرز الضمير وهو موافق لمذهب الكوفيين الذين يقولون بجواز إبراز الضمير وعدم إبرازه، وهذا كثير في كلام العرب.(6) البيتان من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة 258) وروايته أصح من رواية المؤلف. ورامة، وعاقل ومنعج (في رواية المؤلف) ، ومنبج (في رواية الفراء): أسماء مواضع في جزيرة العرب، إلا منبج ففي الشام، قرب حلب، والبيتان مما أنشده أبو القمقام الفراء. والشاهد في قوله: (ولا مصعد) بالجر فإنه معطوف على (رائي) والمعطوف عليه منصوب، والمعطوف مجرور على توهم زيادة الباء في خبر ليس وهو المعطوف عليه الأول. كأنه قال: لست براء ولا مصعد. وقد ساق الفراء البيتين في توجيه إعراب قوله تعالى: (ولا مستأنسين) فإنه رده عطفا على (ناظرين إناه) بالجر، أو بالنصب إتباعا لغير. قال: ولو جعلت المستأنسين في موضع نصب: تتوهم أن تتبعه بغير، لما أن حلت بينهما بكلام. كذلك. وكذلك كل معنى احتمل وجهين، ثم فرقت بينهما بكلام جاز أن يكون الآخر معربا بخلاف الأول. من ذلك قولك: ما أنت بمحسن إلى من أساء إليه ولا مجملا.(7) العرق بفتح فسكون: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم. يقال: عرقت العظم، واعترقته وتعرقته: إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك (النهاية لابن الأثير).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53){ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا وَلاَ مُسْتَئنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكَ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحِى مِنكُمْ واللهُ لاَ يَسْتَحِى مِنَ الحَقِّ } .لما بين الله في الآيات السابقة آداب النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه قفّاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن ، وصدره بالإِشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية . وهي ما في «صحيح البخاري» وغيره عن أنس بن مالك قال : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنة جحش صنع طعاماً بخبز ولحم ودعا القوم فطعِموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيّأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام فلما قام قام مَن قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع فانطلق إلى حجرة عائشة . . . فتقَرَّى حُجَرَ نسائه كلهن يسلّم عليهن ويسلمن عليه ويدعون له ، ثم إنهم قاموا فانطلقتُ فجئت فأخبرتُ النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبتُ أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوت النبي } إلى قوله : { من وراء حجاب } .وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له : «يا رسول الله يدخل عليك البَّرُ والفاجر فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب» فأنزل الله آية الحجاب . وليس بين الخبرين تعارض لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل ثم عقبته قصة وليمة زينب فنزلت الآية بإثرها .وابتدىء شرع الحجاب بالنهي عن دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا لطعام دعاهم إليه ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام له مجلس يجلس في المسجد فمن كان له مهمّ عنده يأتيه هنالك .وليس ذكر الدعوة إلى طعام تقييداً لإباحة دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخلها إلا المدعو إلى طعام ولكنه مثال للدعوة وتخصيص بالذكر كما جرى في القضية التي هي سبب النزول فيلحق به كل دعوة تكون من النبي صلى الله عليه وسلم وكل إذن منه بالدخول إلى بيته لغير قصد أن يطعم معه كما كان يقع ذلك كثيراً . ومن ذلك قصة أبي هريرة حين استقرأ من عمر آية من القرآن وهو يطمع أن يَدعوه عمر إلى الغدَاء ففتح عليه الآية ودخل فإذا رسول الله قائم على رأس أبي هريرة وقد عرف ما به فانطلق به إلى بيته وأمر له بعُسّ من لبن ثم ثاننٍ ثم ثالث ، وإنما ذكر الطعام إدماجاً لتبيين آدابه ، ولذلك ابتدىء بقوله : { غير ناظرين إناه } مع أنه لم يقع مثله في قصة سبب النزول .وقرأ الجمهور { بيوت } بكسر الباء . وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء ، وقد تقدم في سورة النساء وغيرها .و { إناه } بكسر الهمزة وبالقصر : إما مصدر أَنَى الشيءُ إذا حان ، يقال : أنى يأنِي ، قال تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } [ الحديد : 16 ] . ومقلوبه : آن . وهو بمعناه . والمعنى : غير منتظرين حضور الطعام ، أي غير سابقين إلى البيوت وقبْل تهيئته .والاستثناء في { إلا أن يؤذن لكم } استثناء من عموم الأحوال التي يقتضيها الدخول المنهي عنه ، أي إلا حال أن يؤذن لكم .وضُمِّن { يؤذن } معنى تُدعون فعدي ب { إلى فكأنه قيل : إلا أن تُدعَوْا إلى طعام فيؤذن لكم لأن الطفيلي قد يؤذن له إذا استأذن وهو غير مدعو فهي حالة غير مقصودة من الكلام .فالكلام متضمن شرطين هما : الدعوة ، والإِذن ، فإن الدعوة قد تتقدم على الإذن وقد يقترنان كما في حديث أنس بن مالك .وغير ناظرين } حال من ضمير { لكم } فهو قيد في متعلق المستثنى فيكون قيداً في قيدٍ فصارت القيود المشروطة ثلاثة .و { ناظرين } اسم فاعل من نظَر بمعنى انتظر ، كقوله تعالى : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } [ يونس : 102 ] الآية .ومعنى ذلك : لا تحضروا البيوت للطعام قبل تهيئة الطعام للتناول فتقعدوا تنتظرون نُضجه . وعن ابن عباس نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي فيدخلون قبل أن يُدرك الطعام فيقعدون إلى أن يُدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ا ه . وقد يقتضي أن ذلك تكرر قبل قضية النَفر الذين حضروا وليمة البناء بزينب فتكون تلك القضية خاتمة القضايا ، فكُني بالانتظار عن مبادرة الحضور قبل إبان الأكل . ونكتة هذه الكناية تشويه السبق بالحضور بجعله نهماً وجشعاً وإن كانوا قد يحضرون لغير ذلك ، وبهذا تعلم أن ليس النهي متوجهاً إلى صريح الانتظار .وموقع الاستدراك لرفع توهم أن التأخر عن إبان الطعام أفضل فأرشد الناس إلى أن تأخر الحضور عن إبان الطعام لا ينبغي بل التأخر ليس من الأدب لأنه يجعل صاحب الطعام في انتظار ، وكذلك البقاء بعد انقضاء الطعام فإنه تجاوز لحد الدعوة لأن الدعوة لحضور شيء تقتضي مفارقة المكان عند انتهائه لأن تقيد الدعوة بالغرض المخصوص يتضمن تحديدها بانتهاء ما دُعي لأجله ، وكذلك الشأن في كل دخول لغرض من مشاورة أو محادثة أو سمَر أو نحو ذلك ، وكل ذلك يتحدد بالعرف وما لا يَثقل على صاحب المحل ، فإن كان محل لا يختص به أحد كدار الشورى والنادي فلا تحديد فيه .و { طعمتم } معناه أكلتم ، يقال : طعم فلان فهو طاعم ، إذا أكل .والانتشار : افتعال من النشر ، وهو إبداء ما كان مطوياً ، أطلق على الخروج مجازاً وتقدم في قوله :{ وجعل النهار نُشوراً } في سورة الفرقان ( 47 ) .والواو في ولا مستأنسين } عطف على { ناظرين } وما بينهما من الاستدراك وما تفرع عليه اعتراض بين المتعاطفين . وزيادة حرف النفي قبل { مستأنسين } لتأكيد النفي كما هو الغالب في العطف على المنفي وفي تصدير المنفي نحو قوله : { فلا وربك يؤمنون } الآية [ النساء : 65 ] وقوله : { لا يسخر قوم من قوم } [ الحجرات : 11 ] ثم قوله : { ولا نساء من نساء } [ الحجرات : 11 ] .والاستئناس : طلب الأنس مع الغير . واللام في { لحديث } للعلة ، أي ولا مستأنسين لأجل حديث يجري بينكم .والحديث : الخبر عن أمر حدث ، فهو في الأصل صفة حُذف موصوفها ثم غلبت على معنى الموصوف فصار بمعنى الإِخبار عن أمر حدث ، وتُوسّع فيه فصار الإِخبار عن شيء ولو كان أمراً قد مضى . ومنه سمي ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً كما يسمى خبراً ، ثم توسع فيه فصار يطلق على كل كلام يجري بين الجلساء في جد أو فكاهة ، ومنه قولهم : حديثُ خرافة ، وقول كثير :أخذنا باكتراث الأحاديث تبييناً ... . . . . البيتواستئناس الحديث : تسمُّعه والعناية بالإِصغاء إليه ، قال النابغة :كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... يوم الجليل على مُستأنس وَحَدِأي كأني راكب ثوراً وحشياً منفرداً تسمَّع صوت الصائد فأسرع الهروب .وإضافة { بيوت النبي } على معنى لام الملك لأن تلك البيوت ملك له ملكها بالعطية من الذين كانت ساحة المسجد ملكاً لهم من الأنصار ، وبالفيء لقبور المشركين التي كانت ثمة ، فإن المدينة فتحت بكلمة الإِسلام فأصبحت داراً للمسلمين . ومصير تلك البيوت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصير تركته كلها فإنه لا يورث وما تركه ينتفع منه أزواجه وآله بكفايتهم حياتهم ثم يرجع ذلك للمسلمين كما قضى به عمر بين علي والعباس فيما كان للنبيء صلى الله عليه وسلم من فَدَك ونخللِ بني النضير ، فكان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حق السكنى في بيوتهن بعده حتى توفّاهن الله من عند آخرتهن ، فلذلك أدخلها الخلفاء في المسجد حين توسعته في زمن الوليد بن عبد الملك وأمير المدينة يومئذٍ عمر بن عبد العزيز . ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ولم يُعطَ ورثتُهن شيئاً ولا سألوه . وإضافتها إلى ضميرهن في قوله : { ما يتلى في بيوتكن } [ الأحزاب : 34 ] على معنى لام الاختصاص لا لام الملك .قال حماد بن زيد وإسماعيل بن أبي حكيم : هذه الآية أدبٌ أدَّبَ اللَّهُ به الثقلاء ، وقال ابنُ أبي عائشة : حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم .ومعنى الثقل فيه هو إدخال أحَدٍ القلقَ والغمّ على غيره من جراء عمل لفائدة العامل أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل . وهو من مساوىء الخلق لأنه إن كان عن عمد كان ضراً بالناس وهو منهي عنه لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند نفاد صبر المضرور ، فإن النفوس متفاوتة في مقدار تحمل الأذى ، ولأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فعليه إذا أحس بأن قوله أو فعله يُخدل الغم على غيره أن يكف عن ذلك ولو كان يجتني منه منفعة لنفسه إذ لا يُضر بأحد لينتفع غيره إلا أن يكون لمن يأتي بالعمل حق على الآخر فإن له طلبه مع أنه مأمور بحسن التقاضي ، وإن كان إدخاله الغم على غيره عن غباوة وقلة تفطن له فإنه مذموم في ذاته وهو يصل إلى حدّ يكون الشعور به بديهياً .وللحكماء والشعراء أقوال كثيرة في الثقلاء طفحت بها كتب أدب الأخلاق .ومعاملة الناس النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق أشد بعداً عن الأدب لأن للنبيء صلى الله عليه وسلم أوقاتاً لا تخلو ساعة منها عن الاشتغال بصلاح الأمة ويجب أن لا يَشغل أحد أوقاتَه إلا بإذنه ، ولذلك قال تعالى : { إلا أن يؤذن لكم } .والأمر في قوله : { فادخلوا } للندب لأن إجابة الدعوة إلى الوليمة سنة ، وتقييد النهي بقوله : { غير ناظرين إناه } للتنزيه لأن الحضور قبل تهيّؤ الطعام غير مقتضى للدعوة ولا يتضمنه الإِذن فهو تطفل .والأمر في قوله : { فانتشروا } للوجوب لأن دخول المنزل بغير إذن حرام ، وإنما جاز بمقتضى الدعوة للأكل فهو إذن مقيد المعنى بالغرض المأذوننِ لأجله فإذا انقضى السبب المبيح للدخول عاد تحريم الدخول إلى أصله؛ إلا أنه نظري قد يُغفل عنه لأن أصله مأذون فيه والمأذون فيه شرعاً لا يتقيّد بالسلامة إلا إذا تجاوز الحد المعروف تجاوزاً بيناً . وعطف { ولا مستأنسين لحديث } راجع إلى هذا الأمر بقوله : { فانتشروا } فلذلك ذكر عقبه فإن استدامة المكث في معنى الدخول ، فذكر بإثره وحصل تفنن في الكلام .وفي هذه الآية دليل على أن طعام الوليمة وطعام الضيافة ملك للمتضيف وليس ملكاً للمدعوين ولا للأضياف لأنهم إنما أذن لهم في الأكل منه خاصة ولم يملكوه فلذلك لا يجوز لأحد رفع شيء من ذلك الطعام معه .وجملة { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم } استئناف ابتدائي للتحذير ودفع الاغترار بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسبوه رضي بما فعلوا . فمناط التحذير قوله : { ذلكم كان يؤذي النبي } فإن أذى النبي صلى الله عليه وسلم مقرر في نفوسهم أنه عمل مذموم لأن النبي عليه الصلاة والسلام أعز خلق في نفوس المؤمنين وذلك يقتضي التحرز مما يؤذيه أدنى أذى . ومناط دفع الاغترار قوله : { فيستحيي منكم } فإن السكوت قد يظنه الناس رضى وإذناً وربما تطرق إلى أذهان بعضهم أن جلوسهم لو كان محظوراً لما سكت عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأرشدهم الله إلى أن السكوت الناشىء عن سبببٍ هو سكوت لا دلالة له على الرضى وأنه إنما سكت حياء من مباشرتهم بالإخراج فهو استحياء خاص من عمل خاص .وإنما كان ذلك مؤذياً النبي صلى الله عليه وسلم لأن فيه ما يحول بينه وبين التفرغ لشؤون النبوءة من تلقي الوحي أو العبادة أو تدبير أمر الأمة أو التأخر عن الجلوس في مجلسه لنفع المسلمين ولشؤون ذاته وبيته وأهله . واقتران الخبر بحرف { إنّ } للاهتمام به . ولك أن تجعله من تنزيل غير المُتردد منزلة المتردد لأن حال النفَر الذين أطالوا الجلوس والحديث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعدم شعورهم بكراهيته ذلك منهم حين دخل البيت فلما وجدهم خرج ، فغفلوا عما في خروج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت من إشارة إلى كراهيتِهِ بقاءَهم ، تلك حالة من يظن ذلك مأذوناً فيه فخوطبوا بهذا الخطاب تشديداً في التحذير واستفاقة من التغرير .وإقحام فعل { كان } لإِفادة تحقيق الخبر .وصيغ { يؤذي } بصيغة المضارع دون اسم الفاعل لقصد إفادة أذى متكرر ، والتكرير كناية عن الشدة .والأذى : ما يكدر مفعوله ويسيء من قول أو فعل . وتقدم في قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } في آل عمران ( 111 ) ، وهو مراتب متفاوتة في أنواعه .والتفريع في قوله : { فيستحيي منكم } تفريع على مقدر دلت عليه القصة . والتقدير : فيهمّ بإخراجكم فيستحيي منكم إذ ليس الاستحياء مفرعاً على الإِيذاء ولا هو من لوازمه .ودخول { مِن } المتعلقة ب { يستحيي } على ضمير المخاطبين على تقدير مضاف ، أي يستحيي من إعلامكم بأنه يؤذيه .وتعدية المشتقات من مادة الحياء إلى الذوات شائع يساوي الحقيقة لأن الاستحياء يختلف باختلاف الذوات ، فقولك : أردت أن أفعل كذا فاستحيت من فلان ، يجوز أن تكون الحقيقة هي التعليق بذات فلان وأن تكون هي التعليق بالأحوال الملابسة له التي هي سبب الاستحياء لأجل ملابستها له . ولك أن تقول : استحييت من أن أفعل كذا بمرأى من فلان . وعلى التقدير الأول تكون { مِن } للتعليل ، وعلى التقدير الثاني تكون { مِن } للابتداء . وظاهر كلام «الكشاف» يقتضي أن : استحييت من فلان مجاز أو توسع ، وأن : استحييت من فعل كذا لأجل فلان هو الحقيقة . وظاهر كلام صاحب «الكشاف» عكس ذلك والأمر هيّن .وصيغ فعل { يستحيي } بصيغة المضارع لأنه مفرع على { يؤذي النبي } ليدل على ما دل عليه المفرع هو عليه .وفي هذه الآية دليل على أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعدياً على حق لذاته لا يدل سكوته فيه على جواز الفعل لأن له أن يسامح في حقه ، ولكن يؤخذ الحظر أو الإِباحة في مثله من أدلة أخرى مثل قوله تعالى هنا : { إن ذلكم كان يؤذي النبي } ولذلك جزم علماؤنا بأن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بالصراحة أو الالتزام يعزر على ذلك بحسب مرتبة الأذى والقصدِ إليه بعد توقيفه على الخفي منه وعدم التوبة مما تقبل في مثله التوبة منه .ولم يجعلوا في إعراض النبي عليه الصلاة والسلام عن مؤاخذة من آذاه في حياته دليلاً على مشروعية تسامح الأمة في ذلك لأنه كان له أن يعفو عن حقه لقوله تعالى : { فاعف عنهم } [ المائدة : 13 ] وقوله : { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } [ آل عمران : 159 ] . فهذا ملاك الجمع بين الإِيذاء والاستحياءِ والحقّ في هذه الآية ، فقد تولى الله تعالى الذبّ عن حق رسوله وكفاه مؤونة المضض الداعي إليه حياؤه . وقد حقق هذا المعنى وما يحف به القاضي أبو الفضل عياض في تضاعيف القسم الرابع من كتابه «الشفاء» .فإن قلت : ورد في الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من البيت ليقومَ الثلاثةُ الذين قعَدُوا يتحدثون ، فلماذا لم يأمرهم بالخروج بدلاً من خروجه هو . قلت : لأن خروجه غيرُ صريح في كراهية جلوسهم لأنه يحتمل أن يكون لغرض آخر ، ويحتمل أن يكون لقصد انفضاض المجلس فكان من واجب الألمعية أن يخطر ببالهم أحد الاحتمالين فيتحفزوا للخروج فليس خروجه عنهم بمناف لوصف حيائه صلى الله عليه وسلموجملة { والله لا يستحيي من الحق } معطوفة على جملة { فيستحيي منكم } والمعنى : أن ذلك سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان يستحيي منكم فلا يباشركم بالإِنكار ترجيحاً منه للعفو عن حقه على المؤاخذة به فإن الله لا يستحيي من الحق لأن أسباب الحياء بين الخلق منتفية عن الخالق سبحانه : { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] .وصيغت الجملة المعطوفة على بناء الجملة الاسمية مخالِفةً للمعطوفة هي عليها فلم يقل : ولا يستحيي الله من الحق ، للدلالة على أن هذا الوصف ثابت دائم لله تعالى لأن الحق من صفاته ، فانتفاء ما يمنع تبليغه هو أيضاً من صفاته لأن كل صفة يجب اتصاف الله بها فإن ضدها يستحيل عليه تعالى .والتعريف في { الحق } تعريف الجنس المراد منه الاستغراق مثل التعريف في { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] . والمعنى : والله لا يستحيي من جميع أفراد جنس الحق .و { الحق } : ضد الباطل . فمنه حق الله وحق الإِسلام ، وحق الأمة جمعاء في مصالحها وإقامة آدابها ، وحق كل فرد من أفراد الأمة فيما هو من منافعه ودفع الضر عنه .ويشتمل حقَ النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وأوقاته ، وبهذا العموم في الحق صارت الجملة بمنزلة التذييل .و { مِن } في قوله : { من الحق } ليست مثل { من } التي في قوله : { فيستحيي منكم } لأن { مِن هذه متعينة لكونها للتعليل إذ الحق لا يُستحيَى من ذاته فمعنى إن الله لا يستحيي من الحق أنه لا يستحيي لبيانه وإعلانه .وقد أفاد قوله : والله لا يستحيي من الحق } أن من واجبات دِين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق الإِسلامي في إقامته ، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته ، وفي إبلاغه وهو تعليمه ، وفي الأخذ به ، إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمص حقاً راجعاً إلى غيره لأن الناس مأمورون بالتخلق بصفات الله تعالى اللائقة بأمثالهم بقدر الإِمكان .وهذا المعنى فهمته أمُّ سُليم وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على فهمها ، فقد جاء في الحديث الصحيح : " عن أم سَلَمة قالت : جاءت أم سُليم إلى النبي فقالت : يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله : نعم إذا رأت الماء " . فهي لم تستح في السؤال عن الحق المتعلق بها ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستححِ في إخبارها بذلك . ولعلها لم تجد من يسأل لها أو لم تر لزاماً أن تستنيب عنها من يسأل لها عن حكم يخص ذاتها . وقد رأى علي بن أبي طالب الجمع بين طلب الحق وبين الاستحياء ، ففي «الموطأ» عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه؟ قال علي : فإن عندي ابنة رسول الله وأنا أستحيي أن أسأله» الحديث .على أن بين قضية أم سُليم وقضية علي تفاوتاً من جهات في مقتضى الاستحياء لا تخفى على المتبصر .واعلمْ أن في ورود { يؤذي } هنا ما يبطل المثال الذي أورده ابن الأثير في كتاب «المثل السائر» شاهداً على أن الكلمة قد تروق السامعَ في كلام ثم تكون هي بعينها مكروهة للسامع . وجاء بكلمة { يؤذي } في هذه الآية ، ونظيرها ( تؤذي ) في قول المتنبي :تَلذ له المروءة وهي تُوذي ... وزعم أن وجودها في البيت يحط من قدر المعنى الشريف الذي تضمنه البيت وأحال في الجزم بذلك على الطبع السليم ، ولا أحسب هذا الحكم إلا غضباً من ابن الأثير لا تُسوِّغه صناعة ولا يشهد به ذوق ، ولقد صرف أيمة الأدب همهم إلى بحث شعر المتنبي ونقده فلم يَعُدَّ عليه أحد منهم هذا منتقَداً ، مع اعتراف ابن الأثير بأن معنى البيت شريف فلم يبق له إلا أن يزعم أن كراهة هذا اللفظ فيه راجعة إلى أمر لفظي من الفصاحة ، وليس في البيت شيء من الإِخلال بالفصاحة وكأنه أراد أن يقفي على قدم الشيخ عبد القاهر فيما ذكر في الفصل الذي جعله ثانياً من كتاب «دلائل الإعجاز» فإن ما انتقده الشيخ في ذلك الفصل من مواقع بعض الكلمات لا يخلو من رجوع نقده إياها إلى أصول الفصاحة أو أصول تناسب معاني الكلمات بعضها مع بعض في نظم الكلام ، وشتان ما بين الصنيعين .{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا فاسالوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ } .عطف على جملة { لا تدخلوا بيوت النبي } فهي زيادة بيان للنهي عن دخول البيوت النبوية وتحديد لمقدار الضرورة التي تدعو إلى دخولها أو الوقوف بأبوابها .وهذه الآية هي شارعة حكم حجاب أمهات المؤمنين ، وقد قيل : إنها نزلت في ذي القعدة سنة خمس .وضمير { سألتموهن } عائد إلى الأزواج المفهوم من ذِكر البيوت في قوله : { بيوت النبي } فإن للبيوت ربَّاتهن وزوجُ الرجل هي ربة البيت ، قال مرة بن مَحْكَان التميمي :يا ربةَ البيت قُومي غيرَ صاغرة ... ضمّي إليك رجال الحي والغُرباوقد كانوا لا يبني الرجل بيتاً إلا إذا أراد التزوج . وفي حديث ابن عمر : كنت عزباً أبيت في المسجد . ومن أجل ذلك سَموا الزفاف بناء . فلا جرم كانت المرأة والبيت متلازمين فدَلت البيوت على الأزواج بالالتزام . ونظير هذا قوله تعالى : { وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين } [ الواقعة : 34 38 ] فإن ذكر الفرش يستلزم أن للفراش امرأة ، فلما ذكر البيوت هنا تبادر أن للبيوت رباتتٍ .والمتاع : ما يحتاج إلى الانتفاع به مثل عارية الأواني ونحوها ، ومثل سؤال العفاة ويلحق بذلك ما هو أولى بالحكم من سؤاللٍ عن الدِّين أو عن القرآن ، وقد كانوا يسألون عائشة عن مسائل الدين .والحجاب : السَّتْر المُرخَى على باب البيت .وكانت الستور مرخاة على أبواب بيوت النبي صلى الله عليه وسلم الشارعة إلى المسجد . وقد ورد ما يبين ذلك في حديث الوفاة حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وهم في الصلاة فكشف الستر ثم أرخى الستر .و { من وراء حجاب } متعلق ب { فاسألوهن } فهو قيد في السائل والمسؤول المتعلق ضميراهما بالفعل الذي تعلق به المجرور . و { من } ابتدائية . والوراء : مكان الخلف وهو مكان نسبي باعتبار المتجه إلى جهة ، فوراء الحجاب بالنسبة للمتجهين إليه فالمسؤولة مستقبلة حجابها والسائل من وراء حجابها وبالعكس .والإِشارة ب { ذلكم } إلى المذكور ، أي السؤال المقيد بكونه من وراء حجاب .واسم التفضيل في قوله : { أطهر } مستعمل للزيادة دون التفضيل .والمعنى : ذلك أقوى طهارة لقلوبكم وقلوبهن فإن قلوب الفريقين طاهرة بالتقوى وتعظيم حرمات الله وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لما كانت التقوى لا تصل بهم إلى درجة العصمة أراد الله أن يزيدهم منها بما يكسب المؤمنين مراتب من الحفظ الإِلهي من الخواطر الشيطانية بقطع أضعف أسبابها وما يقرب أمهات المؤمنين من مرتبة العصمة الثابتة لزوجهن صلى الله عليه وسلم فإن الطيبات للطيبين بقطع الخواطر الشيطانية عنهن بقطع دابرها ولو بالفرض .وأيضاً فإن للناس أوهاماً وظنوناً سُوأَى تتفاوت مراتب نفوس الناس فيها صرامة ووهناً ، ونَفَاقاً وضعفاً ، كما وقع في قضية الإِفك المتقدمة في سورة النور فكان شَرع حجاب أمهات المؤمنين قاطعاً لكل تقول وإرجاف بعمد أو بغير عمد .ووراء هذه الحِكَم كلها حكمة أخرى سامية وهي زيادة تقرير معنى أمومتهن للمؤمنين في قلوب المؤمنين التي هي أُمومة جَعلية شرعية بحيث إن ذلك المعنى الجعلي الروحي وهو كونهن أمهات يرتد وينعكس إلى باطن النفس وتنقطع عنه الصور الذاتية وهي كونهن فلانة أو فلانة فيصبحْن غير متصوَّرات إلا بعنوان الأمومة فلا يزال ذلك المعنى الروحي ينمى في النفوس ، ولا تزال الصور الحسية تتضاءل من القوة المدركة حتى يصبح معنى أمهات المؤمنين معنى قريباً في النفوس من حقائق المجردات كالملائكة ، وهذه حكمة من حكم الحجاب الذي سنه الناس لملوكهم في القدم ليكون ذلك أدخل لطاعتهم في نفوس الرعية .وبهذه الآية مع الآية التي تقدمتها من قوله : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } [ الأحزاب : 32 ] تحقق معنى الحجاب لأمهات المؤمنين المركبُ من ملازمتهن بيوتهن وعدممِ ظهور شيء من ذواتهن حتى الوجه والكفين ، وهو حجاب خاص بهن لا يجب على غيرهن ، وكان المسلمون يقتدون بأمهات المؤمنين ورعاً وهم متفاوتون في ذلك على حسب العادات ، ولما أنشد النميري عند الحجاج قوله :يُخمرن أطرافَ البنان من التقى ... ويَخرجن جَنح الليللِ مُعْتَجِراتقال الحجاج : وهكذا المرأة الحرة المسلمة .ودل قوله : { لقلوبكم وقلوبهن } أن الأمر متوجه لرجال الأمة ولنساء النبي صلى الله عليه وسلم على السواء . وقد أُلحق بأزواج النبي عليه السلام بنته فاطمة فلذلك لما خرجوا بجَنازتها جعلوا عليها قبة حتى دُفنت ، وكذلك جعلت قبة على زينبَ بنت جَحش في خلافة عمر بن الخطاب .{ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيمًا } .لما جيء في بيان النهي عن المكث في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يؤذيه أُتبع بالنهي عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم نهياً عاماً ، فالخطاب في { لكم } للمؤمنين المفتتح بخطابهم آية : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } الآية .والواو عاطفة جملة على جملة أو هي واو الاعتراض بين جملة { وإذا سألتموهن متاعاً } وجملة { لا جناح عليهن في آبائهن } [ الأحزاب : 55 ] .ودلت جملة { ما كان لكم } على الحظر المؤكد لأن { ما كان لكم } نفيٌ للاستحقاق الذي دلت عليه اللام ، وإقحام فعل { كان } لتأكيد انتفاء الإِذن . وهذه الصيغة من صيغ شدة التحريم .وتضمنت هذه الآية حكمين :أحدهما : تحريم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأذى : قول يقال له ، أو فعل يُعامل به ، من شأنه أن يغضبه أو يسوءه لذاته .والأذى تقدم في أول هذه الآيات آنفاً . والمعنى : أن أذى النبي عليه الصلاة والسلام محظور على المؤمنين . وانظر الباب الثالث من القسم الثاني من كتاب «الشفاء» لعياض .والحكم الثاني : تحريم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بقوله تعالى : { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } وهو تقرير لحكم أُمومة أزواجه للمؤمنين السالف في قوله : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] .وقد حُكيت أقوال في سبب نزول هذه الآية : منها أن رجلاً قال : لو مات محمد تزوجتُ عائشة ، أي قاله بمسمع ممن نقلَه عنه فقيل : هذا الرجل من المنافقين وهذا هو المظنون بقائل ذلك . وقيل : هو من المؤمنين ، أي خطر له ذلك في نفسه ، قاله القرطبي . وذكروا رواية عن ابن عباس وعن مقاتل أنه طلحة بن عبيْد الله . وقال ابن عباس : كانت هفوة منه وتاب وكفَّر بالحج ماشياً وبإِعتاق رقاب كثيرة وحمل في سبيل الله على عشرة أفراس أو أبعرة . وقال ابن عطية : هذا عندي لا يصح على طلحة والله عاصمه من ذلك ، أي إنْ حمل على ظاهر صدور القول منه فأما إن كان خطر له ذلك في نفسه فذلك خاطر شيطاني أراد تطهير قلبه فيه بالكفارات التي أعطاها إن صح ذلك . وأقول : لا شك أنه من موضوعات الذين يطعنون في طلحة بن عبيد الله . وهذه الأخبار واهية الأسانيد ودلائل الوضع واضحة فإن طلحة إن كان قال ذلك بلسانه لم يكن ليخفى على الناس فكيف يتفرد بروايته من انفرد . وإن كان خطر ذلك في نفسه ولم يتكلم به فمن ذا الذي اطَّلع على ما في قلبه ، وليس بمتعين أن يكون لنزول هذه الآية سبب . فإن كان لها سبب فلا شك أنه قول بعض المنافقين لما يؤذن به قوله تعالى عَقب هذه الآيات { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 60 ] الآية . وإنما شرعت الآية أن حكم أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حكم دائم في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أو من بعده ولذلك اقتصر هنا على التصريح بأنه حكم ثابت من بعد ، لأن ثبوت ذلك في حياته قد عُلم من قوله : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] .وإضافة البعدية إلى ضمير ذات النبي عليه الصلاة والسلام تُعيِّن أن المراد بعد حياته كما هو الشائع في استعمال مثل هذه الإِضافة فليس المراد بعد عصمته من نحو الطَلاق لأن طلاق النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه غير محتمل شرعاً لقوله : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } [ الأحزاب : 52 ] .وأكد ظرف ( بعدُ ) بإدخال { من الزائدة عليه ، ثم أكد عمومه بظرف { أبداً } ليُعلم أن ذلك لا يتطرقه النسخ ثم زيد ذلك تأكيداً وتحذيراً بقوله : { إن ذلكم كان عند الله عظيماً } ، فهو استئناف مؤكد لمضمون جملة { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } . والإِشارة إلى ما ذكر من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وتزوج أزواجه ، أي ذلكم المذكورُ .والعظيم هنا في الإثم والجريمة بقرينة المقام .وتقييد العظيم بكونه عند الله للتهويل والتخويف لأنه عظيم في الشناعة .وعلة كون تزوج أحد المسلمين إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم إثماً عظيماً عند الله ، أن الله جعل نساء النبي عليه الصلاة والسلام أمهات للمؤمنين فاقتضى ذلك أن تزوج أحد المسلمين إحداهن له حكم تزوج المرء أمَّه ، وذلك إثم عظيم .واعلم أنه لم يتبين هل التحريم الذي في الآية يختص بالنساء اللاتي بنى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو يعم كل امرأة عقد عليها مثل الكندية التي استعاذت منه فقال لها : الحقي بأهلك ، فتزوجها الأشعث بن قيس في زمن عمر بن الخطاب . ومثل قتيلة بنت قيس الكلبية التي زوّجها أخوها الأشعث بن قيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حملها معه إلى حضرموت فتوفي رسول الله قبل قفولهما فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وأن أبا بكر همّ بعقابه فقال له عمر : إن رسول الله لم يدخل بها .والمرويات في هذا الباب ضعيفة . والذي عندي أن البناء والعقد كانا يكونان مقترنيْن وأن ما يسبق البناء مما يسمونه تزويجاً فإنما هو مراكنة ووعد ، ويدل لذلك ما في الصحيح أن رسول الله لما أحضرت إليه الكندية ودخل عليها رسول الله فقال لها : هبي لي نفسك ( أي ليعلم أنها رضيت بما عقد لها وليها ) فقالت : ما كان لملكة أن تهب نفسها لسوقة أعوذ بالله منك . فقال لها : لقد استعذت بمعاذ . فذلك ليس بطلاق ولكنه رجوع عن التزوج بها دال على أن العقد لم يقع وأن قول عمر لأبي بكر أو قول من قال لعمر : إن رسول الله لم يدخل بها هو كناية عن العقد .وعن الشافعي تحريم تزوج من عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إمام الحرمين والرافعي أن التحريم قاصر على التي دخل بها . على أنه يظهر أن الإضافة في قوله : { أزواجه } بمعنى لام العهد ، أي الأزواج اللائي جاءت في شأنهن هذه الآيات من قوله : { لا يحل لك النساء من بعد } [ الأحزاب : 52 ] فهن اللاءِ ثبت لهن حكم الأمهات .وبعد فإن البحث في هذه المسألة مجرد تفقه لا يبنى عليه عمل .
الآية 53 - سورة الأحزاب: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم...)