سورة الأحزاب (33): مكتوبة كاملة مع التفسير التحميل

تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة الأحزاب بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة الأحزاب مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.

معلومات عن سورة الأحزاب

سُورَةُ الأَحۡزَابِ
الصفحة 425 (آيات من 51 إلى 54)

۞ تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـْٔوِىٓ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ۖ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعْدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَٰجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيبًا يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَدْخُلُوا۟ بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ إِلَّآ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُوا۟ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنتَشِرُوا۟ وَلَا مُسْتَـْٔنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى ٱلنَّبِىَّ فَيَسْتَحْىِۦ مِنكُمْ ۖ وَٱللَّهُ لَا يَسْتَحْىِۦ مِنَ ٱلْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَٰعًا فَسْـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا۟ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓا۟ أَزْوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦٓ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا إِن تُبْدُوا۟ شَيْـًٔا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا
425

الاستماع إلى سورة الأحزاب

تفسير سورة الأحزاب (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي)

الترجمة الإنجليزية

Turjee man tashao minhunna watuwee ilayka man tashao wamani ibtaghayta mimman AAazalta fala junaha AAalayka thalika adna an taqarra aAAyunuhunna wala yahzanna wayardayna bima ataytahunna kulluhunna waAllahu yaAAlamu ma fee quloobikum wakana Allahu AAaleeman haleeman

تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51){ تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً } .استئناف بياني ناشىء عن قوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } إلى قوله : { لكيلا يكون عليك حرج } [ الأحزاب : 50 ] فإنه يثير في النفس تطلباً لبيان مدى هذا التحليل . والجملةُ خبر مستعمل في إنشاء تحليل الإِرجاء والإِيواء لمن يشاء النبي صلى الله عليه وسلموالإِرجاء حقيقته : التأخير إلى وقت مستقبل . يقال : أرجأت الأمر وأرجيْته مهموزاً ومخففاً ، إذا أخرته .وفعله ينصرف إلى الأحوال لا الذوات ، فإذا عدي فعله إلى اسم ذات تعين انصرافه إلى وصف من الأوصاف المناسبة والتي تراد منها ، فإذا قلت : أرجأت غريمي ، كان المراد : أنك أخرت قضاء دينه إلى وقت يأتي .والإِيواء : حقيقته جعل الشيء آوياً ، أي راجعاً إلى مكانه . يقال : آوى ، إذا رجع إلى حيث فارق ، وهو هنا مجاز في مطلق الاستقرار سواء كان بعد إبعاد أم بدونه ، وسواء كان بعد سبق استقرار بالمكان أم لم يكن .ومقابلة الإِرجاء بالإِيواء تقتضي أن الإِرجاء مراد منه ضد الإِيواء أو أن الإِيواء ضد الإِرجاء وبذلك تنشأ احتمالات في المراد من الإِرجاء والإِيواء صريحهما وكنايتهما .فضمير { منهن } عائد إلى النساء المذكورات ممن هن في عصمته ومن أحل الله له نكاحهن غيرهن من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ، والواهبات أنفسهن ، فتلك أربعة أصناف :الصنف الأول : وهنّ اللاء في عصمة النبي عليه الصّلاة والسّلام فهن متصلن به فإرجاء هذا الصنف ينصرف إلى تأخير الاستمتاع إلى وقت مستقبل يريده ، والإِيواء ضده . فيتعين أن يكون الإِرجاء منصرفاً إلى القَسْم فوسع الله على نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن أباح له أن يسقط حق بعض نسائه في المبيت معهن فصار حق المبيت حقاً له لا لهن بخلاف بقية المسلمين ، وعلى هذا جرى قول مجاهد وقتادة وأبي رزين ، قاله الطبري .وقد كانت إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم أسقطت عنه حقها في المبيت وهي سودة بنت زمعة ، وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة وكان ذلك قبل نزول هذه الآية ، ولما نزلت هذه الآية صار النبي عليه الصلاة والسلام مخيراً في القسم لأزواجه . وهذا قول الجمهور ، قال أبو بكر بن العربي : وهو الذي ينبغي أن يعول عليه . وهذا تخيير للنبيء صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يأخذ لنفسه به تكرماً منه على أزواجه . قال الزهري . ما علمنا أن رسول الله أرجأ أحداً من أزواجه بل آواهن كلَّهن .قال أبو بكر بن العربي : وهو المعنى المراد . وقال أبو رَزين العُقيلي : أرجأ ميمونة وسَودة وجويرية وأم حبيبة وصفية ، فكان يقسم لهن ما شاء ، أي دون مساواة لبقية أزواجه . وضعفه ابن العربي .وفسر الإِرجاء بمعنى التطليق ، والإِيواءُ بمعنى الإِبقاء في العصمة ، فيكون إذناً له بتطليق من يشاء تطليقها وإطلاق الإِرجاء على التطليق غريب .وقد ذكروا أقوالاً أخر وأخباراً في سبب النزول لم تصح أسانيدها فهي آراء لا يوثق بها . ويشمل الإِرجاء الصنف الثاني وهن ما ملكت يمينه وهو حكم أصلي إذ لا يجب للإِماء عدل في المعاشرة ولا في المبيت .ويشمل الإِرجاء الصنف الثالث وهن : بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ، فالإِرجاء تأخير تزوج مَن يحلّ منهن ، والإِيواء العقد على إحداهن ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج واحدة بعد نزول هذه الآية ، وذلك إرجاء العمل بالإِذن فيهن إلى غير أجل معين .وكذلك إرجاء الصنف الرابع اللاء وهَبْن أنفسهن ، سواء كان ذلك واقعاً بعد نزول الآية أم كان بعضه بعد نزولها فإرجاؤهن عدم قبول نكاح الواهبة ، عُبر عنه بالإِرجاء إبقاء على أَملها أن يقبلها في المستقبل ، وإيواؤهن قبول هبتهن .قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف { ترجي } بالياء التحتية في آخره مخَّفف ( تُرجىء ) المهموز . وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب { ترجىءُ } بالهمز في آخره . وقال الزجاج : الهمز أجود وأكثر . والمعنى واحد .واتفق الرواة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعمل مع أزواجه ما أبيح له أخذاً منه بأفضل الأخلاق ، فكان يعدل في القسم بين نسائه ، إلاّ أن سَودة وهبت يومها لعائشة طلباً لمسرّة رسول الله صلى الله عليه وسلموأما قوله : { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } فهذا لبياننِ أن هذا التخيير لا يوجب استمرار ما أخذ به من الطرفين المخيَّرِ بينهما ، أي لا يكون عمله بالعزل لازمَ الدوام بمنزلة الظهار والإِيلاء ، بل أَذن الله أن يرجع إلى من يعزلها منهن ، فصرح هنا بأن الإِرجاء شامل للعزل .ففي الكلام جملة مقدرة دل عليها قوله : { ابتغيت } إذ هو يقتضي أنه ابتغى إبطال عزلها ، فمفعول { ابتغيت } محذوف دل عليه قوله : { وتؤوي إليك من تشاء } كما هو مقتضى المقابلة بقوله : { ترجي من تشاء } ، فإن العزل والإِرجاء مؤداهما واحد .والمعنى : فإن عزلْتَ بالإِرجاء إحداهن فليس العزل بواجب استمراره بل لك أن تعيدها إن ابتَغَيْتَ العود إليها ، أي فليس هذا كتخيير الرجل زوجه فتختار نفسها المقتضي أنها تَبِين منه . ومتعلق الجُناح محذوف دل عليه قوله : { ابتغيت } أي ابتغيت إيواءها فلا جناح عليك من إيوائها .و { من } يجوز أن تكون شرطية وجملة { فلا جناح عليك } جواب الشرط . ويجوز أن تكون موصولة مبتدأ فإن الموصول يعامل معاملة الشرط في كلامهم بكثرة إذا قصد منه العموم فلذلك يقترن خبر الموصول العام بالفاء كثيراً كقوله تعالى :{ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } [ البقرة : 203 ] ، وعليه فجملة { فلا جناح عليك } خبر المبتدأ اقترن بالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط ومفعول { عزلت } محذوف عائد إلى { مَن } أي التي ابتغيتها ممن عزلتهن وهو من حذف العائد المنصوب .{ ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَلِيمًا } .الإِشارة إلى شيء مما تقدم وهو أقربه ، فيجوز أن تكون الإشارة إلى معنى التفويض المستفاد من قوله : { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الابتغاء المتضمن له فعل { ابتغيت } أي فلا جناح عليك في ابتغائهن بعد عزلهن ذلك أدنى لأن تقرَّ أعينهُنّ . والابتغاء : الرغبة والطلب ، والمراد هنا ابتغاء معاشرة مَن عَزلَهن .فعلى الأول يكون المعنى أن في هذا التفويض جعل الحق في اختيار أحد الأمرين بيد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق حقاً لهن فإذا عين لإِحداهن حالة من الحالين رضيته به لأنه يجعل الله تعالى على حكم قوله : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم } [ الأحزاب : 36 ] فقرت أعين جميعهن بما عُينت لكل واحدة لأن الذي يعلم أنه لا حق له في شيء كان راضياً بما أوتي منه ، وإن علم أنّ له حقاً حسب أن ما يؤتاه أقل من حقه وبالغ في استيفائه . وهذا التفسير مروي عن قتادة وتبعه الزمخشري وابن العربي والقرطبي وابن عطية ، وهذا يلائم قوله : { ويرضين } ولا يلائم قوله : { أن تقر أعينهن } لأن قرة العين إنما تكون بالأمر المحبوب ، وقوله : { ولا يحزن } لأن الحزن من الأمر المكدّر ليس باختياري كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " فلا تَلمنِي فيما لا أملك " . وعلى الوجه الثاني يكون المعنى : ذلك الابتغاء بعد العزل أقرب لأن تَقَرَّ أعين اللاتي كنت عزلتَهُن . ففي هذا الوجه ترغيب للنبي صلى الله عليه وسلم في اختيار عدم عزلهن عن القسم وهو المناسب لقوله : { أن تقر أعينهن ولا يحزن } كما علمت آنفاً ، ولقوله : «ويرضَيْنَ كلُّهن» ، ولما فيما ذكر من الحسنات الوافرة التي يرغب النبي صلى الله عليه وسلم في تحصيلها لا محالة وهي إدخال المسرّة على المسلم وحصول الرضى بين المسلمين وهو مما يعزّز الأخوة الإسلامية المرغب فيها . ونقل قريب من هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد واختاره أبو علي الجبّائي وهو الأرجح لأن قرة العين لا تحصل على مضض ولأن الحط في الحق يوجب الكدر . ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ إلا به ولم يحفظ عنه أنه آثر إحدى أزواجه بليلة سوى ليلة سودة التي وهبتها لعائشة ، استمر ذلك إلى وفاته صلى الله عليه وسلم وقد جاء في الصحيح أنه كان في مرضه الذي توفي فيه يُطاف به كل يوم على بيوت أزواجه ، وكان مبدأ شكواه في بيت ميمونة إلى أن جاءت نوبة ليلة عائشة فأذِنَّ له أزواجُه أن يمرض في بيتها رفقاً به .وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال حين قَسَم لَهُن " اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك " ولعل ذلك كان قبل نزول التفويض إليه بهذه الآية .وفي قوله : { ويرضين بما آتيتهن كلهن } إشارة إلى أن المراد الرضى الذي يتساوَيْن فيه وإلا لم يكن للتأكيد ب { كلهن } نكتة زائدة ، فالجمع بين ضميرهن في قوله : { كلهن } يومىء إلى رضى متساوٍ بينهن .وضميرا { أعينهن ولا يحزن } عائدان إلى ( مَن ) في قوله : { ممن عزلت } . وذكر { ولا يحزن } بعد ذكر { أن تقر أعينهن } مع ما في قُرّة العين من تضمّن معنى انتفاء الحزن بالإيماء إلى ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في ابتغاء بقاء جميع نسائه في مواصلته لأن في عزل بعضهن حزناً للمعزولات وهو بالمؤمنين رؤوف لا يحب أن يُحْزِن أحداً .و { كلهن } توكيد لضمير { يَرْضَيْنَ } أو يتنازعه الضمائر كلّها .والإِيتاء : الإِعطاء وغلب على إعطاء الخير إذا لم يذكر مفعوله الثاني ، أو ذكر غير معيّن كقوله : { فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } [ الأعراف : 144 ] ، فإذا ذكر مفعوله الثاني فالغالب أنه ليس بسوء . ولم أره يستعمل في إعطاء السوء فلا تقول : آتاه سجناً وآتاه ضرباً ، إلا في مقام التهكم أو المشاكلة ، فما هنا من القبيل الأول ، ولهذا يبعد تفسيره بأنهن يرضين بما أذِن الله فيه لرسوله من عزلهن وإرجائهن . وتوجيهه في «الكشاف» تكلف .والتذييل بقوله : { والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً } كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير ففيه ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الإِحسان بأزواجه وإمائه والمتعرضات للتزوج به ، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضى بما يلقَيْنَه من رسول الله صلى الله عليه وسلموفي إجراء صفتي { عليماً حليماً } على اسم الجلالة إيماء إلى ذلك ، فمناسبة صفة العلم لقوله : { والله يعلم ما في قلوبكم } ظاهرة ، ومناسبة صفة الحليم باعتبار أن المقصود ترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم في أليق الأحوال بصفة الحليم لأن همه صلى الله عليه وسلم التخلق بخلق الله تعالى وقد أجرى الله عليه صفات من صفاته مثل رؤوف رحيم ومثل شاهد . وقالت عائشة رضي الله عنها : ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً . ولهذا لم يأخذ رسول الله بهذا التخيير في النساء اللاتي كنّ في معاشرته ، وأخذ به في الواهبات أنفسهن مع الإحسان إليهن بالقول والبذل فإن الله كتب الإحسان على كل شيء . وأخذ به في ترك التزوج من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته لأن ذلك لا حرج فيه عليهن .

الترجمة الإنجليزية

La yahillu laka alnnisao min baAAdu wala an tabaddala bihinna min azwajin walaw aAAjabaka husnuhunna illa ma malakat yameenuka wakana Allahu AAala kulli shayin raqeeban

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع ، على أن حذف ما أضيفت إليه { بعدُ } ينادي على أنه حذْفُ معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخّرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يُتردد فيه ، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو : إمّا أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله ، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } [ الأحزاب : 50 ] الخ . وإمّا أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان ، أي من بعد هذا الوقت ، والأول الراجح .و { بعد } يجوز أن يكون بمعنى ( غير ) كقوله تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] وهو استعمال كثير في اللغة ، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها ، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } أي غيرهن ، وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال : «نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات» فقال : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك } فأحل الله المملوكات المؤمنات { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } [ الأحزاب : 50 ] . ومثل هذا مروي عن أُبَيّ بن كعب وعكرمة والضحاك . ويجوز أن يكون { بعدُ } مراداً به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيَتعينُ تقدير لفظ يدل على شيء سابق .وبناء { بعدُ } على الضم يقتضي تقدير مضاف إليه محذوففٍ يدل عليه الكلام السابق على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في «شرحه على قطر الندى» ، فيجوز أن يكون التقدير : من بعدِ مَن ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر : من غير مَن ذكرن ، أو يقدر من بعدِ من ذُكرن ، فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذُكرن ( وكن تسعاً ) ، أو مَن اخترتهن .ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتاً ، أي بعد اليوم أو الساعة ، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخاً لقوله : { إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله : خالصة لك } [ الأحزاب : 50 ] .وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت : «ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء» . وقال حديث حسن . ( وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة ) فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها : ما مات ، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين ناسخة للإِباحة التي عنتها عائشة ولذلك فالإِباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أمّ سلمة .و { النساء } إذا أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج ، أي الحرائر دون الإماء كما قال النابغة :حذارا على أن لا تُنال مقادتي ... ولا نِسوتي حتى يَمُتْنَ حرائراأي لا تحل لك الأزواج من بعد مَنْ ذُكِرْن .وقوله : { ولا أن تبدل بهن } أصله : تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً ، يقال : بَدَّل وتبدَّل بمعنى واحد ، ومادة البدل تقتضي شيئين : يعطي أحدهما عوضاً عن أخذ الآخر ، فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطَى بالباء أو بحرف { مِن } ، وتقدم عند قوله تعالى : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } في سورة البقرة ( 108 ) .والمعنى : أن من حصلتْ في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحلّ لك أن تطلقها ، فكنى بالتبدل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرءَ لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى ، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخرُ الآية أولَها وسابقتها ، فإن الرسول أحلت له الزيادة على النساء اللاتي عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن ، فإذا كانت المستبدَلَة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرَّم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين ، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاماً في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها بغيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنّى به عن الطلاق وملاحظاً فيه نية الاستبدال . فالمعنى : أن الرسول أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلْن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة .والمعنى : ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجاً أخرى .وضمير { بهن } عائد إلى ما أضيف إليه { بعد } المقدَّر وهن الأصناف الثلاثة .والمعنى : ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها .فالباء داخلة على المفارقة .و { مِن } مزيدة على المفعول الثاني ل { تبدل } لقصد إفادة العموم . والتقدير : ولا أن تبَدَّل بهن أزواجاً أُخرَ ، فاختص هذا الحكم بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله : { إلا ما ملكت يمينك } . وأما التي تهَب نفسَها فهي إن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الأزواج ، فشملها حكمهن ، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف .وقرأ الجمهور { لا يحل } بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غيرُ صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل . وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم .وجملة { ولو أعجبك حسنهن } في موضع الحال والواو واوه ، وهي حال من ضمير { تبدل } . و { لو } للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير وتسمى وصلية ، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأوْلى ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولو افتدى به } في آل عمران ( 91 ) .والمعنى : لا يحلّ لك النساء من بعدُ بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حالة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك .وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدّد له أصنافاً معينة وفيهن غناء .وقد عبرت عن هذا المعنى عائشة رضي الله عنها بعبارة شيقة ، إذ قالت للنبيء : ما أرى ربَّك إلا يُسارِع في هواك . وأُكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله : وكان الله على كل شيء رقيباً } أي عالماً بِجَرْي كللِ شيء على نحو ما حدّده أو على خلافه ، فهو يجازي على حسب ذلك . وهذا وعد للنبيء صلى الله عليه وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم .والاستثناء في قوله : { إلا ما ملكت يمينك } منقطع . والمعنى : لكن ما ملكت يمينك حلالٌ في كل حال . والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ { النساء } في قوله : { لا يحل لك النساء } ما يرادف لفظ الإِناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم .

الترجمة الإنجليزية

Ya ayyuha allatheena amanoo la tadkhuloo buyoota alnnabiyyi illa an yuthana lakum ila taAAamin ghayra nathireena inahu walakin itha duAAeetum faodkhuloo faitha taAAimtum faintashiroo wala mustaniseena lihadeethin inna thalikum kana yuthee alnnabiyya fayastahyee minkum waAllahu la yastahyee mina alhaqqi waitha saaltumoohunna mataAAan faisaloohunna min warai hijabin thalikum atharu liquloobikum waquloobihinna wama kana lakum an tuthoo rasoola Allahi wala an tankihoo azwajahu min baAAdihi abadan inna thalikum kana AAinda Allahi AAatheeman

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53){ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا وَلاَ مُسْتَئنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكَ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحِى مِنكُمْ واللهُ لاَ يَسْتَحِى مِنَ الحَقِّ } .لما بين الله في الآيات السابقة آداب النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه قفّاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن ، وصدره بالإِشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية . وهي ما في «صحيح البخاري» وغيره عن أنس بن مالك قال : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنة جحش صنع طعاماً بخبز ولحم ودعا القوم فطعِموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيّأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام فلما قام قام مَن قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع فانطلق إلى حجرة عائشة . . . فتقَرَّى حُجَرَ نسائه كلهن يسلّم عليهن ويسلمن عليه ويدعون له ، ثم إنهم قاموا فانطلقتُ فجئت فأخبرتُ النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبتُ أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوت النبي } إلى قوله : { من وراء حجاب } .وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له : «يا رسول الله يدخل عليك البَّرُ والفاجر فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب» فأنزل الله آية الحجاب . وليس بين الخبرين تعارض لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل ثم عقبته قصة وليمة زينب فنزلت الآية بإثرها .وابتدىء شرع الحجاب بالنهي عن دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا لطعام دعاهم إليه ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام له مجلس يجلس في المسجد فمن كان له مهمّ عنده يأتيه هنالك .وليس ذكر الدعوة إلى طعام تقييداً لإباحة دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخلها إلا المدعو إلى طعام ولكنه مثال للدعوة وتخصيص بالذكر كما جرى في القضية التي هي سبب النزول فيلحق به كل دعوة تكون من النبي صلى الله عليه وسلم وكل إذن منه بالدخول إلى بيته لغير قصد أن يطعم معه كما كان يقع ذلك كثيراً . ومن ذلك قصة أبي هريرة حين استقرأ من عمر آية من القرآن وهو يطمع أن يَدعوه عمر إلى الغدَاء ففتح عليه الآية ودخل فإذا رسول الله قائم على رأس أبي هريرة وقد عرف ما به فانطلق به إلى بيته وأمر له بعُسّ من لبن ثم ثاننٍ ثم ثالث ، وإنما ذكر الطعام إدماجاً لتبيين آدابه ، ولذلك ابتدىء بقوله : { غير ناظرين إناه } مع أنه لم يقع مثله في قصة سبب النزول .وقرأ الجمهور { بيوت } بكسر الباء . وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء ، وقد تقدم في سورة النساء وغيرها .و { إناه } بكسر الهمزة وبالقصر : إما مصدر أَنَى الشيءُ إذا حان ، يقال : أنى يأنِي ، قال تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } [ الحديد : 16 ] . ومقلوبه : آن . وهو بمعناه . والمعنى : غير منتظرين حضور الطعام ، أي غير سابقين إلى البيوت وقبْل تهيئته .والاستثناء في { إلا أن يؤذن لكم } استثناء من عموم الأحوال التي يقتضيها الدخول المنهي عنه ، أي إلا حال أن يؤذن لكم .وضُمِّن { يؤذن } معنى تُدعون فعدي ب { إلى فكأنه قيل : إلا أن تُدعَوْا إلى طعام فيؤذن لكم لأن الطفيلي قد يؤذن له إذا استأذن وهو غير مدعو فهي حالة غير مقصودة من الكلام .فالكلام متضمن شرطين هما : الدعوة ، والإِذن ، فإن الدعوة قد تتقدم على الإذن وقد يقترنان كما في حديث أنس بن مالك .وغير ناظرين } حال من ضمير { لكم } فهو قيد في متعلق المستثنى فيكون قيداً في قيدٍ فصارت القيود المشروطة ثلاثة .و { ناظرين } اسم فاعل من نظَر بمعنى انتظر ، كقوله تعالى : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } [ يونس : 102 ] الآية .ومعنى ذلك : لا تحضروا البيوت للطعام قبل تهيئة الطعام للتناول فتقعدوا تنتظرون نُضجه . وعن ابن عباس نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي فيدخلون قبل أن يُدرك الطعام فيقعدون إلى أن يُدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ا ه . وقد يقتضي أن ذلك تكرر قبل قضية النَفر الذين حضروا وليمة البناء بزينب فتكون تلك القضية خاتمة القضايا ، فكُني بالانتظار عن مبادرة الحضور قبل إبان الأكل . ونكتة هذه الكناية تشويه السبق بالحضور بجعله نهماً وجشعاً وإن كانوا قد يحضرون لغير ذلك ، وبهذا تعلم أن ليس النهي متوجهاً إلى صريح الانتظار .وموقع الاستدراك لرفع توهم أن التأخر عن إبان الطعام أفضل فأرشد الناس إلى أن تأخر الحضور عن إبان الطعام لا ينبغي بل التأخر ليس من الأدب لأنه يجعل صاحب الطعام في انتظار ، وكذلك البقاء بعد انقضاء الطعام فإنه تجاوز لحد الدعوة لأن الدعوة لحضور شيء تقتضي مفارقة المكان عند انتهائه لأن تقيد الدعوة بالغرض المخصوص يتضمن تحديدها بانتهاء ما دُعي لأجله ، وكذلك الشأن في كل دخول لغرض من مشاورة أو محادثة أو سمَر أو نحو ذلك ، وكل ذلك يتحدد بالعرف وما لا يَثقل على صاحب المحل ، فإن كان محل لا يختص به أحد كدار الشورى والنادي فلا تحديد فيه .و { طعمتم } معناه أكلتم ، يقال : طعم فلان فهو طاعم ، إذا أكل .والانتشار : افتعال من النشر ، وهو إبداء ما كان مطوياً ، أطلق على الخروج مجازاً وتقدم في قوله :{ وجعل النهار نُشوراً } في سورة الفرقان ( 47 ) .والواو في ولا مستأنسين } عطف على { ناظرين } وما بينهما من الاستدراك وما تفرع عليه اعتراض بين المتعاطفين . وزيادة حرف النفي قبل { مستأنسين } لتأكيد النفي كما هو الغالب في العطف على المنفي وفي تصدير المنفي نحو قوله : { فلا وربك يؤمنون } الآية [ النساء : 65 ] وقوله : { لا يسخر قوم من قوم } [ الحجرات : 11 ] ثم قوله : { ولا نساء من نساء } [ الحجرات : 11 ] .والاستئناس : طلب الأنس مع الغير . واللام في { لحديث } للعلة ، أي ولا مستأنسين لأجل حديث يجري بينكم .والحديث : الخبر عن أمر حدث ، فهو في الأصل صفة حُذف موصوفها ثم غلبت على معنى الموصوف فصار بمعنى الإِخبار عن أمر حدث ، وتُوسّع فيه فصار الإِخبار عن شيء ولو كان أمراً قد مضى . ومنه سمي ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً كما يسمى خبراً ، ثم توسع فيه فصار يطلق على كل كلام يجري بين الجلساء في جد أو فكاهة ، ومنه قولهم : حديثُ خرافة ، وقول كثير :أخذنا باكتراث الأحاديث تبييناً ... . . . . البيتواستئناس الحديث : تسمُّعه والعناية بالإِصغاء إليه ، قال النابغة :كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... يوم الجليل على مُستأنس وَحَدِأي كأني راكب ثوراً وحشياً منفرداً تسمَّع صوت الصائد فأسرع الهروب .وإضافة { بيوت النبي } على معنى لام الملك لأن تلك البيوت ملك له ملكها بالعطية من الذين كانت ساحة المسجد ملكاً لهم من الأنصار ، وبالفيء لقبور المشركين التي كانت ثمة ، فإن المدينة فتحت بكلمة الإِسلام فأصبحت داراً للمسلمين . ومصير تلك البيوت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصير تركته كلها فإنه لا يورث وما تركه ينتفع منه أزواجه وآله بكفايتهم حياتهم ثم يرجع ذلك للمسلمين كما قضى به عمر بين علي والعباس فيما كان للنبيء صلى الله عليه وسلم من فَدَك ونخللِ بني النضير ، فكان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حق السكنى في بيوتهن بعده حتى توفّاهن الله من عند آخرتهن ، فلذلك أدخلها الخلفاء في المسجد حين توسعته في زمن الوليد بن عبد الملك وأمير المدينة يومئذٍ عمر بن عبد العزيز . ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ولم يُعطَ ورثتُهن شيئاً ولا سألوه . وإضافتها إلى ضميرهن في قوله : { ما يتلى في بيوتكن } [ الأحزاب : 34 ] على معنى لام الاختصاص لا لام الملك .قال حماد بن زيد وإسماعيل بن أبي حكيم : هذه الآية أدبٌ أدَّبَ اللَّهُ به الثقلاء ، وقال ابنُ أبي عائشة : حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم .ومعنى الثقل فيه هو إدخال أحَدٍ القلقَ والغمّ على غيره من جراء عمل لفائدة العامل أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل . وهو من مساوىء الخلق لأنه إن كان عن عمد كان ضراً بالناس وهو منهي عنه لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند نفاد صبر المضرور ، فإن النفوس متفاوتة في مقدار تحمل الأذى ، ولأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فعليه إذا أحس بأن قوله أو فعله يُخدل الغم على غيره أن يكف عن ذلك ولو كان يجتني منه منفعة لنفسه إذ لا يُضر بأحد لينتفع غيره إلا أن يكون لمن يأتي بالعمل حق على الآخر فإن له طلبه مع أنه مأمور بحسن التقاضي ، وإن كان إدخاله الغم على غيره عن غباوة وقلة تفطن له فإنه مذموم في ذاته وهو يصل إلى حدّ يكون الشعور به بديهياً .وللحكماء والشعراء أقوال كثيرة في الثقلاء طفحت بها كتب أدب الأخلاق .ومعاملة الناس النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق أشد بعداً عن الأدب لأن للنبيء صلى الله عليه وسلم أوقاتاً لا تخلو ساعة منها عن الاشتغال بصلاح الأمة ويجب أن لا يَشغل أحد أوقاتَه إلا بإذنه ، ولذلك قال تعالى : { إلا أن يؤذن لكم } .والأمر في قوله : { فادخلوا } للندب لأن إجابة الدعوة إلى الوليمة سنة ، وتقييد النهي بقوله : { غير ناظرين إناه } للتنزيه لأن الحضور قبل تهيّؤ الطعام غير مقتضى للدعوة ولا يتضمنه الإِذن فهو تطفل .والأمر في قوله : { فانتشروا } للوجوب لأن دخول المنزل بغير إذن حرام ، وإنما جاز بمقتضى الدعوة للأكل فهو إذن مقيد المعنى بالغرض المأذوننِ لأجله فإذا انقضى السبب المبيح للدخول عاد تحريم الدخول إلى أصله؛ إلا أنه نظري قد يُغفل عنه لأن أصله مأذون فيه والمأذون فيه شرعاً لا يتقيّد بالسلامة إلا إذا تجاوز الحد المعروف تجاوزاً بيناً . وعطف { ولا مستأنسين لحديث } راجع إلى هذا الأمر بقوله : { فانتشروا } فلذلك ذكر عقبه فإن استدامة المكث في معنى الدخول ، فذكر بإثره وحصل تفنن في الكلام .وفي هذه الآية دليل على أن طعام الوليمة وطعام الضيافة ملك للمتضيف وليس ملكاً للمدعوين ولا للأضياف لأنهم إنما أذن لهم في الأكل منه خاصة ولم يملكوه فلذلك لا يجوز لأحد رفع شيء من ذلك الطعام معه .وجملة { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم } استئناف ابتدائي للتحذير ودفع الاغترار بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسبوه رضي بما فعلوا . فمناط التحذير قوله : { ذلكم كان يؤذي النبي } فإن أذى النبي صلى الله عليه وسلم مقرر في نفوسهم أنه عمل مذموم لأن النبي عليه الصلاة والسلام أعز خلق في نفوس المؤمنين وذلك يقتضي التحرز مما يؤذيه أدنى أذى . ومناط دفع الاغترار قوله : { فيستحيي منكم } فإن السكوت قد يظنه الناس رضى وإذناً وربما تطرق إلى أذهان بعضهم أن جلوسهم لو كان محظوراً لما سكت عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأرشدهم الله إلى أن السكوت الناشىء عن سبببٍ هو سكوت لا دلالة له على الرضى وأنه إنما سكت حياء من مباشرتهم بالإخراج فهو استحياء خاص من عمل خاص .وإنما كان ذلك مؤذياً النبي صلى الله عليه وسلم لأن فيه ما يحول بينه وبين التفرغ لشؤون النبوءة من تلقي الوحي أو العبادة أو تدبير أمر الأمة أو التأخر عن الجلوس في مجلسه لنفع المسلمين ولشؤون ذاته وبيته وأهله . واقتران الخبر بحرف { إنّ } للاهتمام به . ولك أن تجعله من تنزيل غير المُتردد منزلة المتردد لأن حال النفَر الذين أطالوا الجلوس والحديث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعدم شعورهم بكراهيته ذلك منهم حين دخل البيت فلما وجدهم خرج ، فغفلوا عما في خروج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت من إشارة إلى كراهيتِهِ بقاءَهم ، تلك حالة من يظن ذلك مأذوناً فيه فخوطبوا بهذا الخطاب تشديداً في التحذير واستفاقة من التغرير .وإقحام فعل { كان } لإِفادة تحقيق الخبر .وصيغ { يؤذي } بصيغة المضارع دون اسم الفاعل لقصد إفادة أذى متكرر ، والتكرير كناية عن الشدة .والأذى : ما يكدر مفعوله ويسيء من قول أو فعل . وتقدم في قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } في آل عمران ( 111 ) ، وهو مراتب متفاوتة في أنواعه .والتفريع في قوله : { فيستحيي منكم } تفريع على مقدر دلت عليه القصة . والتقدير : فيهمّ بإخراجكم فيستحيي منكم إذ ليس الاستحياء مفرعاً على الإِيذاء ولا هو من لوازمه .ودخول { مِن } المتعلقة ب { يستحيي } على ضمير المخاطبين على تقدير مضاف ، أي يستحيي من إعلامكم بأنه يؤذيه .وتعدية المشتقات من مادة الحياء إلى الذوات شائع يساوي الحقيقة لأن الاستحياء يختلف باختلاف الذوات ، فقولك : أردت أن أفعل كذا فاستحيت من فلان ، يجوز أن تكون الحقيقة هي التعليق بذات فلان وأن تكون هي التعليق بالأحوال الملابسة له التي هي سبب الاستحياء لأجل ملابستها له . ولك أن تقول : استحييت من أن أفعل كذا بمرأى من فلان . وعلى التقدير الأول تكون { مِن } للتعليل ، وعلى التقدير الثاني تكون { مِن } للابتداء . وظاهر كلام «الكشاف» يقتضي أن : استحييت من فلان مجاز أو توسع ، وأن : استحييت من فعل كذا لأجل فلان هو الحقيقة . وظاهر كلام صاحب «الكشاف» عكس ذلك والأمر هيّن .وصيغ فعل { يستحيي } بصيغة المضارع لأنه مفرع على { يؤذي النبي } ليدل على ما دل عليه المفرع هو عليه .وفي هذه الآية دليل على أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعدياً على حق لذاته لا يدل سكوته فيه على جواز الفعل لأن له أن يسامح في حقه ، ولكن يؤخذ الحظر أو الإِباحة في مثله من أدلة أخرى مثل قوله تعالى هنا : { إن ذلكم كان يؤذي النبي } ولذلك جزم علماؤنا بأن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بالصراحة أو الالتزام يعزر على ذلك بحسب مرتبة الأذى والقصدِ إليه بعد توقيفه على الخفي منه وعدم التوبة مما تقبل في مثله التوبة منه .ولم يجعلوا في إعراض النبي عليه الصلاة والسلام عن مؤاخذة من آذاه في حياته دليلاً على مشروعية تسامح الأمة في ذلك لأنه كان له أن يعفو عن حقه لقوله تعالى : { فاعف عنهم } [ المائدة : 13 ] وقوله : { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } [ آل عمران : 159 ] . فهذا ملاك الجمع بين الإِيذاء والاستحياءِ والحقّ في هذه الآية ، فقد تولى الله تعالى الذبّ عن حق رسوله وكفاه مؤونة المضض الداعي إليه حياؤه . وقد حقق هذا المعنى وما يحف به القاضي أبو الفضل عياض في تضاعيف القسم الرابع من كتابه «الشفاء» .فإن قلت : ورد في الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من البيت ليقومَ الثلاثةُ الذين قعَدُوا يتحدثون ، فلماذا لم يأمرهم بالخروج بدلاً من خروجه هو . قلت : لأن خروجه غيرُ صريح في كراهية جلوسهم لأنه يحتمل أن يكون لغرض آخر ، ويحتمل أن يكون لقصد انفضاض المجلس فكان من واجب الألمعية أن يخطر ببالهم أحد الاحتمالين فيتحفزوا للخروج فليس خروجه عنهم بمناف لوصف حيائه صلى الله عليه وسلموجملة { والله لا يستحيي من الحق } معطوفة على جملة { فيستحيي منكم } والمعنى : أن ذلك سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان يستحيي منكم فلا يباشركم بالإِنكار ترجيحاً منه للعفو عن حقه على المؤاخذة به فإن الله لا يستحيي من الحق لأن أسباب الحياء بين الخلق منتفية عن الخالق سبحانه : { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] .وصيغت الجملة المعطوفة على بناء الجملة الاسمية مخالِفةً للمعطوفة هي عليها فلم يقل : ولا يستحيي الله من الحق ، للدلالة على أن هذا الوصف ثابت دائم لله تعالى لأن الحق من صفاته ، فانتفاء ما يمنع تبليغه هو أيضاً من صفاته لأن كل صفة يجب اتصاف الله بها فإن ضدها يستحيل عليه تعالى .والتعريف في { الحق } تعريف الجنس المراد منه الاستغراق مثل التعريف في { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] . والمعنى : والله لا يستحيي من جميع أفراد جنس الحق .و { الحق } : ضد الباطل . فمنه حق الله وحق الإِسلام ، وحق الأمة جمعاء في مصالحها وإقامة آدابها ، وحق كل فرد من أفراد الأمة فيما هو من منافعه ودفع الضر عنه .ويشتمل حقَ النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وأوقاته ، وبهذا العموم في الحق صارت الجملة بمنزلة التذييل .و { مِن } في قوله : { من الحق } ليست مثل { من } التي في قوله : { فيستحيي منكم } لأن { مِن هذه متعينة لكونها للتعليل إذ الحق لا يُستحيَى من ذاته فمعنى إن الله لا يستحيي من الحق أنه لا يستحيي لبيانه وإعلانه .وقد أفاد قوله : والله لا يستحيي من الحق } أن من واجبات دِين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق الإِسلامي في إقامته ، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته ، وفي إبلاغه وهو تعليمه ، وفي الأخذ به ، إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمص حقاً راجعاً إلى غيره لأن الناس مأمورون بالتخلق بصفات الله تعالى اللائقة بأمثالهم بقدر الإِمكان .وهذا المعنى فهمته أمُّ سُليم وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على فهمها ، فقد جاء في الحديث الصحيح : " عن أم سَلَمة قالت : جاءت أم سُليم إلى النبي فقالت : يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله : نعم إذا رأت الماء " . فهي لم تستح في السؤال عن الحق المتعلق بها ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستححِ في إخبارها بذلك . ولعلها لم تجد من يسأل لها أو لم تر لزاماً أن تستنيب عنها من يسأل لها عن حكم يخص ذاتها . وقد رأى علي بن أبي طالب الجمع بين طلب الحق وبين الاستحياء ، ففي «الموطأ» عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه؟ قال علي : فإن عندي ابنة رسول الله وأنا أستحيي أن أسأله» الحديث .على أن بين قضية أم سُليم وقضية علي تفاوتاً من جهات في مقتضى الاستحياء لا تخفى على المتبصر .واعلمْ أن في ورود { يؤذي } هنا ما يبطل المثال الذي أورده ابن الأثير في كتاب «المثل السائر» شاهداً على أن الكلمة قد تروق السامعَ في كلام ثم تكون هي بعينها مكروهة للسامع . وجاء بكلمة { يؤذي } في هذه الآية ، ونظيرها ( تؤذي ) في قول المتنبي :تَلذ له المروءة وهي تُوذي ... وزعم أن وجودها في البيت يحط من قدر المعنى الشريف الذي تضمنه البيت وأحال في الجزم بذلك على الطبع السليم ، ولا أحسب هذا الحكم إلا غضباً من ابن الأثير لا تُسوِّغه صناعة ولا يشهد به ذوق ، ولقد صرف أيمة الأدب همهم إلى بحث شعر المتنبي ونقده فلم يَعُدَّ عليه أحد منهم هذا منتقَداً ، مع اعتراف ابن الأثير بأن معنى البيت شريف فلم يبق له إلا أن يزعم أن كراهة هذا اللفظ فيه راجعة إلى أمر لفظي من الفصاحة ، وليس في البيت شيء من الإِخلال بالفصاحة وكأنه أراد أن يقفي على قدم الشيخ عبد القاهر فيما ذكر في الفصل الذي جعله ثانياً من كتاب «دلائل الإعجاز» فإن ما انتقده الشيخ في ذلك الفصل من مواقع بعض الكلمات لا يخلو من رجوع نقده إياها إلى أصول الفصاحة أو أصول تناسب معاني الكلمات بعضها مع بعض في نظم الكلام ، وشتان ما بين الصنيعين .{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا فاسالوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ } .عطف على جملة { لا تدخلوا بيوت النبي } فهي زيادة بيان للنهي عن دخول البيوت النبوية وتحديد لمقدار الضرورة التي تدعو إلى دخولها أو الوقوف بأبوابها .وهذه الآية هي شارعة حكم حجاب أمهات المؤمنين ، وقد قيل : إنها نزلت في ذي القعدة سنة خمس .وضمير { سألتموهن } عائد إلى الأزواج المفهوم من ذِكر البيوت في قوله : { بيوت النبي } فإن للبيوت ربَّاتهن وزوجُ الرجل هي ربة البيت ، قال مرة بن مَحْكَان التميمي :يا ربةَ البيت قُومي غيرَ صاغرة ... ضمّي إليك رجال الحي والغُرباوقد كانوا لا يبني الرجل بيتاً إلا إذا أراد التزوج . وفي حديث ابن عمر : كنت عزباً أبيت في المسجد . ومن أجل ذلك سَموا الزفاف بناء . فلا جرم كانت المرأة والبيت متلازمين فدَلت البيوت على الأزواج بالالتزام . ونظير هذا قوله تعالى : { وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين } [ الواقعة : 34 38 ] فإن ذكر الفرش يستلزم أن للفراش امرأة ، فلما ذكر البيوت هنا تبادر أن للبيوت رباتتٍ .والمتاع : ما يحتاج إلى الانتفاع به مثل عارية الأواني ونحوها ، ومثل سؤال العفاة ويلحق بذلك ما هو أولى بالحكم من سؤاللٍ عن الدِّين أو عن القرآن ، وقد كانوا يسألون عائشة عن مسائل الدين .والحجاب : السَّتْر المُرخَى على باب البيت .وكانت الستور مرخاة على أبواب بيوت النبي صلى الله عليه وسلم الشارعة إلى المسجد . وقد ورد ما يبين ذلك في حديث الوفاة حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وهم في الصلاة فكشف الستر ثم أرخى الستر .و { من وراء حجاب } متعلق ب { فاسألوهن } فهو قيد في السائل والمسؤول المتعلق ضميراهما بالفعل الذي تعلق به المجرور . و { من } ابتدائية . والوراء : مكان الخلف وهو مكان نسبي باعتبار المتجه إلى جهة ، فوراء الحجاب بالنسبة للمتجهين إليه فالمسؤولة مستقبلة حجابها والسائل من وراء حجابها وبالعكس .والإِشارة ب { ذلكم } إلى المذكور ، أي السؤال المقيد بكونه من وراء حجاب .واسم التفضيل في قوله : { أطهر } مستعمل للزيادة دون التفضيل .والمعنى : ذلك أقوى طهارة لقلوبكم وقلوبهن فإن قلوب الفريقين طاهرة بالتقوى وتعظيم حرمات الله وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لما كانت التقوى لا تصل بهم إلى درجة العصمة أراد الله أن يزيدهم منها بما يكسب المؤمنين مراتب من الحفظ الإِلهي من الخواطر الشيطانية بقطع أضعف أسبابها وما يقرب أمهات المؤمنين من مرتبة العصمة الثابتة لزوجهن صلى الله عليه وسلم فإن الطيبات للطيبين بقطع الخواطر الشيطانية عنهن بقطع دابرها ولو بالفرض .وأيضاً فإن للناس أوهاماً وظنوناً سُوأَى تتفاوت مراتب نفوس الناس فيها صرامة ووهناً ، ونَفَاقاً وضعفاً ، كما وقع في قضية الإِفك المتقدمة في سورة النور فكان شَرع حجاب أمهات المؤمنين قاطعاً لكل تقول وإرجاف بعمد أو بغير عمد .ووراء هذه الحِكَم كلها حكمة أخرى سامية وهي زيادة تقرير معنى أمومتهن للمؤمنين في قلوب المؤمنين التي هي أُمومة جَعلية شرعية بحيث إن ذلك المعنى الجعلي الروحي وهو كونهن أمهات يرتد وينعكس إلى باطن النفس وتنقطع عنه الصور الذاتية وهي كونهن فلانة أو فلانة فيصبحْن غير متصوَّرات إلا بعنوان الأمومة فلا يزال ذلك المعنى الروحي ينمى في النفوس ، ولا تزال الصور الحسية تتضاءل من القوة المدركة حتى يصبح معنى أمهات المؤمنين معنى قريباً في النفوس من حقائق المجردات كالملائكة ، وهذه حكمة من حكم الحجاب الذي سنه الناس لملوكهم في القدم ليكون ذلك أدخل لطاعتهم في نفوس الرعية .وبهذه الآية مع الآية التي تقدمتها من قوله : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } [ الأحزاب : 32 ] تحقق معنى الحجاب لأمهات المؤمنين المركبُ من ملازمتهن بيوتهن وعدممِ ظهور شيء من ذواتهن حتى الوجه والكفين ، وهو حجاب خاص بهن لا يجب على غيرهن ، وكان المسلمون يقتدون بأمهات المؤمنين ورعاً وهم متفاوتون في ذلك على حسب العادات ، ولما أنشد النميري عند الحجاج قوله :يُخمرن أطرافَ البنان من التقى ... ويَخرجن جَنح الليللِ مُعْتَجِراتقال الحجاج : وهكذا المرأة الحرة المسلمة .ودل قوله : { لقلوبكم وقلوبهن } أن الأمر متوجه لرجال الأمة ولنساء النبي صلى الله عليه وسلم على السواء . وقد أُلحق بأزواج النبي عليه السلام بنته فاطمة فلذلك لما خرجوا بجَنازتها جعلوا عليها قبة حتى دُفنت ، وكذلك جعلت قبة على زينبَ بنت جَحش في خلافة عمر بن الخطاب .{ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيمًا } .لما جيء في بيان النهي عن المكث في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يؤذيه أُتبع بالنهي عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم نهياً عاماً ، فالخطاب في { لكم } للمؤمنين المفتتح بخطابهم آية : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } الآية .والواو عاطفة جملة على جملة أو هي واو الاعتراض بين جملة { وإذا سألتموهن متاعاً } وجملة { لا جناح عليهن في آبائهن } [ الأحزاب : 55 ] .ودلت جملة { ما كان لكم } على الحظر المؤكد لأن { ما كان لكم } نفيٌ للاستحقاق الذي دلت عليه اللام ، وإقحام فعل { كان } لتأكيد انتفاء الإِذن . وهذه الصيغة من صيغ شدة التحريم .وتضمنت هذه الآية حكمين :أحدهما : تحريم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأذى : قول يقال له ، أو فعل يُعامل به ، من شأنه أن يغضبه أو يسوءه لذاته .والأذى تقدم في أول هذه الآيات آنفاً . والمعنى : أن أذى النبي عليه الصلاة والسلام محظور على المؤمنين . وانظر الباب الثالث من القسم الثاني من كتاب «الشفاء» لعياض .والحكم الثاني : تحريم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بقوله تعالى : { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } وهو تقرير لحكم أُمومة أزواجه للمؤمنين السالف في قوله : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] .وقد حُكيت أقوال في سبب نزول هذه الآية : منها أن رجلاً قال : لو مات محمد تزوجتُ عائشة ، أي قاله بمسمع ممن نقلَه عنه فقيل : هذا الرجل من المنافقين وهذا هو المظنون بقائل ذلك . وقيل : هو من المؤمنين ، أي خطر له ذلك في نفسه ، قاله القرطبي . وذكروا رواية عن ابن عباس وعن مقاتل أنه طلحة بن عبيْد الله . وقال ابن عباس : كانت هفوة منه وتاب وكفَّر بالحج ماشياً وبإِعتاق رقاب كثيرة وحمل في سبيل الله على عشرة أفراس أو أبعرة . وقال ابن عطية : هذا عندي لا يصح على طلحة والله عاصمه من ذلك ، أي إنْ حمل على ظاهر صدور القول منه فأما إن كان خطر له ذلك في نفسه فذلك خاطر شيطاني أراد تطهير قلبه فيه بالكفارات التي أعطاها إن صح ذلك . وأقول : لا شك أنه من موضوعات الذين يطعنون في طلحة بن عبيد الله . وهذه الأخبار واهية الأسانيد ودلائل الوضع واضحة فإن طلحة إن كان قال ذلك بلسانه لم يكن ليخفى على الناس فكيف يتفرد بروايته من انفرد . وإن كان خطر ذلك في نفسه ولم يتكلم به فمن ذا الذي اطَّلع على ما في قلبه ، وليس بمتعين أن يكون لنزول هذه الآية سبب . فإن كان لها سبب فلا شك أنه قول بعض المنافقين لما يؤذن به قوله تعالى عَقب هذه الآيات { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 60 ] الآية . وإنما شرعت الآية أن حكم أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حكم دائم في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أو من بعده ولذلك اقتصر هنا على التصريح بأنه حكم ثابت من بعد ، لأن ثبوت ذلك في حياته قد عُلم من قوله : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] .وإضافة البعدية إلى ضمير ذات النبي عليه الصلاة والسلام تُعيِّن أن المراد بعد حياته كما هو الشائع في استعمال مثل هذه الإِضافة فليس المراد بعد عصمته من نحو الطَلاق لأن طلاق النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه غير محتمل شرعاً لقوله : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } [ الأحزاب : 52 ] .وأكد ظرف ( بعدُ ) بإدخال { من الزائدة عليه ، ثم أكد عمومه بظرف { أبداً } ليُعلم أن ذلك لا يتطرقه النسخ ثم زيد ذلك تأكيداً وتحذيراً بقوله : { إن ذلكم كان عند الله عظيماً } ، فهو استئناف مؤكد لمضمون جملة { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } . والإِشارة إلى ما ذكر من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وتزوج أزواجه ، أي ذلكم المذكورُ .والعظيم هنا في الإثم والجريمة بقرينة المقام .وتقييد العظيم بكونه عند الله للتهويل والتخويف لأنه عظيم في الشناعة .وعلة كون تزوج أحد المسلمين إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم إثماً عظيماً عند الله ، أن الله جعل نساء النبي عليه الصلاة والسلام أمهات للمؤمنين فاقتضى ذلك أن تزوج أحد المسلمين إحداهن له حكم تزوج المرء أمَّه ، وذلك إثم عظيم .واعلم أنه لم يتبين هل التحريم الذي في الآية يختص بالنساء اللاتي بنى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو يعم كل امرأة عقد عليها مثل الكندية التي استعاذت منه فقال لها : الحقي بأهلك ، فتزوجها الأشعث بن قيس في زمن عمر بن الخطاب . ومثل قتيلة بنت قيس الكلبية التي زوّجها أخوها الأشعث بن قيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حملها معه إلى حضرموت فتوفي رسول الله قبل قفولهما فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وأن أبا بكر همّ بعقابه فقال له عمر : إن رسول الله لم يدخل بها .والمرويات في هذا الباب ضعيفة . والذي عندي أن البناء والعقد كانا يكونان مقترنيْن وأن ما يسبق البناء مما يسمونه تزويجاً فإنما هو مراكنة ووعد ، ويدل لذلك ما في الصحيح أن رسول الله لما أحضرت إليه الكندية ودخل عليها رسول الله فقال لها : هبي لي نفسك ( أي ليعلم أنها رضيت بما عقد لها وليها ) فقالت : ما كان لملكة أن تهب نفسها لسوقة أعوذ بالله منك . فقال لها : لقد استعذت بمعاذ . فذلك ليس بطلاق ولكنه رجوع عن التزوج بها دال على أن العقد لم يقع وأن قول عمر لأبي بكر أو قول من قال لعمر : إن رسول الله لم يدخل بها هو كناية عن العقد .وعن الشافعي تحريم تزوج من عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إمام الحرمين والرافعي أن التحريم قاصر على التي دخل بها . على أنه يظهر أن الإضافة في قوله : { أزواجه } بمعنى لام العهد ، أي الأزواج اللائي جاءت في شأنهن هذه الآيات من قوله : { لا يحل لك النساء من بعد } [ الأحزاب : 52 ] فهن اللاءِ ثبت لهن حكم الأمهات .وبعد فإن البحث في هذه المسألة مجرد تفقه لا يبنى عليه عمل .

الترجمة الإنجليزية

In tubdoo shayan aw tukhfoohu fainna Allaha kana bikulli shayin AAaleeman

إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)كلام جامع تحريضاً وتحذيراً ومنبىء عن وعد ووعيد ، فإن ما قبله قد حوى أمراً ونهياً ، وإذ كان الامتثال متفاوتاً في الظاهر والباطن وبخاصة في النوايا والمضمرات كان المقام مناسباً لتنبيههم وتذكيرهم بأن الله مطلع على كل حال من أحوالهم في ذلك وعلى كل شيء ، فالمراد من { شيئاً } الأول شيء مما يبدونه أو يخفونه وهو يعم كل ما يبدو وما يخفى لأن النكرة في سياق الشرط تعم . والجملة تذييل لما اشتملت عليه من العموم في قوله : { بكل شيء } . وإظهار لفظ { شيء } هنا دون إضمار لأن الإِضمار لا يستقيم لأن الشيء المذكور ثانياً هو غير المذكور أولاً ، إذ المراد بالثاني جميع الموجودات ، والمراد بالأول خصوص أحوال الناس الظاهرة والباطنة ، فالله عليم بكل كائن ومن جملة ذلك ما يبدونه ويخفونه من أحوالهم .
425