سورة النجم: الآية 12 - أفتمارونه على ما يرى...

تفسير الآية 12, سورة النجم

أَفَتُمَٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ

الترجمة الإنجليزية

Afatumaroonahu AAala ma yara

تفسير الآية 12

أتُكذِّبون محمدًا صلى الله عليه وسلم، فتجادلونه على ما يراه ويشاهده من آيات ربه؟ ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته الحقيقية مرة أخرى عند سدرة المنتهى- شجرة نَبْق- وهي في السماء السابعة، ينتهي إليها ما يُعْرَج به من الأرض، وينتهي إليها ما يُهْبَط به من فوقها، عندها جنة المأوى التي وُعِد بها المتقون. إذ يغشى السدرة من أمر الله شيء عظيم، لا يعلم وصفه إلا الله عز وجل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم على صفة عظيمة من الثبات والطاعة، فما مال بصره يمينًا ولا شمالا ولا جاوز ما أُمِر برؤيته. لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من آيات ربه الكبرى الدالة على قدرة الله وعظمته من الجنة والنار وغير ذلك.

«أفتمارونه» تجادلونه وتغلبونه «على ما يرى» خطاب للمشركين المنكرين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل.

وقوله : ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ) ، هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها ، وكانت ليلة الإسراء . وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة " سبحان " بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وتقدم أن ابن عباس رضي الله عنهما ، كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء ، ويستشهد بهذه الآية . وتابعه جماعة من السلف والخلف ، وقد خالفه جماعات من الصحابة ، رضي الله عنهم ، والتابعين وغيرهم .وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود في هذه الآية : ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت جبريل وله ستمائة جناح ، ينتثر من ريشه التهاويل : الدر والياقوت " . وهذا إسناد جيد قوي .وقال أحمد أيضا : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك ، عن جامع بن أبي راشد ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق : يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم " . إسناده حسن أيضا .

ثم وبخ- سبحانه- المشركين على تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يخبرهم عنه من شئون الوحى، فقال: أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى.والمماراة: المجادلة والملاحاة بالباطل. يقال: مارى فلان فلانا مماراة ومراء، إذا جادله، مأخوذ من مرى الناقة يمريها. إذا مسح ضرعها ليستدر لبنها، ويأخذه كاملا، فشبه الجدال بذلك، لأن كل واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه، أى: يسعى لاستخراج كل ما عنده، حتى يقيم الحجة عليه.وعدى الفعل بعلى لتضمنه معنى المغالبة.أى: أفتجادلون نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما رآه بعينيه، وتجادلونه في شيء هو تحقق منه بعقله وبصره، وهو ملاقاته ورؤيته لأمين وحينا جبريل- عليه السلام-؟ إن مجادلتكم له في ذلك، هو من قبيل التعنت الواضح، والجهل الفاضح، لأنكم كذبتموه وجادلتموه في شيء هو قد رآه وتحقق منه، وأنتم تعلمون أنه صادق أمين.فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم وتجهيلهم على جدالهم بالباطل.هذا وقد ذكر العلماء، أن هذه الآيات، تشير إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل، على الهيئة التي خلقه الله- تعالى- عليها، فقد كان جبريل يأتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة آدمي، فسأله أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها، فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض وهي التي تشير إليها هذا الآيات، ومرة في السماء، وهي التي تشير إليها الآيات التالية.وقد توسع الإمام ابن كثير في ذكر الأحاديث التي وردت في ذلك فقال ما ملخصه:عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته، فسد الأفق، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ....

( أفتمارونه على ما يرى ) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب : " أفتمرونه " بفتح التاء [ وسكون الميم ] بلا ألف ، أي : أفتجحدونه ، تقول العرب : مريت الرجل حقه إذا جحدته ، وقرأ الآخرون : " أفتمارونه " بالألف وضم التاء على معنى أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به ، فقالوا : صف لنا بيت المقدس ، وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به ، والمعنى : أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه .

قوله تعالى : أفتمارونه على ما يرى قرأ حمزة والكسائي " أفتمرونه " بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه . واختاره أبو عبيد ; لأنه قال : لم يماروه وإنما جحدوه . يقال : مراه حقه أي جحده ومريته أنا ; قال الشاعر :لئن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخا ما كان يمريكاأي جحدته . وقال المبرد : يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه . قال : ومثل " على " بمعنى " عن " قول بني كعب بن ربيعة : رضي الله عليك ; أي رضي عنك . وقرأ الأعرج ومجاهد " أفتمرونه " بضم التاء من غير ألف من أمريت ; أي تريبونه وتشككونه . الباقون " أفتمارونه " بألف ، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله ; والمعنيان متداخلان ; لأن مجادلتهم جحود . وقيل : إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد ; قالوا : صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا التي في طريق الشام . على ما تقدم .

وقوله ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) يقول تعالى ذكره: ما كذب فؤاد محمد محمدا الذي رأى, ولكنه صدّقه.واختلف أهل التأويل في الذي رآه فؤاده فلم يكذبه, فقال بعضهم: الذي رآه فؤاده رب العالمين, وقالوا جعل بصره في فؤاده, فرآه بفؤاده, ولم يره بعينه.* ذكر من قال ذلك:حدثنا سعيد بن يحيى, قال: ثني عمي سعيد عبد الرحمن بن سعيد, عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس, في قوله ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال: رآه بقلبه صلى الله عليه وسلم .حدثنا خلاد بن أسلم, قال: أخبرنا النضر بن شميل, قال: أخبر عباد, يعني ابن منصور, قال: سألت عكرمة, عن قوله: ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال: أتريد أن أقول لك قد رآه, نعم قد رآه, ثم قد رآه, ثم قد رآه حتى ينقطع النفس.حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا يحيى بن واضح, قال: ثنا عيسى بن عبيد, قال: سمعت عكرِمة, وسُئل هل رأى محمد ربه, قال نعم, قد رأى ربه.قال: ثنا يحيى بن واضح, قال: ثنا سالم مولى معاوية, عن عكرمة, مثله.حدثنا أحمد بن عيسى التميمي, قال: ثنا سليمان بن عمرو بن سيار, قال: ثني أبي, عن سعيد بن زربى عن عمرو بن سليمان, عن عطاء, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رَأَيْتُ ربِّي فِي أَحْسَن صُورَةٍ، فَقالَ لي: يا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأ الأعْلَى؟ فَقُلْتُ: لا يا رَبّ فَوضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفيَّ, فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَّ فَعَلِمْت ما في السَّماء والأرض فَقُلْتُ: يا رَبِّ فِي الدَّرَجَاتِ والكَفَّارَاتِ وَنَقْلِ الأقْدَامِ إلى الجُمُعات, وَانْتَظارِ الصَّلاة بعْد الصَّلاة, فَقُلْتُ: يَا رَبّ إِنَّكَ اتَّخَذْتَ إبْراهيم خَليلا وكَلَّمْتَ مُوسَى تَكليما, وفَعَلْتَ وفَعَلْتَ؟ فقال: ألمْ أشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ ألَمْ أضَعْ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ ألَمْ أَفْعَلْ بِكَ؟ ألم أفْعَلْ. قال: " فَأفْضَى إليًّ بأشْياءَ لَمْ يُؤذَنْ لي أنْ أُحَدّثكُمُوها; قال: فَذلكَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِهِ يُحدّثْكُمُوهُ : ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ," فَجَعَل نُورَ بَصَري فِي فُؤَادِي, فَنَظَرْتُ إلَيْهِ بفُؤَادِي ".حدثني محمد بن عمارة وأحمد بن هشام, قالا ثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيل, عن السديّ, عن أبي صالح ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال: رآه مرّتين بفؤاده.حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن عطية, عن قيس, عن عاصم الأحول, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: إن الله اصطفى إبراهيم بالخُلَّة, واصطفى موسى بالكلام, واصطفى محمدا بالرؤية صلوات الله عليهم.حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان عن الأعمش, عن زياد بن الحصين, عن أبي العالية عن ابن عباس ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال: رآه بفؤاده.قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن أبي إسحاق عمن سمع ابن عباس يقول ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال: رأى محمد ربه.قال ثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ) فلم يكذّبه ( مَا رَأَى ) قال: رأى ربه.قال: ثنا مهران, عن أبي جعفر, عن الربيع ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال رأى محمد ربه بفؤاده.وقال آخرون: بل الذي رآه فؤاده فلم يكذبه جبريل عليه السلام .* ذكر من قال ذلك:حدثني ابن بزيع البغدادي, قال: ثنا إسحاق بن منصور, قال: ثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبد الرحمن بن يزيد, عن عبد الله ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض .حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجانيّ, قال: ثنا عمرو بن عاصم, قال: ثنا حماد بن سلمة, عن عاصم عن زرّ, عن عبد الله, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيْتُ جِبْريلَ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى, لَهُ سِتُّ مئَة جنَاح, يَنْفضُ مِنْ رِيشهِ التَّهاويلَ الدُّرَّ والياقُوتَ ".حدثنا أبو هشام الرفاعي, وإبراهيم بن يعقوب, قالا ثنا زيد بن الحباب, أن الحسين بن واقد, حدثه قال: حدثني عاصم بن أبي النجود, عن أبي وائل, عن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيْتُ جِبْريلَ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى لَهُ سِتُّ مئَة جنَاح " زاد الرفاعيّ في حديثه, فسألت عاصما عن الأجنحة, فلم يخبرني, فسألت أصحابي, فقالوا: كلّ جناح ما بين المشرق والمغرب .حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال: رأى جبريل في صورته التي هي صورته, قال: وهو الذي رآه نزلة أخرى.واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة ومكة والكوفة والبصرة ( كَذبَ ) بالتخفيف, غير عاصم الجحدري وأبي جعفر القارئ والحسن البصري فإنهم قرءوه " كذب " بالتشديد, بمعنى: أن الفؤاد لم يكذب الذي رأى, ولكنه جعله حقا وصدقا, وقد يحتمل أن يكون معناه إذا قرئ كذلك: ما كذّب صاحب الفؤاد ما رأى. وقد بيَّنا معنى من قرأ ذلك بالتخفيف.والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالتخفيف لإجماع الحجة من القرّاء عليه, والأخرى غير مدفوعة صحتها لصحة معناها.

أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12(وتفريع { أفتمارونه } على جملة { ما كذب الفؤاد ما أرى } .وقرأ الجمهور { أفتمارونه } من المماراة وهي الملاحاة والمجادلة في الإِبطال . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف { أفتمرونه } بفتح الفوقية وسكون الميم مضارع مَرَاه إذا جحده ، أي أتجحدونه أيضاً فيما رأى ، ومعنى القراءتين متقارب .وتعدية الفعل فيهما بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى الغلبة ، أي هَبْكُم غالبتموه على عبادتكم الآلهة ، وعلى الإِعراض عن سماع القرآن ونحو ذلك أتغلبونه على ما رأى ببصره .
الآية 12 - سورة النجم: (أفتمارونه على ما يرى...)