سورة البقرة: الآية 38 - قلنا اهبطوا منها جميعا ۖ...

تفسير الآية 38, سورة البقرة

قُلْنَا ٱهْبِطُوا۟ مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

الترجمة الإنجليزية

Qulna ihbitoo minha jameeAAan faimma yatiyannakum minnee hudan faman tabiAAa hudaya fala khawfun AAalayhim wala hum yahzanoona

تفسير الآية 38

قال الله لهم: اهبطوا من الجنة جميعًا، وسيأتيكم أنتم وذرياتكم المتعاقبة ما فيه هدايتكم إلى الحق. فمن عمل بها فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا.

«قلنا اهبطوا منها» من الجنة «جميعاً» كرره ليعطف عليه «فإما» فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة «يأتينكم مني هدىً» كتاب ورسول «فمن تبع هداي» فآمن بي وعمل بطاعتي «فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.

تفسير الآيتين 38 و 39 : كرر الإهباط, ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى أي: أيَّ وقت وزمان جاءكم مني -يا معشر الثقلين- هدى, أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني, ويدنيكم مني; ويدنيكم من رضائي، فمن تبع هداي منكم, بأن آمن برسلي وكتبي, واهتدى بهم, وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب, والامتثال للأمر والاجتناب للنهي، فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وفي الآية الأخرى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف والحزن والفرق بينهما, أن المكروه إن كان قد مضى, أحدث الحزن, وإن كان منتظرا, أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا, حصل ضدهما, وهو الأمن التام، وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه, حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى، وانتفى عنه كل مكروه, من الخوف, والحزن, والضلال, والشقاء، فحصل له المرغوب, واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه, فكفر به, وكذب بآياته. ف أولئك أصحاب النار أي: الملازمون لها, ملازمة الصاحب لصاحبه, والغريم لغريمه، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون. وفي هذه الآيات وما أشبهها, انقسام الخلق من الجن والإنس, إلى أهل السعادة, وأهل الشقاوة, وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك، وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب, كما أنهم مثلهم, في الأمر والنهي.

قول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتى أهبطهم من الجنة ، والمراد الذرية - أنه سينزل الكتب ، ويبعث الأنبياء والرسل ؛ كما قال أبو العالية : الهدى : الأنبياء والرسل والبيان ، وقال مقاتل بن حيان : الهدى : محمد صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : الهدى القرآن . وهذان القولان صحيحان ، وقول أبي العالية أعم .( فمن تبع هداي ) أي : من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل ( فلا خوف عليهم ) أي : فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ( ولا هم يحزنون ) على ما فاتهم من أمور الدنيا ، كما قال في سورة " طه " : ( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) [ طه : 123 ] قال ابن عباس : فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة . ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) [ طه : 124 ]

( قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .وليست هذه الإِعادة من قبيل التكرار الذي يقصد منه مجرد التوكيد ، بل قص الأمر بالهبوط أولا ليعلق عليه معنى؛ هو كون بعضهم لبعض عدواً .ثم قصة ثانية ليعلق عليه معنى آخر هو ما ترتب على الهبوط من تفصيل لحال المخاطبين ، وانقسامهم إلى مهتدين وضالين .والفاء في قوله ( فَإِمَّا ) لإِفادة ترتيب انقسام المخاطبين إلى مهتدين وكافرين على الهبوط المفهوم من قوله : ( اهبطوا ) .و ( إِمَّا ) هي إن الشرطية دخلت عليها " ما " لإفادة التوكيد ، ويغلب على فعل شرطها أن يكون مؤكداً بالنون وأوجب بعضهم ذلك .والهدى من الله معناه الدلالة على ما هو حق وخير بلسان رسول ، أو بآيات كتاب .وقد صرح - سبحانه - بأن الهدى صادر منه بقوله : ( مِّنِّي هُدًى ) ثم أضافه إلى نفسه بقوله : ( هُدَايَ ) للإِيذان بتعظيم أمر الهدى؛ وأنه أحق بأن يتبع ، ويتخذ سبيلا لطمأنينة النفس في الدنيا ، والفوز بالسعادة في الأخرى .والخوف : الفزع وهو تألم النفس من مكروه يتوقع حصوله .والحزن : الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فقد محبوب .ومعنى ( لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) أن نفوسهم آمنة مطمئنة بحيث لا يعتريها فزع ، ولا ينتابها ذعر كما أن قوله : ( وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ينفى عنهم الاغتمام لفوات مطلوب أو فقد محبوب .ونفي الخوف والحزن ورد في الآية على وجه الإِطلاق ، وظاهره أن المهتدين لا يعتريهم الخوف ولا الحزن في دنياهم ولا في آخرتهم ، ولكن قوله - تعالى - فيما يقابله من جزاء الكافرين ( أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) يرجح أن يكون المراد نفي الخوف والحزن في الدار الآخرة .

وقوله تعالى : ( قلنا اهبطوا منها جميعا ) يعني هؤلاء الأربعة . وقيل : الهبوط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والهبوط ( الآخر ) من السماء الدنيا إلى الأرض ( فإما يأتينكم ) أي فإن يأتكم يا ذرية آدم ( مني هدى ) أي رشد وبيان شريعة وقيل كتاب ورسول ( فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) قرأ يعقوب : فلا خوف بالفتح في كل القرآن والآخرون بالضم والتنوين فلا خوف عليهم فيما يستقبلون هم ] ( ولا هم يحزنون ) على ما خلفوا . وقيل لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة.

قوله تعالى قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنونقوله تعالى : قلنا اهبطوا كرر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده ، كما تقول لرجل : قم قم . وقيل : كرر الأمر لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر فعلق بالأول العداوة وبالثاني إتيان الهدى . وقيل : الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض ، وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة كما دل عليه حديث الإسراء على ما يأتي ." جميعا " نصب على الحال وقال وهب بن منبه : لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال إبليس للسباع إن هذا عدو لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب وقالوا أنت أشجعنا وجعلوه رئيسا فلما رأى ذلك آدم عليه السلام تحير في ذلك فجاءه جبريل عليه السلام وقال له امسح يدك على رأس الكلب ففعل فلما رأت السباع أن الكلب ألف آدم تفرقوا واستأمنه الكلب فأمنه آدم فبقي معه ومع أولاده وقال الترمذي الحكيم نحو هذا وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه وكان أشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم وبموت فؤاده يفزع من الآدميين فلو رمي بمدر ولى هاربا ثم يعود آلفا لهم ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم ، ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب على ما يأتي بيانه في " الأعراف " إن شاء الله تعالى ، ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى فكان يطرد بها السباع عن نفسه .قوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى اختلف في معنى قوله هدى فقيل : كتاب الله قاله السدي وقيل التوفيق للهداية وقالت فرقة : الهدى الرسل وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبي ذر ، وخرجه الآجري وفي قوله " مني " إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى خلافا للقدرية وغيرهم كما تقدم وقرأ الجحدري " هدي " وهو لغة هذيل يقولون هدي وعصي ومحيي ، وأنشد النحويون لأبي ذؤيب يرثي بنيه :سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرعقال النحاس : وعلة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه أن سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الألف أبدلت ياء وأدغمت . و " ما " في قوله " إما " زائدة على " إن " التي للشرط ، وجواب الشرط الفاء مع الشرط الثاني في قوله فمن تبع و " من " في موضع رفع بالابتداء . و " تبع " في موضع جزم بالشرط فلا خوف جوابه . قال سيبويه الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول . وقال الكسائي فلا خوف عليهم جواب الشرطين جميعا .قوله تعالى : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه . والتخوف التنقص ومنه قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب " فلا خوف " بفتح الفاء على التبرئة ، والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء ؛ لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن " لا " لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد ، ويجوز أن تكون " لا " في قوله تعالى : " فلا خوف " بمعنى ليس .والحزن والحزن : ضد السرور ولا يكون إلا على ماض ، وحزن الرجل ( بالكسر ) فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ، ومحزون بني عليه قال اليزيدي : حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما واحتزن وتحزن بمعنى ، والمعنى في الآية : فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا . وقيل : ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا ، والله أعلم .

القول في تأويل قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًاقال أبو جعفر: وقد ذكرنا القول في تأويل قوله: " قلنا اهبطوا منها جميعًا " فيما مضى، (1) فلا حاجة بنا إلى إعادته، إذْ كان معناه في هذا الموضع، هو معناه في ذلك الموضع.793- وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح، في قوله : " اهبطوا منها جميعًا "، قال: آدم وحواء والحية وإبليس. (2)القول في تأويل قوله تعالى ذكره: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًىقال أبو جعفر: وتأويل قوله: " فإما يأتينكم "، فإنْ يَأتكم. و " ما " التي مع " إن " توكيدٌ للكلام، ولدخولها مع " إن " أدخلت النون المشددة في" يأتينَّكم "، تفرقةً بدخولها بين " ما " التي تأتي بمعنى توكيد الكلام - التي تسميها أهل العربية صلة وَحشوًا - وبين " ما " التي تأتي بمعنى " الذي"، فتؤذِن بدخولها في الفعل، أنّ" ما " التي مع " إن " التي بمعنى الجزاء، توكيد، وليست " ما " التي بمعنى " الذي".وقد قال بعض نحويي أهل البصرة (3) : إنّ " إمَّا " ، " إن " زيدت معها " ما "، وصار الفعل الذي بعده بالنون الخفيفة أو الثقيلة، وقد يكون بغير نون. وإنما حسنت فيه النون لمّا دخلته " ما "، لأن " ما " نفيٌ، فهي مما ليس بواجب، وهي الحرف الذي ينفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم: " بعينٍ مَّا أرَينَّك "، حين أدخلت فيها " ما " حسنت النون فيما هاهنا.وقد أنكرت جماعة من أهل العربية دعوى قائل هذه المقالة (4) : أن " ما " التي مع " بعينٍ ما أرَينَّك " بمعنى الجحد، وزعموا أن ذلك بمعنى التوكيد للكلام.وقال آخرون: بل هو حشو في الكلام، ومعناها الحذف، وإنما معنى الكلام: " بعَين أراك "، وغير جائز أن يُجْعل مع الاختلاف فيه أصلا يُقاس عليه غيره.* * *القول في تأويل قوله تعالى ذكره: مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)قال أبو جعفر: والهدى، في هذا الموضع، البيان والرشاد. كما:-794- حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: " فإما يأتينكم مني هدًى " قال: الهدى، الأنبياءُ والرسل والبيان. (5) .فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال، فالخطاب بقوله: اهْبِطُوا ، وإن كان لآدم وزوجته، فيجب أن يكون مرادًا به آدمُ وزوجتُه وذريتُهما. فيكون ذلك حينئذ نظير قوله: فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [سورة فصلت: 11]، بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين، ونظيرَ قوله في قراءة ابن مسعود: ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرهم مناسكهم ) [سورة البقرة: 128]، فجمع قبل أن تكون ذريةً، وهو في قراءتنا: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا . وكما يقول القائل لآخر: " كأنك قد تزوجت وولد لك، وكثرتم وعززتم "، ونحو ذلك من الكلام.وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية، لأنّ آدمَ كان هو النبيَّ أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، (6) والرسولَ من الله جل ثناؤه إلى ولده. فغير جائز أن يكون معنيًّا -وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم- بقوله: " فإما يأتينّكم منّي هُدًى "، خطابًا له ولزوجته،" فإما يأتينكم مني أنبياءُ ورسل " (7) إلا على ما وصفتُ من التأويل.وقول أبي العالية في ذلك -وإن كان وجهًا من التأويل تحتمله الآية- فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبهُ بظاهر التلاوة، أن يكون تأويلها: فإما يأتينكم يا معشرَ من أُهبط إلى الأرض من سمائي (8) ، وهو آدمُ وزوجته وإبليس -كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها- إما يأتينكم منّي بيانٌ من أمري وطاعتي، ورشاد إلى سبيلي وديني، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إليّ معصية وخلافٌ لأمري وطاعتي. يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائبُ على من تاب إليه من ذنوبه، والرحيمُ لمن أناب إليه، كما وصف نفسه بقوله: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ، والذين خوطبوا به هم من سمّينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدّمنا الرواية عنهم. (9) . وذلك، وإن كان خطابًا من الله جل ذكره لمن أُهبط حينئذٍ من السماء إلى الأرض، فهو سنّة الله في جميع خلقه، وتعريفٌ منه بذلك الذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله (10) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة: 6]، وفي قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة: 8]، وأنّ حكمه فيهم -إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - أنهم عنده في الآخرة ممن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم إن هلكوا على كُفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة، كانوا من أهل النار المخلَّدين فيها.وقوله: " فمن تَبعَ هُدَايَ"، يعني: فمن اتبع بَياني الذي آتيتُه على ألسن رُسُلي، أو مع رسلي (11) . كما:-795- حدثنا به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: " فمن تَبع هُدَاي"، يعني بياني. (12) .* * *وقوله: " فلا خوفٌ عليهم "، يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله، غير خائفين عذابه، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمرَه وهُداه وسبيله، ولا هم يحزنون يومئذ على ما خلّفوا بعد وفاتهم في الدنيا. كما:-796- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: " لا خوفٌ عليهم "، يقول: لا خوف عليكم أمامكم (13) .وليس شيء أعظمَ في صدر الذي يموت ممّا بعد الموت. فأمّنهم منه وسَلاهم عن الدنيا فقال: " ولا هم يحزنون ".----------الهوامش :(1) انظر ص : 534 .(2) الأثر : 793- لم أجده بهذا الإسناد ، وانظر ، ما مضى الأرقام : 754 وما بعده .(3) في المطبوعة : "نحويي البصريين" .(4) في المطبوعة : "وقد أنكر جماعة . . . دعوى قائلي . . . " .(5) الأثر : 794- في ابن كثير 1 : 148 ، والدر المنثور 1 : 63 ، والشوكاني 1 : 58 .(6) في المطبوعة : "هو النبي صلى الله عليه وسلم" .(7) في المطبوعة : " . . . مني هدى أنبياء ورسل . . . " .(8) في المطبوعة : "فإما يأتينكم مني يا معشر من أهبطته . . . " .(9) في المطبوعة : "الرواية عنهم" بالحذف(10) في المطبوعة : "وتعريف منه بذلك للذين" .(11) في المطبوعة : " . . . بياني الذي أبينه على ألسن رسلي" .(12) الأثر : 795- لم أجده في مكان .(13) الأثر : 796- لم أجده في مكان .

كررت جملة { قلنا اهبطوا } فاحتمل تكريرها أن يكون لأجل ربط النظم في الآية القرآنية من غير أن تكون دالة على تكرير معناها في الكلام الذي خوطب به آدم فيكون هذا التكرير لمجرد اتصال ما تعلق بمدلول { وقلنا اهبطوا } [ البقرة : 36 ] وذلك قوله : { بعضكم لبعض عدو } [ البقرة : 36 ] وقوله : { فإما يأتينكم مني هدى } . إذ قد فَصَل بين هذين المتعلقين ما اعترض بينهما من قوله : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } [ البقرة : 37 ] فإنه لو عقب ذلك بقوله : { فإما يأتينكم مني هدى } لم يرتبط كمال الارتباط ولتوهم السامع أنه خطاب للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن فلدفع ذلك أعيد قوله : { قلنا اهبطوا } فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام ولذلك لم يعطف { قلنا } لأن بينهما شبه كمال الاتصال لتنزل قوله : { قلنا اهبطوا منها جميعاً } من قوله : { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } منزلة التوكيد اللفظي ثم بنى عليه قوله : { فإما يأتينكم مني هدى } الآية وهو مغاير لما بنى على قوله : { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } ليحصل شيء من تجدد فائدة في الكلام لكي لا يكون إعادة { اهبطوا } مجرد توكيد ويسمى هذا الأسلوب في علم البديع بالترديد نحو قوله تعالى : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } [ آل عمران : 188 ] وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ .وقيل هو أمر ثاني بالهبوط بأن أهبط آدم من الجنة إلى السماء الدنيا بالأمر الأول ثم أهبط من السماء الدنيا إلى الأرض فتكون إعادة { قلنا اهبطوا } للتنبيه على اختلاف زمن القولين والهبوط وهو تأويل يفيد أن المراحل والمسافات لا عبرة بها عند المسافر ولأن ضمير { منها } المتعين للعود إلى الجنة لتنسق الضمائر في قوله : { وكلا منها رغداً } [ البقرة : 35 ] وقوله : { فأزلهما الشيطان عنها } [ البقرة : 36 ] مانع من أن يكون المراد اهبطوا من السماء جميعاً إذ لم يسبق معاد للسماء فالوجه عندي على تقدير أن تكون إعادة { اهبطوا } الثاني لغير ربط نظم الكلام أن تكون لحكاية أمر ثاننٍ لآدم بالهبوط كيلا يظن أن توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر بالهبوط قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنة فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول توبته ليعلم أن ذلك كائن لا محالة لأنه مراد الله تعالى وطور من الأطوار التي أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض وهو ما أخبر به الملائكة .وفيه إشارة أخرى وهي أن العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات . وأما تحقيق آثار المخالفة وهو العقوبة التأديبية فإن العفوعنها فساد في العالم لأن الفاعل للمخالفة إذا لم ير أثر فعله لم يتأدب في المستقبل فالتسامح معه في ذلك تفويت لمقتضى الحكمة ، فإن الصبي إذا لوث موضعاً وغضب عليه مربيه ثم تاب فعفا عنه فالعفو يتعلق بالعقاب وأما تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه ولذا لما تاب الله على آدم رضي عنه ولم يؤاخذه بعقوبة ولا بزاجر في الدنيا ولكنه لم يصفح عنه في تحقق أثر مخالفته وهو الهبوط من الجنة ليرى أثر حرصه وسوء ظنه ، هكذا ينبغي أن يكون التوجيه إذا كان المراد من { اهبطوا } الثاني حكاية أمر ثان بالهبوط خوطب به آدم .و { جميعاً } حال . وجميع اسم للمجتمعين مثل لفظ ( جمع ) فلذلك التزموا فيه حالة واحدة وليس هو في الأصل وصفاً وإلا لقالوا جاءوا جميعين لأن فعيلاً بمعنى فاعل يطابق موصوفه وقد تأولوا قول امرىء القيس :فلو أنها نفس تموت جميعة ... بأن التاءَ فيه للمبالغة والمعنى اهبطوا مجتمعين في الهبوط متقارنين فيه لأنهما استويا في اقتراف سبب الهبوط .وقوله : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي } شرط على شرط لأن ( إما ) شرط مركب من إن الشرطية وما الزائدة دالة على تأكيد التعليق لأن إن بمجردها دالة على الشرط فلم يكن دخول ما الزائدة عليها كدخولها على ( متى ) و ( أي ) و ( أين ) و ( أيان ) و ( ما ) و ( من ) و ( مهما ) على القول بأن أصلها ماما لأن تلك كانت زيادتها لجعلها مفيدة معنى الشرط فإن هذه الكلمات لم توضع له بخلاف ( إن ) وقد التزمت العرب تأكيد فعل الشرط مع إما بنون التوكيد لزيادة توكيد التعليق بدخول علامته على أداته وعلى فعله فهو تأكيد لا يفيد تحقيق حصول الجواب لأنه مناف للتعليق ، ولذلك لم يؤكد جواب الشرط بالنون بل يفيد تحقيق الربط أي إن كون حصول الجواب متوقفاً على حصول الشرط أمر محقق لا محالة فإن التعليق ما هو إلا خبر من الأخبار ، إذ حاصله الإخبار بتوقف حصول الجزاء على حصول الشرط فلا جرم كان كغيره من الأخبار قابلاً للتوكيد وقلما خلا فعل الشرط مع إما عن نون التوكيد كقول الأعشى :إما تريْنا حُفاةً نعال لنا ... إنا كذلك ما نحْفي وننتعلوهو غير حسن عند سيبويه والفارسي ، وقال المبرد والزجاج هوممنوع فجعلا خلو الفعل عنه ضرورة .وقوله : { فمن تبع هداي } مَن شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها { فلا خوف عليهم } لأن الفاء وإن دخلت في خبر الموصول كثيراً فذلك على معاملته معاملة الشرط فلتحمل هنا على الشرطية اختصاراً للمسافة .وأظهر لفظ الهدى في قوله : { هُداي } وهوعين الهُدى في قوله : { مني هدى } فكان المقام للضمير الرابط للشرطية الثانية بالأولى لكنه أظهر اهتماماً بالهدى ليزيد رسوخاً في أذهان المخاطبين على حد { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } [ المزمل : 15 ، 16 ] ولتكون هاته الجملة مستقلة بنفسها لا تشتمل على عائد يحتاج إلى ذكر معاد حتى يتأتى تسييرها مسير المثل أو النصيحة فتُلحظ فتحفظ وتتذكرها النفوس لتهذب وترتاض كما أظهر في قوله :{ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } [ الإسراء : 81 ] لتسير هذه الجملة الأخيرة مسير المثل ومنه قول بشار :إذا بَلغ الرأي المَشُورةَ فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازمولا تجعل الشورى عليك غضاضةً ... مكانُ الخوافي قوةٌ للقوادموأدْننِ إلى الشُّورى المسدَّدَ رأيُهُ ... ولا تُشهد الشورى امرأً غير كاتمفكرر الشورى ثلاث مرات في البيتين الثاني والثالث ليكون كل نصف سائراً مسير المثل وبهذا يظهر وجه تعريف الهدى الثاني بالإضافة لضمير الجلالة دون أل مع أنها الأصل في وضع الظاهر موضع الضمير الواقع معاد لئلا يفوت هاته الجملة المستقلة شيء تضمنته الجملة الأولى إذ الجملة الأولى تضمنت وصف الهدى بأنه آت من الله والإضافة في الجملة الثانية تفيد هذا المفاد .والإتيانُ في قوله تعالى : { فإما يأتينكم } بحَرف الشرط الدال على عدم الجزم بوقوع الشرط إيذان ببقية من عتاب على عدم امتثال الهدى الأول وتعريض بأن محاولة هديكم في المستقبل لا جدوى لها كما يقول السيد لعبده إذا لم يعمل بما أوصاه به فغضب عليه ثم اعتذَر له فرضي عنه : إنْ أوصيتك يوماً آخر بشيء فلا تَعُدْ لمثل فعلتك ، يعرض له بأن تعلق الغرض بوصيته في المستقبل أمر مشكوك فيه إذ لعله قليل الجدوى ، وهذا وجه بليغ فات صاحب «الكشاف» حجبه عنه توجيهٌ تكلَّفه لإرغام الآية على أن تكون دليلاً لقول المعتزلة بعدم وجوب بعثة الرسل للاستغناء عنها بهدي العقل في الإيمان بالله مع كون هدي الله تعالى الناس واجباً عندهم ، وذلك التكلف كثير في «كتابه» وهو لا يليق برسوخ قدمه في العلم ، فكان تقريره هذا كالاعتذار عن القول بعدم وجوب بعثة الرسل على أن الهدى لا يختص بالإيمان الذي يغني فيه العقل عن الرسالة عندهم بل معظمه هدي التكاليف وكثير منها لا قِبَل للعقل بإدراكه ، وهو على أصولهم أيضاً واجب على الله إبلاغه للناس فيبقى الإشكال على الإتيان بحرف الشك هنا بحالة فلذلك كانت الآية أسعد بمذهبنا أيها الأشاعرة من عدم وجوب الهدي كله على الله تعالى لو شئنا أن نستدل بها على ذلك كما فعل البيضاوي ولكنا لا نراها واردة لأجله .وقوله : { فإما يأتينكم منّي هدى } الآية هو في معنى العهد أخذه الله على آدم فلزم ذريته أن يتبعوا كل هدى يأتيهم من الله وأن من أعرض عن هدى يأتي من الله فقد استوجب العذاب فشمل جميع الشرائع الإلهية المخاطب بها طوائف الناس لوقوع ( هدى ) نكرة في سياق الشرط وهو من صيغ العموم ، وأولى الهدي وأجدره بوجوب اتباعه الهدي الذي أتى من الله لسائر البشر وهو دين الإسلام الذي خوطب به جميع بني آدم وبذلك تهيأ الموقع لقوله : { والذين كفروا } إلخ فالله أخذ العهد من لدن آدم على اتباع الهدي العام كقوله :{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة } [ آل عمران : 81 ] الآية .وهذه الآية تدل على أن الله لا يؤاخذ البشر بما يقترفونه من الضلال إلا بعد أن يرسل إليهم من يهديهم فأما في تفاصيل الشرائع فلا شك في ذلك ولا اختلاف وأما في توحيد الله وما يقتضيه من صفات الكمال فيجري على الخلاف بين علمائنا في مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك ، ولعل الآية تدل على أن الهدى الآتي من عند الله في ذلك قد حصل من عهد آدم ونوح وعرفه البشر كلهم فيكون خطاباً ثابتاً لا يسع البشر ادعاء جهله وهو أحد قولين عن الأشعري ، وقيل لا ، وعند المعتزلة والماتريدية أنه دليل عقلي .وقوله : { فلا خلاف عليهم } نفي لجنس الخوف . و { خوف } مرفوع في قراءة الجمهور وقرأه يعقوب مبنياً على الفتح وهما وجهان في اسم ( لا ) النافية للجنس وقد روي بالوجهين قول المرأة الرابعة من نساء حديث أم زرع «زوجي كليل تهامه لا حر ولا قُر ولا مخافة ولا سآمه» . وبناء الاسم على الفتح نص في نفي الجنس ورفعه محتمل لنفي الجنس ولنفي فرد واحد ، ولذلك فإذا انتفى اللبس استوى الوجهان كما هنا إذ القرينة ظاهرة في نفي الجنس .
الآية 38 - سورة البقرة: (قلنا اهبطوا منها جميعا ۖ فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون...)