سورة البقرة: الآية 213 - كان الناس أمة واحدة فبعث...

تفسير الآية 213, سورة البقرة

كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۦنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُوا۟ فِيهِ ۚ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لِمَا ٱخْتَلَفُوا۟ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ

الترجمة الإنجليزية

Kana alnnasu ommatan wahidatan fabaAAatha Allahu alnnabiyyeena mubashshireena wamunthireena waanzala maAAahumu alkitaba bialhaqqi liyahkuma bayna alnnasi feema ikhtalafoo feehi wama ikhtalafa feehi illa allatheena ootoohu min baAAdi ma jaathumu albayyinatu baghyan baynahum fahada Allahu allatheena amanoo lima ikhtalafoo feehi mina alhaqqi biithnihi waAllahu yahdee man yashao ila siratin mustaqeemin

تفسير الآية 213

كان الناس جماعة واحدة، متفقين على الإيمان بالله ثم اختلفوا في دينهم، فبعث الله النبيين دعاة لدين الله، مبشرين مَن أطاع الله بالجنة، ومحذرين من كفر به وعصاه النار، وأنزل معهم الكتب السماوية بالحق الذي اشتملت عليه؛ ليحكموا بما فيها بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اخْتَلَف في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه ظلمًا وحسدًا إلا الذين أعطاهم الله التوراة، وعرفوا ما فيها من الحجج والأحكام، فوفَّق الله المؤمنين بفضله إلى تمييز الحق من الباطل، ومعرفة ما اختلفوا فيه. والله يوفِّق من يشاء من عباده إلى طريق مستقيم.

«كان الناس أمة واحدة» على الإيمان فاختلفوا بأن آمن بعض وكفر بعض «فبعث الله النبيين» إليهم «مبشِّرين» من آمن بالجنة «ومنذرين» من كفر بالنار «وأنزل معهم الكتاب» بمعنى الكتب «بالحق» متعلق بأنزل «ليحكم» به «بين الناس فيما اختلفوا فيه» من الدين «وما اختلف فيه» أي الدين «إلا الذين أوتوه» أي الكتاب فآمن بعض وكفر بعض «من بعد ما جاءتهم البينات» الحجج الظاهرة على التوحيد ومن متعلقة باختلاف وهي وما بعدها مقدم على الاستثناء في المعنى «بغيا» من الكافرين «بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من» للبيان «الحق بإذنه» بإرادته «والله يهدي من يشاء» هدايته «إلى صراط مستقيم» طريق الحق.

( أي: كان الناس ) [ أي: كانوا مجتمعين على الهدى، وذلك عشرة قرون بعد نوح عليه السلام، فلما اختلفوا في الدين فكفر فريق منهم وبقي الفريق الآخر على الدين، وحصل النزاع وبعث الله الرسل ليفصلوا بين الخلائق ويقيموا الحجة عليهم، وقيل بل كانوا ] مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء, ليس لهم نور ولا إيمان، فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم ( مُبَشِّرِينَ ) من أطاع الله بثمرات الطاعات, من الرزق, والقوة في البدن والقلب, والحياة الطيبة, وأعلى ذلك, الفوز برضوان الله والجنة.( وَمُنْذِرِينَ ) من عصى الله, بثمرات المعصية, من حرمان الرزق, والضعف, والإهانة, والحياة الضيقة, وأشد ذلك, سخط الله والنار.( وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) وهو الإخبارات الصادقة, والأوامر العادلة، فكل ما اشتملت عليه الكتب, فهو حق, يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع, أن يرد الاختلاف إلى الله وإلى رسوله، ولولا أن في كتابه, وسنة رسوله, فصل النزاع, لما أمر بالرد إليهما.ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب, وكان هذا يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم، فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض, وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف.فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه, وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات, والأدلة القاطعات, فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) من هذه الأمة ( لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ) فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب, وأخطأوا فيه الحق والصواب, هدى الله للحق فيه هذه الأمة ( بِإِذْنِهِ ) تعالى وتيسيره لهم ورحمته.( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فعمَّ الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم, عدلا منه تعالى, وإقامة حجة على الخلق, لئلا يقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ وهدى - بفضله ورحمته, وإعانته ولطفه - من شاء من عباده، فهذا فضله وإحسانه, وذاك عدله وحكمته.

ال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو داود ، أخبرنا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق . فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله : " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا " .ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث بندار عن محمد بن بشار . ثم قال : صحيح ولم يخرجاه .وكذا روى أبو جعفر الرازي ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : أنه كان يقرؤها : " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " .وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( كان الناس أمة واحدة ) قال : كانوا على الهدى جميعا ، " فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين منذرين " فكان أول نبي بعث نوحا . وهكذا قال مجاهد ، كما قال ابن عباس أولا .وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( كان الناس أمة واحدة ) يقول : كانوا كفارا ، ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين )والقول الأول عن ابن عباس أصح سندا ومعنى ; لأن الناس كانوا على ملة آدم ، عليه السلام ، حتى عبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم نوحا ، عليه السلام ، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض .ولهذا قال : ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم )أي : من بعد ما قامت عليهم الحجج وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض ، ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة في قوله : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، نحن أول الناس دخولا الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا له فالناس لنا فيه تبع ، فغدا لليهود ، وبعد غد للنصارى " .ثم رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .وقال ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه في قوله : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) فاختلفوا في يوم الجمعة ، فاتخذ اليهود يوم السبت ، والنصارى يوم الأحد . فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة . واختلفوا في القبلة ; فاستقبلت النصارى المشرق ، واليهود بيت المقدس ، فهدى الله أمة محمد للقبلة . واختلفوا في الصلاة ; فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض النهار ، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في إبراهيم ، عليه السلام ، فقالت اليهود : كان يهوديا ، وقالت النصارى : كان نصرانيا ، وجعله الله حنيفا مسلما ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في عيسى ، عليه السلام ، فكذبت به اليهود ، وقالوا لأمه بهتانا عظيما ، وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله الله روحه ، وكلمته ، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك .وقال الربيع بن أنس في قوله : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) أي : عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف ، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده ، وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف ، واعتزلوا الاختلاف ، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهودا على قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وآل فرعون ، أن رسلهم قد بلغوهم ، وأنهم قد كذبوا رسلهم .وفي قراءة أبي بن كعب : " وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ، وكان أبو العالية يقول : في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن .وقوله : ( بإذنه ) أي : بعلمه ، بما هداهم له . قاله ابن جرير : ( والله يهدي من يشاء ) أي : من خلقه ( إلى صراط مستقيم ) أي : وله الحكم والحجة البالغة . وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول : " اللهم ، رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " . وفي الدعاء المأثور : اللهم ، أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا ووفقنا لاجتنابه ، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل ، واجعلنا للمتقين إماما .

قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما بين في الآية المتقدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا، بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة، لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق ثم اختلفوا، وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا» .والأمة القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدى بعضهم ببعض مأخوذ من أم بمعنى قصد لأن كل واحد من أفراد القوم يؤم المجموع ويقصده في مختلف شؤونه.وللعلماء أقوال في معنى قوله- تعالى- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.القول الأول الذي عليه جمهور المفسرين أن المعنى: كان الناس أمة واحدة متفقين على توحيد الله- تعالى- مقرين له بالعبودية مجتمعين على شريعة الحق ثم اختلفوا ما بين ضال ومهتد، فبعث الله إليهم النبيين ليبشروا من اهتدى منهم بجزيل الثواب، ولينذروا من ضل بسوء العذاب، وليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه بالحكم العادل، والقول الفاصل.قال القفال: ويشهد لصحة هذا الرأى قوله- تعالى- فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ... فهذا يدل على أن الأنبياء- عليهم السلام- إنما بعثوا حين الاختلاف، ويتأكد هذا بقوله: «وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا» ويتأكد أيضا بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ...و «كان» على هذا الرأى على بابها من المضي، وعدم استمرار الحكم، وعدم امتداده إلى المستقبل، لأن الناس كانوا مهتدين ثم زالت الهداية عنهم أو عن كثير منهم بسبب اختلافهم فأرسل الله- تعالى- رسله لهدايتهم.القول الثاني يرى أصحابه أن المعنى: كان الناس أمة واحدة مجتمعين على الضلال والكفر فبعث الله النبيين لهدايتهم..و «كان» على هذا الرأى- أيضا- على بابها من المضي والانقضاء، ولا تحتاج على هذا الرأى إلى تقدير كلام محذوف، وهو ثم اختلفوا فبعث.. إلخ.ومن العلماء الذين رجحوا القول الأول الإمام ابن كثير فقد قال: عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.. وهكذا قال قتادة ومجاهد. وقال العوفى عن ابن عباس (كان الناس أمة واحدة) يقول كانوا كفارا (فبعث الله النبيين) والقول الأول عن ابن عباس وهو أصح سندا ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا- عليه السلام- فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض .أما الرأى الثالث فقد قرره الإمام القرطبي بقوله: ويحتمل أن تكون «كان» للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم. فلا يختص «كان» على هذا التأويل بالمضي فقط، بل معناه معنى قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً .وهذا الرأى قد اختاروه الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره للآية الكريمة ووافقه عليه بعض العلماء الذين كتبوا في تفسير هذه الآية. قال الأستاذ الإمام ما ملخصه.«خلق الله الإنسان أمة واحدة أى مرتبطا بعضه ببعض في المعاش لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضا، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن توفير جميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته ... وهذا معنى قولهم: «الإنسان مدني بطبعه» يريدون بذلك أنه لم يوهب من القوى ما يكفى للوصول إلى جميع حاجاته إلا بالاستعانة بغيره.. ولما كان الناس كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف بمقتضى فطرهم، وكان من رحمة الله أن يرسل إليهم مبشرين ومنذرين.وترتيب بعثة الرسل على وحدة الأمة في الآية التي نفسرها يكون على هذا المعنى:إن الله قضى أن يكور الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض ولا سبيل لعقولهم، وحدها إلى الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم ودفع المضار عنهم، لتفاوت عقولهم، واختلاف فطرهم، وحرمانهم من الإلهام الهادي لكل منهم إلى ما يجب عليه نحو صاحبه، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله- تعالى- القادر على إثابتهم وعقوبتهم ... » .وقال فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ما ملخصه: وإن هذا الرأى الذي اختاره الأستاذ الإمام هو الذي نختاره، وعلى هذا التأويل لا يكون ثمة حاجة إلى تقدير محذوف، لأن ذات حالهم من كونهم لا علم لهم بالشرائع ولا تهتدى عقولهم إلى الحقائق بنفسها توجب البعث، ولأن تلك الحال التي تكون على الفطرة وحدها توجب الاختلاف فتوجب بعث النبيين.. ثم إن نفس كل إنسان فيها نزوع إلى الاجتماع، وحيث كان الاجتماع فلا بد من نظام يربط، وشرع يحكم.وعلى هذا التأويل أيضا تكون الفاء في قوله: فَبَعَثَ ... - وهي التي يقول عنها النحويون إنها للترتيب والتعقيب- في موضعها من غير حاجة إلى تقدير، لأن كون الناس أمة واحدة اقتضت الرسالة واقتضت الاختلاف.و «كان» على هذا التأويل تدل على الاستمرار والثبوت، لأن الناس بمقتضى فطرهم دائما في حاجة إلى شرع السماء لا يهتدون إلا به.ثم قال فضيلته: وقد يقول قائل: إن جعل «كان» للاستمرار يفيد أن وحدة الناس في الفطرة وتأديها إلى التناحر يقتضى بعث النبيين إلى يوم القيامة، وأنه لا بد من نبي لعصرنا، ونحن نسلّم بالاعتراض ولا ندفع إيراده ونقول: نعم إنه لا بد من قيام رسالة إلى يوم القيامة وهي رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم التي جاءت بكتاب تتجدد به الرسالة والبعث إلى أن تفنى الأرض ومن عليها وهذا الكتاب هو القرآن الكريم الذي لا تبلى جدته، والذي تكفل الله بحفظه، وبإعجازه إلى يوم القيامة، والذي من يقرؤه فكأنما يتلقاه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم» .هذه هي أشهر الأقوال في معنى قوله- تعالى- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وهناك أقوال أخرى لم نذكرها لضعفها.وقوله- تعالى-: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ معطوف على فَبَعَثَ، والمراد بالكتاب الجنس.والمعنى: وأنزل- سبحانه- مع هؤلاء النبيين الذين بعثهم مبشرين ومنذرين كلامه الملتبس بالحق والجامع لما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، لكي يفصلوا بواسطته بين الناس فيما اختلفوا من شئون دينية ودنيوية.وذكر- سبحانه- الكتاب بصيغة المفرد للإشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت إلا أنها في جوهرها كتاب واحد لاشتمالها على شرع واحد في أصله، وإذا كان هناك خلاف بينها ففي تفاصيل الأحكام وفروعها لا في جوهرها وأصولها، وقوله: بِالْحَقِّ متعلق بأنزل، أو حال من الكتاب أى ملتبسا شاهدا به.والضمير في قوله: لِيَحْكُمَ.. يجوز أن يعود إلى الله- تعالى- أو إلى النبيين، أو إلى الكتاب. ورجح بعضهم عودته إلى الكتاب لأنه أقرب مذكور. والجملة تعليلية للإنزال المذكور.وفي إسناد الحكم إلى الكتاب تنبيه للناس إلى أن من الواجب عليهم أن يرجعوا إليه عند كل اختلاف. لأن هذا هو المقصد الأساسى من إنزال الكتب السماوية.وللأستاذ الإمام محمد عبده كلام نفيس في هذا المعنى فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه:«الحكم مسند إلى الكتاب نفسه، فالكتاب ذاته هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، وفيه نداء للحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه، وألا يعدلوا عنه إلى ما تسوله الأنفس وتزينه الأهواء.. ولو ساغ للناس أن يؤولوا نصا من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم بدون رجوع إلى بقية النصوص، لما كان لإنزال الكتب فائدة، ولما كانت الكتب في الحقيقة حاكمة، بل كانت متحكمة فيها الأهواء، فنعود المصلحة مفسدة، وينقلب الدواء علة، ولهذا رد الله الحكم إلى الكتاب نفسه لا إلى هوى الحاكم به.. ونسبة الحكم إلى الكتاب هي كنسبة النطق والهدى والتبشير إليه في قوله- تعالى-: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ وقوله- تعالى-: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ..ثم بقول- رحمه الله- «يتخذ الواحد منهم كلمة من الكتاب أو أثرا مما جاء به وسيلة إلى تسخير غيره لما يريد، وذلك قطع الكلمة أو الأثر عن بقية ما جاء في الكتاب والآثار الأخر ولى اللسان أو تأويله بغير ما قصد منه وما هم المؤول أن يعمل بالكتاب وإنما كل ما يقصد هو أن يصل إلى مطلب لشهوته، أو عضد لسطوته، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت، واعوجت السبيل أم استقامت، ثم يأتى ضال آخر يريد أن ينال من هذا ما نال غيره، فيحرف ويؤول حتى يجد المخدوعين بقوله، ويتخذهم عونا على الخادع الأول، فيقع الاختلاف والاضطراب، وآلة المختلفين في ذلك هو الكتاب ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أدت إلى اختلاف الناس في الكتاب الذي أنزله لهدايتهم فقال وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.والضمير في قوله: فِيهِ وفي قوله: أُوتُوهُ يعود إلى الكتاب، والمعنى عليه:وما اختلف في شأن الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه، المنزل لإزالة الاختلاف، إلا الذين أوتوه، أى علموه ووقفوا على تفاصيله، ولم يكن اختلافهم لالتباس عليهم من جهته وإنما كان خلافهم من بعد ما ظهرت لهم الدلائل الواضحة الدالة على صدقه، وما حملهم على هذا الاختلاف إلا البغي والظلم والحسد الذي وقع بينهم.والمراد بالذين اختلفوا فيه أهل الكتاب اليهود والنصارى، واختلافهم في الكتاب يشمل تصديقهم ببعضه وتكذيبهم بالبعض الآخر، كما يشمل اختلافهم في تفسيره وتأويله وتنفيذ أحكامه وعدم تنفيذها، وذهاب كل فريق منهم مذهبا يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في فروعه.وعبر عن الإنزال بالإيتاء- كما يقول الآلوسى- للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق، فإن الإنزال لا يفيد ذلك، وقيل: عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم» .وقوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ متعلق باختلف، وفيه زيادة تشنيع عليهم لأنهم قد اختلفوا فيه بعد أن قامت أمامهم الحجج الناصعة الدالة على الحق.وقوله: بَغْياً مفعول لأجله لاختلفوا وبَيْنَهُمْ متعلق بمحذوف صفة لقوله بَغْياً.أى أن داعي الاختلاف هو البغي والحسد الذي وقع بينهم، فجعل كل فريق منهم يخطئ الآخر، ويجرح رأيه.وفي هذا التعبير إشارة إلى أن البغي قد باض وفرخ عندهم، فهو يحوم عليهم، ويدور بينهم، ولا طمع له في غيرهم، ولا ملجأ له سواهم، لأنهم أربابه الذين تمكنوا منه، وتمكن منهم بقوة ورسوخ.وبعضهم جعل الضمير في قوله: فِيهِ يعود إلى الحق، والضمير في قوله: أُوتُوهُ يعود إلى الكتاب. أى: وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب.ويرى بعض العلماء أن عودة الضمير في كليهما إلى الحق أو إلى الكتاب جائز، وأن المعنى على التقديرين واحد، لأن الكتاب أنزل ملابسا للحق ومصاحبا له، فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق والجملة الكريمة تحذير شديد من الوقوع فيما وقع فيه غيرهم من اختلاف يؤدى إلى البغي والتنازع والإعراض عن الحق.ثم بين- سبحانه- حال المؤمنين بعد بيانه لحال الغاوين فقال- تعالى فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ.أى: فهدى الله الذين آمنوا وصدقوا رسله إلى الحق الذي اختلف فيه أهل الضلالة، وذلك الهدى بفضل توفيقه لهم وتيسيره لأمرهم.والفاء في قوله: فَهَدَى فصيحة لأنها أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف.والتقدير: إذا كان هذا شأن الضالين المختلفين في الحق، فقد هدى الله بفضله الذين آمنوا إلى الصواب.وبين- سبحانه- أن الذين رزقهم الهداية هم الذين آمنوا، للإشعار بأن سبب هدايتهم للحق هو إيمانهم وتقواهم، واستجابتهم للداعي الذي دعاهم إلى الطريق المستقيم.وأسند الهداية إليه- سبحانه- لأنه هو خالقها، ولأن قلوب العباد بيديه فهو يقلبها كيف يشاء، وهذا لا ينافي أن للعبد اختيارا وكسبا فهو إذا سار في طريق الحق رزقه الله النور المشرق الذي يهديه، وإن سار في طريق الضلالة واستحب العمى على الهدى سلب الله عنه توفيقه بسبب إيثاره الضلالة على الهداية.وقوله- تعالى- في ختام هذه الآية: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تذييل قصد به بيان كمال سلطانه، وتمام قدرته.أى: والله وحده هو الهادي من يشاء من عباده إلى طريق الحق الذي لا يضل سالكه، فليس لأحد سلطان بجوار سلطانه، ولو أراد أن يكون الناس جميعا مهديين لكانوا، ولكن حكمته اقتضت أن يختبرهم ليتميز الخبيث من الطيب، فيجازى كل فريق بما يستحقه.قال ابن كثير: وفي صحيح البخاري ومسلّم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قام من الليل يصلى يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم» .وفي الدعاء المأثور: اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماما .وبذلك نرى أن الآية قد بينت أن الناس لا يستغنون عن الدين الذي شرعه الله لهم على لسان رسله- عليهم الصلاة والسلام-، وأن الأشرار من الناس هم الذين يحملهم البغي على الاختلاف في الحق بعد ظهوره لهم، أما الأخيار منهم فهم الذين اهتدوا بتوفيق الله وتيسيره إلى طريق الخير والصواب وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.وبعد أن ذكر- سبحانه- حال الناس، واختلاف سفهائهم على أنبيائهم، واهتداء عقلائهم إلى الحق، عقب ذلك بدعوة المؤمنين إلى الاقتداء بمن سبقهم في الصبر والثبات. فقال- تعالى-:

قوله تعالى ( كان الناس أمة واحدة ) على دين واحد قال مجاهد : أراد آدم وحده كان أمة واحدة قال سمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل وأبو البشر ثم خلق الله تعالى حواء ونشر منهما الناس فانتشروا وكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا ( فبعث الله النبيين ) قال الحسن وعطاء : كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة الكفر أمثال البهائم فبعث الله نوحا وغيره من النبيين . وقال قتادة وعكرمة : كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث الله إليهم نوحا فكان أول نبي بعث ثم بعث بعده النبيين .وقال الكلبي : هم أهل سفينة نوح كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح .وروي عن ابن عباس قال : كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة كفارا كلهم فبعث الله إبراهيم وغيره من النبيين وقيل : كان العرب على دين إبراهيم إلى أن غيره عمرو بن لحي . وروي عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : كان الناس حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية أمة واحدة مسلمين كلهم ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم ثم اختلفوا بعد آدم نظيره في سورة يونس " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين " ( 19 - يونس ) وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكورون في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون نبيا ) ( مبشرين ) بالثواب من آمن وأطاع ) ( ومنذرين ) محذرين بالعقاب من كفر وعصى ( وأنزل معهم الكتاب ) أي الكتب تقديره وأنزل مع كل واحد منهم الكتاب ) ( بالحق ) بالعدل والصدق ( ليحكم بين الناس ) قرأ أبو جعفر ) ( ليحكم ) بضم الياء وفتح الكاف هاهنا وفي أول آل عمران وفي النور موضعين لأن الكتاب لا يحكم في الحقيقة إنما ) ( الحكم ) به وقراءة العامة بفتح الياء وضم الكاف أي ليحكم الكتاب ذكره على سعة الكلام كقوله تعالى " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " ( 29 - الجاثية ) . وقيل معناه ليحكم كل نبي بكتابه ( فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه ) أي في الكتاب ( إلا الذين أوتوه ) أي أعطوا الكتاب ( من بعد ما جاءتهم البينات ) يعني أحكام التوراة والإنجيل قال الفراء : ولاختلافهم معنيان :أحدهما : كفر بعضهم بكتاب بعض قال الله تعالى : " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " ( 150 - النساء ) والآخر : تحريفهم كتاب الله قال الله تعالى : " يحرفون الكلم عن مواضعه " ( 46 - النساء ) وقيل الآية راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه اختلف فيه أهل الكتاب ( من بعد ما جاءتهم البينات ) صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم ) ( بغيا ) ظلما وحسدا ( بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه ) أي لما اختلفوا فيه ( من الحق بإذنه ) بعلمه وإرادته فيهم . قال ابن زيد في هذه الآية : اختلفوا في القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس فهدانا الله إلى الكعبة واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في الأيام فأخذت اليهود السبت والنصارى الأحد فهدانا الله للجمعة واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى كان نصرانيا فهدانا الله للحق من ذلك واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لفرية وجعلته النصارى إلها وهدانا الله للحق فيه ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .

كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيمقوله تعالى : كان الناس أمة واحدة أي على دين واحد . قال أبي بن كعب ، وابن زيد : المراد بالناس بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم فأقروا له بالوحدانية . وقال مجاهد : الناس آدم وحده ، وسمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل . وقيل : آدم وحواء . وقال ابن عباس وقتادة : ( المراد بالناس القرون التي كانت بين آدم ونوح ، وهي عشرة كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله نوحا فمن بعده ) . وقال ابن أبي خيثمة : منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة . وقيل : أكثر من ذلك ، وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة . وعاش آدم تسعمائة وستين سنة ، وكان الناس في زمانه أهل ملة واحدة ، متمسكين بالدين ، تصافحهم الملائكة ، وداموا على ذلك إلى أن رفع إدريس عليه السلام فاختلفوا . وهذا فيه نظر ؛ لأن إدريس بعد نوح على الصحيح . وقال قوم منهم الكلبي والواقدي : المراد نوح ومن في السفينة ، وكانوا مسلمين ثم بعد وفاة نوح اختلفوا . وقال ابن عباس أيضا : ( كانوا أمة واحدة على الكفر ، يريد في مدة نوح حين بعثه الله ) . وعنه أيضا : كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة ، كلهم كفار ، وولد إبراهيم في جاهلية ، فبعث الله تعالى إبراهيم وغيره من النبيين . ف " كان " على هذه الأقوال على بابها من المضي المنقضي . وكل من قدر الناس في الآية مؤمنين ، قدر في الكلام فاختلفوا فبعث ، ودل على هذا الحذف : " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه " أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين ، مبشرين من أطاع ومنذرين من عصى . وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة النبيين إليهم . ويحتمل أن تكون " كان " للثبوت ، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق ، لولا من الله عليهم ، وتفضله بالرسل إليهم . فلا يختص " كان " على هذا التأويل بالمضي فقط ، بل معناه معنى قوله : " وكان الله غفورا رحيما " . و " أمة " مأخوذة من قولهم : أممت كذا ، أي قصدته ، فمعنى " أمة " مقصدهم واحد ، ويقال للواحد : أمة ، أي مقصده غير مقصد الناس ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قس بن ساعدة : يحشر يوم القيامة أمة وحده . وكذلك قال في زيد بن عمرو بن نفيل . والأمة القامة ، كأنها مقصد سائر البدن . والإمة ( بالكسر ) : النعمة ؛ لأن الناس يقصدون قصدها . وقيل : إمام ؛ لأن الناس يقصدون قصد ما يفعل ، عن النحاس . وقرأ أبي بن كعب : " كان البشر أمة واحدة " وقرأ ابن مسعود " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث " .قوله تعالى : فبعث الله النبيين وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفا ، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والمذكورون في القرآن بالاسم العلم ثمانية عشر ، وأول الرسل آدم ، على ما جاء في حديث أبي ذر ، أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي . وقيل : نوح ، لحديث الشفاعة ، فإن الناس يقولون له : أنت أول الرسل . وقيل : إدريس ، وسيأتي بيان هذا في " الأعراف " إن شاء الله تعالى .قوله تعالى : مبشرين ومنذرين نصب على الحال . وأنزل معهم الكتاب بالحق اسم جنس بمعنى الكتب . وقال الطبري : الألف واللام في الكتاب للعهد ، والمراد التوراة .و " ليحكم " مسند إلى الكتاب في قول الجمهور ، وهو نصب بإضمار أن ، أي لأن يحكم وهو مجاز مثل هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق . وقيل : أي ليحكم كل نبي بكتابه ، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب . وقراءة عاصم الجحدري " ليحكم بين الناس " على ما لم يسم فاعله ، وهي قراءة شاذة ؛ لأنه قد تقدم ذكر الكتاب . وقيل : المعنى ليحكم الله ، والضمير في " فيه " عائد على " ما " من قوله : " فيما " والضمير في " فيه " الثانية يحتمل أن يعود على الكتاب ، أي وما اختلف في الكتاب إلا الذين أوتوه . موضع " الذين " رفع بفعلهم . و " أوتوه " بمعنى أعطوه . وقيل : يعود على المنزل عليه ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج . أي وما اختلف في النبي عليه السلام إلا الذين أعطوا علمه ." بغيا بينهم " نصب على المفعول له ، أي لم يختلفوا إلا للبغي ، وقد تقدم معناه . وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم ، والقبح الذي واقعوه . و ( هدى ) معناه أرشد ، أي فهدى الله أمة محمد إلى الحق بأن بين لهم ما اختلف فيه من كان قبلهم . وقالت طائفة : معنى الآية أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض ، فهدى الله تعالى أمة محمد للتصديق بجميعها . وقالت طائفة : إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين ، من قولهم : إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا . وقال ابن زيد وزيد بن أسلم : من قبلتهم ، فإن اليهود إلى بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق ، ومن يوم الجمعة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غد وللنصارى بعد غد ومن صيامهم ، ومن جميع ما اختلفوا فيه . وقال ابن زيد : واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لفرية ، وجعلته النصارى ربا ، فهدى الله المؤمنين بأن جعلوه عبدا لله . وقال الفراء : هو من المقلوب - واختاره الطبري - قال : وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق لما اختلفوا فيه . قال ابن عطية : ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه ، وعساه غير الحق في نفسه ، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء ، وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه ؛ لأن قوله : فهدى يقتضي أنهم أصابوا الحق وتم المعنى في قوله : " فيه " وتبين بقوله : " من الحق " جنس ما وقع الخلاف فيه ، قال المهدوي : وقدم لفظ الاختلاف على لفظ الحق اهتماما ، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف . قال ابن عطية : وليس هذا عندي بقوي . وفي قراءة عبد الله بن مسعود " لما اختلفوا عنه من الحق " أي عن الإسلام .و " بإذنه " قال الزجاج : معناه بعلمه . قال النحاس : وهذا غلط ، والمعنى بأمره ، وإذا أذنت في الشيء فقد أمرت به ، أي فهدى الله الذين آمنوا بأن أمرهم بما يجب أن يستعملوه . وفي قوله والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم رد على المعتزلة في قولهم : إن العبد يستبد بهداية نفسه .

القول في تأويل قوله تعالى : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى " الأمة ": في هذا الموضع، (5) وفي" الناس " الذين وصفهم الله بأنهم: كانوا أمة واحدة.فقال بعضهم: هم الذين كانوا بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك.* ذكر من قال ذلك:4048 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام بن منبه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله " كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا ". (6)4049 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " كان الناس أمة واحدة "، قال: كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أوَّلَ نبي بُعث نوحٌ.* * *قال أبو جعفر: فتأويل " الأمة " على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس " الدين "، كما قال النابغة الذبياني:حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةًوَهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ? (7)يعني ذا الدين.* * *فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء: كان الناس أمَّة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.* * *وأصل " الأمة "، الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يُكتفى بالخبر عن " الأمة " من الخبر عن " الدين "، لدلالتها عليه، كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [ سورة المائدة:48 سورة النحل: 93]، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله: " كان الناس أمة واحدة "، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا.* * *وقال آخرون: بل تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إمامًا لذريته، فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى " الأمة " إلى الطاعة لله، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره، من قول الله عز وجل إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [سورة النحل: 120]، يعني بقوله " أمة "، إمامًا في الخير يُقتدى به، ويُتَّبع عليه.* ذكر من قال ذلك:4050 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " كان الناس أمة واحدة "، قال: آدم.4051 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.4052 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: " كان الناس أمة واحدة "، قال: آدم، قال: كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال مجاهد: آدم أمة وحدَه، (8)* * *وكأنّ من قال هذا القول، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرَّقة فيمن سماه ب " الأمة "، كما يقال: " فلان أمة وحده "، يقول مقام الأمة.وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير، (9) فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببًا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم (10) سماه بذلك " أمة ".* * *وقال آخرون: معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرَج ذرية آدمَ من صلبه، فعرضهم على آدم.* ذكر من قال ذلك:4053 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " كان الناس أمة واحدة "- وعن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: كانوا أمة واحدة حيث عُرضوا على آدم، ففطَرهم يومئذ على الإسلام، وأقرُّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم= فكان أبيّ يقرأ: " كان الناسُ أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " إلى " فيما اختلفوا فيه ". وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.4054 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " كان الناس أمة واحدة "، قال: حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قطُّ غيرَ ذلك اليوم=" فبعث الله النبيين "، قال: هذا حين تفرقت الأمم.* * *وتأويل الآية على هذا القول نظيرُ تأويل قول من قال يقول ابن عباس: إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدمَ ونوح- وقد بينا معناه هنالك; إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالفٌ الوقتَ الذي وقَّته ابن عباس.* * *وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك، وقالوا: إنما معنى قوله: " كان الناس أمة واحدة "، على دين واحد، فبعث الله النبيين.* ذكر من قال ذلك:4055 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " كان الناس أمة واحدة "، يقول: كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.* * *قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة. كما:-4056 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " كان الناس أمة واحدة "، يقول: دينًا واحدًا على دين آدم، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.* * *= وكان الدينُ الذي كانوا عليه دينَ الحق، كما قال أبي بن كعب، كما:-4057 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هي في قراءة ابن مسعود: " اختلفوا عنه " عن الإسلام. (11)* * *= فاختلفوا في دينهم، (12) فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين،" وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه "، رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارًا منه إليهم.وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام، كما روي عكرمة، عن ابن عباس، وكما قاله قتادة.وجائزٌ أن يكون كان ذلك حين عَرض على آدم خلقه. وجائزٌ أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك- ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيِّ هذه الأوقات كان ذلك. فغيرُ جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل: من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياءَ والرسل. ولا يضرُّنا الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعُنَا العلمُ به، إذا لم يكن العلم به لله طاعةً، (13)غير أنه أي ذلك كان، فإن دليلَ القرآن واضحٌ على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك أن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها " يونس ": وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 19]. فتوعَّد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتماعُهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحالٌ أن يتوعد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.* * *قال أبو جعفر: وأما قوله: " فبعثَ الله النبيين مبشرين ومنذرين "، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب، وكريم المآب= ويعني بقوله: " ومنذرين "، ينذرون من عصى الله فكفر به، بشدّة العقاب، وسوء الحساب والخلود في النار=" وأنزل معهم الكتابَ بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه "، يعني بذلك: ليحكم الكتاب- وهو التوراة- بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه. فأضاف جل ثناؤه " الحكم " إلى " الكتاب "، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين، إذْ كان مَنْ حَكم من النبيين والمرسلين بحُكم، إنما يحكم بما دلَّهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عز وجل، فكان الكتاب بدلالته على ما دلَّ وصفه على صحته من الحكم، حاكمًا بين الناس، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيرُه.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْقال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " وما اختلف فيه "، وما اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة=" إلا الذين أوتوه "، يعني، بذلك اليهودَ من بني إسرائيل، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها= و " الهاء " في قوله: " أوتوه " عائدة على " الكتاب " الذي أنزله الله=" من بعد ما جاءتهم البينات "، يعني بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أنّ الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه، ولا العمل بخلاف ما فيه.فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتابَ التوراةَ، واختلفوا فيه على علم منهم، ما يأتون متعمِّدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه.ثم أخبر جل ذكره أن تعمُّدهم الخطيئة التي أتوها، (14) وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمرَه، إنما كان منهم بغيًا بينهم.* * *و " البغي" مصدر من قول القائل: " بغى فلانٌ على فلان بغيًا "، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت: " بَغَى " كل ذلك بمعنى واحد، وهي زيادته وتجاوز حده. (15)* * *فمعنى قوله جل ثناؤه: " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم "، من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنزلته مع نبييِّ عن جهل منهم به، بل كان اختلافهم فيه، وخلافُ حكمه، من بعد ما ثبتت حجته عليهم، بغيًا بينهم، طلبَ الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالا من بعضم لبعض. كما:-4058 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله: " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه " يقول: إلا الذين أوتوا الكتابَ والعلم=" من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم "، يقول: بغيًا على الدنيا وطلبَ ملكها وزخرفها وزينتها، أيُّهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضُهم على بعض، وضرب بعضُهم رقاب بعض.* * *قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العربية في" مِنْ" التي في قوله: " من بعد ما جاءتهم البينات " ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى المنتسق في قوله: " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم " ؟فقال بعضهم: " من "، ذلك للذين أوتوا الكتاب، وما بعده صلة له. غيرَ أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، بغيًا بينهم، من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لما قال هذا القائل، ولا لتقديم " البغي" قبل " من "، لأن " من " إذا كان الجالب لها " البغي"، فخطأ أن تتقدمه لأن " البغي" مصدر، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن " الذين " مستثنى، وأنّ" من بعد ما جاءتهم البينات " مستثنى باستثناء آخر، وأن تأويل الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا فيه إلا بغيًا ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات = فكأنه كرر الكلام توكيدًا.* * *قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيًا، فذلك أشبه بتأويل الآية.* * *القول في تأويل قوله تعالى : فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " فهدى الله "، فوفق[الله] الذي آمنوا (16) وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه.وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته: " الجمُعة "، ضلوا عنها وقد فُرضت عليهم كالذي فُرض علينا، فجعلوها " السبت "، فقال صلى الله عليه وسلم: " نحن الآخِرون السابقون ، بيدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له فلليهود غدًا وللنصارى بعد غد ".4059 - حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عياض بن دينار الليثي، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث. (17)4060- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه "، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون الآولون يوم القيامة، نحن أوّل الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتابَ من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع، غدًا لليهود، وبعد غد للنصارى. (18)* * ** وكان مما اختلفوا فيه أيضًا ما قال ابن زيد، وهو ما:-4061 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " فهدى الله الذين آمنوا " للإسلام، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا للقبلة.واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعضَ يوم، وبعضهم بعض ليلة، وهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود كان يهوديًا، وقالت النصارى كان نصرانيًا‍! فبرأه الله من ذلك، وجعله حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين للذين يدَّعونه من أهل الشرك. (19) واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لِفِرْية، وجعلته النصارى ربًا، فهدانا الله للحق فيه. فهذا الذي قال جل ثناؤه: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ".* * *قال أبو جعفر: (20) فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد، وبما جاء به لما اختلف -هؤلاء الأحزاب من بنى إسرائيل الذين أوتوا الكتاب- فيه من الحق بإذنه أنْ وفقهم لإصابة ما كان عليه من الحق مَنْ كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وَسطًا، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس. كما:-4062- حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه "، فهداهم الله عند الاختلاف، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف: أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلَّغوهم، وأنهم كذَّبوا رسلهم. وهي في قراءة أبي بن كعب: ( وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) يوم القيامة ( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ). فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.4063 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه "، يقول: اختلف الكفار فيه، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك; وهي في قراءة ابن مسعود: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا عنه "، عن الإسلام. (21)* * *قال أبو جعفر: وأمّا قوله: " بإذنه "، فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له، وقد بينا معنى " الإذن " إذْ كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا. (22)* * *وأما قوله: " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم "، فإنه يعني به: والله يسدّد من يشاء من خلقه ويُرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيًا بينهم، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه.* * *قال أبو جعفر: وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحقّ: من أن كل نعمة على العباد في دينهم آو دنياهم، فمن الله جل وعز.* * *فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ؟ أهداهم للحق، أم هداهم للاختلاف ؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق، فيكف قيل،" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ؟قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحقّ فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضُهم، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم- وهم أهل التوراة الذين بدّلوها- فهدى الله مما للحقّ بدَّلوا وحرَّفوا، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.* * *قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة، فقال وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت، و " مِنْ" إنما هي في كتاب الله في" الحق " و " اللام " في قوله: " لما اختلفوا فيه "، وأنت تحول " اللام " في" الحق "، و " من " في" الاختلاف "، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبًا ؟قيل: ذلك في كلام العرب موجودٌ مستفيضٌ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبَهم بمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر: (23)كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُول كماكَانَ الزِّنَاءُ فَريضَةَ الرَّجْمِ (24)وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر:إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهْتَحْلَى به العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (25)وإنما سراجٌ الذي يحلى بالعين، لا العين بسراج.* * *وقد قال بعضهم: إن معنى قوله " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق "، أن أهلَ الكتب الأوَل اختلفوا، فكفر بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند الله، فهدى الله أهلَ الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها.وذلك قولٌ، غير أن الأوّل أصح القولين. لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد.-------------------الهوامش :(5) انظر معنى (الأمة) فيما سلف 1 : 221/ ثم 3 : 74ن 100 ، 128ن 141 .(6) الأثر : 4048 -رواه الحاكم في المستدرك 2 : 546- 547 وقال : "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي .(7) ديوانه : 40 ، واللسان (أمم) من قصيدته المشهورة في اعتذاره للنعمان . يقول : أيتهجم على الإثم ذو دين ، وقد أطاع الله واخبت له ، فيحلف لك كاذبا يمين غموس كالتي حلفت بها ، لأنفي عن قلبك الريبة في أمري .(8) في المطبوعة : "أمة واحدة" في الموضعين وهو خطأ والصواب ما أثبت . وذلك ما جاء في حديث قس بن ساعدة : "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده" ويقال أيضًا : "هو أمة على حدة" كالذي في الحديث : "يبعث يوم القيامة زيد بن عمرو بن نفيل أمه على حدة" .(9) في لمطبوعة : "سبب لاجتماع الأسباب من الناس" وهو تصحيف . والأشتات المتفرقون ، ومثله : شتى .(10) قوله : "إلى حال اختلافهم" أي : إلى ان صارت حالهم إلى الاختلاف والتفرق .(11) الأثر : 4057 - سيأتي هذا الأثر برقم : 4063 وكان نصه هنا كنصه هناك ولكنه تصحيف نساخ فيما أظن ، كما سيأتي . كان في المطبوعة"اختلفوا فيه - على الإسلام" .(12) في المطبوعة : "واختلفوا في دينهم" بالواو والصواب بالفاء وهو من كلام الطبري ، لا من الأثر وهو من سياق قوله قبل : "وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق . . . فاختلفوا . . "(13) هذه حجة رجل تقي ورع عاقل . بصير بمواضع الزلل في العقول وبمواطن الجرأة على الحق من أهل الجرأة الذين يتهجمون على العلم بغيًا بالعلم . ولو عقل الناس لأمسكوا فضل ألسنتهم ولكنهم قلما يفعلون .(14) في المطبوعة : "تعمدهم الخطيئة التي أنزلها" ، وهو تصحيف وكلام بلا معنى .(15) انظر معنى"البغي" فيما سلف 1 : 342 .(16) انظر معنى"هدى" فيما سلف 1 : 166- 170 ، 230 ، 249 ، 549- 551 ، وانظر فهارس اللغة في الأجزاء السالفة ، في معنى هذه الكلمة وفي معنى"الإيمان" .(17) الحديث : 4059 - محمد بن حميد الرازي شيخ الطبري : معروف مضت الرواية عنه كثيرا . ووقع في المطبوعة هنا"أحمد بن حميد" وهو غلط وتحريف .عياض بن دينار الليثي : تابعي ثقة سمع من أبي هريرة . وقد وثقه ابن إسحاق في حديث آخر . رواه عنه في المسند : 7481 وترجمه البخاري في الكبير 4/1/22 وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ص : 299 (من كتاب الثقات المخطوط المصور) .وهذا حديث صحيح معروف مشهورن من حديث أبي هريرةن ثبت عنه من غير وجه . ونظر الحديث الذي عقبه .(18) الحديث : 4060 -هو في تفسير عبد الرزاق ص 23ن بهذا الإسناد وكذلك رواه أحمد في المسند : 7692ن عن عبد الرزاق .* ورواه الشيخان وغيرهما . فانظر المسند أيضًا : 7213 ، 7308 ، 7393 ، 7395 ، 7693 ، وما أشرنا إليه هناك من التخريج في مواضع متعددة .(19) في المطبوعة : "الذين يدعونه" والصواب ما أثبت .(20) في المطبوعة : قال : فكانت هداية الله جل ثناؤه . . . " يتوهم القارئ أن هذا الآتي إنما هو من الأثر السالف وليس ذلك كذلكن بل هو من كلام أبي جعفر ، كما يدل عليه سياقه الآتي ، وكما يتبين من رواية هذا الأثر السالف في تفسير ابن كثير 1 : 489 : 490 والدر المنثور 1 : 243 . فلذلك فصلت بين الكلامين وجعلت صدر الكلام : "قال أبو جعفر" .(21) الأثر : 4063 - انظر الأثر السالف رقم : 4057 والتعليق عليه . وكان في المطبوعة هنا وهناك : "لما اختلفوا فيه على الإسلام" ، وهو غير بين المعنى والذي أثبته هو نص ما في القرطبي 3 : 33 والدر المنثور 1 : 243 .(22) انظر ما سلف 2 : 449- 450 .(23) هو النابغة الجعدي .(24) سلف تخريج البيت في 3 : 311 ، 312 .(25) سلف تخريج الشعر في 3 : 312 .

استئناف لبيان أن اختلاف الأديان أمر كان في البشر لحكمة اقتضته وأنه قد ارتفع ذلك ورجع الله بالناس إلى وِحْدة الدين بالإسلام .والمناسبة بينها وبين ما تقدمها تحتمل وجوهاً :الأول : كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } قال فخر الدين : إن الله تعالى لما بين في قوله : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } [ البقرة : 212 ] أن سبب إصرار الكفار على كفرهم هو استبدالهم الدنيا بالآخرة بين في هذه الآية أن هذه الحالة غير مختصة بالذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بل كانت حاصلة في الأزمنة المتقادمة لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق وما كان اختلافهم لسبب البغي والتحاسد في طلب الدنيا اه ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتنظير ما لقيه المسلمون بما كان في الأمم الغابرة .الثاني : يؤخذ من كلام الطيبي عند قوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [ البقرة : 214 ] أخذ من كلام «الكشاف» أن المقصود من قوله : { كان الناس أمة واحدة } تشجيع الرسول عليه السلام والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين بذكر ما قابلت به الأمم السالفة أنبياءها وما لقوا فيها من الشدائد اه فالمناسبة على هذا في مدلوللِ قوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون } [ البقرة : 212 ] إلخ ، وتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً للمناسبة .والظاهر عندي أن موقع هذه الآية هنا جامع لموقع تذييل لما قبلها ومقدمة لما بعدها .فأما الأول فلأنها أفادت بيان حالة الأمم الماضية كيف نشأ الخلاف بينهم في الحق مما لأجله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه مما يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين .وأما الثاني فلأنها مقدمة لما يرد بعدها من ذكر اختصاص الإسلام بالهداية إلى الحق الذي اختلفت فيه الأمم وهو مضمون قوله تعالى : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } إلى قوله : { إلى صراط المستقيم } وذلك من خصائص كون الإسلام مهيمناً على ما سبقه من الشرائع الإلهية وتفضيله على جميع الأديان وأن هذه المزية العظمى يجب الاعتراف بها وألا تكون مثار حسد للنبيء وأمته ، رداً على حسد المشركين ، إذ يسخرون من الذين آمنوا وعلى حسد أهل الكتاب الذي سبق التنبيه عليه في قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم } إلى قوله { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 142 ] .وحصل من عموم ذلك تعليم المسلمين تاريخ أطوار الدين بين عصور البشر بكلمات جامعة ختمت بقوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } فإن كان المراد من كونهم أمة واحدة الوحدة في الخير والحق وهو المختار كما سيأتي فقد نبه الله أن الناس اختلفوا فبعث لهم أنبياء متفرقين لقصد تهيئة الناس للدخول في دين واحد عام ، فالمناسبة حاصلة مع جملة{ ادخلوا في السلم كافة } [ البقرة : 208 ] بناء على أنها خطاب لأهل الكتاب أي ادخلوا في دين الإسلام الذي هدى الله به المسلمين . وإن كان المراد من كون الناس أمة واحدة الوحدة في الضلال والكفر يكون الله قد نبههم أن بعثة الرسل تقع لأجل إزالة الكفر والضلال الذي يحدث في قرون الجهالة ، فكذلك انتهت تلك القرون إلى القرن الذي أعقبته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية تثبيتاً للمؤمنين فالمناسبة حاصلة مع قوله : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } [ البقرة : 212 ] . فالمعنى أن الإسلام هدى إلى شريعة تجمع الناس كلهم تبييناً لفضيلة هذا الدين واهتداء أهله إلى ما لم يهتد إليه غيرهم ، مع الإشارة إلى أن ما تقدمه من الشرائع تمهيد له وتأنيس به كما سنبينه عند قوله : { فهدى الله الذين آمنوا } .والناس اسم جمع ليس له مفرد من لفظه ، و ( أل ) فيه للاستغراق لا محالة وهو هنا للعموم أي البشر كلهم ، إذ ليس ثمة فريق معهود ولكنه عموم عرفي مبني على مراعاة الغالب الأغلب وعدم الاعتداد بالنادر لظهور أنه لا يخلو زمن غلب فيه الخير عن أن يكون بعض الناس فيه شريراً مثل عصر النبوة ولا يخلو زمن غلب فيه الشر من أن يكون بعض الناس فيه خيراً مثل نوح { وما آمن معه إلاّ قليل } [ هود : 4 ] .والأمة بضمة الهمزة : اسم للجماعة الذين أمرهم واحد ، مشتقة من الأم بفتح الهمزة وهو القصد أي يؤمون غاية واحدة ، وإنما تكون الجماعة أمة إذا اتفقوا في الموطن أو الدين أو اللغة أو في جميعها .والوصف ب ( واحدة ) في الآية لتأكيد الإفراد في قوله ( أمة ) لدفع توهم أن يكون المراد من الأمة القبيلة ، فيظن أن المراد كان الناس أهل نسب واحد ، لأن الأمة قد تطلق على من يجمعهم نسب متحد .والوحدة هنا : مراد بها الاتحاد والتماثل في الدين بقرينة تفريع { فبعث الله النبيئين } الخ ، فيحتمل أن يكون المراد كانوا أمة واحدة في الحق والهدى أي كان الناس على ملة واحدة من الحق والتوحيد ، وبهذا المعنى روى الطبري تفسيرها عن أُبَيّ بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وجابر بن زيد وهو مختار الزمخشري قال الفخر : وهو مختار أكثر المحققين قال القفال : بدليل قوله تعالى بعده { فبعث الله النبيين } إلى قوله { فيما اختلفوا فيه } ، لأن تفريع الخبر ببعثة النبيين على الجملة السابقة وتعليل البعث بقوله { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } انتظم من ذلك كلام من بليغ الإيجاز وهو أن الناس كانوا أمة واحدة فجاءتهم الرسل بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ليدوموا على الحق خشية انصرافهم عنه إذا ابتدأ الاختلاف يظهر وأيدهم الله بالكتب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فلا جرم أن يكون مجيء الرسل لأجل إبطال اختلاف حدث ، وأن الاختلاف الذي يحتاج إلى بعثة الرسل هو الاختلاف الناشىء بعد الاتفاق على الحق كما يقتضيه التفريع على جملة { كان الناس أمة واحدة } بالفاء في قوله : { فبعث الله النبيين } وعلى صريح قوله : { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } .ولأجل هذه القرينة يتعين تقدير فاختلفوا بعد قوله { أمة واحدة } ، لأن البعثة ترتبت على الاختلاف لا على الكون أمة واحدة ، وعلى هذا الفهم قرأ ابن مسعود ( كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله ) الخ ، ولو كان المراد أنهم كانوا أمة واحدة في الضلال لصح تفريع البعثة على نفس هذا الكون بلا تقدير ولولا أن القرينة صرفت عن هذا لكان هو المتبادر ، ولهذا قال ابن عطية كل من قدَّر الناسَ في الآية كانوا مؤمنين قدَّر في الكلام فاختلفوا وكل من قدرهم كفاراً كانت بعثة الرسل إليهم اه . ويؤيد هذا التقدير قوله في آية سورة يونس ( 19 ) { وما كان الناس إلا أُمة واحدة فاختلفوا لأن الظاهر اتحاد غرض الآيتين ، ولأنه لما أخبر هنا عن الناس بأنهم كانوا أمة واحدة ونحن نرى اختلافهم علمنا أنهم لم يدوموا على تلك الحالة .والمقصود من الآية على هذا الوجه التنبيه على أن التوحيد والهدى والصلاح هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلقهم كما دلت عليه آية { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] ، وأنها ما غشَّاها إلاّ تلقين الضلال وترويج الباطل وأن الله بعث النبيئين لإصلاح الفطرة إصلاحاً جزئياً فكان هديهم مختلف الأساليب على حسب اختلاف المصالح والأهلية وشدة الشكائم ، فكان من الأنبياء الميسر ومنهم المغلظ وأنه بعث محمداً لإكمال ذلك الإصلاح ، وإعادة الناس إلى الوحدة على الخير والهدى وذلك معنى قوله : { فهدى الله الذين آمنوا } الخ .وعن عطاء والحسن أن المعنى كان الناس أمة واحدة متفقين على الضلال والشر وهو يروى عن ابن عباس أيضاً وعليه فعطف قوله { فبعث الله النبيئين } عطف على اللفظ الظاهر لا تقدير معه أي كانوا كذلك فبعث الله النبيئين فيعلم أن المراد ليرشدوا الناس إلى الحق بالتبشير والنذارة . فالمقصود من الآية على هذا التأويل إظهار أن ما بعث الله به النبيئين قد وقع فيه التغيير والاختلاف فيما بعثوا به وأن الله بعث محمداً بالقرآن لإرشادهم إلى ما اختلفوا فيه فيكون المقصود بيان مزية دين الإسلام وفضله على سائر الأديان بما كان معه من البيان والبرهان .وأيّاً ما كان المراد فإن فعل كان هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف اسمها المخبر عنه بمضمون خبرها في الزمن الماضي وأن ذلك قد انقطع ، إذ صار الناس منقسمين إلى فئتين فئة على الحق وفئة على الباطل .فإن كان المراد الوحدة في الحق فقد حصل ذلك في زمن كان الغالب فيه على الناس الرشد والاستقامة والصلاح والإصلاح فلم يكونوا بحاجة إلى بعثة الرسل إلى أن اختلفت أحوالهم فظهر فيهم الفساد ، فقيل كان ذلك فيما بين آدم ونوح ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ، وقال ابن عطية قال قوم كان ذلك زمن نوح كفر رجل قومه فهلكوا بالطوفان إلاّ من نجاه الله مع نوح فكان أولئك النفر الناجون أمة واحدة قائمة على الحق ، وقيل إنما كان الناس على الحق حين خلق الله الأرواح التي ستودع في بني آدم ففطرها على الإسلام فأقروا له بالوحدانية والعبودية وهو ما في قوله تعالى في سورة الأعراف ( 172 ، 173 ) : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } على أحد تفاسير تلك الآية وروي هذا عن أبي بن كعب وجابر بن زيد والربيع بن سليمان .وفي تفسير الفخر } عن القاضي عبد الجبار وأبي مسلم الأصفهاني أن معنى الآية : كان الناس أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية على وجود الخالق وصفاته واحتناب الظلم والكذب وحجتهما على ذلك أن قوله : { النبيئين جمع يفيد العموم ( أي لأنه معرف باللام ) فيقتضي أن بعثة كل النبيئين كانت بعد أن كان الناس أمة واحدة بدليل الفاء ، والشرائع إنما تلقيت من الأنبياء ، فتعين أن كون الناس أمة واحدة شيء سابق على شرائع الأنبياء ولا يكون إلاّ مستفاداً من العقل ، وهما يعنيان أن الله فطر الإنسان في أول نشأته على سلامة الفطرة من الخطأ والضلال ، قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] وقيل : أريد بالناس آدم وحواء . نقله ابن عطية عن مجاهد وقوم ، والذي نجزم به أن هذا كان في زمن من أزمان وجود الناس على الأرض يعلمه الله تعالى لقوله : { وقروناً بين ذلك كثيراً } [ الفرقان : 38 ] والأظهر أنه من زمن وجود آدم إلى أن أشرك قوم نوح .وإن كان المراد الوحدة على الباطل فقد حصل ذلك في زمن نوح في أول ما قص الله علينا مع ما ورد في الصحيح أن نوحاً أول الرسل إلى أهل الأرض ، فيظهر أن الضلال حدث في أهل الأرض وعمَّهم عاجلاً فبعث الله نوحاً إليهم ثم أهلك الكافرين منهم بالطوفان ونجى نوحاً ونفراً معه فأصبح جميع الناس صالحين ، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله النبيين . فيجدر بنا أن ننظر الآن فيما تضمنته هذه الآية من المعنى في تاريخ ظهور الشرائع وفي أسباب ذلك .الناس أبناء أب واحد وأم واحدة فلا جرم أن كانوا في أول أمرهم أمة واحدة لأن أبويهم لما ولدا الأبناء الكثيرين وتوالد أبناؤهما تألفت منهم في أمد قصير عائلة واحدة خلقت من مزاج نقي فكانت لها أمزجة متماثلة ونشأوا على سيرة واحدة في أحوال الحياة كلها وما كانت لتختلف إلاّ اختلافاً قليلاً ليس له أثر يؤبه به ولا يحدث في العائلة تنافراً ولا تغالباً .ثم إن الله تعالى لما خلق نوع الإنسان أراده ليكون أفضل الموجودات في هذا العالم الأرضي فلا جرم أن يكون خلقه على حالة صالحة للكمال والخير قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] . فآدم خلق في أحسن تقويم يليق بالذكر جسماً وعقلاً وألهمه معرفة الخير واتباعه ومعرفة الشر وتجنبه فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداء لما فيه النفع وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه ، وتتعقل ما يشار به عليه فتميز النافع من غيره ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فكره جسد سليم قوي متين وحواءُ خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقاً مشابهاً لخلق آدم ، إذ إنها خلقت كما خلق آدم ، قال تعالى : { خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] فكانت في انسياق عقلها واهتدائها وتعقلها ومساعدة جسدها على ذلك على نحو ما كان عليه آدم . ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخلقة هو العقل المستقيم فبالعقل تأتَّى للبشر أن يتصرف في خصائصه ، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها .هكذا كان شأن الذكَر والأنثى فما ولدا من الأولاد نشأ مثل نشأتهما في الأحوال كلها ، ألم تر كيف اهتدى أحد بني آدم إلى دفن أخيه من مشاهدة فعل الغراب الباحث في الأرض فكانت الاستنباط الفكري والتقليدُ به أسَّ الحضارة البشرية . فالصلاح هُوَ الأصل الذي خلق عليه البشر ودام عليه دهراً ليس بالقصير ، ثم أخذ يرتد إلى أسفل سافلين ، ذلك أن ارتداد الإنسان إلى أسفل سافلين إنما عرض له بعوارض كانت في مبدأ الخليقة قليلة الطرُوّ أوْ معدومته ، لأن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة لا تعدو أربعة أسباب :الأول : خلل يعرض عند تكوين الفرد في عقله أو في جسده فينشأ منحرفاً عن الفضيلة لتلك العاهة .الثاني : اكتساب رَذائل من الأخلاق من مخترعات قواه الشهوية والغضبية ومن تقليد غيره بداعية استحسان ما في غيره من مفاسد يخترعها ويدعو إليها .الثالث : خواطر خياليّة تحدث في النفس مخالفة لما عليه الناس كالشهوات والإفراط في حب الذات أو في كراهية الغير مما توسوس به النفس فيفكر صاحبها في تحقيقها .الرابع : صدور أفعال تصدر من الفرد بدواع حاجية أو تكميلية ويجدها ملائمة له أو لذيذة عنده فيلازمها حتى تصير له عادة وتشتبه عنده بعد طول المدة بالطبيعة ، لأن العادة إذا صادفت سذاجة من العقل غير بصيرة بالنواهي رسخت فصارت طبعاً .فهذه أربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة ، والأول كان نادر الحدوث في البشر ، لأن سلامة الأبدان وشبابَ واعتدالَ الطبيعة وبساطةَ العيش ونظامَ البِيئة كل تلك كانت موانع من طرو الخلل التكويني ، ألا ترى أن نوع كل حيواننٍ يلازم حال فطرته فلا ينحرف عنها باتباع غيره .والثاني كان غير موجود ، لأن البشر يومئذٍ كانوا عائلة واحدة في موطن واحد يسير على نظام واحد وتربية واحدة وإحساس واحد فمن أين يجيئه الاختلاف؟والثالث ممكن الوجود لكن المحبة الناشئة عن حسن المعاشرة وعن الإلف ، والشفقة الناشئة عن الأخوة والمواعظ الصادرة عن الأبوين كانت حُجباً لما يهجس من هذا الإحساس .والرابع لم يكن بالذي يكثر في الوقت الأول من وجود البشر ، لأن الحاجات كانت جارية على وفق الطباع الأصلية ولأن التحسينات كانت مفقودة ، وإنما هذا السبب الرابع من موجبات الرقي والانحطاط في أحوال الجمعيات البشرية الطارئة .أما حادثة قتل ابن آدم أخاه فما هي إلاّ فلتة نشأت عن السبب الثالث عن إحساس وجداني هو الحسَد مع الجهل بمغبة ما ينشأ عن القتل؛ لأن البشر لم يعرف الموت إلاّ يومئذٍ ولذلك أسرعت إليه الندامة ، فتبين أن الصلاح هو حال الأمة يومئذٍ أو هو الغالب عليها .وينشأ عن هذا الصلاح والاستقامة في الآباء دوام الاستقامة في النسل ، لأن النسل مُنْسَلٌ من ذوات الأصول فهو ينقل ما فيها من الأحوال الخِلقية والخُلُقية ، ولما كان النسل منسَلاَ من الذكر والأنثى كان بحكم الطبع محصِّلاً على مجموع من الحالتين فإن استوت الحالتان أو تقاربتا جاء النسل على أحوال مساويةِ المظاهرِ لأحوال سلفه ، قال نوح عليه السلام في عكسه { ولا يَلدوا إلاّ فاجراً كفاراً } [ نوح : 27 ] ، ومما يدل على أن حال البشر في أول أمره صلاحٌ ما نقله في «الكشاف» عن ابن عباس أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون على شريعة من الحق .ثم كثرت العائلة البشرية وتكونت منها القبيلة فتكاثرت ونشأ فيها مع الزمان قليلاً قليلاً خواطر مختلفة ودبت فيها أسباب الاختلاف في الأحوال تبعاً لاختلاف بين حالي الأب والأم ، فجاء النسل على أحوال مركبة مخالفة لكل من مفرد حالتي الأب والأم ، وبذلك حدثت أمزجة جديدة وطرأت عليها حينئذٍ أسباب الانحطاط الأربعة ، وصارت ملازمة لطوائف من البشر بحكم التناسل والتلقي ، هنالك جاءت الحاجة إلى هدي البشر ببعثة الرسل ، والتاريخُ الديني دلنا على أن نوحاً أول الرسل الذين دَعوا إلى الله تعالى قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } [ الشورى : 13 ] الآية ، ولما ذكر الرسل في آيات القرآن ابتدأهم في جميع تلك الآيات بنوح ولم يذكر آدم وفي حديث الشفاعة في الصحيح تصريح بذلك أن آدم يقول للذين يستشفعون به إني لست هناكم ، ويذكر خطيئته ايتوا نوحاً أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ، وبهذا يتعين أن خطيئة قابيل ليست مخالفة شرع مشروع ، وأن آدم لم يكن رسولاً وأنه نبيء صالح أوحي إليه بما يهذب ابناءه ويعلمهم بالجزاء .فقوله تعالى : { فبعث الله النبيئين } هو على الوجه الأول مفرع على ما يؤذن به قوله : { كان الناس أمة واحدة } مع تحقق وجود الخلاف بينهم بالمشاهدة من إرادة أن كونهم { } مة واحدة دام مدة ثم انقضى ، فيكون مفرعاً على جملة مقدرة تقديرها فاختلفوا فبعث الله النبيئين ، وعلى الوجه الآخر مفرعاً على الكون أمة واحدة في الباطل فعلى الأول يكون أول النبيين المبعوثين نوحاً ، لأنه أول الرسل لإصلاح الخلق . وعلى الثاني : يكون أولهم آدم بعث لبنيه لما قتل أحدهم أخاه؛ فإن الظاهر أن آدم لم يبعث بشريعة لعدم الدواعي إلى ذلك ، وإنما كان مرشداً كما يرشد المربي عائلته .والمراد بالنبيين هنا الرسل بقرينة قوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق } والإرسال بالشرائع متوغل في القدم وقبله ظهور الشرط وهو أصل ظهور الفواحش لأن الاعتقاد الفاسد أصل ذميم الفعال ، وقد عبد قوم نوح الأصنام ، عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهم يومئذٍ لم يزالوا في مواطن آدم وبنيه في ( جبال نوذ ) من بلاد الهند كما قيل ، وفي البخاري عن ابن عباس أن ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا من صالحي قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت اه ، وقيل كانوا من صالحي قوم آدم ، وقيل إن سواعاً هو ابن شيث وأن يغوث ابن سواع ويعوق ابن سغوث ونسر بن يعوق ، وقيل إنهم من صالحي عصر آدم ماتوا فنحت قابيل بن آدم لهم صوراً ثم عبدوهم بعد ثلاثة أجيال ، وهذا كله زمن متوغل في القدم قبل التاريخ فلا يؤخذ إلاّ بمزيد الاحتراز ، وأقدم شريعة أثبتها التاريخ شريعة برهمان في الهند فإنها تبتدىء من قبل القرن الثلاثين قبل الهجرة . وفي هذا العهد كانت في العراق شريعة عظيمة ببابل وضعها ملك بابل المدعو ( حَمُورَابي ) ويظن المؤرخون أنه كان معاصراً لإبراهيم عليه السلام وأنه المذكور في «سفر التكوين» باسم ( ملْكي صادق ) الذي لقي إبراهيم في شاليم وبارك إبراهيم ودعا له .والبعث : الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك والبعث هنا مجاز مستعمل في أمر الله النبي بتبليغ الشريعة للأمة .و ( النبيئين ) جمع نبيء وهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من النبأ وهو الخبر المهم ، لأن الله أخبره بالوحي وعلم ما فيه صلاح نفسه وصلاح من ينتسب إليه ، فإن أمره بتبليغ شريعة الأمة فهو رسول فكل رسول نبيء ، والقرآن يذكر في الغالب النبي مراداً به الرسول ، وقد ورد أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً لا يعلم تفصيلهم وأزمانهم إلاّ الله تعالى قال تعالى :{ وقروناً بين ذلك كثيراً } [ الفرقان : 38 ] وقال : { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } [ الإسراء : 17 ] . وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر .والمراد بالنبيين هنا خصوص الرسل منهم بقرينة قوله { بعث } وبقرينة الحال في قوله : { مبشرين ومنذرين } ، لأن البشارة والإنذار من خصائص الرسالة والدعوة وبقرينة ما يأتي من قوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق } الآية . فالتعريف في ( النبيين ) للاستغراق وهو الاستغراق الملقب بالعرفي في اصطلاح أهل المعاني .والبشارة : الإعلام بخير حصل أو سيحصل ، والنذارة بكسر النون الإعلام بشر وضر حصل أو سيحصل ، وذلك هو الوعد والوعيد الذي تشتمل عليه الشرائع .فالرسل هم الذين جاءوا بالوعد والوعيد ، وأما الأنبياء غير الرسل فإن وظيفتهم هي ظهور صلاحهم بين قومهم حتى يكونوا قدوة لهم ، وإرشاد أهلهم وذويهم ومريديهم للاستقامة من دون دعوة حتى يكون بين قومهم رجال صالحون ، وإرشاد من يسترشدهم من قومهم ، وتعليم من يرونه أهلاً لعلم الخير من الأمة .ثم هم قد يجيئون مؤيدين لشريعة مضت كمجيء إسحاق ويعقوب والأسباط لتأييد شريعة إبراهيم عليه السلام ، ومجيء أنبياء بني إسرائيل بعد موسى لتأييد التوراة ، وقد لا يكون لهم تعلق بشرع من قبلهم كمجيء خالد بن سنان العَبْسي نبيئاً في عَبْس من العرب .وقوله : { وأنزل معهم الكتاب } ، الإنزال : حقيقته تدلية الجسم من علو إلى أسفل ، وهو هنا مجاز في وصول الشيء من الأعلى مرتبة إلى من هو دونه ، وذلك أن الوحي جاء من قبل الله تعالى ودال على مراده من الخلق فهو وارد للرسل في جانب له علو منزلة .وأضاف مع إلى ضمير النبيئين إضافة مجملة واختير لفظ مع دون عليهم ليصلح لمن أنزل عليه كتاب منهم مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، ولمن جاء مؤيداً لمن قبله مثل أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى .والكتاب هو المكتوب ، وأطلق في اصطلاح الشرع على الشريعة لأن الله يأمر الناس بكتابتها لدوام حفظها والتمكن من مدارستها ، وإطلاق الكتاب عليها قد يكون حقيقة إن كانت الشريعة في وقت الإطلاق قد كتبت أو كتب بعضها كقوله تعالى : { الم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 2 ] على أحد الوجهين المتقدمين هنالك ، وقد يكون مجازاً على الوجه الآخر ، وما هنا يحمل على الحقيقة لأن الشرائع قد نزلت وكتبت وكتب بعض الشريعة المحمدية .والمعية معية اعتبارية مجازية أريد بها مقارنة الزمان ، لأن حقيقة المعية هي المقارنة في المكان وهي المصاحبة ، ولعل اختيار المعية هنا لما تؤذن به من التأييد والنصر قال تعالى : { إنني معكما أسمع وأرى } [ طه : 20 ] وفي الحديث « ومعك روح القدس » .والتعريف في الكتاب للاستغراق ، أي وأنزل مع النبيئين الكتب التي نزلت كلها وهو من مقابلة الجمع بالجمع على معنى التوزيع ، فالمعنى أنزل مع كل نبي كتابه وقرينة التوزيع موكولة لعلم السامعين لاشتهار ذلك .وإنما أفرد الكتاب ولم يقل الكتب ، لأن المفرد والجمع في مقام الاستغراق سواء ، وقد تقدم مع ما في الإفراد من الإيجاز ودفع احتمال العهد إذ لا يجوز أن ينزل كتاب واحد مع جمع النبيئين؛ فتعين أن يكون المراد الاستغراق لا العهد ، وجوز صاحب «الكشاف» كون اللام للعهد والمعنى أنزل مع كل واحد كتابه .والضمير في { ليحكم } راجع إلى الكتاب فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز عقلي ، لأنه مبين ما به الحكم ، أو فعل يحكم مجاز في البيان . ويجوز رجوع الضمير إلى اسم الجلالة أي أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم إسناد الحكم مجاز عقلي ، لأنه المسبب له والأمر بالقضاء به ، وتعدية ( يحكم ) ببين لأنه لم يعين فيه محكوم له أو عليه .وحكم الكتاب بين الناس بيان الحق والرشد والاستدلال عليه ، وكونه فيما اختلفوا فيه كناية عن إظهاره الحق ، لأن الحق واحد لا يختلف فيه إلاّ عن ضلال أو خطأ ، ولهذا قال جمهور علمائنا إن المصيب في الاجتهاديات واحد .عطف على جملة { أنزل معهم الكتاب بالحق } لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم وهو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض وبين أهل الكتاب الواحد مع تلقيهم ديناً واحداً ، والمعنى وأنزل معهم الكتاب بالحق فاختلف فيه كما قال تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } [ هود : 110 ] . والمعنى وما اختلف فيه إلا أقوامهم الذين أوتوا كتبهم فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الأخرى لتضمن جملة القصر إثباتاً ونفياً . فاللَّه بعث الرسل لإبطال الضلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم فجاءت الرسل بالهدى ، اتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض عنهم من أعرض فبقي في ضلالة ، فإرسال الرسل لإبطال الاختلاف بين الحق والباطل ، ثم أحدث اتباع الرسل بعدهم اختلافاً آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم . والمقصود من هذا بيان عجيب حال البشر في تسرعهم إلى الضلال ، وهي حقيقة تاريخية من تاريخ الشرائع ، وتحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك .والتعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذٍ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها ، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة قال زهير: ... إن البخيل ملوم حين كانولكن الجوادَ على علاَّته هرم ... وقال الفرزدق يمدح الخليفة ويستطرد بهجاء جرير: ... إلى مَلِك ما أُمُّه من مُحَارِبأبُوه ولا كانَتْ كُلَيْبٌ تصاهره ... والضمير من قوله : { فيه } يجوز أن يعود إلى الكتاب وأن يعود إلى الحق الذي تضمنه الكتاب ، والمعنى على التقديرين واحد ، لأن الكتاب أنزل ملابساً للحق ومصاحباً له فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق .والاختلاف في الكتاب ذهاب كل فريق في تحريف المراد منه مذهباً يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في الفروع ، فإن الاختلاف في أصوله يعطل المقصود منه .وجيء بالموصول دون غيره من المعرفات لما في الصلة من الأمر العجيب وهو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين الناس فأصبحوا هم سبب خلاف فيه ، ولا شك أن ذلك يبطل المراد منه .والمعنى تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالاً من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع ، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم .وقوله : { من بعد ما جاءتهم البينات } متعلق باختلف ، والبينات جمع بينة وهي الحجة والدليل . والمراد بالبينات هنا الدلائل التي من شأنها الصدّ عن الاختلاف في مقاصد الشريعة ، وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها أعني قواطع الشريعة ، والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع . والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض . والظواهر المتعارضة التي دل تعارضها على أن محمل كل منها على حالة لا تعارض حالة محمل الآخر وهو المعبر عنه في الأصول بالجمع بين الأدلة وتواريخ التشريع الدالة على نسخ حكم حكماً آخر ، أو ما يقوم مقام التاريخ من نحو هذا ناسخ ، أو كان الحكم كذا فصار كذا ، فهذه بينات مانعة من الاختلاف لو كان غرض الأمم اتباع الحق ومجىء البينات بلوغ ما يدل عليها وظهور المراد منها .والبعدية هنا : بعدية اعتبار لم يقصد منها تأخر زمان الاختلاف عن مجيء البينات ، وإن كان هو كذلك في نفس الأمر ، أي إن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين .وقوله : { بغياً بينهم } مفعول لأجله لاختلفوا ، والبغي : الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب ، ثم شاع في طلب ما للغير بدون حق فصار بمعنى الظلم معنى ثانياً وأطلق هنا على الحسد لأن الحسد ظلم .والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره وأما خطؤه فأمره أظهر .وقوله : { بينهم } متعلق بقوله : { بغياً } للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد ، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلماً على عدوها .واعلم أن تعلق كل من المجرور وهو { من بعد ما جاءتهم } وتعلق المفعول لأجله وهو { بغياً } بقوله : { اختلف } الذي هو محصور بالاستثناء المفرغ ، ويستلزم أن يكون كلاهما محصوراً في فاعل الفعل الذي تعلقا به ، فلا يتأتى فيه الخلاف الذي ذكره الرضي بين النحاة في جواز استثناء شيئين بعد أداة استثناء واحدة ، لأن التحقيق أنّ ما هنا ليس استثناء أشياء بل استثناء شيء واحد وهم الذين أوتوه ، لكنه مقيد بقيدين هما { من بعد ما جاءتهم البينات } و { بغياً } إذ المقصود أن الخلاف لم يكن بين أهل الدين ومعانديه ، ولا كان بين أهل الدين قبل ظهور الدلائل الصارفة عن الخلاف ، ولا كان ذلك الخلاف عن مقصد حسن بل كان بين أهل الدين الواحد ، مع قيام الدلائل وبدافع البغي والحسد .والآية تقتضي تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدين أي في أصول الإسلام ، فالخلاف الحاصل بين علماء الإسلام ليس اختلافاً في أصول الشريعة ، فإنها إجماعية ، وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها ، ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله تعالى وعن سنة رسوله للاستدلال عن مقصد الشارع وتصرفاته ، واتفقوا في أكثر الفروع ، وإنما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع ، وقد استبرءوا للدِّين فأعلنوا جميعاً أن لله تعالى حكماً في كل مسألة ، وأنه حكم واحد ، وأنه كلف المجتهدين بإصابته وأن المصيب واحد ، وأن مخطئه أقل ثواباً من مصيبه ، وأن التقصير في طلبه إثم . فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسع للأنظار .أما لو جاء أتباعهم فانتصروا لآرائهم مع تحقق ضعف المدرك أو خطئه لقصد ترويج المذهب وإسقاط رأي الغير فذلك يشبه الاختلاف الذي شنعه الله تعالى وحذرنا منه فكونوا من مثله على حذر ولا تكونوا كمثل قول المعري: ... فمجادل وصَلَ الجدالَ وقد درىأن الحقيقة فيه ليس كما زعَمْ ... عَلِم الفتى النَّظَّار أن بصائراعميتْ فكم يُخفى اليقين وكم يُعَم ... وقوله : { فهدى الله الذين آمنوا } هذا العطف يحتمل أن الفاء عاطفة على { اختلف فيه } الذي تضمنته جملة القصر ، قال ابن عرفة : عطف بالفاء إشارة إلى سرعة هدايته المؤمنين بعقب الاختلاف اه ، يريد أنه تعقيب بحسب ما يناسب سرعة مثله وإلا فهدى المسلمين وقع بعد أزمان مضت ، حتى تفاقم اختلاف اليهود واختلاف النصارى ، وفيه بعد لا يخفى ، فالظاهر عندي أن الفاء فصيحة لما علم من أن المقصود من الكلام السابق التحذير من الوقوع في الاختلاف ضرورة أن القرآن إنما نزل لهدي المسلمين للحق في كل ما اختلف فيه أهل الكتب السالفة فكأنَّ السامعَ ترقب العلم بعاقبة هذا الاختلاف فقيل : دامَ هذا الاختلاف إلى مجيء الإسلام فهدى الله الذين آمنوا إلخ ، فقد أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف كقوله تعالى : { اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] .والمراد من الذين آمنوا المسلمون لا محالة ، والضمير في { اختلفوا } عائد للمختلفين كلهم ، سواء الذين اختلفوا في الحق قبل مجيء الرسل والذين اختلفوا في الشرائع بعد مجيء الرسل والبينات ولذلك بينه بقوله : { من الحق } وهو الحق الذي تقدم ذكره في قوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق } اختلاف الفريقين راجع إلى الاختلاف في تعيين الحق إما عن جهل أو عن حسد وبغي .والإذن : الخطاب بإباحة فعل وأصله مشتق من فعل أذنَ إذا أصغى أُذُنه إلى كلام مَن يكلمه ، ثم أطلق على الخطاب بإباحة فعل على طريقة المجاز بعلاقة اللزوم لأن الإصغاء إلى كلام المتكلم يستلزم الإقبال عليه وإجابةَ مطلبه ، وشاع ذلك حتى صار الإذن أشْيَع في معنى الخطاب بإباحة الفعل ، وبذلك صار لفظ الإذن قابلاً لأن يستعمل مجازاً في معان من مشابهات الخطاب بالإباحة ، فأطلق في هذه الآية على التمكين من الاهتداء وتيسيره بما في الشرائع من بيان الهُدى والإرشاد إلى وسائل الاهتداء على وجه الاستعارة ، لأن من ييسر لك شيئاً فكأنه أباح لك تناوله .وفي هذا إيماء إلى أن الله بعث بالإسلام لإرجاع الناس إلى الحق وإلى التوحيد الذي كانوا عليه ، أو لإرجاعهم إلى الحق الذي جاءت الرسل لتحصيله ، فاختلف أتباعهم فيه بدلاً من أن يحققوا بأفهامهم مقاصد ما جاءت به رسلهم ، فحصل بما في الإسلام من بيان القرآننِ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وضوحُ الحق والإرشاد إلى كيفية أخذه ، فحصل بمجيء الإسلام إتمام مراد الله مما أنزل من الشرائع السالفة .وقوله : { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } تذييل لبيان أن فضل الله يعطيه من يشاء ، وهذا إجمال ، وتفصيله أن حكمة الله اقتضت أن يتأخر تمام الهدى إلى وقت مجىء شريعة الإسلام لمَّا تهيأَ البشر بمجيء الشرائع السابقة لقبول هذه الشريعة الجامعة ، فكانت الشرائع السابقة تمهيداً وتهيئة لقبول دين الإسلام ، ولذلك صدرت هذه الآية بقوله : { كان الناس أمة واحدة } ، فكما كان البشر في أول أمره أمة واحدة على هدى بسيط ثم عرضت له الضلالات عند تحرك الأفكار البشرية ، رجع البشر إلى دين واحد في حالة ارتقاء الأفكار ، وهذا اتحاد عجيب ، لأنه جاء بعد تشتت الآراء والمذاهب ، ولذا قال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } ، وفي الحديث : « مَثَل المسلمين واليهود والنصارى كمثللِ رجللٍ استأْجَر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطتَ لنا وما عَمِلنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أَكمِلوا بقيةَ عملكم وخُذُوا أجركم كاملاً فأَبَوْا وتركوا ، واستأجر آخرين بعدهم فقال لهم : أَكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطتُ لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلتَ لنا فيه ، فقال لهم أَكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأَبَوْا ، واستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثَلُهم ومثَلُ ما قبلوا من هذا النور ، فقالت اليهود والنصارى ما لَنا أكثرُ عملاً وأقَلُّ عطاء ، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء » .
الآية 213 - سورة البقرة: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ۚ...)