سورة البقرة: الآية 180 - كتب عليكم إذا حضر أحدكم...

تفسير الآية 180, سورة البقرة

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ

الترجمة الإنجليزية

Kutiba AAalaykum itha hadara ahadakumu almawtu in taraka khayran alwasiyyatu lilwalidayni waalaqrabeena bialmaAAroofi haqqan AAala almuttaqeena

تفسير الآية 180

فرض الله عليكم إذا حضر أحدكم علامات الموت ومقدماته -إن ترك مالا- الوصية بجزء من ماله للوالدين والأقربين مع مراعاة العدل؛ فلا يدع الفقير ويوصي للغني، ولا يتجاوز الثلث، وذلك حق ثابت يعمل به أهل التقوى الذين يخافون الله. وكان هذا قبل نزول آيات المواريث التي حدَّد الله فيها نصيب كل وارث.

«كتب» فرض «عليكم إذا حضر أحدكم الموت» أي أسبابه «إن ترك خيرا» مالا «الوصية» مرفوع بكتب ومتعلق بإذا إن كانت ظرفية ودال على جوابها إن كانت شرطية وجواب إن أي فليوص «للوالدين والأقربين بالمعروف» بالعدل بأن لا يزيد على الثلث ولا يفضل الغني «حقا» مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله «على المتقين» الله وهذا منسوخ بآية الميراث وبحديث: (لا وصية لوارث رواه الترمذي).

أي: فرض الله عليكم, يا معشر المؤمنين إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي: أسبابه, كالمرض المشرف على الهلاك, وحضور أسباب المهالك، وكان قد تَرَكَ خَيْرًا [أي: مالا] وهو المال الكثير عرفا, فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف, على قدر حاله من غير سرف, ولا اقتصار على الأبعد, دون الأقرب، بل يرتبهم على القرب والحاجة, ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل. وقوله: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ دل على وجوب ذلك, لأن الحق هو: الثابت، وقد جعله الله من موجبات التقوى. واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين, مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة, ردها الله تعالى إلى العرف الجاري. ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث, بعد أن كان مجملا، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف, فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة, ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين, لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا, واختلف المورد. فبهذا الجمع, يحصل الاتفاق, والجمع بين الآيات, لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ, الذي لم يدل عليه دليل صحيح.

اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين . وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية المواريث ، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه ، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله ، يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمل منة الموصي ، ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " .وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن محمد بن سيرين ، قال : جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى [ على ] هذه الآية : ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين ) فقال : نسخت هذه الآية .وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن هشيم ، عن يونس ، به . ورواه الحاكم في مستدركه وقال : صحيح على شرطهما .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( الوصية للوالدين والأقربين ) قال : كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين ، فأنزل الله آية الميراث فبين ميراث الوالدين ، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج ، وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله : ( الوصية للوالدين والأقربين ) نسختها هذه الآية : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) [ النساء : 7 ] .ثم قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر وأبي موسى ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن سيرين ، وعكرمة ، وزيد بن أسلم ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وطاوس ، وإبراهيم النخعي ، وشريح ، والضحاك ، والزهري : أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث .والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه الله كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة ، وإنما هي مفسرة بآية المواريث ، ومعناه : كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين . من قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم ) [ النساء : 11 ] قال : وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء . قال : ومنهم من قال : إنها منسوخة فيمن يرث ، ثابتة فيمن لا يرث ، وهو مذهب ابن عباس ، والحسن ، ومسروق ، وطاوس ، والضحاك ، ومسلم بن يسار ، والعلاء بن زياد .قلت : وبه قال أيضا سعيد بن جبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان . ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر ; لأن آية الميراث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية ، لأن " الأقربين " أعم ممن يرث ومن لا يرث ، فرفع حكم من يرث بما عين له ، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى . وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم : أن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت . فأما من يقول : إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث ، كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ; فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين [ الوارثين ] منسوخ بالإجماع . بل منهي عنه للحديث المتقدم : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " . فآية الميراث حكم مستقل ، ووجوب من عند الله لأهل الفروض وللعصبات ، رفع بها حكم هذه بالكلية . بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم ، يستحب له أن يوصى لهم من الثلث ، استئناسا بآية الوصية وشمولها ، ولما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه ، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " . قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي .والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم ، كثيرة جدا .وقال عبد بن حميد في مسنده : أخبرنا عبيد الله ، عن مبارك بن حسان ، عن نافع قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، ثنتان لم يكن لك واحدة منهما : جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك ; لأطهرك به وأزكيك ، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك " .وقوله : ( إن ترك خيرا ) أي : مالا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وعطية العوفي ، والضحاك ، والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة ، وغيرهم .ثم منهم من قال : الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال : إنما يوصي إذا ترك مالا جزيلا ثم اختلفوا في مقداره ، فقال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، أخبرنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : قيل لعلي ، رضي الله عنه : إن رجلا من قريش قد مات ، وترك ثلاثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص . قال : ليس بشيء ، إنما قال الله : ( إن ترك خيرا ) .قال : وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له : أوصي ؟ فقال له علي : إنما قال الله تعالى : ( إن ترك خيرا الوصية ) إنما تركت شيئا يسيرا ، فاتركه لولدك .وقال الحكم بن أبان : حدثني عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( إن ترك خيرا ) قال ابن عباس : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا ، قال الحكم : قال طاوس : لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا . وقال قتادة : كان يقال : ألفا فما فوقها .وقوله : ( بالمعروف ) أي : بالرفق والإحسان ، كما قال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن يسار ، حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، قوله : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) فقال : نعم ، الوصية حق ، على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المنكر .والمراد بالمعروف : أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته ، من غير إسراف ولا تقتير ، كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال : يا رسول الله ، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : " لا " قال : فبالشطر ؟ قال : " لا " قال : فالثلث ؟ قال : " الثلث ، والثلث كثير ; إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " .وفي صحيح البخاري : أن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الثلث ، والثلث كثير " .وروى الإمام أحمد ، عن أبي سعيد مولى بني هاشم ، عن ذيال بن عبيد بن حنظلة ، سمعت حنظلة بن حذيم بن حنيفة : أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل ، فشق ذلك على بنيه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال حنيفة : إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل ، كنا نسميها المطيبة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، " لا لا لا . الصدقة : خمس ، وإلا فعشر ، وإلا فخمس عشرة ، وإلا فعشرون ، وإلا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلا فخمس وثلاثون ، فإن أكثرت فأربعون " .وذكر الحديث بطوله .

قوله - تعالى - : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ ) قد استفاض في عرض الشرع بمعنى وجب عليكم .و " حضور الموت " يقع عند معاينة الإِنسان للموت ولعجزه في هذا الوقت عن الإِيصاء فسر بحضور أسبابه ، وظهور أماراته ، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ . وقد شاع عند العرب استعمال السبب كناية عن المسبب ، ومن ذلك قول شاعرهم :يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوتوقل لهم ادروا بالعذر والتمسوا ... قولا يبرئكم إني أنا الموتوالخير : المال ، وقالوا إنه هنا مختص بالمال الكثير ، لأن مقام الوصية يشعر بذلك ، ولم يرد نص من الشارع في تقدير ما يسمى مالا كثيراً ، وإنما وردت آثار من بعض الصحابة والتابعين في تقديره بحسب اجتهادهم ، وبالنظر إلى ما يسمى بحسب العرف مالا كثيراً فقال بعضهم : من ألف درهم إلى خمسمائة درهم ، وقال بعضهم : من ألف درهم إلى ثمانمائة درهم . والحق أن هذا التقدير يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والعرف .ويرى بعض العلماء أن الوصية مشروعة في المال قليلة وكثيرة .قال القرطبي : والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة بعد الموت ، وخصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية . والوصي يكون الموصى والموصى إليه . وأصله من وصى مخففاً . وتواصي النبت تواصياً إذا اتصل وأرض واصية : متصلة النبات . وأوصيت له بشيء . وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك . والاسم الوصاية والوصاية - بالفتح وبالكسر - وتواصي القوم : أوصى بعضهم بعضاً .والمعنى : كتب عليكم أيها المؤمنون أنه إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت : من مرض ثقيل ، أو شيخوخة مضعفة ، وكان عنده مال كثير قد جمعه عن طريق حلال ، أن يوصي بجانب منه لوالديه وأقاربه رعاية لحقهم وحاجتهم ، وأن تكون وصيته لهم بالعدل الذي لا مضارة فيه بين الأقارب ، والوصية على هذا الوجه تعتبر حقاً واجباً على المتقين الذين اتخذوا التقوى والخشية من الله طريقاً لهم .فالآية الكريمة استئناف لبيان الوصية بعد الحديث عن القصاص ، وفصل القرآن الحديث عن الوصية عن سابقه للإِشعار بأنه حكم مستقل جدير بالأهمية .وقد جاء الحديث عن الوصية بتلك الطريقة الحكيمة ، لتغيير ما كان من عادات بعض أهل الجاهلية . فإنهم كانوا كثيراً مانعون القريب من الإِرث توهما منهم أنه يتمنى موت قريبة ليرثه ، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض فيؤدي ذلك إلى التباغض والتحاسد ، وربما فضلوا - أيضاً - الوصية لغير الأقارب للفخر والتباهي . فشرع الإِسلام لأتباعه ما يقوى الروابط ويمنع التحاسد والتعادي .قال الجمل : وكتب فعل ماض مبني للمجهول ، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله - تعالى - وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :أحدها : أن يكون الوصية ، أي : كتب عليكم الوصية ، وجاز تذكير الفعل لكون القائم مقام الفاعل مؤنثاً مجازياً ولوجود الفصل بينه وبين مرفوعه .والثاني : أنه الإِيصاء المدلول عليه بقوله : " الوصية " للوالدين ، أي : كتب هو ، أي الإِيصاء .والثالث : أنه الجار والمجرور ، وهذا يتجه على رأي الأخفش والكوفيين وعليه فيكون قوله : ( عَلَيْكُمْ ) في محل رفع ، ويكون في محل النصب على القولين الأولين وجواب كل من ( إِذَا ) و ( إِن ) محذوف . أي : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً فليوص .والباء في قوله : ( بالمعروف ) للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية .والمراد بالمعروف هنا العدل الذي جاءت به الشريعة ، بأن لا يتجاوز بالوصية الثلث ، وأن لا يوصى للاغنياء ويترك الفقراء أو يوصي للقريب ويترك الأقرب مع أنه أشد فقراً ومسكنة .وقوله : ( حَقّاً ) مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه ( كُتِبَ ) وعامله إما ( كُتِبَ ) أو فعل محذوف تقديره حق أي : حق ذلك حقاً .وقوله : ( عَلَى المتقين ) صفة له . أي حقاً كائناً على المتقين .وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضا به ، لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس جدير أن يتأسى به الناس ، ومن أهمله فقد حرم من الدخول في زمرتهم ، وخسر بذلك خسارة عظيمة .قال بعض العلماء : وقد وردت هذه الآية في الوصية للوالدين والأقربين ، والمعروف عند الأمة منذ عهد السلف أن الوصية لا تصح لوارث ، والوالدان لهما نصيب مفروض في المواريث ومقتضاه عدم صحة الوصية لهما؟ويزيح هذا الإشكال من طريق التفسير أن فريقاً من أهل العمل وهم جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن الآية قد نسخ منها حكم الوصية للوارث . وإيضاح وجه النسخ أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية فقامت مقامها في الوصية للوارث ودل على هذا المعنى صراحة الحديث الشريف وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث " .وهذا الحديث وإن لم يبلغ مبلغ الحديث المتواتر الذي يصح نسخه للقرآن بنفسه ، فقد امتاز عن بقية أخبار الآحاد بأن الأمة تلقته بالقبول ، وأخذوا في العمل به من غير مخالف ، فأخذ بهذا قوة الحديث المتوار في الرواية واعتمدوا عليه في بيان أن آية المواريث قامت بتقدير الأنصباء في الميراث مقام آية ( إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت ) في الوصية للوارث . وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس ، وجعل للمرأة الثمن والربع ، وللزوج الشطر الربع .ومن أهل العلم من لم يستطيعوا أن يهملوا حديث " لا وصية لوارث " لاستفاضيته بين الأمة وتلقيهم له بالقبول ، فقرروا العمل به وأبطلوا الوصية لوارث ولكنهم ذهبوا مع هذا إلى أن آية الوصية للوالدين محكمة غير منسوخة وتأولوها على وجوه منها أن المراد من قوله : ( لِلْوَالِدَيْنِ ) الوالدان اللذان لا يرثان لمانع من الإِرث كالكفر والاسترقاق ، وقد كانوا حيثي عهد الإِسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقد أوصى الله بالإِحسان إليهما .

قوله تعالى : ( كتب عليكم ) أي فرض عليكم ( إذا حضر أحدكم الموت ) أي جاءه أسباب الموت وآثاره من العلل والأمراض ( إن ترك خيرا ) أي مالا نظيره قوله تعالى " وما تنفقوا من خير " ( 272 - البقرة ( الوصية للوالدين والأقربين ) كانت الوصية فريضة في ابتداء الإسلام للوالدين والأقربين على من مات وله مال ثم نسخت بآية الميراث .أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أخبرنا محمد بن أحمد بن الوليد أخبرنا الهيثم بن جميل أخبرنا حماد بن سلمة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة قال كنت آخذا بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث ، فذهب جماعة إلى أن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقي وجوبها في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقارب وهو قول ابن عباس وطاوس وقتادة والحسن قال طاوس : من أوصى لقوم سماهم وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت إلى ذوي قرابته وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة وهي حتمية في حق الذين لا يرثونأخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا طاهر بن أحمد أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه " .قوله تعالى ( بالمعروف ) يريد يوصي بالمعروف ولا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير قال ابن مسعود : الوصية للأخل فالأخل أي الأحوج فالأحوجأخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن رحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أخبرنا عبيد الله بن موسى وأبو نعيم عن سفيان الثوري عن سعيد بن إبراهيم عن عامر بن سعيد عن سعد بن مالك قال جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت يا رسول الله ، أوصي بمالي كله قال لا قلت فالشطر قال لا قلت فالثلث ؟ قال الثلث والثلث كثير إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بأيديهم .وعن ابن أبي مليكة أن رجلا قال لعائشة رضي الله عنها إني أريد أن أوصي قالت كم مالك قال ثلاثة آلاف قالت كم عيالك قال أربعة ، قالت إنما قال الله ( إن ترك خيرا ) وإن هذا شيء يسير فاترك لعيالكوقال علي رضي الله عنه لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث فمن أوصى بالثلث فلم يترك . وقال الحسن البصري رضي الله عنه يوصي بالسدس أو الخمس أو الربع ، وقال الشعبي إنما كانوا يوصون بالخمس أو الربع .قوله تعالى : ( حقا ) نصب على المصدر وقيل على المفعول أي جعل الوصية حقا ( على المتقين ) المؤمنين

قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقينفيه إحدى وعشرون مسألة :الأولى : قوله تعالى : كتب عليكم هذه آية الوصية ، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية ، وفي " النساء " : من بعد وصية وفي " المائدة " : حين الوصية . والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث ، على ما يأتي بيانه ، وفي الكلام تقدير واو العطف ، أي وكتب عليكم ، فلما طال الكلام أسقطت الواو . ومثله في بعض الأقوال : لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى أي والذي ، فحذف ، وقيل : لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص ، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت ، فهذا أوان الوصية ، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف . وكتب معناه فرض وأثبت ، كما تقدم ، وحضور الموت : أسبابه ، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب ، قال شاعرهم :يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوتوقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموتوقال عنترة :وإن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندوانوقال جرير في مهاجاة الفرزدق :أنا الموت الذي حدثت عنه فليس لهارب مني نجاءالثانية : إن قيل : لم قال كتب ولم يقل كتبت ، والوصية مؤنثة ؟ قيل له : إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء ، وقيل : لأنه تخلل فاصل ، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث ، تقول العرب : حضر القاضي اليوم امرأة ، وقد حكى سيبويه : قام امرأة ، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل .الثالثة : قوله تعالى : إن ترك خيرا ( إن ) شرط ، وفي جوابه لأبي الحسن الأخفش قولان ، قال الأخفش : التقدير فالوصية ، ثم حذفت الفاء ، كما قال الشاعر :من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلانوالجواب الآخر : أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده ، فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا ، فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء ، وإن لم تقدر الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء ، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله ، أي كتب عليكم الوصية ، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل الوصية في " إذا " لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت ، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة ، ويجوز أن يكون العامل في " إذا " : كتب والمعنى : توجه إيجاب الله إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل . ويجوز أن يكون العامل في " إذا " الإيصاء يكون مقدرا دل على الوصية ، المعنى : كتب عليكم الإيصاء إذا .الرابعة : قوله تعالى : خيرا الخير هنا المال من غير خلاف ، واختلفوا في مقداره ، فقيل : المال الكثير ، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا في سبعمائة دينار إنه قليل . قتادة عن الحسن : الخير ألف دينار فما فوقها . الشعبي : ما بين خمسمائة دينار إلى ألف ، والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت ، وخصصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت ، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية ، والوصي يكون الموصي والموصى إليه ، وأصله من وصى مخففا ، وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل ، وأرض واصية : متصلة النبات ، وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك ، والاسم الوصاية والوصاية ( بالكسر والفتح ) ، وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى ، والاسم الوصاة . وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا . وفي الحديث : استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم . ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به .الخامسة : اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا ، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون ، وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك ، وهو قول مالك والشافعي والثوري ، موسرا كان الموصي أو فقيرا ، وقالت طائفة : الوصية واجبة على ظاهر القرآن ، قاله الزهري وأبو مجلز ، قليلا كان المال أو كثيرا ، وقال أبو ثور : ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم ، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه ، فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء . قال ابن المنذر : وهذا حسن ; لأن الله فرض أداء الأمانات إلى أهلها ، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي . احتج الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده وفي رواية يبيت ثلاث ليال وفيها قال عبد الله بن عمر : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي . احتج من لم يوجبها بأن قال : لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي ، ولكان ذلك لازما على كل حال ، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده ، وذلك فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم ، كما قال أبو ثور ، وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة ، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه .فإن قيل : فقد قال الله تعالى : كتب عليكم وكتب فرض ، فدل على وجوب الوصية قيل لهم : قد تقدم الجواب عنه في الآية قبل ، والمعنى : إذا أردتم الوصية ، والله أعلم ، وقال النخعي : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ، وقد أوصى أبو بكر ، فإن أوصى فحسن ، وإن لم يوص فلا شيء عليه .السادسة : لم يبين الله تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال ، وإنما قال : إن ترك خيرا والخير المال ، كقوله : وما تنفقوا من خير ، وإنه لحب الخير فاختلف العلماء في مقدار ذلك ، فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس . وقال علي رضي الله عنه من غنائم المسلمين بالخمس ، وقال معمر عن قتادة . أوصى عمر بالربع ، وذكره البخاري عن ابن عباس ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث .واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية ، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين . روى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة قال لها : إني أريد أن أوصي : قالت : وكم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف . قالت : فكم عيالك ؟ قال أربعة . قالت : إن الله تعالى يقول : إن ترك خيرا وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك .السابعة : ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا : إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله ، وقالوا : إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء ، لقوله عليه السلام : إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس الحديث ، رواه الأئمة . ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث ، روي هذا القول عن ابن عباس ، وبه قال أبو عبيدة ومسروق ، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه ، وروي عن علي وسبب الخلاف مع ما ذكرنا ، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه ؟ قولان :الثامنة : أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله ، وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبد الله : إني قد أردت أن أوصي ، فقال له : أوص ومالك في مالي ، فدعا كاتبا فأملى ، فقال عبد الله : فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك ، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم .التاسعة : وأجمعوا أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها ، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبر ، فقال مالك رحمه الله : الأمر المجمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت ، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية ويسقطها فعل ، إلا أن يدبر فإن دبر مملوكا فلا سبيل له إلى تغيير ما دبر ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده . قال أبو الفرج المالكي : المدبر في القياس كالمعتق إلى شهر ; لأنه أجل آت لا محالة ، وأجمعوا ألا يرجع في اليمين بالعتق والعتق إلى أجل فكذلك المدبر ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : هو وصية ; لإجماعهم أنه في الثلث كسائر الوصايا . وفي إجازتهم وطء المدبرة ما ينقض قياسهم المدبر على العتق إلى أجل ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم باع مدبرا ، وأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها ، وهو قول جماعة من التابعين ، وقالت طائفة : يغير الرجل من وصيته ما شاء إلا العتاقة ، وكذلك قال الشعبي وابن سيرين وابن شبرمة والنخعي ، وهو قول سفيان الثوري .العاشرة : واختلفوا في الرجل يقول لعبده : أنت حر بعد موتي ، وأراد الوصية ، فله الرجوع عند مالك في ذلك . وإن قال : فلان مدبر بعد موتي ، لم يكن له الرجوع فيه ، وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك ، وأما الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور فكل هذا عندهم وصية ; لأنه في الثلث ، وكل ما كان في الثلث فهو وصية ، إلا أن الشافعي قال : لا يكون الرجوع في المدبر إلا بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة . وليس قوله : - قد رجعت - رجوعا ، وإن لم يخرج المدبر عن ملكه حتى يموت فإنه يعتق بموته . وقال في القديم : يرجع في المدبر كما يرجع في الوصية ، واختاره المزني قياسا على إجماعهم على الرجوع فيمن أوصى بعتقه ، وقال أبو ثور : إذا قال قد رجعت في مدبري فقد بطل التدبير ، فإن مات لم يعتق ، واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال : عبدي حر بعد موتي ، ولم يرد الوصية ولا التدبير ، فقال ابن القاسم : هو وصية ، وقال أشهب : هو مدبر وإن لم يرد الوصية .الحادية عشرة : اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة ، فقيل : هي محكمة ، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة ، قاله الضحاك وطاوس والحسن ، واختاره الطبري . وعن الزهري أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر ، وقال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة ، وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة : الآية عامة ، وتقرر الحكم بها برهة من الدهر ، ونسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض ، وقد قيل : إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى ، وهي قوله عليه السلام : إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث . رواه أبو أمامة ، أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح ، فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث على الصحيح من أقوال العلماء ، ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية ، وبالميراث إن لم يوص ، أو ما بقي بعد الوصية ، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع ، والشافعي وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم الله تبارك وتعالى ومن عنده ، وإن اختلفت في الأسماء ، وقد تقدم هذا المعنى . ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث ، فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربين الوارثين منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين ، والله أعلم .وقال ابن عباس والحسن : نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة " النساء " وثبتت للأقربين الذين لا يرثون ، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم . وفي البخاري عن ابن عباس قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس ، للمرأة الثمن والربع ، والزوج الشطر والربع .وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد : الآية منسوخة ، وبقيت الوصية ندبا ، ونحو هذا قول مالك رحمه الله ، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي ، وقال الربيع بن خثيم : لا وصية . قال عروة بن ثابت : قلت للربيع بن خثيم أوص لي بمصحفك ، فنظر إلى ولده وقرأ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه .الثانية عشرة قوله تعالى : والأقربين الأقربون جمع أقرب . قال قوم : الوصية للأقربين أولى من الأجانب ، لنص الله تعالى عليهم ، حتى قال الضحاك : إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية ، وروي عن ابن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف . وروي أن عائشة وصت لمولاة لها بأثاث البيت ، وروي عن سالم بن عبد الله بمثل ذلك ، وقال الحسن : إن أوصى لغير الأقربين ردت الوصية للأقربين ، فإن كانت لأجنبي فمعهم ، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم ، وقال الناس حين مات أبو العالية : عجبا له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم ، وقال الشعبي : لم يكن له ذلك ولا كرامة وقال طاوس : إذا أوصى لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله ، وقاله جابر بن زيد ، وقد روي مثل هذا عن الحسن أيضا ، وبه قال إسحاق بن راهويه ، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل : من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين فبئسما صنع وفعله مع ذلك جائز ماض لكل من أوصى له من غني وفقير ، قريب وبعيد ، مسلم وكافر ، وهو معنى ما روي عن ابن عمر وعائشة ، وهو قول ابن عمر وابن عباس .قلت : القول الأول أحسن ، وأما أبو العالية رضي الله عنه فلعله نظر إلى أن بني هاشم أولى من معتقته لصحبته ابن عباس وتعليمه إياه وإلحاقه بدرجة العلماء في الدنيا والأخرى . وهذه الأبوة وإن كانت معنوية فهي الحقيقية ، ومعتقته غايتها أن ألحقته بالأحرار في الدنيا ، فحسبها ثواب عتقها ، والله أعلم .الثالثة عشرة : ذهب الجمهور من العلماء إلى أن المريض يحجر عليه في ماله ، وشذ أهل الظاهر فقالوا : لا يحجر عليه وهو كالصحيح ، والحديث والمعنى يرد عليهم . قال سعد : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول الله ، بلغ بي ما ترى من الوجع ، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا بنت واحدة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : لا ، قلت : أفأتصدق بشطره ؟ قال : لا ، الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس الحديث .ومنع أهل الظاهر أيضا الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة ، وأجاز ذلك الكافة إذا أجازها الورثة ، وهو الصحيح ; لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث ، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا صحيحا ، وكان كالهبة من عندهم ، وروى الدارقطني عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ، وروي عن عمرو بن خارجة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة .الرابعة عشرة : واختلفوا في رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته ، فقالت طائفة : ذلك جائز عليهم وليس لهم الرجوع فيه . هذا قول عطاء بن أبي رباح وطاوس والحسن وابن سيرين وابن أبي ليلى والزهري وربيعة والأوزاعي ، وقالت طائفة : لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا . هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور ، واختاره ابن المنذر ، وفرق مالك فقال : إذا أذنوا في صحته فلهم أن يرجعوا ، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله فذلك جائز عليهم ، وهو قول إسحاق . احتج أهل المقالة الأولى بأن المنع وقع من أجل الورثة ، فإذا أجازوه جاز ، وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من ثلثه لأجنبي جاز بإجازتهم ، فكذلك ها هنا ، واحتج أهل القول الثاني بأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت ، وإنما يملك المال بعد وفاته ، وقد يموت الوارث المستأذن قبله ولا يكون وارثا وقد يرثه غيره ، فقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شيء . واحتج مالك بأن قال : إن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء ، فإذا أذنوا له في صحته فقد تركوا شيئا لم يجب لهم ، وإذا أذنوا له في مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق ، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه لأنه قد فات .الخامسة عشرة : فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه لأنه لم يفت بالتنفيذ ، قاله الأبهري ، وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قول مالك في هذه المسألة أشبه بالسنة من غيره . قال ابن المنذر : واتفق قول مالك والثوري والكوفيين والشافعي وأبي ثور أنهم إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم .السادسة عشرة : واختلفوا في الرجل يوصي لبعض ورثته بمال ، ويقول في وصيته : إن أجازها الورثة فهي له ، وإن لم يجيزوه فهو في سبيل الله ، فلم يجيزوه . فقال مالك : إن لم تجز الورثة ذلك رجع إليهم ، وفي قول الشافعي وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبد الرزاق يمضي في سبيل الله .السابعة عشرة : لا خلاف في وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه ، واختلف في غيره ، فقال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به ، وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول فوصيته جائزة ماضية ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز وصية الصبي ، وقال المزني : وهو قياس قول الشافعي ، ولم أجد للشافعي في ذلك شيئا ذكره ونص عليه . واختلف أصحابه على قولين : أحدهما كقول مالك ، والثاني كقول أبي حنيفة ، وحجتهم أنه لا يجوز طلاقه ولا عتاقه ولا يقتص منه في جناية ولا يحد في قذف ، فليس كالبالغ المحجور عليه ، فكذلك وصيته . قال أبو عمر : قد اتفق هؤلاء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة ، ومعلوم أن من يعقل من الصبيان ما يوصي به فحاله حال المحجور عليه في ماله ، وعلة الحجر تبذير المال وإتلافه ، وتلك علة مرتفعة عنه بالموت ، وهو بالمحجور عليه في ماله أشبه منه بالمجنون الذي لا يعقل ، فوجب أن تجوز وصيته مع الأمر الذي جاء فيه عن عمر رضي الله عنه ، وقال مالك : إنه الأمر المجمع عليه عندهم بالمدينة ، وبالله التوفيق . وقال محمد بن شريح : من أوصى من صغير أو كبير فأصاب الحق فالله قضاه على لسانه ليس للحق مدفع .الثامنة عشرة : قوله تعالى : بالمعروف يعني بالعدل ، لا وكس فيه ولا شطط ، وكان هذا موكلا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي ، ثم تولى الله سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه عليه السلام ، فقال عليه السلام : الثلث والثلث كثير ، وقد تقدم ما للعلماء في هذا ، وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة . أخرجه الدارقطني عن أبي أمامة عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الحسن : لا تجوز وصية إلا في الثلث ، وإليه ذهب البخاري واحتج بقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل الله ، فمن تجاوز ما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد على الثلث فقد أتى ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، وكان بفعله ذلك عاصيا إذا كان بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عالما . وقال الشافعي : وقوله الثلث كثير يريد أنه غير قليل .التاسعة عشرة : قوله تعالى : حقا يعني : ثابتا ثبوت نظر وتحصين ، لا ثبوت فرض ووجوب بدليل قوله : على المتقين وهذا يدل على كونه ندبا ; لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين ، فلما خص الله من يتقي ، أي يخاف تقصيرا ، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات ، فيلزمه فرضا المبادرة بكتبه والوصية به ; لأنه إن سكت عنه كان تضييعا له وتقصيرا منه ، وقد تقدم هذا المعنى ، وانتصب حقا على المصدر المؤكد ، ويجوز في غير القرآن " حق " بمعنى ذلك حق .الموفية عشرين : قال العلماء : المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية ، وإنما هي من حديث ابن عمر ، وفائدتها : المبالغة في زيادة الاستيثاق وكونها مكتوبة مشهودا بها وهي الوصية المتفق على العمل بها ، فلو أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظا لعمل بها وإن لم تكتب خطا ، فلو كتبها بيده ولم يشهد فلم يختلف قول مالك أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه فيلزمه تنفيذه .الحادية والعشرون : روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال : كانوا يكتبون في صدور وصاياهم ( هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأوصى من ترك بعده من أهله بتقوى الله حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم ، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين ، وأوصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب : يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .

القول في تأويل قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: " كُتب عليكم "، فُرض عليكم، أيها المؤمنون، الوصية = إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير: المال = للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه, بالمعروف: وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث, ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته = حقًّا على المتقين = يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه, وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.* * *فإن قال قائل: أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟قيل: نعم.فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه؟قيل : نعم.فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟قيل: قول الله تعالى ذكره: " كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين "، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه, كما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [سورة البقرة: 183]، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه, مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث؟قيل له: وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها, إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة، لنفي أحدهما صَاحبه.وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.* ذكر من قال ذلك:2628- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.2629- حدثني سَلم بن جنادة. (72) قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي, فقال له مسروق: إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم, وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه, أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك, ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.2630- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يُوصي إلا لذي قرابة, فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين.2631- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة قال: العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!2632- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن رجل, عن الشعبي قال: لم يكن له [مَوَال]، ولا كرامة. (73)2633- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن محمد قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمَّى، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال: حيثُ أمرَ الله، جعلناها في قرابته.2634- حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر قال، حدثنا عمران بن حُدير (74) قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبةٌ؟ قال: على من تركَ خيرًا.2635- حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير (75) قال: قلت للاحق بن حُميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرًا.* * *واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية.فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئًا من حكمها, وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب, والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع, وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله, وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك:2636- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن جابر بن زيد: في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون, قال: يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم, وثلث الثلث لمن أوصى له به.2637- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة, وثلث الثلث لمن أوصى له به.2638- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث, وثلثا الثلث لقرابته.2639- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.* * *وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه, وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.* ذكر من قال ذلك:2640- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ, فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون, وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم, ولا تجوز وصية لوارث.2641- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نسخ الوالدان منها, وترك الأقربون ممن لا يرث.2642- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج, عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نَسخ من يَرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.2643- حدثنا يحيى بن نصر قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا سفيان, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين, فلما نزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. (76) .2644- حدثني المثنى قال، حدثنا سُويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن إسماعيل المكي, عن الحسن في قوله: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.2645- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية: " الوصية للوالدين والأقربين " قال، للوالدين منسوخة, والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.2646- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم، إلا وصية إن كانت للأقربين، فأنزل الله بعد هذا: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ [سورة النساء: 11]، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين, وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.2647- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله : " إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.2648- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: " كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " قال، كان هذا من قبل أن تُنزل " سورة النساء ", فلما نزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين, فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.2649- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يَسار, والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى: " إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، قالا في القرابة.2650- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن إياس بن معاوية قال: في القرابة.* * *وقال آخرون: بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.* ذكر من قال ذلك:2651- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين " الآية, قال: فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.2652- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن ابن سيرين, عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا, فقرأ عليهم " سورة البقرة " ليبين لهم منها, فأتى على هذه الآية: " إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين " قال، نُسخت هذه.2653- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.2654- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن جهضم, عن عبد الله بن بدر قال، سمعت ابن عمر يقول في قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.2655- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة والحسن البصري قالا " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.2656- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة, عن شريح في هذه الآية: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، كان الرجل يُوصي بماله كله، حتى نزلت آية الميراث.2657- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة: أنه نسختْ آيتا المواريث في" سُورة النساء "، الآيةَ في" سُورة البقرة " في شأن الوصية.2658- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله : " إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال، كان الميراث للوَلد، والوصية للوالدين والأقربين, وهي منسوخة.2659- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان الميراث للولد, والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة، نسختها آيةٌ في" سورة النساء ": يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [سورة النساء: 11]2660- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، أما الوالدان والأقربون، فيوم نزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ, إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها " النساء "، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .2661- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن نافع: أن ابن عمر لم يُوصِ، وقال: أمّا مالي، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة, وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.2662- حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا محمد بن يوسف قال، حدثنا سفيان, عن نسير بن ذعلوق قال، قال عروة -يعني ابن ثابت- لربيع بن خُثيم: (77) أوْصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [سورة الأنفال: 75].2663- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا يزيد, عن سفيان، عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية, فقال: ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ, وأوصَى أبو بكر, أيَّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.2664- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.* * *وأما " الخير " الذي إذا تركه تاركٌ وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقرَبيه الذين لا يرثون، فهو: المال، كما:-2665- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " إن تَرك خيرًا "، يعني مالا.2666- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: " إن ترك خيرًا "، مالا.2667- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة (78) قال، حدثنا شبل, عن أبي نجيح, عن مجاهد: " إن تَرَك خيرًا "، كان يقول: الخير في القرآن كله: المال، لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات: 8]، الخير: المال - إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [سورة ص: 32]، المال - فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [سورة النور: 33]، المال = و ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ )، المالُ.2668- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " إن ترك خيرًا الوصية "، أي: مالا. (79)2669- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي: " إن تَرك خيرًا الوصية "، أما " خيرًا "، فالمالُ.2670- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " إن ترك خيرًا " قال، إن ترك مالا.2671- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: " إن ترك خيرًا " قال، الخيرُ المال.2672- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى, عن الضحاك في قوله: " إن ترك خيرًا الوصية " قال، المال. ألا ترى أنه يقول: قال شعيب لقومه: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ [سورة هود: 84] يعني الغني.2673- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا محمد بن عمرو اليافعي, عن ابن جريج, عن عطاء بن أبي رباح، تلا " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا "، قال عطاء: الخير فيما يُرى المال.* * *ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية.فقال بعضهم: ذلك ألف درهم.* ذكر من قال ذلك:2674- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة في هذه الآية: " إن تَرَك خيرًا الوصية " قال، الخيرُ ألف فما فوقه.2675- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا هشام بن عروة, عن عروة: أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم لهُ يعوده, فقال: إنّي أريد أن أوصي. فقال علي: لا توص، فإنك لم تترك خيرًا فتوصي.قال: وكان ترك من السبعمئة إلى التسعمئة.2676- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عثمان بن الحكم الحزامي (80) وابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن علي بن أبي طالب: أنه دخل على رجل مريض, فذكر لهُ الوصية, فقال: لا تُوص، إنما قال الله: " إن تَرك خيرًا "، وأنت لم تترك خيرًا. قال ابن أبي الزناد فيه: فدع مَالك لبنيك.2677- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور بن صفية, عن عبد الله بن عيينة -أو: عتبة, الشك مني-: أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير, وترك أربعمئة دينار, فقالت عائشة: ما أرى فيه فضلا.2678- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: دخل عليٌّ علَى مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم، أو ستمئة درهم, فقال: ألا أوصي؟ فقال: لا! إنما قال الله: " إن ترك خيرًا "، وليس لك كثير مال.* * *وقال بعضهم: ذلك ما بين الخمسمئة درهم إلى الألف.* ذكر من قال ذلك:2679- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة, عن أبان بن إبراهيم النخعيّ في قوله: " إن ترك خيرًا " قال، ألف درهم إلى خمسمئة.* * *وقال بعضهم: الوصية واجبة من قليل المال وكثيره.* ذكر من قال ذلك:2680- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: جعل الله الوصية حقًّا، مما قل منه أو كثر.* * *قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: " كُتبَ عَليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية " ما قال الزهري. لأن قليلَ المال وكثيره يقع عليه " خيرٌ", ولم يحدّ الله ذلك بحدٍّ، ولا خص منه شيئًا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن. فكلّ من حضرته منيَّته وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر، فواجبٌ عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف, كما قال الله جل ذكره وأمرَ به.-----------------الهوامش :(72) في المطبوعة : "سالم بن جنادة" . وهو خطأ . وقد مضى مرارًا ، وانظر ترجمته في رقم : 48 .(73) في المطبوعة : "لم يكن له حال ولا كرامة" . وهو خطأ بلا شك عندي . فإن هذا الخبر تعليق على الخبر السالف الذي تعجب فيه المغيرة من فعل أبي العالية : أعتقته امرأة من بني رياح ، وأوصى بماله لبني هاشم! فرد الشعبي تعجب المغيرة فقال : إن أبا العالية لا موالي له ، ولا كرامة لأحد .وخبر ذلك أن أبا العالية اشترته امرأة ، ثم ذهبت به إلى المسجد ، فقبضت على يده . فقالت : اللهم اذخره عندك ذخيرة ، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله ، ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف . قال أبو العالية : والسائبة يضع نفسه حيث شاء . (ابن سعد 7/1/81) .والسائبة : العبد يعتق على أن لا ولاء له . واختلف الفقهاء في ميراث السائبة ، إذا ترك ميراثًا : أيرثه معتقه ، أم لا يحل له أن يرزأ من ماله شيئًا؟ قيل : لما هلك أبو العالية أتى مولاه بميراثه ، فقال : هو سائبة! وأبى أن يأخذه . وفي حديث عمر : "السائبة والصدقة ليومهما" قال أبو عبيدة : أي ليوم القيامة ، واليوم الذي كان أعتق سائبته وتصدق بصدقة فيه . يقول : فلا يرجع إلى الانتفاع بشيء منها بعد ذلك في الدنيا . وانظر ترجمة سالم مولى أبي حذيفة (ابن سعد 3/1/60) فقد كان سائبة ، وقتل يوم اليمامة في عهد أبي بكر ، فأرسل أبو بكر ماله لمولاته فأبت أن تقبله ، فجعله عمر في بيت المال .فهذا ما أراد الشعبي أن يقول : إن أبا العالية سائبة ، فهو لا موالي له ، وماله يضعه حيث شاء ، ولا كراهة في ذلك لأحد من الموالي ، لأن ذلك هو حكم السائبة .هذا ما رأيت في تصحيح هذه الجملة ، ولم أجدها في مكان آخر ، فأسأل الله أن أكون قد بلغت التوفيق ، وجنبت الزلل .(74) في المطبوعة : "عمران بن جرير" ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت . وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري ، صلى على جنازة خلف أنس . روى عن أبي مجلز ، وأبي قلابة ، وغيرهما وعنهوأبو مجلز ، هو لاحق بن حميد ، المذكور في الإسناد التالي .(75) في المطبوعة : "عمران بن جرير" ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت . وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري ، صلى على جنازة خلف أنس . روى عن أبي مجلز ، وأبي قلابة ، وغيرهما وعنهوأبو مجلز ، هو لاحق بن حميد ، المذكور في الإسناد التالي .(76) الخبر : 2643- يحيى بن نصر ، شيخ الطبري : لم أعرف من هو؟ ولم أجد في الرواة من يدعي بهذا ، إلا رجلا قديمًا لم يدركه الطبري ، وهو"يحيى" بن نصر بن حاجب القرسي" ، مات سنة 215 قبل أن يولد أبو جعفر . وهو مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/193 ، وتاريخ بغداد 14 : 159-160 ، ولسان الميزان 6 : 278-279 .وفي تاريخ بغداد 14 : 225-226 ترجمة"يحيى بن أبي نصر ، أبو سعد الهروي" ، واسم أبيه منصور بن الحسن" . وهذا توفي سنة 287 . ولكن يبعد أن يسمع من"يحيى بن حسان" المتوفى سنة 208 .وفي التهذيب 11 : 292-293 ترجمة ثالثة : "يحيى بن النضر بن عبد الله الأصبهاني الدقاق" ، يروي عن أبي داود الطيالسي ، ويروي عنه أبو بكر بن أبي داود السجستاني . وهو مترجم أيضًا في تاريخ إصبهان 2 : 257-258 . فهذا من هذه الطبعة . ومن المحتمل جدًا أن يكون هو الذي روى عنه الطبري هنا .وأما شيخه"يحيى بن حسان" : فهو التنيسي البكري ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/269 ، والصغير : 229 ، وابن أبي حاتم 4/2/135 .(77) في المطبوعة : "بن خثيم" ، وأثبت ما في التهذيب ، وانظر ترجمته .(78) في المطبوعة : "أبو جعفر" والصواب"أبو حذيفة" ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم : 2659 .(79) الأثر : 2668- في المطبوعة : "حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا سعيد" أسقط"حدثنا يزيد" ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم : 2640 .(80) ضبطه في الخلاصة"بكسر المهملة" وفي التهذيب والميزان"الجذامي" بجيم مضمومة ، ثم ذال معجمة .

استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه ، فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح ب { يا أيها الذين آمنوا } لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف ، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم ، ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيراً ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه ، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض ، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تختل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب كما قال طَرَفة: ... وظُلْم ذوي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةًعلى المَرْءِ من وَقْع الحُسَاممِ المُهَنَّدِ ... كان تغييرها إلى حال العَدل فيها من أهم مقاصد الإسلام كما بيَّنا تفصيله فيما تقدم في آية : { كتب عليكم القصاص في القتلى } [ البقرة : 178 ] . أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصاً .والقول في { كتب } تقدم في الآية السابقة وهو ظاهر في الوجوب قريب من النص فيه . وتجريدُه من علامة التأنيث مع كون مرفوعه مؤنثاً لفظاً لاجتماع مسوغين للتجريد وهما كون التأنيث غير حقيقي وللفصل بينه وبين الفعل بفاصل ، وقد زعم الشيخ الرضي أن اجتماع هذين المسوغين يرجح تجريد الفعل عن علامة التأنيث والدرك عليه .ومعنى حضور الموت حضورُ أسبابه وعلاماتِه الدالة على أن الموت المتخيل للناس قد حضر عند المريض ونحوه ليصيره ميتاً قال تأبط شراً: ... والمَوْت خَزْيَانُ يَنْظُرُفإن حضور الشيء حلوله ونزوله وهو ضد الغيبة ، فليس إطلاق حضر هنا من قبيل إطلاق الفعل على مقاربة الفعل نحو قد قامت الصلاة ولا على معنى إرادة الفعل كما في { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ، { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ المائدة : 98 ] ، ولكنه إسناد مجازي إلى الموت لأنه حضور أسبابه ، وأما الحضور فمستعار للعرو والظهور ، ثم إن إطلاق الموت على أسبابه شائع قال رُويشد بن كثير الطائي: ... وقُلْ لَهُمْ بادروا بالعَفْو والتَمِسُواقَوْلاً يُبَرِّؤُكُم إنِّي أَنا المَوْت ... والخير المالُ وقيل الكثير منه ، والجمهور على أن الوصية مشروعة في المال قليله وكثيره ، وروي عن عليّ وعائشة وابن عباس أن الوصية لا تجب إلاّ في المال الكثير .كانت عادة العرب في الجاهلية أن الميت إذا كان له ولد أو أولاد ذكور استأثروا بماله كله ، وإن لم يكن له ولد ذكَر استأثَر بماله أقربُ الذكور له من أب أو عم أو ابن عم الأدنَيْنَ فالأَدْنَين ، وكان صاحب المال ربما أوصى ببعض ماله أو بجميعه لبعض أولاده أو قرابته أو أصدقائه ، فلما استقر المسلمون بدار الهجرة واختصوا بجماعتهم شرع الله لهم تشريك بعض القرابة في أموالهم ممن كانوا قد يهملون توريثه من البنات والأخوات والوالدين في حال وجود البنين ولذلك لم يُذكَر الأبناء في هذه الآية .وعُبر بفعل ( ترك ) وهو ماض عن معنى المستقبل أي إن يترك ، للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضياً ، والمعنى : إن أَوحشَك أن يَتْرُك خيراً أو شارف أن يترك خيراً ، كما قدّروه في قوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم } [ النساء : 9 ] في سورة النساء وقوله تعالى : { إن الذين حقت عليههم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ] في سورة يونس أي حتى يقاربوا رؤية العذاب .والوصية فَعِيلةٌ من وصَّى فهو المُوصَّى بها فوقع الحذف والإيصال ليتأتى بناء فَعيلة بمعنى مفعولة؛ لأن زنة فعيلة لا تبنى من القاصر . والوصية الأمر بفعل شيءٍ أو تركه مما فيه نفع للمأمور أو للآمر في مغيب الآمر في حياته أو فيما بعد موته ، وشاع إطلاقها على أمر بشيء يصلح بعد موت الموصي وفي حديث العرباض بن سارية قال : « وعَظَنا رسولُ الله موعظةً وَجِلَتْ منها القلوبُ وذَرَفَتْ منها العيون فقلْنا يا رسول الله كأنها موعظة مُوَدِّع فأَوْصِنا إلخ » .والتعريف في الوصية تعريفُ الجنس أي كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين ، فقوله : { للوالدين } متعلق بالوصية معمول له؛ لأن اسم المصدر يعمل عمل المصدر ولا يحتاج إلى تأويله بأَنْ والفعللِ ، والوصيةُ مرفوع نائب عن الفاعل لفعل { كتب } ، و { إذا } ظرف .و { المعروف } الفعل الذي تألفه العقول ولا تنكره النفوس فهو الشيء المحبوب المرضي سمي معروفاً لأنه لكثرة تداوله والتأنُّس به صار معروفاً بين الناس ، وضِدّه يسمى المنكر وسيأتي عند قوله تعالى : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] في سورة آل عمران .والمراد بالمعروف هنا العدل الذي لا مضارة فيه ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب بأن ينظر الموصي في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوة قرابة أو شدة حاجة ، فإنه إن توخي ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه ، ومن المعروف في الوصية ألا تكون للأضرار يوارث أو زوج أو قريب وسيجيء عند قوله تعالى : { فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً } [ البقرة : 182 ] .والباء في ( بالمعروف ) للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية .وقد شمل قوله { بالمعروف } تقدير ما يوصي به وتمييز من يوصي له ووكل ذلك إلى نظر الموصي فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله تعالى : { على المتقين } .وقوله { حقاً } مصدر مؤكد ل { كتب } لأنه بمعناه و { على المتقين } صفة أي حقاً كائناً على المتقين ، ولك أن تجعله معمول { حقاً } ولا مانع من أن يعمل المصدر المؤكد في شيء ولا يخرجه ذلك عن كونه مؤكداً بما زاده على معنى فعله؛ لأن التأكيد حاصل بإعادة مدلول الفعل ، نعم إذا أوجب ذلك المعمول له تقييداً يجعله نوعاً أو عدداً فحينئذٍ يخرج عن التأكيد .وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضى به؛ لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم من العصاة ، بل معناه أن هذا الحكم هو من التقوى وأن غيره معصية ، وقال ابن عطية : خص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبارى الناس إليها .وخص الوالدين والأقربين لأنهم مظنة النسيان من الموصي ، لأنهم كانوا يورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة .وقدم الوالدين للدلالة على أنهما أرجح في التبدية بالوصية ، وكانوا قد يوصون بإيثار بعض أولادهم على بعض أو يوصون بكيفية توزيع أموالهم على أولادهم ، ومن أشهر الوصايا في ذلك وصية نزار بن معد بن عدنان إذ أوصى لابنه مضر بالحمراء ، ولابنه ربيعة بالفرس ، ولابنه أنمار بالحمار ، ولابنه إياد بالخادم ، وجعل القسمة في ذلك للأفعى الجُرهمي ، وقد قيل إن العرب كانوا يوصون للأباعد طلباً للفخر ويتركون الأقربين في الفقر وقد يكون ذلك لأجل العداوة والشنآن .وهذه الآية صريحة في إيجاب الوصية ، لأن قوله : { كتب عليكم } صريح في ذلك وجمهور العلماء على أنها ثبت بها حكم وجوب الإيصاء للوالدين والأقربين ، وقد وُقت الوجوب بوقت حضور الموت ويلحق به وقت توقع الموت ، ولم يعين المقدار الموصى به وقد حرضت السنة على إعداد الوصية من وقت الصحة بقول النبي صلى الله عليه وسلم « ما حق امرىء له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده » أي لأنه قد يفجأه الموت .والآية تشعر بتفويض تعيين المقدار الموصى به إلى ما يراه الموصي ، وأمره بالعدل بقوله { بالمعروف } فتقرر حكم الإيصاء في صدر الإسلام لغير الأبناء من القرابة زيادة على ما يأخذه الأبناء ، ثم إن آية المواريت التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخاً مجملاً فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفاً على إيصَاء الميت له بل صار حقه ثابتاً معيناً رَضي الميت أم كره ، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناساً لمشروعية فرائض الميراث ، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالاً للمنة التي كانت للموصي .وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء ، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد ، ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال : عادني النبي وأبو بكر في بني سَلِمَة ماشِيْين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أَصنع في مالي يا رسول الله فنزلت :{ يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] الآية اه . فدل على أن آخر عهد بمشْروعية الوصايا سؤال جابر بن عبد الله ، وفي البخاري عن ابن عباس كان المال وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب الخ .وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خُثَيْم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلاّ أن يريد بأَنها صارت ممنوعة للوارث .وقيل : الآية مُحكَمَة لم تُنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري ، والأصح هو الأول .ثم القائلون ببقاء حكم الوصية بعد النسخ منهم من قال : إنها بقيت مفروضة للأقربين الذين لا يرثون وهذا قول الحسن وطاووس والضحاك والطبري لأنهم قالوا : هي غير منسوخة ، وقال به ممن قال إنها منسوخة ابنُ عباس ومسروق ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد ، ومنهم من قال : بقيت مندوبة للأقربين وغيرهم وهذا قول الجمهور إلاّ أنه إذا كان أقاربه في حاجة ولم يوص لهم فبئس ما صنع ولا تبطل الوصية ، وقيل تختص بالقرابة فلو أوصى لغيرهم بطلت وترد على أقاربه قاله جابر بن زيد والشعبي وإسحاقُ بن راهويه والحسن البصري ، والذي عليه قول من تعتمد أقوالهم أن الوصية لغير الوارث إذا لم يخش بتركها ضياع حق أحد عند الموصِي مطلوبة ، وأنها مترددة بين الوجوب والسنة المؤكدة لحديث «لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عند رأسه» ، إذا كان هذا الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد مشروعية الفرائض فإن كان قبلَ ذلك كان بياناً لآية الوصية وتحريضاً عليها ، ولم يزل المسلمون يرون الوصية في المال حقاً شرعياً ، وفي «صحيح البخاري» عن طلحة بن مصَرِّف قال : سألت عبدَ الله بن أبي أَوْفَى هل كان النبي أوصى فقال : لا ، فقلت : كيف كُتبتْ على الناس الوصيةُ ولم يوص؟ قال : أوصى بكتاب الله اه ، يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لا يورث فكذلك لا يوصي بماله ولكنه أوصى بما يعود على المسلمين بالتمسك بكتاب الإسلام ، وقد كان من عادة المسلمين أن يقولوا للمريض إذا خيف عليه الموت أن يقولوا له أَوْصصِ .وقد اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب «السنن» عن عمر بن خارجة وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي أُمَامَة كلاهما يقول سمعت النبي قال : «إن الله أعطى كل ذي حق حقه أَلاَ لا وصية لوارث» وذلك في حجة الوداع ، فخُص بذلك عمومُ الوالدين وعمومُ الأقربين وهذا التخصيص نسخ ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر آحاد فقد اعتُبر من قبيل المتواتر ، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول .والجمهور على أن الوصية بأكثر من الثلث باطلة للحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص أنه مرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في أن يوصي بجميع ماله فمنعه إلى أن قال له « الثلثُ والثلثُ كثير إِنَّك أَنْ تَدَعَ ورثَتك أَغنياءَ خيرٌ من أَنْ تَدَعَهم عالةً يَتكفَّفُون الناسَ » وقال أبو حنيفة : إن لم يكن للموصي ورثة ولو عصبة دون بيت المال جاز للموصي أن يوصي بجميع ماله ومضَى ذلك أخذاً بالإيماء إلى العلة في قوله « إِنك أن تدع ورثَتك أغنياء خير » الخ . وقال : إن بيت المال جامعٌ لا عاصب وَرُوي أيضاً عن علي وابن عباس ومسروق وإسحاق بن راهويه ، واختُلف في إمضائها للوارث إذا أجازها بقية الورثة ومذهب العلماء من أهل الأمصار أنها إذا أجازها الوارث مضت .هذا وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى عين كيفية قسمة تركة الميت بآية المواريث ، وأن آية الوصية المذكورة هنا صارت بعد ذلك غيرَ مراد منها ظاهرها ، فالقائلون بأنها محكمة قالوا : بقيت الوصية لغير الوارث والوصيةُ للوارث بما زاد على نصيبه من الميراث فلا نسخ بين الآيتين .والقائلون بالنسخ يقول منهم مَنْ يرون الوصية لم تزل مفروضة لغير الوارث : إِن آية المواريث نسَخَت الاختيار في الموصَى له والإطلاق في المقدار الموصَى به ، ومَن يرى منهم الوصية قد نسخ وجوبها وصارت مندوبة يقولون : إن آية المواريث نَسَخت هذه الآية كلها فأصبحت الوصية المشروعة بهذه الآية منسوخة بآية المواريث للإِجماع على أن آية المواريث نَسخت عموم الوَالدين والأقربين الوَارثين ، ونسخت الإطلاق الذي في لفظ ( الوصية ) والتخصيصُ بعد العمل بالعام ، والتقييدُ بعدَ العمل بالمطلق كلاهما نَسْخٌ ، وإن كان لفظ آية المواريث لا يدل على ما يناقض آية الوصية ، لاحتمالها أن يكون الميراث بعد إعطاء الوصايا أو عند عدم الوصية بل ظاهرها ذلك لقوله : { من بعد وصية } [ النساء : 11 ] ، وإن كان الحديثان الواردان في ذلك آحاداً لا يصلحان لنسخ القرآن عند من لا يرون نسخ القرآن بخبر الآحاد ، فقد ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة ، ولمَّا ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإِجماع ، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين والفقهاء في تقرير كيفية النسخ .
الآية 180 - سورة البقرة: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ۖ حقا على المتقين...)