سورة البقرة (2): مكتوبة كاملة مع التفسير التحميل

تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة البقرة بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة البقرة مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.

معلومات عن سورة البقرة

سورة البقرة في القرآن الكريم

سورة البقرة هي ثاني سورة من سور القرآن الكريم، وتتألف من 286 آية. تعتبر سورة البقرة من أطول السور في القرآن الكريم، وتحتوي على مواضيع متنوعة تتعلق بالعقيدة والشريعة والأخلاق والتشريعات الاجتماعية.

تتضمن سورة البقرة العديد من الحكم والأوامر الإلهية التي تهدف إلى توجيه الإنسان في حياته وتربيته على القيم الإسلامية. كما تحتوي على قصص وأمثال تعبر عن الحكمة والعبرة للمؤمنين.

من بين المواضيع الرئيسية التي تتناولها سورة البقرة هي الإيمان والتوحيد، والشريعة والأحكام الشرعية، والأخلاق والتربية، والتاريخ الإسلامي والقصص القرآنية.

يعتبر قراءة سورة البقرة والتفكير في مضمونها من الأمور المهمة في الحياة اليومية للمسلم، حيث تحتوي على توجيهات ونصائح تساعد على تحسين الحياة الروحية والاجتماعية.

بالإضافة إلى ذلك، يعتقد الكثيرون أن قراءة سورة البقرة تحمي المنزل وأهله من الشرور والأذى، وتجلب البركة والرزق.

سُورَةُ البَقَرَةِ
الصفحة 27 (آيات من 177 إلى 181)

۞ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلْكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۦنَ وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُوا۟ ۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ ۗ أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا۟ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِى ٱلْقَتْلَى ۖ ٱلْحُرُّ بِٱلْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلْأُنثَىٰ بِٱلْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِىَ لَهُۥ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَٱتِّبَاعٌۢ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَٰنٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِى ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَٰٓأُو۟لِى ٱلْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعْدَمَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
27

الاستماع إلى سورة البقرة

تفسير سورة البقرة (تفسير الوسيط لطنطاوي: محمد سيد طنطاوي)

الترجمة الإنجليزية

Laysa albirra an tuwalloo wujoohakum qibala almashriqi waalmaghribi walakinna albirra man amana biAllahi waalyawmi alakhiri waalmalaikati waalkitabi waalnnabiyyeena waata almala AAala hubbihi thawee alqurba waalyatama waalmasakeena waibna alssabeeli waalssaileena wafee alrriqabi waaqama alssalata waata alzzakata waalmoofoona biAAahdihim itha AAahadoo waalssabireena fee albasai waalddarrai waheena albasi olaika allatheena sadaqoo waolaika humu almuttaqoona

ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر ، ووجوه الخير ، تهدي المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية فقال - تعالى - :( لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر . . . )( البر ) : اسم جامع لكل خير ، ولكل طاعة وقربة يتقرب بها العبد إلى خالقه - عز وجل- .قال الراغب : " البر - بفتح الباء - خلاف البحر ، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر - بكسر الباء - بمعنى التوسع في فعل الخير ، وينسب ذلك إلى الله - تعالى - تارة نحو : ( إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم ) وإلى البعد تارة فيقال : بر العبد ربه ، أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ، ومن العبد الطاعة " .وتولية الوجوه قبل الشيء معناه : التوجه إليه بجعل الوجه متجها إلى جهته فلفظ " قيل " بمعنى جهة وهو منصوب على الظرفية المكانية .( المشرق ) : الجهة التي تشرق منها الشمس ، والمغرب : الجهة التي تغرب فيها .قال الإِمام الرازي : اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص . فقال بعضهم : أراد بقوله : ( لَّيْسَ البر ) أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه بنحو بيت المقدس فقال - تعالى - ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله . وقال بعضهم : بل المراد مخاطبته المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام وقال بعضهم : بل هو خطاب للكل ، لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الفرض الأكبر في الدين ، فبعثهم الله - تعالى - بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات ، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً ، وإنما البر . كيت وكيت . وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخيصيص فيه ، فكأنه - تعالى - قال : ليس البر المطلوب هو أمر القبلة ، بل البر المطلوب هو هذه الخصال التي عدها " .وهذا القول الثالث - الذي يرى أصحابه أن الخطاب للكل ، والذي قال عنه الإِمام الرازي : هذا أشبه بالظاهر - هذا القول ، هو الذي تسكن إليه النفس ، لأنه لا يوجد نص صحيح يخصص الخطاب لطائفة معينة من الناس ولأن المقصود من الآية الكريمة إنما هو إفهام الناس في كل زمان ومكان أن مجرد تولية الوجه إلى قبلة مخصوصة ليس هو البر الكامل الذي يعنيه الإِسلام ، وإنما البر الكامل يتأنى في استجابة الإِنسان لتلك الخصال الشريفة التي اشتملت عليها الآية ، تلك الخصال التي تجعل المسكين بها على صلة طيبة بخالقهم وعلى صلة طيبة بغيرهم ، - كما سنبين ذلك عند تعليقنا على هذه الآية الكريمة- .والمعنى : ليس البر - الذي هو كل طاعة يتقرب بها الإِنسان إلى خالقه - في تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب ، وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدي إلى السعادة والفلاح - يكون في الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفي إنفاق المال في وجوه الخير ، وفي اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة .هذا وقد قرأ حمزة وحفص عن عاصم ( لَّيْسَ البر ) بنصب البر على أنه خبر ليس ، واسمها قوله - تعالى - : ( أَن تُوَلُّواْ ) أي : ليس توليتكم وجهوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله .وقرأ الباقون ( لَّيْسَ البر ) برفع البر على أنه اسم ليس ، وخبرها قوله - تعالى - : ( أَن تُوَلُّواْ ) أي ليس البر كله توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب .قال الطبرسي : وكلا المذهبين حسن ، لأن كل واحد من اسم ليس وخبرها معرفة ، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسما والآخر خبراً كما تتكافأ النكرتان .وقوله - تعالى - ( ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) إلخ بيان لما هو البر الذي يجب أن تتجه إليه الأفكار ، وتستجيب له النفوس .و ( ولكن ) حرف استدراك ، البر : اسمها . وقوله ( مَنْ آمَنَ ) وقع في اللفظ موقع الخبر عن قوله ( البر ) والخبر في المعنى لفظ مقدر مضاف إلى من آمن ، يفهم من سياق الجملة ، والمعنى مع ملاحظة المقدر : ولكن البر بر من آمن بالله .وهذا اللون من الإِيجاز الذي حذف فيه المضاف معهود في كلام البلغاء إذ تجدهم يقولون السخاء حاتم ، والشعر زهير .وقيل : إن البر هنا بمعنى البار فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل ، كما يقال : ماء غور أي : غائر ، ورجل صوم أي : صائم .وقيل : إن المحذوف هو لفظ مضاف إلى البر : أي : ولكن ذا البر من آمن بالله .وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإِيمان بالله ، لأنه أساس كل بر . وأصل كل خير ، والإِيمان بالله : هو التصديق بأنه هو الواحد الفرد الصمد ، الذي لا تعنو الوجوه إلا له ، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه ، ومتى رسخ هذا الإِيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله - تعالى - لبني آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها بنراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة .ثم ذكرت الإِيمان باليوم الآخر ، وهو التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان .والإِيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير ، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام .ولقد تحدث القرآن عن الإِيمان بالله واليوم الآخر في عشرات الآيات ، وأقام الأدلة الساطعة ، والبراهين القاطعة على وحدانية الله وعلى أنه هو صاحب الكمال المطلق ، كما أقام الحجج والبراهين على أن البعث حق وضرب الأمثال لذلك ، وسفه عقول المنكرين له .ثم ذكرت الإِيمان بالملائكة والملائكة : أجسام لطيفة نورانية ، قادرون على التشكل في صورة حسنة مختلفة ، وصفهم القرآن بأنهم( لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ووجه دخول التصديق بهم في حقيقة الإِيمان ، أن الله وسطهم في إبلاغ وحيه لأنبيائه ، وبين ذلك في كتابه ، وتحدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عنهم في كثير من أحاديثه ، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذي جاءت به الشريعة فقد أنكر الوحي ، إذ الإِيمان بهم أصل للإِيمان بالوحي ، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحي ، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة .ثم ذكرت الآية الإِيمان بالكتاب . والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة ، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله ، فما وافقه منها كان حقاً وما خالفه كان باطلا .والإِيمان به يستلزم الإِيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه ، لأنه هو الذي أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .ثم ذكرت الإِيمان بالنبيين ، أي : التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله - تعالى - لتلقي هدايته وكتبه وتبليعها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة .والنبيون الذين يجب الإِيمان بهم : كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح ، وكل من أنكر نبوة نبي قد ثبت نبوته فقد خرج عن طريق الإِيمان .ولقد قام الدليل القاطع على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين ، وكل من ادعى غير ذلك فهو من الضالين المضلين .وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التي ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يصدق به الإِنسان ، ليك يكون ذا عقيدة سليمة ، تصل به إلى الفلاح والسعادة .ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإِيمان الأعمال الصالحة فقالت . ( وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب ) .وهذه الجملة معطوفة على قوله - تعالى - : ( مَنْ آمَنَ بالله ) .والضمير في قوله ( على حُبِّهِ ) يعود إلى المال ، أي : أعطى المال وبذله عن طيب خاطره حالة كونه محباً له راغباً فيه . لأن الإِعطاء والبذل في هذه الحالة يدل على قوة الإِيمان ، وصفاء الوجدان ، ويسمو بصاحبه إلى أعلا الدرحات . قال - تعالى - : ( لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقة ما كان في حال الصحة ، لأن الإِنسان في هذه الحالة يكون مظنة الحاجة إلى المال فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا رسول الله ، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا وكذا وقد كان لفلان " " .وقيل الضمير يعود إلى الله - عز وجل - أي : يعطون المال على حب الله وطلباً لمرضاته .وقيل يعود إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله - تعالى - ( وَآتَى المال ) فكأنه قال : يعطيى ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله .والمراد بذوي القربى : أقرباء المعطى للمال ، والمعنى : وأعطاى المال مع محبته لهذا المال لأقاربه المحتاجبين لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم ، ولذلك جاء ذكرهم في الآية مقدماً على بقية الأصناف التي تستحق العطف والإِحسان .روى الإِمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة " .( واليتامى ) : جمع يتيم ، وهو من فقد أباه بالموت ولم يبلغ الحلم . وهؤلاء اليتامى في حاجة إلى الإِحسان إليهم بعد ذوي القربى متى كانوا محتاجين ، لشدة عجزهم عن كسب ما يسد حاجتهم .( والمساكين ) جمع مسكين ، وهو من لا يملك شيئاً من المال ، أو يملك ما لا يكفي حاجاته وهذا النوع من الناس في حاجة إلى العناية والرعاية؛ لأنهم في الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل على إراقة وجهوههم بالسؤال . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان . قالوا : فما المسكين يا رسول الله؟ قال الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئاً " .( وابن السبيل ) : هو المسافر المنقطع عن ماله . وسمى بذلك - كما قال الآلوسي - لملازمته السبيل - أي الطريق - في السفر ، أو لأن الطريق تبرزة فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه فهو أبدا يتوق إلى الجمع ، ويشتاق إلى الربع ، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه .وهذا النوع من الناس في حاجة إلى المساعدة والمعاونة حتى يستطيع الوصول إلى بلده ، وفي هذا تنبيه إلى المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة .( والسآئلين ) : جمع سائل ، وهو الطالب للإِحسان والمعروف . ويحمل حاله على أنه في حاجة إلى المعاونة ، لأن السؤال علامة الحاجة غالباً .والرقاب : جمع رقبة وهي في الأصل العنق ، وتطلق على البدن كله كما تطلق العين على الجاسوس . فصح حمل الرقاب على الأسارى والأرقاء .وقوله : ( وَفِي الرقاب ) متعلق بآتي ، أي : آتى المال على حبه في تخليص الأسرى من أيدي العدو بفدائهم ، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم ، وهذه الأوصناف الستة التي ذكرت في تلك الآية الكريمة ( وَآتَى المال على حُبِّهِ . . ) إلخ .ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر ، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة .والذي يراجع القرآن الكريم يجده قد عني عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوره تخلو من الحث على الإِنفاق عليهم ، وبذل العون في مساعدتهم - وأيضاً - هناك عشرات الأحاديث في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين ، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم ، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها .ثم ذكرت الآية ألواناً أخرى من البر تدل على قوة الإِيمان وحسن الخلق فقالت : ( وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة ) وإقامة الصلاة أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعي الذي أمر الله به ، والمراد بالزكاة هنا ، الزكاة المفروضة على الوجه الذي فصلته السنة المطهرة . وإبتاؤها : يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله في قوله - تعالى - : ( إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) وفي ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوي القربى واليتامى . . إلخ دليل على أن في الأموال حقوقاً لذوي الحاجات سوى الزكاة ، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة ، يجب على الأغنياء منها أن يسعو في سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة .والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة ، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين ، وتفريج كرب المكروبين ، ودفع ضرورة البائسين ، ليسوا على البر الذي يريده الله من عباده المتقين .ومسألة " هل في المال حق سوى الزكاة " من المسائل التي تناولها بعض العلماء بالشرح والتفصيل .وقوله : ( والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ) معطوف على قوله ( مَنْ آمَنَ ) فإنه في قوة قولك ، ومن أوفوا بعهدهم ، وأوثرت صيغة اسم الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء .الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنمون عليه الله من الإِعان لكل ما جاء به الدين ، ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضاً مما لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً .والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا بروا في أيمانهم ، وإذا قالوا صدقوا في قولهم ، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة ، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب ، وأعلى الدرجات .وفي قوله - تعالى - : ( إِذَا عَاهَدُواْ ) إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد .ثم ختم - سبحانه - خصال البر بقوله : ( والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ) .البأساء من البؤس ، وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج . يقال : بئس يبأس بؤساً وبأساً أي اشتدت حاجته .والضراء من الضر ، وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام يقال : ضره وأضره وضاره وضراً ، ضد نفع : والألف في البأساء والضراء للتأنيث .وحين البأس ، أي : ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته ، يقال : بؤس ببؤس بأسا فهو بئيس ، أي : شجاع شديد .وقوله : ( والصابرين ) معطوف في المعنى على ( مَنْ آمَنَ ) كقوله ( والموفون ) إلا أنه جاء منصوبا على المدح بتقدير - أخص أو أمدح - وغير سبكه عما قبله ، تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على غيره من الفضائل حتى لكأنه ليس من جنس ما سبقه من فضائل ، وهذا الأسلوب يسمى عند علماء اللغة العربية بالقطع ، وهو أبلغ من الإِتباع . ولا ريب في أن صفة الصبر على الشدائد والآلام وحين القتال في سبيل الله ، جديرة بأنه ينبه لمزيد فضلها ، إذ هي أصل لكثير من المكارم كالعفاف عما في أيدي الناس ، والتسليم للقضاء الذي لا مرد له ، والإِقدام الذي يحمي به الدين وتسلم به النفوس والأموال والأعراض :وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد ومحاولة للتغلب على المصاعب ، ومع الاحتفاظ برباطة الجأش والثقة بحسن العاقبة .وقد خصت الآية ثلاثة حالات بالصبر؛ لأن هذه الحالات هي أبرز الأشياء التي يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين ، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم .وجاءت كلمة " حين " في قوله : ( وَحِينَ البأس ) مشيرة إلى أن مزية الصبر في القتال إنما تظهر حين يلتقى الجمعان ، وتدور رحى الحرب ، لأن بعض الناس قد يكون قوياً في بدنه ، وقد يحشر نفسه في زمرة الأبطال المقاتلين ، ولكنه عندما يرى الأعناق تتساقط من حوله تخور قواه ، ويلوذ بالفرار ، أو يستسلم للعدو . وفي هذه الحالة تسلب عنه صفة الصابرين حين البأس . وتحق عليه صفة الضعفاء الجبناء .وقد جاءت أنواع الصبر في الآية على وجه الترقي من الشديد إلى الأشد ، وذلك لأن الصبر على المرض أصعب من الصبر على الفقر ، والصبر حين البأس أصعب من الصبر على المرض . ثم ختمت الآية حديثها عن هؤلاء الجامعين لهذه الخصال بقوله تعالى : ( أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون ) .أولئك اسم إشارة للجمع ، وقد أشير به إلى من تقدم ذكرهم من الجامعين لخصال البر . والصدق توصف به الأقوال المطابقة للواقع ، وتوصف به الأعمال الواقعة على الوجه الذي يرضى الله - تعالى- .والمتقون من الاتقاء وهو الحذر ، ويطلق المتقى في كلام الشارع على الإِنسان الذي صان نفسه عن كل ما يغضب الله ، وامتثل لأوامره ونواهيه .أي : أولئك الذين تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر هم الصادقون في إيمانهم وفي كل أحوالهم ، وأولئك هم المتقون لعذاب الله - تعالى - بسبب امتثالهم لأوامره ، واجتنابهم لما نهى عنه .واسم الإشارة ( أولئك ) جيء به لإحضارهم في أذهان المخاطبين وهم متصفون بتلك المناقب الجليلة .وفي تكرير الإِشارة زيادة تنويه بشأنهم وفضلهم . وجاء الإِخبار عنهنم بأنهم الصادقون المتقون ، لتشيرهم بأنهم قد بلغوا بإحرازهم لتلك الخصال السابقة الغاية التي يطمح إليها أرباب البصائر المستنيرة ، والنفوس المستقيمة ، والقلوب السليمة ، وهي مقام الصدق والتقوى الذي يرتفع بصاحبه إلى السعادة في الدنيا ، والنعيم الدائم في الآخرة .هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعاً من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا ، وإلى رضا الله - تعالى - في الآخرة ، وذلك لأنها قد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير : بر في العقيدة ، وبر في العمل ، وبر في الخلق .أما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان في قوله - تعالى - : ( وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب ) .ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم ، ويكون مظهراً من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضي الله - تعالى - .وأما بر الخلق فقد ذكرته بأحكم عبارة في قوله - تعالى - : ( وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ) .وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل . أداء الصلاة وإيتاء الزكاة . والوفاء بالعهود ، والتذرع بالصبر - يدل على صفاء الإِيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة .وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بر العقيدة وبر العمل وبر الخلق ، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم ، ونضع على هذا كله عنواناً واحداً " البر " وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى .فلله هذا الاستقراء البديع ، وذلك التوجيه السديد ، الذي يشهد أن هذا القرآن من عند الله ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ) وبعد أن بين - سبحانه - أن البر الجامع لألوان الخير يتجلى في الإِيمان بالله واليوم الآخر . . وفي بذل المال في وجوه الخير ، وفي المحافظة على فرائضة - سبحانه - وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة بعد كل

الترجمة الإنجليزية

Ya ayyuha allatheena amanoo kutiba AAalaykumu alqisasu fee alqatla alhurru bialhurri waalAAabdu bialAAabdi waalontha bialontha faman AAufiya lahu min akheehi shayon faittibaAAun bialmaAAroofi waadaon ilayhi biihsanin thalika takhfeefun min rabbikum warahmatun famani iAAtada baAAda thalika falahu AAathabun aleemun

ذلك شرع - سبحانه - في بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التي لا يستغني عنها الناس في حياتهم ، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن في إصلاح العالم - فقال - تعالى - :( ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص . . . )( كُتِبَ ) من الكتب ، وهو في الأصل ضم أديم إلى أديم بالخياطة . وتعورف في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، وأطلق على المضموم في اللفظ وإن لم يكتب بالخط ، ومنه الكتابة ، على الإِيجاب والفرض؛ لأن الشأن يما وجب ويفرض أن يراد ثم يقال ثم يكتب ، ومنه ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ) أي : فرض عليكم .( القصاص ) : العقوبة بالمثل من قتل أو جرح . وهو - كما قال القرطبي - مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار وقص الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، ومنه ( فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ) وقيل : القص القطع . يقال : قصصت ما بينهما . ومنه أخذ القصاص؛ لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به . يقال أقص الحاكم فلاناً من فلان به فأمثله فامتثل منه ، أي : اقتص منه " .فمادة القصاص تدل على التساوي والتماثل والتتبع .والقتلى جمع قتيل ، والقتيل من يقتله غيره من الناس .والمعنى : يأيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى . بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم ، فلا يجوز لكم أن تقتلوا غير القاتل ، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه .فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه في نظر الشريعة مساو للمقتول فيقتل به . وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي . وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود - أي القصاص - من القاتل .ولفظ " في " في قوله - تعالى - ( فِي القتلى ) للسببية ، أي : فرض عليكم القصاص بسبب القتلى . كما في قوله صلى الله عليه وسلم " دخلت امرأة النار في هرة " أي بسببها .وصدرت الآية بخطاب ( الذين آمَنُواْ ) تقوية لداعية إنفاذ حكم القصاص الذي شرعه الخبير بنفوس خلقه ، لأن من شأن الإِيمان الصادق أن يحمل صاحبه على تنفيذ شريعة الله التي شرعها لإقامة الأمان والاطمئنان بين الناس ، ولسد أبواب الفتن التي تحل عرا الألفة والمودة بينهم .وقد وجه - سبحانه - الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانباً من التبعة إذا أهمل الحكام تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله .وإذا لم يقيموها بالطريقة التي بينتها شريعته ، ولإِشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل . وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن ، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل ، وغير ذلك من وجوه المساعدة .وقوله - تعالى - ( الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة ، ومفادها أنه لا يقتل في مقابل المقتول سوى قاتله ، لأن قتل غير الجاني ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة في الأرض وفساد كبير .وقد يفهم من مقابلة ( الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) أنه لا يقتل صنف بصنف آخر ، وهذا الفهم غير مراد على إطلاقه ، فقد جرى العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة .قال القرطبي : " أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل " .والخلاف في قتل الحر بالعبد . فبعض العلماء يرى قتل الحر بالعبد ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكل فريق أدلته التي يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه .والغرض الذي سيقت من أجله الآية الكريمة ، إنما هو وجوب تنفيذ القصاص بالعدل . والمساواة وإبطال ما كان شائعاً في الجاهلية من أن القبيلة القوية كانت إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصا لا ترضى حتى تقتل في مقابلة من الضعيفة أشخاصاً . وإذا قتلت منها عبداً تقتل في مقابله حراً أو أحراراً ، وإذا قتلت منها أنثى قتلت في نظيرها رجلا أو أكثر . فيترتب على ذلك أن ينتشر القتل ، ويشيع الفساد ، وقد حكى لنا التاريخ كثيراً مما فعله الجاهليون في هذا الشأن .قال الإِمام البيضاوي عند تفسيره لهذه الآية : كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد ، والذكر بالأنثى ، فلما جاء الإِسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية . وهي لا تدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، كما لا تدل على عكسه ، فإن المفهوم يعتبر حيث لم يظهر للتخيصي غرض سوى اختصاص الحكم .ثم أورد - سبحانه - بعد إيجابه للقصاص العادل - حكماً يفتح باب التراضي ، بين القاتل وأولياء المقتول ، بأن أباح لهم أن يسقطوا عنه القصاص إذا شاؤوا ويأخذوا في مقابل ذلك الدية ، فقال - تعالى - : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) .عُفِي : من العفو وهو الإِسقاط . والعفو عن المعصية ، ترك العقاب عليها . والذي عفى له هو القاتل ، و ( أَخِيهِ ) الذي عفا هو ولي المقتول . والمراد بلفظ ( شَيْء ) القصاص ، وهو نائب فاعل ( عُفِيَ ) .والمعنى : أن القاتل عمداً إذا سقط عنه أخوه ولي دم القتيل القصاص ، راضيًا أن يأخذ منه الدية بدل القصاص ، فمن الواجب على ولي الدم أن يتبع طريق العدل في أخذ الدية من القاتل بحيث لا يطالبه بأكبر من حقه ، ومن الواجب كذلك على القاتل أن يدفع له الدية بالطريق الحسنى ، بحيث لا يماطله ولا يبخسه حقه .فقوله - تعالى - : ( فاتباع بالمعروف ) وصية منه - سبحانه - لولي الدم أن يكون رفيقاً في مطالبته القاتل بدفع الدية .وقوله : ( وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) وصية منه - سبحانه - للقاتل بأن يدفع الدية لولي الدم بدون تسويف أو مماطلة .وفي هذه الوصايا تحقيق لصفاء القلوب ، وشفاء لما في الصدور من آلام ، وتقوية لروابط الأخوة الإِنسانية بين البشر .وبعضهم فسر العفو بالعطاء فيكون المعنى : فمن أعطى له وهو ولي المقتول من أخيه وهو القاتل شيئاً وهو الدية ، فعلى ولي المقتول اتباعه بالمعروف ، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان .وسمى القرآن الكريم القاتل أخا لولي المقتول ، تذكيراً بالأخوة الإِنسانية والدينية ، حتى يهز عطف كل واحد منهما إلى الآخر ، فيقع بينهم العفو ، والاتباع بالمعروف ، والأداء بإحسان .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : عفى بتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ) ؟ قلت : يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال - تعالى - : ( عَفَا الله عَنكَ ) وقال : ( عَفَا الله عَنْهَا ) فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معاً قيل : عفوت لفلان عما جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه . وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل : فمن عفى عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية .وجاء التعبير بلفظ شيء منكراً لإفادة التقليل . أي : فمن عفى له من أخيه ما يسمى شيئاً من العفو والتجاوز ولو أقل قليل ، تم العفو وسقط القصاص ، ولم تجب إلا الدية ، وذلك بأن يعفو بعض أولياء الدم ، لأن القصاص لا يتجزأ .وفي ذلك تحبيب من الشارع الحكيم لولي الدم ، في العفو وفي قبول الدية ، إذا العفو أقرب إلى صفاء القلوب ، وتجميع النفوس على الإِخاء والتعاطف والتسامح . وفيه - أيضاً - إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من التعبير من قبول أخذ الصلح في قتل العمد ، وعدهم ذلك لوناً من بيع دم المقتول بثمن بخس . قال بعضهم يحرض قومه على الثأر .فلا تأخذوا عَقْلاً من القوم إنني ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهبوقال شاعر آخر يَذْكُر قوماً لم يقبلوا الصلح عن قتيل لهم :فلو أن حيا يقبل المال فدية ... لسقنا لهم سيباً من المال مفعماًولكن أبي قوم أصيب أخوهم ... رضا العار فاختاروا على اللبن الدماثم بين - سبحانه - أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر فقال : ( ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) .أي : ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولي القتيل إذا رضى طائعاً مختاراً ، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدية تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصاً ، وفيها كذلك نفع لولي القتيل ، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته .وبهذا نرى أن الإِسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة .إذ جعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إذا طالبوا به لا ينازعهم في ذلك منازع وهذا عين الإِنصاف والعدل .وجعل الدية عوضاً عن القصاص إذا رضوا بها باختيارهم ، وهذا عين الحرمة واليسر .وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها؛ إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس ، وتغسل غل الصدور ، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء ، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصا عادلاً .والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقى بعد التفرق ، وتتوادد بعد التعادي ، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو . فلله هذا التشريع الحيكم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به . والتمسك بتوجيهاته .ثم ختم - سبحانه - الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده ، ويتجاوز تشريعه الحيكم فقال : ( فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .أي : فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه ، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم؛ من الله - تعالى - لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد ، ورقه الدين ، وانحطاط الخلق .ثم بين - سبحانه - الحكمة في مشروعية القصاص توطيناً للنفوس على الانقياد له ، وتقوية لعزم الحكام على إقامته فقال - تعالى - : ( وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ) أي : ولكم في مشروعية القصاص حياة عظيمة ، فالتنوين للتعظيم .قال صاحب الكشاف ، وذلك أنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني قبيلة بكر بن وائل . وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر فلما جاء الإِسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة ، أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه ارتدع فسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود فكان القصاص سبب حياة نفسين .

الترجمة الإنجليزية

Walakum fee alqisasi hayatun ya olee alalbabi laAAallakum tattaqoona

هذا وقد نقل عن العرب ما يدل على أنهم تحدثوا عن حكمة القصاص ومن أقوالهم في هذا الشأن : " قتل البعض إحياء للجميع ، وأكثروا القتل ليقل القتل " وأجمعوا على أن أبلغ الأقوال التي عبروا بها عن هذا المعنى قولهم " القتل أنفى للقتل " وقد أجمع أولو العلم على أن قوله - تعالى - ( وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ) أبلغ من هذه العبارة التي نطق بها حكماء العرب ، بمقدار ما بين كلام الخالق وكلام المخلوق ، وذكروا أن الآية تفوق ما نطق به حكماء العرب من وجوه كثيرة من أهمها :1 - أن الآية جعلت سبب الحياة القصاص وهو القتل على وجه التساوي ، أما العبارة العربية فقد جعلت سبب الحياة القتل ، ومن القتل ما يكون ظلماً ، فيكون سببا للفناء لا للحياة ، وتصحيح هذه العبارة أن يقال : القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما .2 - أن الآية جاءت خالية من التكرار اللفظي ، فعبرت عن القتل الذي هو سبب الحياة بالقصاص . والعبارة كرر فيها لفظ القتل فمسها بهذا التكرار من القتل ما سلمت منه الآية .3 - أن الآية جعلت القصاص سبباً للحياة التي تتوجه إليها الرغبة مباشرة ، والعبارة العربية جعلت القتل سبباً لنفي القتل الذي تترتب عليه الحياة .4 - الآية مبنية على الإِثبات والمثل على النفي ، والإِثبات أشرف لأنه أول والنفي ثان له .5 - أن تنكير حياة في الآية يفيد تعظيماً ، فيدل على أن القصاص حياة متطاولة كما في قوله - تعالى - ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ ) ولا كذلك المثل . فإن اللام فيه للجنس ، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء .6 - تعريف ( القصاص ) بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل - وغير ذلك ، والمثل لا يشمل ذلك .7 - أن الآية مع أفضليتها عن المثل من حيث البلاغة والشمول واللفظ والمعنى أقل حروفاً من المثل .هذه بعض وجوه أفضلية الآية على المثل ، وهناك وجوه أخرى ذكرها العلماء في كتبهم .وفي قوله : ( ياأولي الألباب ) تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص .و ( الألباب ) : جمع لب وهو العقل الخالص من شوائب الأوهام ، أو العقل الذيك الذي يستبين الحقائق بسرعة وفطنة ، ويستخرج لطائف المعاني من مكانها ببراعة وحسن تصرف .وفي هذا النداء تنبيه على أن من ينكرون مصلحة القصاص وأثره النافع في تثبيت دعائم الأمن ، يعيشون بين الناس بعقول غير سليمة ، ولا يزال الناس يشاهدون في كل عصر ما يثيره القتل في صدور أولياء القتلى من أحقاد طاغية ، لولا أن القصاص يخفف من سطوتها لتمادت بهم في تقاطع وسفك دماء دون الوقوف عند حد .وختمت الآية بهذه الجملة التعليلية ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) زيادة في إقناع نفوسهم بأمر القصاص ، أي : شرعنا لكم هذه الأحكام الحكيمة لتتقوا القتل حذراً من القصاص ، ولتعيشوا آمنين مطمئنين ، ومتوادين متحابين .وبهذا البيان الحكيم تكون الآيتان الكريمتان قد أرشدنا إلى ما يحمى النفوس ، ويحقن الدماء ، ويردع المعتدين عن الاعتداء ، ويغرس بين الناس معاني التسامح والإِخاء ، ويقيم حايتهم على أساس من الرحمة والعدالة وحسن القضاء .وبعد أن بين - سبحانه - ما يتعلق بالقصاص أتبعه بالحديث عن الوصية ، ليرشد الناس إلى ما ينبغي أن تكون عليه ، وليبطل ما كان من عوائد الجاهلية من وصايا جائرة فقال - تعالى - :( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت . . . )

الترجمة الإنجليزية

Kutiba AAalaykum itha hadara ahadakumu almawtu in taraka khayran alwasiyyatu lilwalidayni waalaqrabeena bialmaAAroofi haqqan AAala almuttaqeena

قوله - تعالى - : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ ) قد استفاض في عرض الشرع بمعنى وجب عليكم .و " حضور الموت " يقع عند معاينة الإِنسان للموت ولعجزه في هذا الوقت عن الإِيصاء فسر بحضور أسبابه ، وظهور أماراته ، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ . وقد شاع عند العرب استعمال السبب كناية عن المسبب ، ومن ذلك قول شاعرهم :يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوتوقل لهم ادروا بالعذر والتمسوا ... قولا يبرئكم إني أنا الموتوالخير : المال ، وقالوا إنه هنا مختص بالمال الكثير ، لأن مقام الوصية يشعر بذلك ، ولم يرد نص من الشارع في تقدير ما يسمى مالا كثيراً ، وإنما وردت آثار من بعض الصحابة والتابعين في تقديره بحسب اجتهادهم ، وبالنظر إلى ما يسمى بحسب العرف مالا كثيراً فقال بعضهم : من ألف درهم إلى خمسمائة درهم ، وقال بعضهم : من ألف درهم إلى ثمانمائة درهم . والحق أن هذا التقدير يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والعرف .ويرى بعض العلماء أن الوصية مشروعة في المال قليلة وكثيرة .قال القرطبي : والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة بعد الموت ، وخصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية . والوصي يكون الموصى والموصى إليه . وأصله من وصى مخففاً . وتواصي النبت تواصياً إذا اتصل وأرض واصية : متصلة النبات . وأوصيت له بشيء . وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك . والاسم الوصاية والوصاية - بالفتح وبالكسر - وتواصي القوم : أوصى بعضهم بعضاً .والمعنى : كتب عليكم أيها المؤمنون أنه إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت : من مرض ثقيل ، أو شيخوخة مضعفة ، وكان عنده مال كثير قد جمعه عن طريق حلال ، أن يوصي بجانب منه لوالديه وأقاربه رعاية لحقهم وحاجتهم ، وأن تكون وصيته لهم بالعدل الذي لا مضارة فيه بين الأقارب ، والوصية على هذا الوجه تعتبر حقاً واجباً على المتقين الذين اتخذوا التقوى والخشية من الله طريقاً لهم .فالآية الكريمة استئناف لبيان الوصية بعد الحديث عن القصاص ، وفصل القرآن الحديث عن الوصية عن سابقه للإِشعار بأنه حكم مستقل جدير بالأهمية .وقد جاء الحديث عن الوصية بتلك الطريقة الحكيمة ، لتغيير ما كان من عادات بعض أهل الجاهلية . فإنهم كانوا كثيراً مانعون القريب من الإِرث توهما منهم أنه يتمنى موت قريبة ليرثه ، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض فيؤدي ذلك إلى التباغض والتحاسد ، وربما فضلوا - أيضاً - الوصية لغير الأقارب للفخر والتباهي . فشرع الإِسلام لأتباعه ما يقوى الروابط ويمنع التحاسد والتعادي .قال الجمل : وكتب فعل ماض مبني للمجهول ، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله - تعالى - وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :أحدها : أن يكون الوصية ، أي : كتب عليكم الوصية ، وجاز تذكير الفعل لكون القائم مقام الفاعل مؤنثاً مجازياً ولوجود الفصل بينه وبين مرفوعه .والثاني : أنه الإِيصاء المدلول عليه بقوله : " الوصية " للوالدين ، أي : كتب هو ، أي الإِيصاء .والثالث : أنه الجار والمجرور ، وهذا يتجه على رأي الأخفش والكوفيين وعليه فيكون قوله : ( عَلَيْكُمْ ) في محل رفع ، ويكون في محل النصب على القولين الأولين وجواب كل من ( إِذَا ) و ( إِن ) محذوف . أي : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً فليوص .والباء في قوله : ( بالمعروف ) للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية .والمراد بالمعروف هنا العدل الذي جاءت به الشريعة ، بأن لا يتجاوز بالوصية الثلث ، وأن لا يوصى للاغنياء ويترك الفقراء أو يوصي للقريب ويترك الأقرب مع أنه أشد فقراً ومسكنة .وقوله : ( حَقّاً ) مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه ( كُتِبَ ) وعامله إما ( كُتِبَ ) أو فعل محذوف تقديره حق أي : حق ذلك حقاً .وقوله : ( عَلَى المتقين ) صفة له . أي حقاً كائناً على المتقين .وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضا به ، لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس جدير أن يتأسى به الناس ، ومن أهمله فقد حرم من الدخول في زمرتهم ، وخسر بذلك خسارة عظيمة .قال بعض العلماء : وقد وردت هذه الآية في الوصية للوالدين والأقربين ، والمعروف عند الأمة منذ عهد السلف أن الوصية لا تصح لوارث ، والوالدان لهما نصيب مفروض في المواريث ومقتضاه عدم صحة الوصية لهما؟ويزيح هذا الإشكال من طريق التفسير أن فريقاً من أهل العمل وهم جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن الآية قد نسخ منها حكم الوصية للوارث . وإيضاح وجه النسخ أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية فقامت مقامها في الوصية للوارث ودل على هذا المعنى صراحة الحديث الشريف وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث " .وهذا الحديث وإن لم يبلغ مبلغ الحديث المتواتر الذي يصح نسخه للقرآن بنفسه ، فقد امتاز عن بقية أخبار الآحاد بأن الأمة تلقته بالقبول ، وأخذوا في العمل به من غير مخالف ، فأخذ بهذا قوة الحديث المتوار في الرواية واعتمدوا عليه في بيان أن آية المواريث قامت بتقدير الأنصباء في الميراث مقام آية ( إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت ) في الوصية للوارث . وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس ، وجعل للمرأة الثمن والربع ، وللزوج الشطر الربع .ومن أهل العلم من لم يستطيعوا أن يهملوا حديث " لا وصية لوارث " لاستفاضيته بين الأمة وتلقيهم له بالقبول ، فقرروا العمل به وأبطلوا الوصية لوارث ولكنهم ذهبوا مع هذا إلى أن آية الوصية للوالدين محكمة غير منسوخة وتأولوها على وجوه منها أن المراد من قوله : ( لِلْوَالِدَيْنِ ) الوالدان اللذان لا يرثان لمانع من الإِرث كالكفر والاسترقاق ، وقد كانوا حيثي عهد الإِسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقد أوصى الله بالإِحسان إليهما .

الترجمة الإنجليزية

Faman baddalahu baAAdama samiAAahu fainnama ithmuhu AAala allatheena yubaddiloonahu inna Allaha sameeAAun AAaleemun

ثم توعد - سبحانه - من يبدل الوصية بطريقة لم يأذن بها الله فقال - تعالى - : ( فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ ) .بدله : غير . وتغيير الوصية يتأتى بالزيادة في الموصى به أو النقص منه أو كتمانه ، أو غير ذلك من وجوه التغيير للموصى به بعد وفاة الموصى .سمعه : أي علمه وتحققه ، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله . والضمائر البارزة في " بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه " عائدة على القول أو على الكلام الذي يقوله الموصى والذي دل عليه لفظ الوصية أو على الإِيصاء المفهوم من الوصية ، وهو الإِيصاء أو القول الواقع على الوجه الذي شرعه الله .والمعنى : فمن غير الإِيصاء الذي أوصى به المتوفي عن وجهه ، بعدما علمه وتحققه منه ، فإنما إثم ذلك التغيير في الإيصاء يقع على عاتق هذا المبدل ، لأنه بهذا التبديل قد خان الأمانة ، وخالف شريعة الله ، ولن يلحق الموصى شيئاً من الإِثم لأنه قد أدى ما عليه بفعله للوصية كما يريدها الله - تعالى .وقد ختمت الآية بقوله - تعالى - : ( إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) للإِشعار بالوعيد الشديد الذي توعد الله به كل من غير وبدل هذا الحق عن وجهه ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء من حيل الناس الباطلة ، فهو - سبحانه سميع لوصية الموصى ، عليه بما يقع فيها من تبديل وتحريف .
27