سورة البقرة: الآية 170 - وإذا قيل لهم اتبعوا ما...

تفسير الآية 170, سورة البقرة

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ۗ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ

الترجمة الإنجليزية

Waitha qeela lahumu ittabiAAoo ma anzala Allahu qaloo bal nattabiAAu ma alfayna AAalayhi abaana awalaw kana abaohum la yaAAqiloona shayan wala yahtadoona

تفسير الآية 170

وإذا قال المؤمنون ناصحين أهل الضلال: اتبعوا ما أنزل الله من القرآن والهدى، أصرُّوا على تقليد أسلافهم المشركين قائلين: لا نتبع دينكم، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون عن الله شيئًا، ولا يدركون رشدًا؟

«وإذا قيل لهم» أي الكفار «اتبعوا ما أنزل الله» من التوحيد وتحليل الطيبات «قالوا» لا «بل نتبع ما ألفينا» وجدنا «عليه آباءنا» من عبادة الأصنام وتحريم السوائب والبحائر قال تعالى: «أ» يتبعونهم «وَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا» من أمر الدين «ولا يهتدون» إلى الحق والهمزةُ للإنكار.

ثم أخبر تعالى عن حال المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على رسوله - مما تقدم وصفه - رغبوا عن ذلك وقالوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فاكتفوا بتقليد الآباء, وزهدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس, وأشدهم ضلالا وهذه شبهة لرد الحق واهية، فهذا دليل على إعراضهم عن الحق, ورغبتهم عنه, وعدم إنصافهم، فلو هدوا لرشدهم, وحسن قصدهم, لكان الحق هو القصد، ومن جعل الحق قصده, ووازن بينه وبين غيره, تبين له الحق قطعا, واتبعه إن كان منصفا.

يقول تعالى : ( وإذا قيل ) لهؤلاء الكفرة من المشركين : ( اتبعوا ما أنزل الله ) على رسوله ، واتركوا ما أنتم فيه من الضلال والجهل ، قالوا في جواب ذلك : ( بل نتبع ما ألفينا ) أي : وجدنا ( عليه آباءنا ) أي : من عبادة الأصنام والأنداد . قال الله تعالى منكرا عليهم : ( أولو كان آباؤهم ) أي : الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم ( لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) أي : ليس لهم فهم ولا هداية ! ! .وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنها نزلت في طائفة من اليهود ، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا . فأنزل الله هذه الآية .

أى: وإذا قيل لأولئك الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان، إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله من قرآن، أعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء فالضمير في قوله- تعالى-: لهم يعود على طائفة ممن شملهم الخطاب بقوله- تعالى- في الآية السابقة: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وهم الذين لم يستجيبوا لنداء الله بل ساروا في ركب الشيطان، واقتفوا آثاره، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ. القائل لهم ذلك هو النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون.والمراد بما أنزل الله: القرآن الكريم، وما أوحاه الله إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم من هدايات. وعدل- سبحانه- من خطابهم إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلهم وحمقهم صاروا ليسوا أهلا للخطاب، بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله.وبَلْ في قوله- تعالى-: بَلْ نَتَّبِعُ للإضراب الإبطالى، أى: أضربوا عن قول الرسول لهم اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ إضراب إعراض بدون حجة، إلا بأنه مخالف لما ألفوا عليه آباءهم من أمور الشرك والضلال.وقوله- تعالى-: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ رد عليهم، وبيان لبطلان الاعتماد في الدين على مجرد تقليد الآباء.والهمزة للاستفهام الإنكارى، والواو للحال، والمعنى: أيتبعون ما وجدوا عليه آباءهم والحال أن آباءهم لا يعقلون شيئا من أمور الدين الصحيح، ولا يهتدون إلى طريق الصواب.قال الآلوسى: وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما أتباع الغير في الدين بعد العلم- بدليل ما- أنه محق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله- تعالى- وليس من التقليد المذموم في شيء وقد قال- سبحانه- فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .وبعد أن بين- سبحانه- فساد ما عليه أولئك المشركون المقلدون من غير نظر ولا استدلال، أردف ذلك بضرب مثل لهم زيادة في قبيح شأنهم والزراية عليهم فقال- تعالى-:

وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قيل: هذه قصة مستأنفة والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور.وروي عن ابن عباس قال: "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أي ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا خيراً وأعلم منا، فأنزل الله تعالى هذه الآية"، وقيل: الآية متصلة بما قبلها وهي نازلة في مشركي العرب وكفار قريش والهاء والميم عائدة إلى قوله ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً [165-البقرة].قالوا بل نتبع ما ألفينا أي ما وجدنا عليه آبائنا من عبادة الأصنام، وقيل معناه: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرموه على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة. والهاء والميم عائدة إلى الناس في قوله تعالى يا أيها الناس كلوا.قالوا بل نتبع قرأ الكسائي: "بل نتبع بإدغام اللام في النون". وكذلك يدغم لام (هل) و(بل) في التاء والثاء والزاي والسين والصاد والطاء والظاء ووافق حمزة في التاء والثاء والسين.ما ألفينا ما وجدنا عليه آباءنا من التحريم والتحليل.قال تعالى: أو لو كان آباؤهم أي كيف يتبعون آباءهم وآباؤهملا يعقلون شيئاً والواو في ((أولو)) واو العطف، ويقال لها واو التعجب دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ. والمعنى: أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالاً لا يعقلون شيئاً، لفظه عام ومعناه الخصوص؛ أي لا يعقلون شيئاً من أمور الدين لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا.

قوله تعالى : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدونفيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : وإذا قيل لهم يعني كفار العرب . ابن عباس : نزلت في اليهود . الطبري : الضمير في لهم عائد على الناس من قوله تعالى : يا أيها الناس كلوا . وقيل : هو عائد على من في قوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله الآية .قوله تعالى : اتبعوا ما أنزل الله أي بالقبول والعمل . قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ألفينا : وجدنا . وقال الشاعر :فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلاالثانية : قوله تعالى : أولو كان آباؤهم الألف للاستفهام ، وفتحت الواو لأنها واو عطف ، عطفت جملة كلام على جملة ; لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا : نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون ، فقرروا على التزامهم هذا ، إذ هي حال آبائهم .مسألة : قال علماؤنا : وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد ، ونظيرها : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا الآية . وهذه الآية والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما ، وذلك أن الله سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة ، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك ، وتركوا ما أنزل الله على رسوله وأمر به في دينه ، فالضمير في لهم عائد عليهم في الآيتين جميعا .الثالثة : تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل ، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية . وهذا في الباطل صحيح ، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين ، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر .واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي ، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح .الرابعة : التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة ، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا ، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا . وقيل : هو اعتقاد صحة فتيا من لا يعلم صحة قوله . وهو في اللغة مأخوذ من قلادة البعير ، فإن العرب تقول : قلدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به ، فكأن المقلد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء ، وكذلك قال شاعرهم :وقلدوا أمركم لله دركم ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعاالخامسة : التقليد ليس طريقا للعلم ولا موصلا له ، لا في الأصول ولا في الفروع ، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء ، خلافا لما يحكى عن جهال الحشوية والثعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق ، وأن ذلك هو الواجب ، وأن النظر والبحث حرام ، والاحتجاج عليهم في كتب الأصول .السادسة : فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه ، لقوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه ، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس . وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر ، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب ، فضاق الوقت عن ذلك ، وخاف على العبادة أن تفوت ، أو على الحكم أن يذهب ، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيا أو غيره ، وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين .السابعة : قال ابن عطية : أجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد . وذكر فيه غيره خلافا كالقاضي أبي بكر بن العربي وأبي عمر وعثمان بن عيسى بن درباس الشافعي . قال ابن درباس في كتاب " الانتصار " له : وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد ، وهو خطأ لقوله تعالى : إنا وجدنا آباءنا على أمة . فذمهم بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل ، كصنيع أهل الأهواء في تقليدهم كبراءهم وتركهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه ، ولأنه فرض على كل مكلف تعلم أمر التوحيد والقطع به ، وذلك لا يحصل إلا من جهة الكتاب والسنة ، كما بيناه في آية التوحيد ، والله يهدي من يريد .قال ابن درباس : وقد أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة أنهم مقلدون . وهذا خطأ منهم ، بل هو بهم أليق وبمذاهبهم أخلق ، إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فكانوا داخلين فيمن ذمهم الله بقوله : ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا إلى قوله : كبيرا وقوله : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . ثم قال لنبيه : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ثم قال لنبيه عليه السلام ( فانتقمنا منهم ) الآية . فبين تعالى أن الهدى فيما جاءت به رسله عليهم السلام . وليس قول أهل الأثر في عقائدهم : إنا وجدنا أئمتنا وآباءنا والناس على الأخذ بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح من الأمة ، من قولهم : إنا وجدنا آباءنا وأطعنا سادتنا وكبراءنا بسبيل ; لأن هؤلاء نسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول ، وأولئك نسبوا إفكهم إلى أهل الأباطيل ، فازدادوا بذلك في التضليل ، ألا ترى أن الله سبحانه أثنى على يوسف عليه السلام في القرآن حيث قال : إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس . فلما كان آباؤه عليه وعليهم السلام أنبياء متبعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله ، كان اتباعه آباءه من صفات المدح . ولم يجئ فيما جاءوا به ذكر الأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها ، فدل على أن لا هدى فيها ولا رشد في واضعيها .قال ابن الحصار : وإنما ظهر التلفظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما ترجمت كتب الأوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالم وحدوثه ، واختلافهم في الجوهر وثبوته ، والعرض وماهيته ، فسارع المبتدعون ومن في قلبه زيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات ، وقصدوا بها الإغراب على أهل السنة ، وإدخال الشبه على الضعفاء من أهل الملة . فلم يزل الأمر كذلك إلى أن ظهرت البدعة ، وصارت للمبتدعة شيعة ، والتبس الأمر على السلطان ، حتى قال الأمير بخلق القرآن ، وجبر الناس عليه ، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك .فانتدب رجال من أهل السنة كالشيخ أبي الحسن الأشعري وعبد الله بن كلاب وابن مجاهد والمحاسبي وأضرابهم ، فخاضوا مع المبتدعة في اصطلاحاتهم ، ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم وكان من درج من المسلمين من هذه الأمة متمسكين بالكتاب والسنة ، معرضين عن شبه الملحدين ، لم ينظروا في الجوهر والعرض ، على ذلك كان السلف .قلت : ومن نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين . فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين ، ويحض على درس كتب الكلام ، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين ، والله أعلم . وأما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170)قال أبو جعفر: وفي هذه الآية وجهان من التأويل.أحدهما: أن تكون " الهاء والميم " من قوله: " وإذا قيلَ لهم " عائدة على مَنْ في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، فيكون معنى الكلام: ومن الناس مَنْ يَتخذُ من دُون الله أندادًا, وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عَليه آباءنا.والآخر: أن تكون " الهاء والميم " اللتان في قوله: " وإذا قيل لهم "، من ذكر النَّاسُ الذين في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا ، فيكون ذلك انصرافًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب، كما في قوله تعالى ذكره: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [سورة يونس: 22]* * *قال أبو جعفر: وأشبه عندي بالصواب وأولى بتأويل الآية (1) أن تكون " الهاء والميم " في قوله: " لهم "، من ذكر النَّاسُ , وأن يكون ذلك رجوعًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب. لأن ذلك عَقيب قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ . فلأنْ يكون خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبرَ أنّ منهم مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، مع ما بينهما من الآيات، وانقطاع قَصَصهم بقصة مُستأنفة غيرها = وأنها نزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك، (2) إذ دعوا إلى الإسلام، كما:-2446- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: دَعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودَ من أهل الكتاب إلى الإسلام ورَغَّبهم فيه, وحذرهم عقاب الله ونقمته, فقال له رَافع بن خارجة، ومَالك بن عوف: بل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا! فأنزل الله في ذلك من قولهما (3) " وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل اللهُ قالوا بَل نتِّبع ما ألفينا عَليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يَهتدون ". (4)2447- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس مثله - إلا أنه قال: فقال له أبو رَافع بن خارجة، ومالك بن عوف. (5)* * *وأما تأويل قوله: " اتبعوا ما أنزلَ الله "، فإنه: اعملوا بما أنزل الله في كتابه على رسوله, فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه, واجعلوه لكم إمامًا تأتمون به, وقائدًا تَتبعون أحكامه.* * *وقوله: " ألفينا عَليه آباءنا "، يعني وَجدنا, كما قال الشاعر: (6)فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍوَلا ذَاكِرِ اللهَ إلا قَلِيلا (7)يعني: وجدته، وكما:-2448- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " قالوا بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا "، أي: ما وجدنا عليه آباءنا.2449- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء الكفار: كلوا مما أحلّ الله لكم، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه، واعملوا بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحقّ وقالوا: بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم عليه، من تحليل ما كانوا يُحلُّون، وتحريم ما كانوا يحرّمون.* * *قال الله تعالى ذكره: " أوَ لو كانَ آباؤهم " -يعني: آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم-" لا يعقلون شيئًا " من دين الله وفرائضه، وأمره ونهيه, فيُتَّبعون على ما سَلكوا من الطريق، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم -" ولا يَهتدون " لرشد، فيهتدي بهم غيرهم, ويَقتدي بهم من طَلب الدين, وأراد الحق والصواب؟يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا، ولا هم مصيبون حقًّا، ولا مدركون رشدًا؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء المستعملَ له في نفسه, فأما الجاهل فلا يتبعه -فيما هو به جاهل- إلا من لا عقل له ولا تمييز.------------الهوامش :(1) في المطبوعة : "وأشبه عندي وأولى بالآية" ، وهو كلام مختل ، ورددته إلى عبارة الطبري في تأويل أكثر الآيات السالفة .(2) في المطبوعة : "وإنما نزلت في قوم من اليهود" ، وهو خطأ ناطق ، واضطراب مفسد للكلام . والصواب ما أثبت . يقول أبو جعفر إن أولى الأقوال بالصواب أن تكون الآية نزلت في ذكر عرب الجاهلية الذين حرموا ما حرموا على أنفسهم ، كما ذكر في تفسير الآيتين السالفتين (168 ، 169) ، ويستبعد أن يكون المعنى بها من ورد ذكرهم في الآية (165) ، كما يستبعد قول من قال إنها نزلت في اليهود ، في الخبر الذي سيرويه بعد . فقوله : "وأنها نزلت" عطف على قوله"خبرًا" في قوله : "أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبر أن منهم من يتخذ . . . " .(3) في المطبوعة : "فأنزل الله من قولهم ذلك" . وهو خطأ محض ، ورددتها إلى نصها في سيرة ابن هشام ، كما سيأتي مرجعه .(4) الأثر رقم : 2446- في سيرة ابن هشام 2 : 200-201 ، مع اختلاف يسير في لفظه .(5) الأثر رقم : 2447- انظر الأثر : 2446 .(6) هو أبو الأسود الدؤلي .(7) ديوانه : 49 (نفائس المخطوطات) ، سيبوبه 1 : 85 ، والأغاني 11 : 107 ، وأمالي بن الشجرى 1 : 283 والصدقة والصديق : 151 ، والخزانة 4 : 554 ، وشرح شواهد المغني : 316 ، واللسان (عتب) . وهو من أبيات قالها في امرأة كان يجلس إليها بالبصرة ، وكانت برزة جميلة ، فقالت له يومًا : يا أبا الأسود ، هل لك أن أتزوجك؟ فإني امرأة صناع الكف ، حسنة التدبير ، قانعة بالميسور . قال : نعم . فجمعت أهلها وتزوجته . ثم إنه وجدها على خلاف ما قالت ، فأسرعت في ماله ، ومدت يدها في خيانته ، وأفشت عليه سره ، فغدا على من كان حضر تزويجه ، فسألهم أن يجتمعوا عنده ، ففعلوا . فقال لهم :أَرَيْتَ امْرءًا كنتُ لَمْ أَبْلُهُأتَانِي, فَقَالَ : اتّخِذْنِي خليلاَفخالَلْتَهُ, ثُمَّ صَافيْتُهفَلَمْ أَسْتَفِدْ مِنْ لَدُنْهُ فتيلاَوَأَلفَيْتُهُ حِينَ جَرَّبْتُهكَذُوبَ الحَدِيثِ سَرُوقًا بَخِيلاَفَذَكَّرْتُه, ثُمَّ عَاتبتُهُعِتَابًا رَفِيقًا وَقَوْلاً جَمِيلاَفَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍوَلاَ ذَاكِرِ اللهَ إلاَّ قَلِيلاَأَلسْتُ حَقِيقًا بِتَوْدِيعِهِوَإتْبَاع ذلِكَ صَرْمًا طَوِيلاَ?!قالوا : بلى والله يا أبا الأسود! قال : تلك صاحبتكم ، وقد طلقتها ، وأنا أحب أن أستر ما أنكرت من أمرها . ثم صرفها معهم .قال ابن الشجرى : "والذي حسن لقائل هذا البيت حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، ونصب اسم الله تعالى ، واختيار ذلك على حذف التنوين للإضافة وجر اسم الله - أنه لو أضاف لتعرف بإضافته إلى المعرفة ، ولو فعل ذلك لم يوافق المعطوف المعطوف عليه في التنكير ، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين ، وأعمل اسم الفاعل" .واستعجب الرجل : رجع عن الإساءة وطلب الرضا ، فهو مستعتب .

الأحسن عندي أن يكون عطفاً على قوله : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } [ البقرة : 168 ] ، فإن المقصود بالخطاب في ذلك هم المشركون فإنهم الذين ائتمروا لأمره بالسوء والفحشاء ، وخاصة بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون ، والمسلمون مُحَاشَوْن عن مجموع ذلك .وفي هذه الآية المعطوفة زيادة تفظيع لحال أهل الشرك ، فبعد أن أثبت لهم اتباعهم خطوات الشيطان فيما حَرَّموا على أنفسهم من الطيبات ، أعقب ذلك بذكر إعراضهم عمن يدعوهم إلى اتباع ما أنزل الله ، وتشبثوا بعدم مخالفتهم ما أَلْفَوا عليه آباءهم ، وأعرضوا عن الدعوة إلى غير ذلك دون تأمل ولا تدبر .{ بل } إضراب إبطال ، أي أضربوا عن قول الرسول ، { اتَّبِعوا ما أنزل الله } ، إضرابَ إعراض بدون حجة إلاّ بأنه مخالف لما ألفوا عليه آباءهم .وفي ضمير لهم التفات من الخطاب الذي في قوله : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } [ البقرة : 168 ] .والمراد بما ألْفَوْا عليه ءَاباءهم ، ما وَجَدوهم عليه من أمور الشرك كما قالوا : { إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون } [ الزخرف : 23 ] والأمة : الملة وأعظم ذلك عبادة الأصنام .وقوله : { أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } كلام من جانب آخر للرد على قولهم { نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } ، فإن المتكلم لما حكاه عنهم رد قولهم هذا باستفهام يُقصد منه الرد ثم التعجيب ، فالهمزة مستعملة في الإنكار كنايةً وفي التعجيب إيماءً ، والمراد بالإنكار الرد والتخطئة لا الإنكار بمعنى النفي .و ( لو ) للشرط وجوابها محذوف دل عليه الكلام السابق ، تقديره : لاتَّبَعُوهم ، والمستفهم عنه هو الارتباط الذي بين الشرط وجوابه ، وإنما صارت الهمزة للرد لأجل العلم بأن المستفهمَ عنه يجاب عنه بالإثبات بقرائن حال المخبر عنه والمستفهِم . ومثل هذا التركيب من بديع التراكيب العربية وأعلاها إيجازاً و ( لو ) في مثله تسمى وصلية وكذلك ( إِنْ ) إذا وقعت في موقع ( لو ) .وللعلماء في معنى الواو وأداةِ الشرط في مثله ثلاثة أقوال :القول الأول إنها للحال وإليه ذهب ابن جني والمرزوقي وصاحب «الكشاف» قال ابن جني في «شرح الحماسة» عند قول عمرو بن معديكرب: ... لَيْسَ الجَمَال بِمِئْزرٍفاعْلَمْ وإِنْ رديتَ بُرْدا ... ونحو منه بيت «الكتاب» : ... عَاودْ هَرَاةَ وإِنْ مَعْمُورُهَا خَرِبا ( )وذلك أن الواو وما بعدها منصوبة الموضع بعَاوِدْ كما أنها وما بعدها في قوله وإن رديت بردا منصوبة الموضع بما قبلها وقريب من هذا : أزورك راغباً فيَّ وأحسن إليك شاكراً إليَّ ، فراغباً وشاكراً منصوبان على الحال بما قبلهما وهما في معنى الشرط وما قبلهما نائب عن الجواب المقدر لهما ألا ترى أن معناه إن رغبت فيَّ زرتك وإن شكرتني أحسنت إليك ، وسألت مرة أبا علي عن قوله: ... عَاوِدْ هَرَاةَ وإنْ معمورها خَرِباكيف موقع الواو هنا وأومأت في ذلك له إلى ما نحن بصدده فرأيتُه كالمُصَانِع في الجواب لا قُصُوراً بحمدِ الله عنه ولكنْ فتوراً عن تكلفه فأَجْمَمْتُه ، وقال المرزوقي هنالك : قوله : «وإنْ ردّيت بردا» في موضع الحال كأنه قال ليس جمالك بمئزر مردَّى معه برد والحال قد يكون فيه معنى الشرط كما أن الشرط فيه معنى الحال فالأول كقولك لأفعلنَّه كائناً ما كان أي إن كان هذا أو إن كان ذاك ، والثاني كبيت «الكتاب» : ... عَاوِدْ هراة وإنْ معمورا خرِبالأن الواو منه في موضع الحال كما هو في بيت عمرو وفيه لفظ الشرط ومعناه وما قبله نائب عن الجواب ، وتقديره : إن معمورها خربا فعاودها وإن رديت بردا على مئزر فليس الجمال بذلك» اه .وقال صاحب «الكشاف» : في هذه الآية وفي نظيرتها في سورة المائدة : «الواو للحال» ، ثم ظاهر كلام ابن جني والمرزوقي أن الحال في مثله من الجملة المذكورة قبل الواو وهو الذي نحاه البيضاوي هنا ورجحه عبد الحكيم ، وذهب صاحب «الكشاف» إلى أن الحال من جملة محذوفة تقديرها أيتبعونهم ولو كان آباؤهم ، وعلى اعتبار الواو واو الحال فهمزة الاستفهام في قوله : { أولو كان أباؤهم } ليست مقدمة من تأخير كما هو شأنها مع واو العطف والفاء وثم بل الهمزة داخلة على الجملة الحالية ، لأن محل الإنكار هو تلك الحالة ولذلك قال في «الكشاف» في سورة المائدة : «الواو واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار» وقدر هنا وفي المائدة محذوفاً هو مدخول الهمزة في التقدير يدل عليه ما قبله فقدره هنا أيتبعون آباءهم وقدره في سورة المائدة أَحَسْبُهُمْ ذلك ، وهذا اختلاف في رَأيه ، فمن لا يقدر محذوفاً يجعل الهمزة داخلة على جملة الحال .القول الثاني أن الواو للعطف قيل على الجملة المتقدمة وإليه ذهب البيضاوي ولا أعلم له سلفاً فيه وهو وجيه جداً أي قالوا بل نتبع ولو كان آباؤهم ، وعليه فالجملة المعطوفة تارة تكون من كلام الحاكي كما في الآية أي يقولونه في كل حال ولو كان آباؤهم الخ فهو من مجيء المتعاطفين من كلامي متكلميْن عطفَ التلقين كما تقدم في قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] ، وتارة تكون من كلام صاحب الكلام الأول كما في بيت «الحماسة» وبيت «الكتاب» وتارة تكون من كلام الحاكي تلقيناً للمحكي عنه وتقديراً له من كلامه كقول رؤبة: ... قالت بناتُ العمِّ يا سلْمَى وإِنْكان فقيراً مُعْدماً قالتْ وإنْ ... وقيل العطف على جملة محذوفة ونسبه الرضي للجرميِّ وقدروا الجملة بشرطية مخالفة للشرط المذكور ، والتقدير : يتبعونهم إن كانوا يعقلون ويهتدون ولو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون وكذلك التقدير في نظائره من الشواهد وهذا هو الجاري على ألسنة المعربين عندنا في نظائره لخفة مؤنته .القول الثالث : مختار الرضي أن الواو في مثله للاعتراض إما في آخر الكلام كما هنا وإما في وسطه ، وليس الاعتراض معنى من معاني الواو ولكنه استعمال يرجع إلى واو الحال .فأما الشرط المقترن بهذه الواو فلكونه وقع موقع الحال أو المعطوف أو الاعتراض من كلام سابق غير شرط ، كان معنى الشرطية فيه ضعيفاً ، لذلك اختلف النحاة في أنه باق على معنى الشرط أو انسلخ عنه إلى معنًى جديد فظاهر كلام ابن جني والمرزوقي أن الشرطية باقية ولذلك جعلا يقرِّبان معنى الشرط من معنى الحال يُومئان إلى وجه الجمع بين كون الجملة حالية وكونها شرطية ، وإليه مال البيضاوي هنا وحسَّنه عبد الحكيم وهو الحق ، ووجْهُ معنى الشرطية فيه أن الكلام الذي قبله إذا ذكر فيه حكم وذكر معه ما يدل على وجود سبب لذلك الحكم وكان لذلك السبب أفراد أو أحوال متعددة منها ما هو مظنة لأن تتخلف السببية عنده لوجود ما ينافيها معه فإنهم يأتون بجملة شرطية مقترنة بإنْ أو لوْ دلالة على الربط والتعليق بين الحالة المظنون فيها تخلف التسبب وبين الفعل المسبب عن تلك الحالة ، لأن جملة الشرط تدل على السبب وجملة الجزاء تدل على المسبب ويستغنون حينئذٍ عن ذكر الجزاء لأنه يُعلم من أصل الكلام الذي عُقِّب بجملة الشرط .وإنما خُص هذا النوع بحرفي ( إنْ ولو ) في كلام العرب لدلالتهما على ندرة حصول الشرط أو امتناعه ، إلاّ أنه إذا كان ذلك الشرط نادر الحصول جاءوا معه بإنْ كبيت عَمرو ، وإذا كان ممتنع الحصول في نفس الأمر جاءوا معه بلَو كما في هذه الآية ، وربما أتوا بلو لشرط شديد الندرة ، للدلالة على أنه قريب من الممتنع ، فيكون استعمال لو معه مجازاً مُرْسلاً تَبَعِيّاً .وذهب جماعة إلى أن ( إن ولو ) في مثل هذا التركيب خرجتا عن الشرطية إلى معنًى جديد ، وظاهر كلام صاحب «الكشاف» في قوله تعالى : { ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن } [ الأحزاب : 52 ] أن لو فيه للفرض؛ إذْ فسره بقوله : مفروضاً إعجابَك حسنُهن ، وقال صاحب «الكشاف» هنا إن الشرط في مثله لمجرد التسوية وهي لا تقتضي جواباً على الصحيح لخروجها عن معنى الشرطية وإنما يقدرون الجواب توضيحاً للمعنى وتصويراً له اه . وسَمَّى المتأخرون من النحاة ( إن ولو ) هاتين وَصْلِيَّتَيْن ، وفسره التفتازاني في «المطوَّل» بأنهما لمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد .وإذ قد تحققت معنى هذا الشرط فقد حان أن نبين لك وجه الحق في الواو المقارنة له المختلف فيها ذلكَ الاختلافَ الذي سمعته ، فإن كان ما بعد الواو معتبراً من جملة الكلام الذي قبلها فلا شبهة في أن الواو للحال وأنه المعنى المراد وهو الغالب ، وإن كان ما بعدها من كلام آخر فهي واو العطف لا محالة عطفت ما بعدها على مضمون الكلام الأول على معنى التلقين ، وذلك كما في قوله تعالى :{ قل أوَلو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } [ الزمر : 43 ] وكذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، فإن مجيء همزة الاستفهام دليل على أنه كلام آخر ، وكذلك بيت : «قالت بنات العم» المتقدم ، وإن كان ما بعدها من جملة الكلام الأول لكنه منظور فيه إلى جواب سؤال يخطر ببال السامع فالواو للاستئناف البياني الذي عبر عنه الرضي بالاعتراض مثل قول كعب بن زهير: ... لا تأخذَنِّي بأقوال الوُشَاةِ ولَمْأُذْنِبْ وإِنْ كَثُرَتْ فيَّ الأقاويل ... فإن موقع الشرط فيه ليس موقع الحال بل موقع رد سؤال سائل يقول : أَتنفي عن نفسك الذنب . وقد كثر القول في إثبَاته .وقوله : { لا يعقلون شيئاً } أي لا يدركون شيئاً من المُدركات ، وهذا مبالغة في إلزامهم بالخطأ في اتباع آبائهم من غير تبصر ولا تأمل ، وتقدم القول في كلمة شيء .ومتعلق { ولا يهتدون } محذوف أي إلى شيء ، وهذه الحَالة ممتنعة في نفس الأمر؛ لأن لآبائهم عقولاً تدرك الأشياء ، وفيهم بعض الاهتداء مثل اهتدائهم إلى إثبات وجود الله تعالى وإلى بعض ما عليه أمورهم من الخير كإغاثة الملهوف وقِرى الضيف وحفظ العهد ونحو ذلك ، ولهذا صح وقوع ( لو ) الشرطية هنا . وقد أشبعتُ الكلام على ( لو ) هذه؛ لأن الكلام عليها لا يوجد مفصلاً في كتب النحو ، وقد أجحف فيه صاحب «المغني» .وليس لهذه الآية تعلق بأحكام الاجتهاد والتقليد؛ لأنها ذم للذين أبَوا أن يتبعوا مَا أنزل الله ، فأما التقليد فهو تقليد للمتبعين ما أنزل الله .
الآية 170 - سورة البقرة: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ۗ أولو كان آباؤهم لا يعقلون...)