سورة الأنفال: الآية 44 - وإذ يريكموهم إذ التقيتم في...

تفسير الآية 44, سورة الأنفال

وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِىٓ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِىٓ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلْأُمُورُ

الترجمة الإنجليزية

Waith yureekumoohum ithi iltaqaytum fee aAAyunikum qaleelan wayuqallilukum fee aAAyunihim liyaqdiya Allahu amran kana mafAAoolan waila Allahi turjaAAu alomooru

تفسير الآية 44

واذكر أيضًا حينما برز الأعداء إلى أرض المعركة فرأيتموهم قليلا فاجترأتم عليهم، وقلَّلكم في أعينهم، ليتركوا الاستعداد لحربكم؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولا فيتحقق وَعْدُ الله لكم بالنصر والغلبة، فكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. وإلى الله مصير الأمور كلها، فيجازي كلا بما يستحق.

«وإذ يريكموهم» أيها المؤمنون «إذ التقيتم في أعينكم قليلا» نحو سبعين أو مائة وهم ألف لتقدموا عليهم «ويقللكم في أعينهم» ليقدموا ولا يرجعوا عن قتالكم وهذا قبل التحام الحرب، فلما التحم أراهم إياهم مثليهم كما في آل عمران «ليقضيَ الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع» تصير «الأمور».

فأرى اللّه المؤمنين عدوهم قليلا في أعينهم، ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعينهم،فكل من الطائفتين ترى الأخرى قليلة، لتقدم كل منهما على الأخرى‏.‏ ‏‏لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا‏‏ من نصر المؤمنين وخذلان الكافرين وقتل قادتهم ورؤساء الضلال منهم، ولم يبق منهم أحد له اسم يذكر، فيتيسر بعد ذلك انقيادهم إذا دعوا إلى الإسلام، فصار أيضًا لطفا بالباقين، الذين مَنَّ اللّه عليهم بالإسلام‏.‏ ‏‏وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ‏‏ أي‏:‏ جميع أمور الخلائق ترجع إلى اللّه، فيميز الخبيث من الطيب، ويحكم في الخلائق بحكمه العادل، الذي لا جور فيه ولا ظلم‏.‏

وقوله : ( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ) وهذا أيضا من لطفه تعالى بهم ، إذ أراهم إياهم قليلا في رأي العين ، فيجرؤهم عليهم ، ويطمعهم فيهم .قال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جانبي : تراهم سبعين ؟ قال : لا بل [ هم ] مائة ، حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه ، قال : كنا ألفا . رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير .وقوله : ( ويقللكم في أعينهم ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن الزبير بن الخريت عن عكرمة : ( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ) قال : حضض بعضهم على بعض .إسناد صحيح .وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه في قوله تعالى : ( ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) أي : ليلقي بينهم الحرب ؛ للنقمة ممن أراد الانتقام منه ، والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته .ومعنى هذا أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالآخر ، وقلله في عينه ليطمع فيه ، وذلك عند المواجهة . فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين ، بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعفيه ، كما قال تعالى : ( قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) [ آل عمران : 13 ] ، وهذا هو الجمع بين هاتين الآيتين ، فإن كلا منها حق وصدق ، ولله الحمد والمنة .

وقوله- تعالى-: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ...معطوف على ما قبله وهو قوله إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا.... وذلك لتأكيد الرؤيا المنامية بالرؤية في اليقظة.والمعنى: واذكروا- أيها المؤمنون- وقت أن التقيتم مع أعدائكم وجها لوجه في بدر، فكان من فضل الله عليكم قبل أن تلتحموا معهم أن جعل عددهم قليلا في أعينكم وجعل عددكم قليلا في أعينهم، وذلك لإغرائهم على خوض المعركة.أما أنتم فتخوضونها بدون مبالاة بهم لقلتهم في أعينكم، ولثقتكم بنصر الله إياكم..وأما هم فيخوضونها معتمدين على غرورهم وبطرهم وقلتكم في أعينهم، فيترتب على ذلك أن يتركوا الاستعداد اللازم لقتالكم، فتكون الدائرة عليهم..قال ابن مسعود- وهو ممن حضر بدرا-: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له: كم كنتم؟ قال:ألفا .وقال أبو جهل- في ذلك اليوم وقبل الالتحام-: إن محمدا وأصحابه أكلة جزور- أى هم قليل يشبعهم لحم ناقة واحدة- خذوهم أخذا أو اربطوهم بالحبال..وقد أجاد صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية حيث يقول: قوله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الضميران مفعولان يعنى: وإذ يبصركم إياهم. وقَلِيلًا حال، وإنما قللهم في أعينهم تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا..فإن قلت: الغرض من تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض من تقليل المؤمنين في أعينهم؟قلت: قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيها بعده، ليجترؤوا عليهم، قلة مبالاة بهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، وتقل شوكتهم، حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وذلك قوله قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ولئلا يستعدوا لهم، وليعظم الاحتجاج عليهم فاستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا، وكثرتهم آخرا.ثم قال: فإن قلت: بأى طريق يبصرون الكثير قليلا؟قلت: بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين.قيل لبعضهم: إن الأحوال يرى الواحد اثنين- وكان بين يديه ديك واحد- فقال: ما لي لا أرى هذين الديكين أربعة .وقوله- سبحانه- لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ بيان لحكمة تدبيره، ونفاذ قدرته، وشمول إرادته.أى فعل- سبحانه- ما فعل من تقليل كل فريق في عين الآخر، ليقضى أمرا كان مفعولا، أى: ثابتا في علمه وحكمته، وهو نشوب القتال المفضى إلى انتصار المؤمنين، واندحار الكافرين وإلى الله وحده ترجع الأمور لا إلى أحد سواه، فإن كل شيء عنده بمقدار، ولأن كل شيء في هذا الكون بقضائه وقدره، وما من شيء إلا مصيره ومرده إليه.قال بعض العلماء: ولا يقال إن قوله- تعالى-: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا مكرر مع ما سبق، لأننا نقول: إن المقصود من ذكره أولا- في قوله: إذ أنتم بالعدوة الدنيا.. هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على الكافرين، على وجه يكون معجزة دالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم والمقصود منه هنا بيان خارق آخر، وهو تقليلهم في أعين المشركين ثم تكثيرهم للحكم المتقدمة .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة حكت لنا جانبا من أحداث غزوة بدر بأسلوب تصويري بديع في استحضار لمشاهدها ومواقفها، وكشفت لنا عن جوانب من مظاهر قدرة الله، ومن تدبيره المحكم الذي كان فوق تدبير البشر، ومن تهيئة الأسباب الظاهرة والخفية التي أدت إلى نصر المؤمنين وخذلان الكافرين.وبعد هذا التذكير النافع، والتصوير المؤثر لأحداث غزوة بدر، وجه- سبحانه- في هذه السورة إلى المؤمنين النداء السادس والأخير، حيث أمرهم بالثبات في وجه أعدائهم، وبالمداومة على ذكره وطاعته..، ونهاهم عن التنازع والاختلاف فقال- تعالى-:

( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ) قال مقاتل : وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في المنام أن العدو قليل قبل لقاء العدو ، وأخبر أصحابه بما رأى ، فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين المؤمنين .قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال : ألفا .( ويقللكم ) يا معشر المؤمنين ( في أعينهم ) قال السدي : قال ناس من المشركين : إن العير قد انصرفت فارجعوا ، فقال أبو جهل : الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه؟ فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم ، إنما محمد وأصحابه أكلة جزور ، فلا تقتلوهم ، واربطوهم بالحبال - يقوله من القدرة التي في نفسه - : قال الكلبي : استقل بعضهم بعضا ليجترئوا على القتال ، فقلل المشركين في أعين المؤمنين لكي لا يجبنوا ، وقلل المؤمنين في أعين المشركين لكي لا يهربوا ، ( ليقضي الله أمرا ) من إعلاء الإسلام وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله . ( كان مفعولا ) كائنا ، ( وإلى الله ترجع الأمور )

قوله تعالى وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمورقوله تعالى وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا هذا في اليقظة . يجوز حمل الأولى على اليقظة أيضا إذا قلت : المنام موضع النوم ، وهو العين ، فتكون الأولى على هذا خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه للجميع . قال ابن مسعود : قلت لإنسان كان بجانبي يوم بدر : أتراهم سبعين ؟ فقال : هم نحو المائة . فأسرنا رجلا فقلنا : كم كنتم ؟ فقال : كنا ألفا .ويقللكم في أعينهم كان هذا في ابتداء القتال حتى قال أبو جهل في ذلك اليوم : إنما هم أكلة جزور ، خذوهم أخذا واربطوهم بالحبال . فلما أخذوا في القتال عظم المسلمون في أعينهم فكثروا ، كما قال : يرونهم مثليهم رأي العين حسب ما تقدم في آل عمران بيانه .ليقضي الله أمرا كان مفعولا تكرر هذا ، لأن المعنى في الأول من اللقاء ، وفي الثاني من قتل المشركين وإعزاز الدين ، وهو إتمام النعمة على المسلمين .وإلى الله ترجع الأمور أي مصيرها ومردها إليه .

القول في تأويل قوله : وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (44)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ = إذ يري الله نبيه في منامه المشركين قليلا وإذ يريهم الله المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلا وهم كثير عددهم, ويقلل المؤمنين في أعينهم, ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على المؤمنين شوكتهم، كما:-16156 - حدثني ابن بزيع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: لقد قلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة‍ قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم هم؟ قال: ألفًا. (70)16157- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أبى إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بنحوه.16158 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: " وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا "، قال ابن مسعود: قللوا في أعيننا، حتى قلت لرجل: أتُرَاهم يكونون مئة؟16159 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال ناس من المشركين: إن العيرَ قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل: الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه! فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم. وقال: يا قوم لا تقتلوهم بالسلاح, ولكن خذوهم أخذًا, فاربطوهم بالحبال! = يقوله من القدرة في نفسه.* * *وقوله: " ليقضي الله أمرًا كان مفعولا " ، يقول جل ثناؤه: قلّلتكم أيها المؤمنون، في أعين المشركين، وأريتكموهم في أعينكم قليلا حتى يقضي الله بينكم ما قضى من قتال بعضكم بعضًا، وإظهاركم، أيها المؤمنون، على أعدائكم من المشركين والظفر بهم, لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. وذلك أمرٌ كان الله فاعلَه وبالغًا فيه أمرَه، كما:-16160 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: " ليقضي الله أمرا كان مفعولا "، أي: ليؤلف بينهم على الحرب، للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته. (71)* * *= " وإلى الله ترجع الأمور " ، يقول جل ثناؤه: مصير الأمور كلها إليه في الآخرة, فيجازي أهلها على قدر استحقاقهم المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته.-----------------الهوامش :(70) الأثر : 16156 - " ابن بزيع البغدادي " ، هو " محمد بن عبد الله بن بزيع البغدادي " ، من شيوخ مسلم ، مضى برقم : 2451 ، 3130 ، 10239 .وكان في المطبوعة : " كنا ألفًا "، زاد " كنا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض .(71) الأثر : 16160 - سيرة ابن هشام 2 : 328 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16153 .

{ وإذ يريكموهم } عطف على { إذ يريكهم الله } [ الأنفال : 43 ] وهذه رؤيةُ بَصَر أراها الله الفريقين على خلاف ما في نفس الأمر ، فكانت خطأ من الفريقين ، ولم يُرها النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك عديت رؤيا المنام الصادقة إلى ضمير النبي ، في قوله : { إذ يريكهم الله } [ الأنفال : 43 ] وجُعلت الرؤية البصرية الخاطئة مسندة إلى ضمائر الجَمعين ، وظاهر الجمع يعمّ النبي صلى الله عليه وسلم فيُخصّ من العموم . أرَى الله المسلمين أنّ المشركين قليلون ، وأرى المشركين أنّ المسلمين قليلون . خَيل الله لكلا الفريقين قلّة الفريق الآخر ، بإلقاء ذلك التخيّل في نفوسهم ، وجعل الغاية من تينك الرؤيتَين نصر المسلمين ، وهذا من بديع صنع الله تعالى إذ جعل للشيء الواحد أثرين مختلفين ، وجعل للأثرين المختلفين أثراً متّحداً ، فكان تخيّل المسلمين قلّة المشركين مقويّاً لقلوبهم ، وزائداً لشجاعتهم ، ومزيلاً للرعب عنهم ، فعظم بذلك بأسهم عند اللقاء ، لأنّهم ما كان ليفلّ من بأسهم إلاّ شعورهم بأنّهم أضعف من أعدائهم عَدداً وعُدداً ، فلمّا أزيل ذلك عنهم ، بتخييلهم قلّة عدوّهم ، خلصت أسباب شدّتهم ممّا يوهنها . وكان تخيّل المشركين قلّة المسلمين ، أي كونَهم أقلّ ممّا هم عليه في نفس الأمر ، بَرْداً على غليان قلوبهم من الغيظ ، وغارّاً إياهم بأنّهم سينالون التغلّب عليهم بأدنى قتال ، فكان صارفاً إيّاهم عن التأهّب لقتال المسلمين ، حتّى فاجأهم جيش المسلمين ، فكانت الدائرةُ على المشركين ، فنتج عن تخيّل القلّتين انتصار المسلمين .وإنّما لم يكن تخيل المسلمين قلة المشركين مثبطاً عزيمتهم ، كما كان تخيّل المشركين قلّة المسلمين مثبطاً عزيمتهم ، لأنّ المسلمين كانت قلوبهم مفعمة حنقاً على المشركين ، وإيماناً بفساد شركهم ، وامتثالاً أمرَ الله بقتالهم ، فما كان بينهم وبين صبّ بأسهم على المشركين إلاّ صرف ما يثبط عزائمهم . فأمّا المشركون ، فكانوا مزدهين بعَدائهم وعنادهم ، وكانوا لا يرون المسلمين على شيء ، فهم يحسبون أنّ أدنى جولة تجول بينهم يقبضون فيها على المسلمين قبضاً ، فلذلك لا يعبؤون بالتأهّب لهم ، فكان تخييل ما يزيدهم تهاوناً بالمسلمين يزيد تواكلهم وإهمال إجماع أمرهم .قال أهل السير : كان المسلمون يحسبون عدد المشركين يتراوح بين السبعين والمائة وكانوا في نفس الأمر زهاء ألف ، وكان المشركون يحسبون المسلمين قليلاً ، فقد قال أبو جهل لقومه ، وقد حَزر المسلمين : إنّما هم أكَلَةُ جَزُور ، أي قُرابةُ المائة ، وكانوا في نفس الأمر ثلاثمائة وبضعة عشر .وهذا التخيل قد يحصل من انعكاس الأشعّة واختلاف الظِّلال ، باعتبار مواقع الرائين من ارتفاع المواقع وانخفاضها ، واختلاف أوقات الرؤية على حسب ارتفاع الشمس ، وموقع الرائين من مواجهتها أو استدبارها ، وبعض ذلك يحصل عند حدوث الآل والسراب ، أو عند حدوث ضباب أو نحو ذلك ، وإلقاء الله الخيال في نفوس الفريقين أعظم من تلك الأسباب .وهذه الرؤية قد مضت بقرينة قوله : { إذ التقيتم } فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة العجيبة لهاته الإراءة ، كما تقدّم في قوله تعالى : { إذ يريكهم الله في منامك قليلاً } [ الأنفال : 43 ].و { إذ التقيتم } ظرف ل { يريكموهم } وقوله : { في أعينكم } تقييد للإراءة بأنّها في الأعين ، لا غير ، وليس المرئيّ كذلك في نفس الأمر ، ويُعلم ذلك من تقييد الإراءة بأنّها في الأعين ، لأنّه لو لم يكن لمقصد لكان مستغنى عنه ، مع ما فيه من الدلالة على أنّ الإراءة بصرية لا حُلمية كقوله في الآية الأخرى : { ترونهم مثليهم رأي العين } [ آل عمران : 13 ].والالتقاء افتعال من اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه دالّة على المبالغة . واللقاء والالتقاء في الأصل الحضور لدى الغير ، من صديق أو عدوّ ، وفي خير أو شرّ ، وقد كثر إطلاقه على الحضور مع الأعداء في الحرب ، وقد تقدّم عند قوله تعالى في هذه السورة { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } [ الأنفال : 15 ] الآية .{ ويقللكم } يجعلكم قليلاً ، لأنّ مادة التفعيل تدلّ على الجَعل ، فإذا لم يكن الجعل متعَلّقاً بذات المفعول ، تعيّن أنّه متعلّق بالإخبار عنه ، كما ورد في الحديث في يوم الجمعة : «وفيه ساعة» ، قال الراوي : يقلّلها؛ أو متعلق بالإراءة كما هنا ، وذلك هو الذي اقتضى زيادة قوله : { في أعينهم } ليُعلم أنّ التقليل ليس بالنقص من عدد المسلمين في نفس الأمر .وقوله : { ليقضي الله أمراً كان مفعولا } هو نظير قوله : { ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } [ الأنفال : 42 ] المتقدم أعيد هنا لأنّه علّة إراءة كلا الفريقين الفريق الآخر قليلاً ، وأما السابق فهو علّة لتلاقي الفريقين في مكان واحد في وقت واحد .ثم إنّ المشركين لما يرزوا لقتال المسلمين ظهر لهم كثرة المسلمين فبُهتوا ، وكغان ذلك بعد المناجزة ، فكان ملقياً الرعب في قلوبهم ، وذلك ما حكاه في سورة [ آل عمران : 13 ] قوله : { ترونهم مثليهم رأي العين }وخولف الأسلوب في حكاية إراءة المشركين ، وحكاية إراءة المسلمين ، لأنّ المشركين كانوا عدداً كثيراً فناسب أن يحكي تقليلهم بإراءتهم قليلاً ، المُؤذنة بأنّهم ليسوا بالقليل . وأمّا المسلمون فكانوا عدداً قليلاً بالنسبة لعدوّهم ، فكان المناسب لتِقليلهم : أن يعبّر عنه بأنّه تقليل المؤذن بأنّه زيادة في قلّتهم .وجملة : وإلى اللَّه ترجع الأمور } تذييل معطوف على ما قبله عطفاً اعتراضياً ، وهو اعتراض في آخر الكلام ، وهذا العطف يسمّى : عطفاً اعتراضيّاً ، لأنّه عطف صوريٌّ ليست فيه مشاركة في الحكم ، وتسمّى الواو اعتراضية . والتعريف في قوله : { الأمور } للاستغراق ، أي جميع الأشياء .والرجوع هنا مستعمل في الأول وانتهاء الشيء ، والمراد رجوع أسبابها ، أي إيجَادُها ، فإنّ الأسباب قد تلوح جارية بتصرّف العباد وتأثير الحوادث ، ولكن الأسباب العالية ، وهي الأسباب التي تتصاعد إليها الأسبابُ المعتادة ، لا يتصرّف فيها إلاّ الله وهو مؤثّرها وموجدها . على أنّ جميع الأسباب ، عالِيها وقريبِها ، متأثر بما أودع الله فيها من القوى والنواميس والطبائِع ، فرجوع الجميع إليه ، ولكنّه رجوع متفاوت على حسب جريه على النظام المعتاد ، وعدم جريه ، فإيجاد الأشياء قد يلوح حصوله بفعل بعض الحوادث والعباد ، وهو عند التأمّل الحقِّ راجع إلى إيجاد الله تعالى خالق كلّ صانع .والذوات وأحوالُها كلّها من الأمور ، ومآلها كلُّه رجوع ، فهذا ليس رجوع ذوات ولكنه رجوع تصرّف ، كالذي في قوله : { إنا لله وإنا إليه راجعون } [ البقرة : 156 ].والمعنى : ولا عجب في ما كوّنه الله من رؤية الجيشين على خلاف حالهما في نفس الأمر ، فإنّ الإراءة المعتادة ترجع إلى ما وضعه الله من الأسباب المعتادة ، والإراءة غير المعتادة راجعة إلى أسباب يضعها الله عند إرادته .وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب { ترجع } بضمّ التاء وفتح الجيم أي يَرجعها ، راجع إلى الله ، والذي يرجعها هو الله فهو يرجعها إليه . وقرأ البقية { تَرجع } بفتح التاء وكسر الجيم أي : ترجع بنفسها إلى الله ، ورجوعها هو برجوع أسبابها .
الآية 44 - سورة الأنفال: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا ۗ وإلى الله ترجع الأمور...)