سورة الأنعام: الآية 91 - وما قدروا الله حق قدره...

تفسير الآية 91, سورة الأنعام

وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦٓ إِذْ قَالُوا۟ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِى جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوٓا۟ أَنتُمْ وَلَآ ءَابَآؤُكُمْ ۖ قُلِ ٱللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ

الترجمة الإنجليزية

Wama qadaroo Allaha haqqa qadrihi ith qaloo ma anzala Allahu AAala basharin min shayin qul man anzala alkitaba allathee jaa bihi moosa nooran wahudan lilnnasi tajAAaloonahu qarateesa tubdoonaha watukhfoona katheeran waAAullimtum ma lam taAAlamoo antum wala abaokum quli Allahu thumma tharhum fee khawdihim yalAAaboona

تفسير الآية 91

وما عَظَّم هؤلاء المشركون الله حق تعظيمه؛ إذ أنكروا أن يكون الله تعالى قد أنزل على أحد من البشر شيئًا من وحيه. قل لهم -أيها الرسول-: إذا كان الأمر كما تزعمون، فمن الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى إلى قومه نورًا للناس وهداية لهم؟ ثم توجه الخطاب إلى اليهود زَجْرًا لهم بقوله: تجعلون هذا الكتاب في قراطيس متفرقة، تظهرون بعضها، وتكتمون كثيرًا منها، ومما كتموه الإخبار عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وعلَّمكم الله معشر العرب بالقرآنِ -الذي أنزله عليكم، فيه خبر مَن قبلكم ومَن بعدكم، وما يكون بعد موتكم- ما لم تعلموه أنتم ولا آباؤكم، قل: الله هو الذي أنزله، ثم دع هؤلاء في حديثهم الباطل يخوضون ويلعبون.

«وما قدروا» أي اليهود «الله حق قدره» أي ما عظموه حق عظمته أو ما عرفوه حق معرفته «إذ قالوا» للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خاصموه في القرآن «ما أنزل الله على بشر من شيء قل» لهم «من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه» بالياء والتاء في المواضع الثلاثة «قراطيس» أي يكتبونه في دفاتر مقطعة «يبدونها» أي ما يحبون إبداءه منها «ويخفون كثيرا» ما فيها كنعت محمد صلى الله عليه وسلم «وعلمتم» أيها اليهود في القرآن «ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم» من التوراة ببيان ما التبس عليكم واختلفتم فيه «قل الله» أنزله إن لم يقولوه لا جواب غيره «ثم ذرهم في خوضهم» باطلهم «يلعبون».

هذا تشنيع على من نفى الرسالة، [من اليهود والمشركين] وزعم أن الله ما أنزل على بشر من شيء، فمن قال هذا، فما قدر الله حق قدره، ولا عظمه حق عظمته، إذ هذا قدح في حكمته، وزعم أنه يترك عباده هملا، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ونفي لأعظم منة، امتن الله بها على عباده، وهي الرسالة، التي لا طريق للعباد إلى نيل السعادة، والكرامة، والفلاح، إلا بها، فأي قدح في الله أعظم من هذا؟" قُلْ ْ لهم –ملزما بفساد قولهم، وقرِّرْهم، بما به يقرون-: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ْ وهو التوراة العظيمة نُورًا ْ في ظلمات الجهل وَهُدًى ْ من الضلالة، وهاديا إلى الصراط المستقيم علما وعملا، وهو الكتاب الذي شاع وذاع، وملأ ذكره القلوب والأسماع. حتى أنهم جعلوا يتناسخونه في القراطيس، ويتصرفون فيه بما شاءوا، فما وافق أهواءهم منه، أبدوه وأظهروه، وما خالف ذلك، أخفوه وكتموه، وذلك كثير. وَعُلِّمْتُمْ ْ من العلوم التي بسبب ذلك الكتاب الجليل مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ْ فإذا سألتهم عمن أنزل هذا الكتاب الموصوف بتلك الصفات، فأجب عن هذا السؤال. و قل الله ْ الذي أنزله، فحينئذ يتضح الحق وينجلي مثل الشمس، وتقوم عليهم الحجة، ثم إذا ألزمتهم بهذا الإلزام ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ْ أي: اتركهم يخوضوا في الباطل، ويلعبوا بما لا فائدة فيه، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

يقول تعالى : وما عظموا الله حق تعظيمه ، إذ كذبوا رسله إليهم ، قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير : نزلت في قريش . واختاره ابن جرير ، وقيل : نزلت في طائفة من اليهود ; وقيل : في فنحاص رجل منهم ، وقيل : في مالك بن الصيف .( قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) والأول هو الأظهر ; لأن الآية مكية ، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء وقريش - والعرب قاطبة - كانوا يبعدون إرسال رسول من البشر ، كما قال [ تعالى ] ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ] ) [ يونس : 2 ] ، وقال تعالى : ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ) [ الإسراء : 94 ، 95 ] ، وقال هاهنا : ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) قال الله تعالى : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ) ؟ أي : قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله ، في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة : ( من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) يعني : التوراة التي قد علمتم - وكل أحد - أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران نورا وهدى للناس ، أي : ليستضاء بها في كشف المشكلات ، ويهتدى بها من ظلم الشبهات .وقوله : ( تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ) أي : يجعلها حملتها قراطيس ، أي : قطعا يكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديهم ويحرفون فيها ما يحرفون ويبدلون ويتأولون ، ويقولون : ( هذا من عند الله ) [ البقرة : 79 ] ، أي : في كتابه المنزل ، وما هو من عند الله ; ولهذا قال : ( تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا )وقوله : ( وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ) أي : ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه من خبر ما سبق ، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك أنتم ولا آباؤكم .قال قتادة : هؤلاء مشركو العرب . وقال مجاهد : هذه للمسلمين .وقوله : ( قل الله ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي : قل : الله أنزله . وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة ، لا ما قاله بعض المتأخرين ، من أن معنى ) قل الله ) أي : لا يكون خطاب لهم إلا هذه الكلمة ، كلمة : " الله "وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمرا بكلمة مفردة من غير تركيب ، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها .وقوله : ( ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) أي : ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون ، حتى يأتيهم من الله اليقين فسوف يعلمون ألهم العاقبة ، أم لعباد الله المتقين؟

قوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ كلمة قَدَرُوا مأخوذة من القدر- بفتح فسكون-، وأصل القدر معرفة مقدار الشيء بالسبر والحزر، يقال:قدر الشيء يقدره إذا سبره وحزره ليعرف مقداره، ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه.والمعنى: ما عظموا الله حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته في اللطف بعباده وفي الرحمة بهم، بل أخلوا بحقوقه إخلالا عظيما، وضلوا ضلالا كبيرا، إذ أنكروا بعثة الرسل وإنزال الكتب، وقالوا تلك المقالة الشنعاء ما أنزل الله على بشر شيئا من الأشياء، قاصدين بهذا القول الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي أن القرآن من عند الله.ولفظ حَقَّ منصوب على المصدرية، وهو في الأصل صفة للمصدر، أى: قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه.ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يلزمهم بما يخرس ألسنتهم، وأن يرد على سلبهم العام بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم فقال- تعالى-: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ أى: قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين بأن الله ما أنزل على بشر شيئا من الأشياء: قل لهم من الذي أنزل التوراة وهو الكتاب الذي جاء به موسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ أى: ضياء من ظلمة الجهالة وهداية تعصم من الأباطيل والضلالة.وكلمة نُوراً حال من الضمير في به أو من الكتاب.ثم بين- سبحانه- ما فعله الجاحدون بكتبه من تحريف وتغيير فقال: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً.القراطيس: جمع قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق ونحوه.أى: تجعلون هذا الكتاب الذي أنزله الله نورا وهداية للناس أوراقا مكتوبة مفرقة لتتمكنوا من إظهار ما تريدون إظهاره منها، ومن إخفاء الكثير منها على حسب ما تمليه عليكم نفوسكم السقيمة وشهواتكم الأثيمة.فالمراد من هذه الجملة الكريمة ذم المحرفين لكتب الله، وتوبيخهم على هذا الفعل الشنيع، الذي قصدوا من ورائه الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والتوصل إلى ما يبغونه من مطامع وأهواء.وقوله وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ أى: وعلمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من المعارف التي لا يرتاب عاقل في أنها تنزيل رباني.وقوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ.أى: قل أيها الرسول لهؤلاء الجاحدين: الله- تعالى- هو الذي أنزل الكتاب على موسى، ثم بعد هذا القول الفصل ذرهم في باطلهم الذي يخوضون فيه يلعبون، وفي غيهم يعمهون حتى يأتيهم من الله اليقين.وفي أمره صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم، إشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيهه على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.وكان العطف بثم في قوله ثُمَّ ذَرْهُمْ للدلالة على الترتيب الرتبى أى: أنهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلة فتركهم وخوضهم بعد التبليغ هو الأولى، وإنما كان الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.هذا، وللمفسرين لهذه الآية قولان:الأول: أنها مكية النزول تبعا للسورة، وأن الذين قالوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ مشركو مكة، وإنما ألزمهم الله بإنزال التوراة لأنهم كانوا يعرفون ذلك ولا ينكرون أن الله قد أنزلها على موسى.قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: عنى بذلك وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم. فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر. وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى..) .وقد تابع ابن كثير رأى ابن جرير وقال: وهذا الرأى هو الأصح، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر كما قال- تعالى- أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وكذا قالوا هنا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ .الثاني: أن هذه الآية مدنية النزول، وكون سورة الأنعام مكية لا يمنع من وجود بعض آيات منها مدنية كما نص عليه كثير من العلماء.ومما يؤيد كون هذه الآية مدنية ما ورد من آثار في أسباب نزولها، ومن هذه الآثار ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن أبى طلحة عن ابن عباس قال: قالت اليهود: والله ما أنزل الله من السماء كتابا) فنزل قوله- تعالى- وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. إلخ وأخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير- مرسلا- قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» - وكان حبرا سمينا- فغضب وقال: (هل أنزل الله على بشر من شيء) فقال له أصحابه: ويحك ولا على موسى فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية» .والذي نراه أن الآية الكريمة تصلح للرد على الفريقين: فريق المشركين وفريق اليهود إلا أن سياقها يجعلنا نرجح أن الخطاب فيها موجه بالأصالة إلى اليهود وإلى غيرهم بالتبع، لأنهم هم الذين جعلوا التوراة قراطيس أى أوراقا مفرقة ليظهروا منها ما يناسب أهواءهم وليخفوا منها ما فيه شهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ولأن هناك آثارا متعددة تثبت أنها نزلت في شأنهم.

قوله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ) أي ما عظموه حق عظمته ، وقيل : ما وصفوه حق صفته ، ( إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) قال سعيد بن جبير : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين " وكان حبرا سمينا فغضب ، وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء .وقال السدي : نزلت في فنحاص بن عازوراء ، وهو قائل هذه المقالة .وفي القصة : أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه ، وقالوا : أليس أن الله أنزل التوراة على موسى؟ فلم قلت ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف أغضبني محمد فقلت ذلك ، فقالوا له : وأنت إذا غضبت تقول [ على الله ] غير الحق فنزعوه من الحبرية ، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف .وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت اليهود : يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال : نعم ، قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا ، فأنزل الله : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " ، فقال الله تعالى : ( قل ) لهم ، ( من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ) يعني التوراة ، ( تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ) أي : تكتبون عنه دفاتر وكتبا مقطعة تبدونها ، أي : تبدون ما تحبون وتخفون كثيرا من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم . قرأ ابن كثير وأبو عمرو " يجعلونه " " ويبدونها " " ويخفونها " ، بالياء جميعا ، لقوله تعالى ( وما قدروا الله حق قدره ) وقرأ الآخرون بالتاء ، لقوله تعالى ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى )وقوله ( وعلمتم ما لم تعلموا ) [ الأكثرون على أنها خطاب لليهود ، يقول : علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا ] ( أنتم ولا آباؤكم ) قال الحسن : جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به .وقال مجاهد : هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .( قل الله ) هذا راجع إلى قوله ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) فإن أجابوك وإلا فقل أنت : الله ، أي قل : أنزله الله ، ( ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) .

وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبونقوله تعالى وما قدروا الله حق قدره أي فيما وجب له واستحال عليه وجاز . قال ابن عباس : ما آمنوا أنه على كل شيء قدير . وقال الحسن : ما عظموه حق عظمته . وهذا يكون من قولهم : لفلان قدر . وشرح هذا أنهم لما قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء نسبوا الله عز وجل إلى أنه لا يقيم الحجة على عباده ، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح ; فلم يعظموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته . وقال أبو عبيدة : أي ما عرفوا الله حق معرفته . قال النحاس : وهذا معنى حسن ; لأن معنى قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره . ويدل عليه قوله تعالى : إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء أي لم يعرفوه حق معرفته ; إذ أنكروا أن يرسل رسولا . والمعنيان متقاربان . وقد قيل : وما قدروا نعم الله حق تقديرها . وقرأ أبو حيوة " وما قدروا الله حق قدره " بفتح الدال ، وهي لغة .إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قال ابن عباس وغيره : يعني مشركي قريش . وقال الحسن وسعيد بن جبير : الذي قاله أحد اليهود ، قال : لم ينزل الله كتابا من السماء . قال السدي : اسمه فنحاص . وعن سعيد بن جبير أيضا قال : هو مالك بن الصيف ، جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ؟ - وكان حبرا سمينا - فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء . فقال له أصحابه الذين معه : ويحك ! ولا على موسى ؟ فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء فنزلت الآية . ثم قال نقضا لقولهم وردا عليهم : " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس " أي في قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا هذا لليهود الذين أخفوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأحكام .قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى خطاب للمشركين .وقوله : " يجعلونه قراطيس " لليهود .وقوله وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم للمسلمين وهذا يصح على قراءة من قرأ " يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون " بالياء . والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود ، ويكون معنى وعلمتم ما لم تعلموا أي وعلمتم ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم على وجه المن عليهم بإنزال التوراة . وجعلت التوراة صحفا فلذلك قال قراطيس تبدونها أي تبدون القراطيس . وهذا ذم لهم ; ولذلك كره العلماء كتب القرآن أجزاء ." قل الله " أي قل يا محمد الله الذي أنزل ذلك الكتاب على موسى وهذا الكتاب علي . أو قل : الله علمكم الكتاب .ثم ذرهم في خوضهم يلعبون أي لاعبين ، ولو كان جوابا للأمر لقال يلعبوا . ومعنى الكلام التهديد . وقيل : هو من المنسوخ بالقتال ; ثم قيل : " يجعلونه " في موضع الصفة لقوله " نورا وهدى " فيكون في الصلة . ويحتمل أن يكون مستأنفا ، والتقدير : يجعلونه ذا قراطيس . وقوله : " يبدونها ويخفون كثيرا " يحتمل أن يكون صفة لقراطيس ; لأن النكرة توصف بالجمل . ويحتمل أن يكون مستأنفا حسبما تقدم .

القول في تأويل قوله : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: " وما قدروا الله حق قدره "، وما أجلُّوا الله حق إجلاله, ولا عظموه حق تعظيمه =" إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء "، يقول: حين قالوا: لم ينزل الله على آدميٍّ كتابًا ولا وحيًا. (1)* * *واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء "، وفي تأويل ذلك.فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلا من اليهود.* * *ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل.فقال بعضهم: كان اسمه: مالك بن الصيف.* * *وقال بعضهم: كان اسمه فنحاص.* * *واختلفوا أيضًا في السبب الذي من أجله قال ذلك.* * ** ذكر من قال: كان قائل ذلك: مالك بن الصيف.13535 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى, أما تجد في التوراة أن الله يُبْغِض الحَبْر السمين؟ وكان حبرًا سمينًا, فغضب فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا موسى! فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء ! فأنزل الله: " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى "، الآية .13536 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء "، قال: نزلت في مالك بن الصيف، كان من قريظة، من أحبار يهود =" قل " يا محمد مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، الآية .* * ** ذكر من قال: نزلت في فنحاص اليهوديّ.13537 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء "، قال: قال فنحاص اليهوديّ: ما أنزل الله على محمد من شيء!* * *وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى.* ذكر من قال ذلك:13538 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناسٌ من يهودَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ, فقالوا: يا أبا القاسم, ألا تأتينا بكتاب من السماء، كما جاء به موسى ألواحًا يحملها من عند الله؟ فأنزل الله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ، الآية[سورة النساء : 153]. فجثا رجل من يهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئًا! فأنزل الله: " وما قدروا الله حق قدره ". = قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله (2) = " إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا "، فحلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبْوته, وجعل يقول: " ولا على أحَدٍ". (3)13539 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء "، إلى قوله: فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ، هم اليهود والنصارى, قوم آتاهم الله علمًا فلم يقتدوا به، (4)ولم يأخذوا به، ولم يعملوا به, فذمهم الله في عملهم ذلك. ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إن من أكثر ما أنا مخاصَمٌ به غدًا أن يقال: يا أبا الدرداء، قد علمت, فماذا عملت فيما علمت ؟13540 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء "، يعني من بني إسرائيل، قالت اليهود: يا محمد، أنزل الله عليك كتابًا؟ قال: نعم! قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابًا! قال: فأنزل الله: " قل " يا محمد مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، إلى قوله : وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: الله أنزله .* * *وقال آخرون: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا: " ما أنزل الله على بشر من شيء " .* ذكر من قال ذلك:13541 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول: " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء "، قالها مشركو قريش. قال: وقوله: (قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلناسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا) ، (5) قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا. قال: وقوله: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: هذه للمسلمين.13542 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " وما قدروا الله حق قدره "، قال: هم الكفار، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم, فمن آمنَ أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حق قدره.13543 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " وما قدروا الله حق قدره "، يقول: مشركو قريش .* * *قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عني بقوله (6) " وما قدروا الله حق قدره "، مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا فأن يكون ذلك أيضًا خبرًا عنهم، أشبهُ من أن يكون خبرًا عن اليهود ولما يجر لهم ذكرٌ يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود, بل المعروف من دين اليهود: الإقرار بصُحُف إبراهيم وموسى، وزبور داود. وإذا لم يأت بما روي من الخبر، (7) بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبرٌ صحيح متصل السند = ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماعٌ = وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرًا عن المشركين من عبدة الأوثان = وكان قوله: " وما قدروا الله حق قدره "، موصولا بذلك غير مفصول منه = (8) لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل.ولكني أظن أن الذين تأوّلوا ذلك خبرًا عن اليهود, وجدوا قوله: " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم "، فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة, فقرءوه على وجه الخطاب لهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، (9) فجعلوا ابتداء الآية خبرًا عنهم, إذ كانت خاتمتها خطابًا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل, لما وصفت قبل من أن قوله: " وما قدروا الله حق قدره "، في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل, فالأولى أن يكون ذلك خبرًا عنهم .والأصوب من القراءة في قوله: (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا)، أن يكون بالياء لا بالتاء, على معنى: أنّ اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا, ويكون الخطاب بقوله : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ ، لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك, وكذلك كان يقرأ.13544 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف: (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا).* * *القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا(10) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " قل "، يا محمد، لمشركي قومك القائلين لك: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ = قل: " من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا "، يعني: جلاءً وضياء من ظلمة الضلالة (11) =" وهدى للناس "، يقول: بيانًا للناس, يبين لهم به الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم (12) =" تجعلونه قراطيس تبدونها ".* * *فمن قرأ ذلك: (تَجْعَلُونَهُ) ، جعله خطابًا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك.* * *ومن قرأه بالياء: (يَجْعَلُونَهُ)، فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس, وجرى الكلام في" يبدونها " بذكر " القراطيس ", والمراد منه المكتوب في القراطيس, يراد: يبدون كثيرًا مما يكتبون في القراطيس فيظهارونه للناس، ويخفون كثيرًا مما يثبتونه في القراطيس فيسرُّونه ويكتمونه الناس. (13)* * *ومما كانوا يكتمونه إياهم، ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، كالذي:-13545 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا "، اليهود.13546 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: " قل " يا محمد " من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها "، يعني يهود، لما أظهروا من التوراة =" ويخفون كثيرًا "، مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه = قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول: " يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا "، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا.* * *القول في تأويل قوله : وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلمكم الله جل ثناؤه بالكتاب الذي أنزله إليكم، (14) ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم، ومن أنباء من بعدكم، وما هو كائن في معادكم يوم القيامة =" ولا آباؤكم "، يقول: ولم يعلمه آباؤكم، أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم، كالذي:-13547 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد: " وعلمتم "، معشرَ العرب " ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ".13548 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول في قوله: " وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم "، قال: هذه للمسلمين .* * *وأما قوله: " قل الله "، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجيبَ استفهامَه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله: " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا "، (15) بقيل الله، (16) كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، [سورة الأنعام : 63]. (17) فأمره باستفهام المشركين عن ذلك, كما أمره باستفهامهم إذ قالوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، عمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس. ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [سورة الأنعام : 64] ، كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله: الله أنزله على موسى، كما:-13549 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، قال: الله أنزله. (18)* * *ولو قيل: معناه: " قل: هو الله "، على وجه الأمر من الله له بالخبر عن ذلك = لا على وجه الجواب، إذ لم يكن قوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم, فيكون قوله: " قل الله "، جوابًا لهم عن مسألتهم, وإنما هو أمرٌ من الله لمحمد بمسألة القوم: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ ؟ فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله = كان جائزًا، (19) من أجل أنه استفهام, ولا يكون للاستفهام جوابٌ، وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا.* * *وأما قوله: " ثم ذرهم في خوضهم يلعبون "، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم ذَرْ هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام، (20) بعد احتجاجك عليهم في قيلهم: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، بقولك: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، وإجابتك ذلك بأن الذي أنزله: الله الذي أنزل عليك كتابه =" في خوضهم "، يعني: فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته (21) =" يلعبون "، يقول: يستهزئون ويسخرون. (22)* * *وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهدُّد لهم: يقول الله جل ثناؤه: ثم دعهم لاعبين، يا محمد. فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد، وأذيقهم بأسي, وأحلّ بهم إن تمادوا في غَيِّهم سَخَطي. (23)* * *--------------------الهوامش :(1) انظر تفسير"بشر" فيما سلف 6: 538/10 : 152.(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ما علموا كيف الله" ، هكذا ، وهو تعبير غريب جدًا أكاد أستنكره ، وأخشى أن يكون تحريفًا ، وهو تفسير للآية ، أي: "قدروا الله".(3) الأثر: 13538 - هذا الخبر لم يذكر في تفسير الآية من سورة النساء 9: 356 - 358 ، وهذا من وجوه اختصار أبي جعفر تفسيره.(4) في المطبوعة: "فلم يهتدوا" ، وأثبت ما في المخطوطة.(5) هذه إحدى القراءتين في الآية بالياء فيها جميعا"يجعلونه" ، "يبدونها" ، "يخفون" ، وهي غير قراءتنا في مصحفنا ، وسيذكرها أبو جعفر فيما يلي.(6) في المطبوعة والمخطوطة: "عني بذلك" ، والسياق يقتضي ما أثبت.(7) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا لم يكن بما روى هذا الخبر" ، وهو كلام غير مستقيم ، صوابه ما أثبت إن شاء الله - أي: "وإذا لم يأت بما روى . . . خبر صحيح".(8) السياق: "وإذا لم يأت بما روى . . . خبر صحيح . . .ولا كان . . . وكان الخبر. . . وكان قوله .. . . لم يجز" ، كل ذلك عطوف متتابعة ، وجواب"وإذ لم يأت" قوله: "لم يجز".(9) هذه القراءة الثانية للآية ، وهي قراءتنا اليوم في مصحفنا.(10) أثبت الآية على قراءتنا في مصحفنا ، وإن كان تفسير أبي جعفر بعد على القراءة الأخرى. فليتنبه قارئ التفسير إلى موضع الخلاف كما حرره أبو جعفر ، ص: 524 ، 525.(11) انظر تفسير"النور" فيما سلف 10: 338 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.(12) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى).(13) انظر تفسير"القرطاس" فيما سلف ص365: 366.(14) في المطبوعة والمخطوطة: "الكتاب" بغير باء الجر ، والصواب إثباتها ، فإن مفعول"علمكم" ، هو: "ما لم تعلموا".(15) هذه القراءة الأخرى التي اختارها أبو جعفر ، فتركت تفسيره على حاله ، لئلا يختلط الكلام على قارئه.(16) قوله"بقيل الله" متعلق بقوله"أن يجيب . . .".(17) وتركت هذه الآية أيضًا على قراءة أبي جعفر التي اختارها"لئن أنجيتنا" ، كما سلف ص: 414 ، وأما قراءتنا في مصحفنا: "لئن أنجانا". وانظر ما مضى في ترجيح أبي جعفر أولى القراءتين على الأخرى.(18) الأثر: 13549 - هذا مختصر الأثر السالف رقم: 13540.(19) قوله: "كان جائزًا" ، جواب قوله آنفًا"ولو قيل: معناه . . ." ، وما بينهما فصل.(20) انظر تفسير"ذر" فيما سلف ص: 441 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.(21) انظر تفسير"الخوض" فيما سلف 9: 320/11 : 436 .(22) انظر تفسير"اللعب" فيما سلف ص: 441 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.

وجود واو العطف في صدر هذه الجملة ينادي على أنّها نزلت متناسقة مع الجمل الّتي قبلها ، وأنّها وإيّاها واردتان في غرض واحد هو إبطال مزاعم المشركين ، فهذا عطف على جملة { فإن يكفر بها هؤلاء } [ الأنعام : 89 ] ، وأنّها ليست ابتدائيّة في غرض آخر . فواو الضّمير في قوله { قدروا } عائد على ما عاد إليه اسم الإشارة في قوله : { هؤلاء } [ الأنعام : 89 ] كما علمت آنفاً . ذلك أنّ المشركين لمّا استشعروا نهوض الحجّة عليهم في نزول القرآن بأنّه ليس بِدعاً ممّا نزل على الرّسل ، ودحضَ قولهم : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً } [ الفرقان : 7 ] توغّلوا في المكابرة والجحود فقالوا { ما أنزل الله على بشر من شيء } وتجاهلوا ما كانوا يقولونه عن إبراهيم عليه السّلام وما يعلمونه من رسالة موسى عليه السلام وكتابه . فروى الطبري عن ابن عبّاس ومجاهد : أنّ قائل ذلك هم المشركون من قريش .وقد جاءت هذه الآية في هذا الموقع كالنتيجة لما قبلها من ذكر الأنبياء وما جاءوا به من الهدى والشّرائع والكتب ، فلا جرم أنّ الّذين قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، قد جاءوا إفكاً وزوراً وأنكروا ما هو معلوم في أجيال البشر بالتّواتر . وهذه الجملة مثل ما حكاه الله عنهم في قوله : { وقال الّذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالّذي بين يديه } [ سبأ : 31 ]. ومن أئمّة التّفسير من جعل هذا حكاية لقول بعض اليهود ، واختلفوا في أنّه معيّن أو غير معيّن ، فعن ابن عبّاس أيضاً ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، والسديّ : أنّ قائل { ما أنزل الله على بشر من شيء } بعض اليهود وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة أنّ قائل ذلك مالك بن الصيف القُرظي وكان من أحبار اليهود بالمدينة ، وكان سميناً وأنّه جاء يخاصم النّبيء صلى الله عليه وسلم فقال له النّبيء « أنشدك بالّذي أنزل التّوراة على موسى أمَا تجد في التّوراة أنّ الله يبغض الحَبر السمين » فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء . وعن السُدّي : أنّ قائله فِنْحاص اليهودي . ومحمل ذلك كلّه على أنّ قائل ذلك منهم قاله جهلاً بما في كتبهم فهو من عامّتهم ، أو قاله لجاجاً وعِناداً . وأحسب أنّ هذه الرّوايات هي الّتي ألجأت رواتها إلى ادّعاء أنّ هذه الآيات نزلت بالمدينة ، كما تقدّم في الكلام على أوّل هذه السورة .وعليه يكون وقع هذه الآيات في هذا الموقع لمناسبة قوله : { أولئك الّذين آتيناهم الكتاب } [ الأنعام : 89 ] الآية ، وتكون الجملة كالمعترضة في خلال إبطال حجاج المشركين . وحقيقة { قدروا } عيَّنوا القَدْر وضَبطوه أي ، عَلّموه عِلماً عن تحقّق .والقَدْر بفتح فسكون مقياسُ الشيء وضابطه ، ويستعمل مجازاً في عِلم الأمر بكُنهه وفي تدبير الأمر .يقال : قَدَر القومُ أمرهم يقدُرونه بضمّ الدّالّ في المضارع ، أي ضبطوه ودبَّروه . وفي الحديث قول عائشة : « فاقدُروا قدْرَ الجاريةِ الحديثة السنّ » وهو هنا مجاز في العلم الصّحيح ، أي ما عرفوا الله حقّ معرفته وما علموا شأنه وتصرّفاته حقّ العلم بها ، فانتصب { حقّ } على النّيابة عن المفعول المطلق لإضافته إلى المصدر وهو { قَدْرِه } ، والإضافة هنا من إضافة الصّفة إلى الموصوف . والأصل : ما قدروا الله قَدْرَه الحَقّ .و { إذ قالوا } ظرف ، أي ما قدروه حين قالوا { ما أنزل الله } لأنّهم لمّا نفوا شأناً عظيماً من شؤون الله ، وهو شأن هديه النّاس وإبلاغهم مرادَه بواسطة الرّسل ، قد جهلوا ما يفضي إلى الجهل بصفة من صفات الله تعالى الّتي هي صفة الكلام ، وجهلوا رحمته للنّاس ولطفه بهم .ومقالهم هذا يعمّ جميعَ البشر لوقوع النكرة في سياق النّفي لِنفي الجنس ، ويَعمّ جميعَ ما أنزل باقترانه ب { منْ } في حيز النّفي للدّلالة على استغراق الجنس أيضاً ، ويعمّ إنزالَ الله تعالى الوحيَ على البشر بنفي المتعلِّق بهذين العمومين .والمراد ب { شيء } هنا شيء من الوحي ، ولذلك أمر الله نبيّه بأن يُفْحمهم باستفهاممِ تقريرٍ وإلجاءٍ بقوله : { مَن أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى } فذكَّرهم بأمر لا يستطيعون جحده لتواتره في بلاد العرب ، وهو رسالة موسى ومجيئه بالتّوراة وهي تدرس بين اليهود في البلد المجاور مكّة ، واليهودُ يتردّدون على مكّة في التّجارة وغيرها ، وأهل مكّة يتردّدون على يثرب وما حولها وفيها اليهود وأحبارهم ، وبهذا لم يذكِّرهم الله برسالة إبراهيم عليه السّلام لأنّهم كانوا يجهلون أنّ الله أنزل عليه صُحفاً فكان قد يتطرّقه اختلاف في كيفية رسالته ونبوءته . وإذا كان ذلك لا يسع إنكاره كما اقتضاه الجواب آخِرَ الآية بقوله : { قل الله } فقد ثبت أنّ الله أنزل على أحدٍ من البشر كتاباً فانتقض قولهم : { ما أنزل الله على بشر من شيء } على حسب قاعدة نقض السالبة الكليّة بموجبة جزئيّة . وافتتح بالأمر بالقول للاهتمام بهذا الإفحام ، وإلاّ فإنّ القرآن كلّه مأمور النّبيء صلى الله عليه وسلم بأن يقوله .والنّور : استعارة للوضوح والحقّ ، فإنّ الحقّ يشبّه بالنّور ، كما يشبّه الباطل بالظلمة . قال أبو القاسم عليّ التنّوخي: ... وكأنّ النّجومَ بين دُجاهاسُنَن لاَحَ بينهنّ ابتِدَاعُ ... ولذلك عطف عليه { هدى }.ونظيره قوله في سورة المائدة ( 44 ) { إنّا أنزلنا التّوراة فيها هُدَى ونور . ولو أطلق النّور على سبب الهدى لصحّ لولا هذا العطف ، كما قال تعالى عن القرآن ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } [ الشورى : 52 ]. وقد انتصب { نوراً } على الحال .والمراد بالنّاس اليهود ، أي ليهديهم ، فالتّعريف فيه للاستغراق ، إلاّ أنّه استغراق عرفي ، أي النّاس الّذين هم قومه بنو إسرائيل .وقوله : { تجعلونه قراطيس } يجوز أن يكون صفة سببيّة للكتاب ، ويجوز أن يكون مُعترضاً بين المتعاطفات .قرأ { تجعلونه وتبدون وتخفون } بتاء الخطاب مَن عدا ابنَ كثير ، وأبَا عمرو ، ويعقوب ، من العشرة ، فإمّا أن يكون الخطاب لغير المشركين إذ الظاهر أن ليس لهم عمل في الكتاب الذي أنزل على موسى ولا باشروا إبداء بعضه وإخفاء بعضه فتعيّن أن يكون خطاباً لليهود على طريقة الإدماج ( أي الخروج من خطاب إلى غيره ) تعريضاً باليهود وإسماعاً لهم وإن لم يكونوا حاضرين من باب إياكَ أعنِي واسمَعي يا جارة ، أو هو التفات من طريق الغيبة الّذي هو مقتضى المقام إلى طريق الخطاب . وحقّه أن يقال يجعلونه بياء المضارع للغائب كما قرأ غير هؤلاء الثّلاثة القرّاء . وإمّا أن يكون خطاباً للمشركين . ومعنى كونهم يجعلون كتابَ موسى قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها أنّهم سألوا اليهود عن نبوءة محمّد صلى الله عليه وسلم فقرأوا لهم ما في التّوراة من التمسّك بالسبتتِ ، أي دين اليهود ، وكتموا ذكر الرّسول صلى الله عليه وسلم الّذي يأتي من بعدُ ، فأسند الإخفاء والإبداءُ إلى المشركين مجازاً لأنّهم كانوا مظهراً من مظاهر ذلك الإخفاء والإبداء . ولعلّ ذلك صدر من اليهود بعد أن دخل الإسلام المدينة وأسلم مَن أسلم من الأوس والخزرج ، فعلم اليهود وبال عاقبة ذلك عليهم فأغروا المشركين بما يزيدهم تصميماً على المعارضة . وقد قدّمتُ ما يرجّح أنّ سورة الأنعام نزلت في آخر مدّة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة ، وذلك يوجب ظننّا بأنّ هذه المدّة كانت مبدأ مداخلة اليهود لقريش في مقاومة الدّعوة الإسلاميّة بمكّة حين بلغت إلى المدينة .قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب { يجعلونه ، ويُبدونها ، ويخفون } بالتحتيّة فتكون ضمائرُ الغيبة عائدة إلى معروف عند المتكلّم ، وهم يهود الزّمان الّذين عُرفوا بذلك .والقراطيس جمع قرطاس . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس } في هذه السّورة [ 7 ]. وهو الصحيفة من أي شيء كانت من رَقّ أو كَاغِد أو خرقة . أي تجعلون الكتاب الّذي أنزل على موسى أوراقاً متفرّقة قصداً لإظهار بعضها وإخفاء بعض آخر .وقوله : تبدونها وتخفون كثيراً } صفة لقراطيس ، أي تبدون بعضها وتخفون كثيراً منها ، ففهم أنّ المعنى تجعلونه قراطيس لغرض إبداء بعض وإخفاء بعض .وهذه الصّفة في محلّ الذمّ فإنّ الله أنزل كتبه للهُدى ، والهدى بها متوقّف على إظهارها وإعلانها ، فمن فرّقها ليظهر بعضاً ويخفي بعضاً فقد خالف مراد الله منها . فأمّا لو جعلوه قراطيس لغير هذا المقصد لما كان فعلهم مذموماً ، كما كتب المسلمون القرآن في أجزاء منفصلة لقصد الاستعانة على القراءة ، وكذلك كتابة الألواح في الكتاتيب لمصلحة .وفي «جامع العُتبية» في سماع ابن القاسم عن مالك { سُئل مالك رحمه الله عن القرآن يُكتب أسداساً وأسباعاً في المصاحف ، فكره ذلك كراهيةً شديدة وعابها وقال لا يفرّق القرآن وقد جمعه الله وهؤلاء يفرّقونه ولا أرى ذلك اه .قال ابن رشد في البيان والتّحصيل } : القرآن أنزل إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء حتّى كَمُل واجتمع جملة واحدة فوجب أن يحافظ على كونه مجموعاً ، فهذا وجه كراهيّة مالك لتفريقه اه .قلْت : ولعلّه إنّما كره ذلك خشية أن يكون ذلك ذريعة إلى تفرّق أجزاء المصحف الواحد فيقع بعضها في يد بعض المسلمين فيظنّ أنّ ذلك الجزء هو القرآن كلّه ، ومعنى قول مالك : وقد جمعه الله ، أنّ الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعه بعد أن نزل منجّماً ، فدلّ ذلك على أنّ الله أراد جمعه فلا يفرّق أجزاء . وقد أجاز فقهاء المذهب تجْزئة القرآن للتعلّم ومسّ جزئه على غير وضوء ، ومنه كتابته في الألواح .وقوله : { وعُلّمتم ما لم تعلموا } في موضع الحال من كلام مقدّر دلّ عليه قوّة الاستفهام لأنّه في قوّة أخبروني ، فإنّ الاستفهام يتضمّن معنى الفعل .ووقوع الاستفهام بالاسم الدّال على طلب تعيين فاعل الإنزالَ يقوّي معنى الفعل في الاستفهام إذ تضمّن اسم الاستفهام فعلاً وفاعلاً مستفهماً عنهما ، أي أخبروني عن ذلك وقَد علّمكم الله بالقرآن الّذي أنكرتم كونه من عند الله ، احتججتم على إنكار ذلك بنفي أن ينزل الله على بشر شيئاً ، ولو أنصفتم لوجدتم وإمارة نزوله من عند الله ثابتة فيه غير محتاج معها للاستدلال عليه . وهذا الخطاب أشدّ انطباقاً على المشركين لأنّهم لم يكونوا عالمين بأخبار الأنبياء وأحوال التّشريع ونظامه فلمّا جاءهم محمّد عليه الصّلاة والسّلام عَلم ذلك من آمَن علماً راسخاً ، وعلم ذلك من بقي على كفره بما يحصل لهم من سماع القرآن عند الدّعوة ومن مخالطيهم من المسلمين ، وقد وصفهم الله بمثل هذا في آيات أخرى ، كقوله تعالى : { تلك من أنباء الغيب نوحِيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } [ هود : 49 ].ويجوز أن تكون جملة : { وعُلّمتم } عطفاً على جملة : { أنْزَل الكتاب } على اعتبار المعنى كأنّه قيل : وعلّمكم ما لم تعلموا . ووجه بناء فعل { عُلّمتم } للمجهول ظهور الفاعل ، ولأنّه سيقول { قُل الله }.فإذا تأوّلنا الآية بما روي من قصّة مالك بن الصّيف المتقدّمة فالاستفهام بقوله { مَن أنزل الكتاب } تقريري ، إمّا لإبطال ظاهر كلامهم من جحد تنزيل كتاب على بشر ، على طريقة إفحام المناظر بإبداء ما في كلامه من لوازم الفساد ، مثل فساد اطّراد التّعريف أو انعكاسه ، وإمّا لإبطال مقصودهم من إنكار رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم بطريقة الإلزام لأنّهم أظهروا أنّ رسالة محمّد عليه الصلاة والسلام كالشيء المحال فقيل لهم على سبيل التّقرير { من أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى } ولا يسعهم إلاّ أن يقولوا : الله ، فإذا اعترفوا بذلك فالّذي أنزل على موسى كتاباً لم لا ينزل على محمّد مِثله ، كما قال تعالى :{ أم يحسدون النّاس على ما آتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] الآية .ثمّ على هذا القول تكون قراءة : { تجعلونه قراطيس } بالفوقيّة جارية على الظاهر ، وقراءتُه بالتّحتيّة من قبيل الالتفات . ونكتته أنّهم لمّا أخبر عنهم بهذا الفعل الشّنيع جُعلوا كالغائبين عن مقام الخطاب .والمخاطب بقوله : { وعُلّمتم } على هذا الوجه هم اليهود ، فتكون الجملة حالاً من ضمير { تجعلونه } ، أي تجعلونه قراطيس تخفون بعضها في حال أنّ الله علّمكم على لسان محمّد ما لم تكونوا تعلمون ، ويكون ذلك من تمام الكلام المعترض به .ويجيء على قراءة { يجعلونه قراطيس } بالتّحتيّة أن يكون الرّجوع إلى الخطاب بعد الغيبة التفاتاً أيضاً . وحسّنه أنّه لمّا أخبر عنهم بشيء حَسن عَادَ إلى مقام الخطاب ، أو لأنّ مقام الخطاب أنسب بالامتنان .واعلم أنّ نظم الآية صالح للردّ على كلا الفريقين مراعاة لمقتضى الروايتين . فعلى الرّواية الأولى فواو الجماعة في «قدروا وقالوا» عائدة إلى ما عاد إليه إشارة هؤلاء ، وعلى الرّواية الثّانية فالواو واو الجماعة مستعملة في واحد معيّن على طريقة التّعريض بشخص من باب " مَا بالُ أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله " ، وذلك من قبيل عود الضّمير على غير مذكور اعتماداً على أنّه مستحضر في ذهن السامع .وقوله : { قل الله } جواب الاستفهام التّقريري . وقد تولّى السائل الجواب لنفسه بنفسه لأنّ المسؤول لا يسعه إلاّ أن يجيب بذلك لأنّه لا يقدر أن يكابر ، على ما قرّرتُه في تفسير قوله تعالى : { قل لمن ما في السّماوات والأرض قل لله } في هذه السّورة [ 12 ].والمعنى قل الله أنزل الكتاب على موسى . وإذا كان وعُلّمتم ما لم تعلموا } معطوفاً على جملة { أنزل } كان الجواب شاملاً له ، أي الله علّمكم ما لم تعلموا فيكون جواباً عن الفعل المسند إلى المجهول بفعل مسند إلى المعلوم على حدّ قول ضرار بن نهشل أو الحارث النهشلي يرثي أخاه يزيد: ... ليُبْكَ يزيد ضارع لخصومةومختبط ممّا تُطيح الطَّوائح ... كأنّه سئل من يَبكيه فقال : ضارع .وعطف { ثمّ ذرّهم في خوضهم يلعبون } بثمّ للدّلالة على التّرتيب الرتبي ، أي أنّهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلّة فَتَرْكُهم وخَوْضهم بعد التّبليغ هو الأولى ولكن الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم .وقوله : { في خوضهم } متعلّق ب { ذرهم }.وجملة { يلعبون } حال من ضمير الجمع . وتقدّم القول في «ذر» في قوله تعالى : { وذر الّذين اتّخذوا دينهم } [ الأنعام : 70 ].والخوض تقدّم في قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ]. واللّعب تقدّم في { وذر الّذين اتّخذوا دينهم لعباً } في هذه السّورة [ 70 ].
الآية 91 - سورة الأنعام: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ۗ قل من أنزل الكتاب الذي...)