سورة الأنعام: الآية 35 - وإن كان كبر عليك إعراضهم...

تفسير الآية 35, سورة الأنعام

وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقًا فِى ٱلْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِى ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُم بِـَٔايَةٍ ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ

الترجمة الإنجليزية

Wain kana kabura AAalayka iAAraduhum faini istataAAta an tabtaghiya nafaqan fee alardi aw sullaman fee alssamai fatatiyahum biayatin walaw shaa Allahu lajamaAAahum AAala alhuda fala takoonanna mina aljahileena

تفسير الآية 35

وإن كان عَظُمَ عليك -أيها الرسول- صدود هؤلاء المشركين وانصرافهم عن الاستجابة لدعوتك، فإن استطعت أن تتخذ نفقًا في الأرض، أو مصعدًا تصعد فيه إلى السماء، فتأتيهم بعلامة وبرهان على صحة قولك غير الذي جئناهم به فافعل. ولو شاء الله لَجَمعهم على الهدى الذي أنتم عليه ووفَّقهم للإيمان، ولكن لم يشأ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه، فلا تكونن -أيها الرسول- من الجاهلين الذين اشتد حزنهم، وتحسَّروا حتى أوصلهم ذلك إلى الجزع الشديد.

«وإن كان كبر» عظم «عليك إعراضهم» عن الإسلام لحرصك عليهم «فإن استطعت أن تبتغى نفقا» سربا «في الأرض أو سلَّما» مصعدا «في السماء فتأتيهم بآية» مما اقترحوا فافعل، المعنى أنك لا تستطيع ذلك فاصبر حتى يحكم الله، «ولو شاء الله» هدايتهم «لجمعهم على الهدى» ولكن لو لم يشأ ذلك فلم يؤمنوا «فلا تكوننَّ من الجاهلين» بذلك.

وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ أي: شق عليك، من حرصك عليهم، ومحبتك لإيمانهم، فابذل وسعك في ذلك، فليس في مقدورك، أن تهدي من لم يرد الله هدايته. فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي: فافعل ذلك، فإنه لا يفيدهم شيئا، وهذا قطع لطمعه في هدايته أشباه هؤلاء المعاندين. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ولكن حكمته تعالى، اقتضت أنهم يبقون على الضلال. فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ الذين لا يعرفون حقائق الأمور، ولا ينزلونها على منازلها.

ثم قال تعالى : ( وإن كان كبر عليك إعراضهم ) أي : إن كان شق عليك إعراضهم عنك ( فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : النفق : السرب ، فتذهب فيه ( فتأتيهم بآية ) أو تجعل لك سلما في السماء فتصعد فيه فتأتيهم بآية أفضل مما آتيتهم به ، فافعل .وكذا قال قتادة والسدي ، وغيرهما .وقوله : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) كما قال تعالى : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا [ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ] ) [ يونس : 99 ] ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبر الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول .

ثم بين- سبحانه- أنه لا سبيل إلى إيمان هؤلاء الجاحدين إلا بمشيئة الله وإرادته فقال وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ.كبر عليك: أى شق وعظم عليك. والنفق: السرب النافذ في الأرض الذي يخلص إلى مكان.والمعنى: وإن كان- يا محمد- قد شق عليك إعراض قومك عن الإيمان وظننت أن إتيانهم بما اقترحوه من آيات يكون سببا في إيمانهم، فإن استطعت أن تطلب مسلكا عميقا في جوف الأرض، أو مرقاة ترتقى بها إلى السماء لتأتيهم بما اقترحوا من مطالب فافعل فإن ذلك لن يفيد شيئا لأن هؤلاء المشركين لا ينقصهم الدليل الدال على صدقك، ولكنهم يعرضون عن دعوتك عنادا وجحودا.ثم قال- تعالى- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ.أى: لو شاء الله جمعهم على ما جئت به من الهدى والرشاد لفعل، بأن يوفقهم إلى الإيمان فيؤمنوا، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنهم بسوء اختيارهم آثروا الحياة الدنيا، فلا تكونن من الجاهلين بحكمة الله في خلقه، وبسننه التي اقتضاها علمه.

( وإن كان كبر عليك إعراضهم ) أي : عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص ، وكانوا إذ سألوا آية أحب أن يريهم الله تعالى ذلك طمعا في إيمانهم ، فقال الله عز وجل : ( فإن استطعت أن تبتغي نفقا ) تطلب وتتخد نفقا سربا ( وفي الأرض ) ومنه نافقاء اليربوع ، وهو أحد جحريه فيذهب فيه ، ( أو سلما ) أي : درجا ومصعدا ، ( في السماء ) فتصعد فيه ، ( فتأتيهم بآية ) فافعل ، ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) فآمنوا كلهم ، ( فلا تكونن من الجاهلين ) أي : بهذا الحرف ، وهو قوله : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) وأن من يكفر لسابق علم الله فيه .

قوله تعالى : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلينقوله تعالى : وإن كان كبر عليك إعراضهم أي : عظم عليك إعراضهم وتوليهم عن الإيمان . فإن استطعت قدرت أن ( تبتغي ) تطلب نفقا في الأرض أي : سربا تخلص منه إلى مكان آخر ، ومنه النافقاء لجحر اليربوع ، وقد تقدم في " البقرة " بيانه ، ومنه المنافق . وقد تقدم . أو سلما معطوف عليه ، أي : سببا إلى السماء ; وهذا تمثيل ; لأن السلم الذي يرتقى عليه سبب إلى الموضع ، وهو مذكر ، ولا يعرف ما حكاه الفراء من تأنيث العلم . قال قتادة : السلم الدرج . الزجاج : وهو مشتق من السلامة كأنه يسلمك إلى الموضع الذي تريد . فتأتيهم بآية عطف عليه أي : ليؤمنوا فافعل ; فأضمر الجواب لعلم السامع . أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يشتد حزنه عليهم إذا كانوا لا يؤمنون ; كما أنه لا يستطيع هداهم . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أي : لخلقهم مؤمنين وطبعهم عليه ; بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله رد على القدرية . وقيل المعنى : أي : لأراهم آية تضطرهم إلى الإيمان ، ولكنه أراد عز وجل أن يثيب منهم من آمن ومن أحسن . فلا تكونن من الجاهلين أي : من الذين اشتد حزنهم وتحسروا حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد ، وإلى ما لا يحل ; أي : لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين . وقيل : الخطاب له والمراد الأمة ; فإن قلوب المسلمين كانت تضيق من كفرهم وإذايتهم .

القول في تأويل قوله : وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن كان عظم عليك، يا محمد، إعراض هؤلاء المشركين عنك، وانصرافهم عن تصديقك فيما جئتهم به من الحق الذي بعثتُك به, فشقَّ ذلك عليك، ولم تصبر لمكروه ما ينالك منهم (33) =" فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض " ، يقول: فإن استطعت أن تتَّخذ سَرَبا في الأرض مثلَ نَافِقاء اليَرْبُوع, وهي أحد جِحَرِته فتذهب فيه (34) =" أو سُلمًا في السماء " ، يقول: أو مصعدًا تصعد فيه، كالدَّرَج وما أشبهها, كما قال الشاعر: (35)لا تُحْرِزُ الْمَرْءُ أَحْجَاءُ البِلادِ, وَلايُبْنَى لَهُ فِي السَّمَاوَاتِ السَّلالِيم (36)=" فتأتيهم بآية " ، منها = يعني بعلامةٍ وبرهان على صحة قولك، (37) غير الذي أتيتك = فافعل. (38)* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك: قال بعض أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:13201 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء "، و " النفق " السَّرب, فتذهب فيه =" فتأتيهم بآية ", أو تجعل لك سلَّمًا في السماء, (39) فتصعد عليه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به، فافعل .13202 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض " ، قال: سَرَبًا =" أو سلمًا في السماء " ، قال: يعني الدَّرَج .13203 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء " ، أما " النفق " فالسرب, وأما " السلم " فالمصعد.13204- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: " نفقًا في الأرض " ، قال: سربًا .* * *وتُرِك جواب الجزاء فلم يذكر، لدلالة الكلام عليه، ومعرفة السامعين بمعناه. وقد تفعل العرب ذلك فيما كان يُفهم معناه عند المخاطبين به, فيقول الرجل منهم للرجل: " إن استطعت أن تنهض معنا في حاجتنا، إن قدرت على مَعُونتنا ", ويحذف الجواب, وهو يريد: إن قدرت على معونتنا فافعل. فأما إذا لم يعرف المخاطب والسامع معنى الكلام إلا بإظهار الجواب، لم يحذفوه. لا يقال: " إن تقم ", فتسكت وتحذف الجواب، لأن المقول ذلك له لا يعرف جوابه إلا بإظهاره, حتى يقال: " إن تقم تصب خيرًا ", أو: " إن تقم فحسن ", وما أشبه ذلك. (40) ونظيرُ ما في الآية مما حذف جَوَابه وهو مراد، لفهم المخاطب لمعنى الكلام قول الشاعر: (41)فَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ, وَلا تَذْهَبْ بِكِ التُّرَّهَاتُ فِي الأهْوَالِ (42)والمعنى: فبحظٍّ مما نعيش فعيشي. (43)* * *القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يكذبونك من هؤلاء الكفار، يا محمد، فيحزنك تكذيبهم إياك, لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدِّين، وصوابٍ من محجة الإسلام، حتى تكون كلمة جميعكم واحدة، وملتكم وملتهم واحدة, لجمعتهم على ذلك, ولم يكن بعيدًا عليَّ، لأنّي القادرُ على ذلك بلطفي, ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي، ونافذ قضائي فيهم، من قبل أن أخلقهم وأصوِّر أجسامهم =" فلا تكونن " ، يا محمد،" من الجاهلين "، يقول: فلا تكونن ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجَمع على الهدى جميع خلقه بلطفه, (44) وأنَّ من يكفر به من خلقه إنما يكفر به لسابق علم الله فيه، ونافذ قضائه بأنه كائنٌ من الكافرين به اختيارًا لا إضطرارًا, فإنك إذا علمت صحة ذلك، لم يكبر عليك إعراضُ من أعرض من المشركين عما تدعُوه إليه من الحق، وتكذيبُ من كذَّبك منهم .* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل .* ذكر من قال ذلك:13205 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنى معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين.* * *قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، الدلالةُ الواضحة على خطإ ما قال أهل التَّفْويض من القدريّة، (45) المنكرون أن يكون عند الله لطائف لمن شاءَ توفيقه من خلقه, يلطفُ بها له حتى يهتدِيَ للحقّ, فينقاد له، وينيبَ إلى الرشاد فيذعن به ويؤثره على الضلال والكفر بالله. وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه لو شاءَ الهداية لجميع من كفر به، حتى يجتمعوا على الهدى، فعلَ. ولا شك أنه لو فعل ذلك بهم، كانوا مهتدين لا ضلالا. وهم لو كانوا مهتدين، كان لا شك أنّ كونهم مهتدين كان خيرًا لهم. وفي تركه تعالى ذكره أن يجمعهم على الهدى، تركٌ منه أن يفعل بهم في دينهم بعض ما هو خيرٌ لهم فيه، مما هو قادر على فعله بهم، وقد ترك فعله بهم. وفي تركه فعل ذلك بهم، أوضحُ الدليل أنه لم يعطهم كل الأسباب التي بها يصلون إلى الهداية، ويتسبّبون بها إلى الإيمان.* * *---------------الهوامش :(33) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف ص: 262 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.(34) انظر تفسير"ابتغى" فيما سلف 10: 394 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.(35) هو تميم بن أبي بن مقبل.(36) من قصيدة له جيدة ، نقلها قديمًا ، والبيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 190 ، وشرح شواهد المغني: 227 ، واللسان (سلم) (حجا) ، وغيرها ، وقبل البيت ، وهي أبيات حسان:إنْ يَنْقُصِ الدّهْرُ مِنِّي، فالفَتَى غَرَضٌلِلدَّهْرِ، من عَوْدهِ وَافٍ وَمَثْلُومُوَإنْ يَكُنْ ذَاكَ مِقْدَارًا أُصِبْتُ بِهِفَسِيرَة الدَّهْرِ تَعْوِيجٌ وتَقْويمُمَا أطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أَن الفَتَى حَجَرٌتَنْبُو الحَوَادِثَ عَنْهُ وهو مَلْمُومُلا يمنع المرءَ أنصارٌ وَرَابيةٌتَأْبَى الهَوَانَ إذَا عُدَّ الجَرَاثِيمُلا يُحْرِزُ المَرْءَ . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . .و"أحجاه البلاد": نواحيها وأطرافها. ويروى"أعناء البلاد" ، وهو مثله في المعنى.(37) انظر تفسير"آية" فيما سلف في فهرس اللغة (أيي).(38) قوله: "فافعل" ، أي: "إن استطعت أن تبتغي نفقًا . . . فافعل".(39) في المخطوطة: "تجعل لهم سلمًا" ، والجيد ما في المطبوعة.(40) انظر معاني القرآن للفراء 1: 331 ، 332.(41) هو عبيد بن الأبرص.(42) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 3: 284. وكان البيت في المخطوطة على الصواب كما أثبته ، وإن كان غير منقوط. أما المطبوعة ، فكان فيها هكذا.فتحطْ مما يعش ولا تذهببك التُرهّات في الأهوالأساء قراءة المخطوطة ، وحرفه.(43) في المطبوعة: "والمعنى: فتحط مما يعش فيعشى" ، وهو خطأ ، صوابه في المخطوطة.(44) انظر تفسير"الجاهل" فيما سلف 2: 182 ، وتفسير"جهالة" 8: 88 - 92.(45) "أهل التفويض": هم الذين يقولون: إن الأمر فوض إلى الإنسان ، فإرادته كافية في إيجاد فعله ، طاعة كان أو معصية ، وهو خالق لأفعاله ، والاختيار بيده. انظر ما سلف 1: 162 ، تعليق: 1.وأما "القدرية" ، و"أهل القدر" ، فهم الذين ينفون القدر. وأما الذين يثبتون القدر ، وهم أهل الحق ، فهم: "أهل الإثبات". وانظر ما سلف 1: 162 ، تعليق: 1.

عطف على جملة : { قد نعلم إنّه لَيُحْزنك الذي يقولون } [ الأنعام : 33 ] ، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحزنه ما يقولونه فيه من التكذيب به وبالقرآن حَزَناً على جهل قومه بقدر النصيحة وإنكارهم فضيلة صاحبها ، وحزناً من جرّاء الأسف عليهم من دوام ضلالهم شفقة عليهم ، وقد سلاّه الله تعالى عن الحزن الأول بقوله { فإنّهم لا يكذبونك } [ الأنعام : 33 ] وسلاّه عن الثاني بقوله : { وإن كانَ كَبُر عليك إعراضهم } الآية .و { كبُر } ككرم ، كِبراً كعنب : عظمت جثّته . ومعنى { كَبُر } هنا شقّ عليك . وأصله عظم الجثّة ، ثم استعمل مجازاً في الأمور العظيمة الثقيلة لأنّ عظم الجثّة يستلزم الثقل ، ثم استعمل مجازاً في معنى ( شقّ ) لأنّ الثقيل يشق جمله . فهو مجاز مرسل بلزومين .وجيء في هذا الشرط بحرف ( إنْ ) الذي يكثر وروده في الشرط الذي لا يظنّ حصوله للإشارة إلى أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بمظنّة ذلك ولكنّه على سبيل الفرض .وزيدت ( كان ) بعد ( إنْ ) الشرطية بينها وبين ما هو فعل الشرط في المعنى ليبقى فعل الشرط على معنى المضي فلا تُخلّصه ( إن ) الشرطيّةُ إلى الاستقبال ، كما هو شأن أفعال الشروط بعد ( إن ) ، فإنّ ( كان ) لقوّة دلالته على المضي لا تقلبه أداة الشرط إلى الاستقبال .والإعراض المعرّف بالإضافة هو الذي مضى ذكره في قوله تعالى : { وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين } [ الأنعام : 4 ]. وهو حالة أخرى غير حالة التكذيب ، وكلتاهما من أسباب استمرار كفرهم .وقوله : { فإن استطعت } جوابُ { إن كان كبر } ، وهو شرط ثان وقع جواباً للشرط الأول . والاستطاعة : القدرة . والسين والتاء فيها للمبالغة في طاع ، أي انقاد .والابتغاء : الطلب . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { أفغير دين الله تبغون } في سورة [ آل عمران : 83 ] ، أي أن تَطْلُبَ نَفَقاً أو سُلّماً لتبلغ إلى خبايا الأرض وعجائبها وإلى خبايا السماء . ومعنى الطلب هنا : البحث .وانتصب نفقاً } و { سُلّما } على المفعولين ل { تبتغي }.والنفق : سرب في الأرض عميق .والسّلَّم بضمّ ففتح مع تشديد اللاّم آلة للارتقاء تتّخذ من حبلين غليظين متوازيين تصل بينهما أعواد أو حبال أخرى متفرّقة في عرض الفضاء الذي بين الحبلين من مساحة ما بين كلّ من تلك الأعواد بمقدار ما يرفع المرتقي إحدَى رجليه إلى العود الذي فوق ذلك ، وتسمّى تلك الأعواد دَرَجَات . ويجعلُ طول الحبلين بمقدار الارتفاع الذي يراد الارتقاء إليه . ويسمَّى السلّم مِرْقاة ومِدْرَجة . وقد سمّوا الغرز الذي يرتقي به الراكب على رحل ناقته سُلّما . وكانوا يرتقون بالسلّم إلى النخيل للجذاذ . وربما كانت السلاليم في الدور تتّخذ من العود فتسمّى المرقاة . فأمّا الدرج المبنيّة في العَلالي فإنّها تُسَمَّى سُلّماً وتسمّى الدّرَجة كما ورد في حديث مقتل أبي رافع قول عبد الله بن عتيك في إحدى الروايات« حتّى انتهيت إلى دَرَجة له » ، وفي رواية « حتّى أتيت السلّم أريد أن أنزل فأسْقُطُ منه »وقوله { في الأرض } صفة { نفقاً } أي متغلغلاً ، أي عميقاً . فذكر هذا المجرور لإفادة المبالغة في العمق مع استحضار الحالة وتصوير حالة الاستطاعة إذ من المعلوم أنّ النفق لا يكون إلاّ في الأرض .وأمّا قوله : { في السماء } فوصف به { سُلّما } ، أي كائناً في السماء ، أي واصلاً إلى السماء . والمعنى تبلغ به إلى السماء . كقول الأعشىورُقّيتَ أسبَاب السّمَاء بسُلّم ... والمعنى : فإن استطعت أن تطلب آية من جميع الجهات للكائنات . ولعلّ اختيار الابتغاء في الأرض والسماء أنّ المشركين سألوا الرسول عليه والصلاة والسلام آيات من جنس ما في الأرض ، كقولهم { حتّى تُفجّر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] ، ومن جنس ما في السماء ، كقولهم : { أو ترقى في السماء } [ الإسراء : 93 ].وقوله : { بآية } أي بآية يسلّمون بها ، فهنالك وصف محذوف دلّ عليه قوله : { إعراضهم } ، أي عن الآيات التي جئتهم بها .وجواب الشرط محذوف دلّ عليه فعل الشرط ، وهو { استطعت }.والشرط وجوابه مستعملان مجازاً في التأييس من إيمانهم وإقناعهم ، لأنّ الله جعل على قلوبهم أكنّة وفي آذانهم وقراً وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها .ويتعيّن تقدير جواب الشرط ممّا دلّ عليه الكلام السابق ، أي فأتهم بآية فإنّهم لا يؤمنون بها ، كما يقول القائل للراغب في إرضاء مُلحّ . إن استطعت أن تجلب ما في بيتك ، أي فهو لا يرضى بما تقصر عنه الاستطاعة بلْهَ ما في الاستطاعة . وهو استعمال شائع ، وليس فيه شيء من اللوم ولا من التوبيخ ، كما توهّمه كثير من المفسّرين .وقوله : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } شرط امتناعي دلّ على أنّ الله لم يشأ ذلك ، أي لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم عليه؛ فمفعول المشيئة محذوف لقصد البيان بعد الإبهام على الطريقة المسلوكة في فعل المشيئة إذا كان تعلّقه بمفعوله غير غريب وكان شرطاً لإحدى أدوات الشرط كما هنا ، وكقوله : { إن يشأ يُذهبكم } [ النساء : 133 ].ومعنى : { لجمعهم على الهدى } لهداهم أجمعين . فوقع تفنّن في أسلوب التعبير فصار تركيباً خاصِّيّاً عدل به على التركيب المشهور في نحو قوله تعالى : { فلو شاء لهداكم أجمعين } [ الأنعام : 149 ] للإشارة إلى تمييز الذين آمنوا من أهل مكّة على من بقي فيها من المشركين ، أي لو شاء لجمعهم مع المؤمنين على ما هدى إليه المؤمنين من قومهم .والمعنى : لو شاء الله أن يخلقهم بعقول قابلة للحقّ لخلقهم بها فلَقَبلُوا الهدى ، ولكنّه خلقهم على ما وصف في قوله : { وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } [ الأنعام : 25 ] الآية ، كما تقدّم بيانه . وقد قال تعالى : { ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة }[ هود : 118 ] ، وبذلك تعلم أنّ هذه مشيئة كليّة تكوينيّة ، فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى في آخر هذه السورة [ 148 ] { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } الآية . فهذا من المشيئة المتعلّقة بالخلق والتكوين لا من المشيئة المتعلّقة بالأمر والتشريع . وبينهما بَوْن ، سقط في مهواته من لم يقدّر له صون .وقوله : فلا تكونّن من الجاهلين } تذييل مفرّع على ما سبق .والمراد ب { الجاهلين } يجوز أن يكون من الجهل الذي هو ضدّ العلم ، كما في قوله تعالى خطاباً لنوح { إنّي أعظُك أن تكون من الجاهلين } [ هود : 46 ] ، وهو ما حمل عليه المفسّرون هنا . ويجوز أن يكون من الجهل ضدّ الحلم ، أي لا تضق صدراً بإعراضهم . وهو أنسب بقوله : { وإن كان كبر عليك إعراضهم }.وإرادة كلا المعنيين ينتظم مع مفاد الجملتين : جملة : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } وجملة { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى }.ومع كون هذه الجملة تذييلاً للكلام السابق فالمعنى : فلا يَكْبُرْ عليك إعراضهم ولا تضق به صدراً ، وأيضاً فكن عالماً بأنّ الله لو شاء لجمعهم على الهدى . وهذا إنباء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأمر من علم الحقيقة يختصّ بحالة خاصّة فلا يطّرد في غير ذلك من مواقف التشريع .وإنّما عدل على الأمر بالعلم لأنّ النّهي عن الجهل يتضمّنه فيتقرّر في الذهن مرتين ، ولأنّ في النهي عن الجهل بذلك تحريضاً على استحضار العلم به ، كما يقال للمتعلّم : لا تنسى هذه المسألة . وليس في الكلام نهي عن شيء تلبّس به الرسول صلى الله عليه وسلم كما توهّمه جمع من المفسّرين ، وذهبوا فيه مذاهب لا تستبين .
الآية 35 - سورة الأنعام: (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ۚ ولو...)