سورة يونس: الآية 71 - ۞ واتل عليهم نبأ نوح...

تفسير الآية 71, سورة يونس

۞ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوٓا۟ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوٓا۟ إِلَىَّ وَلَا تُنظِرُونِ

الترجمة الإنجليزية

Waotlu AAalayhim nabaa noohin ith qala liqawmihi ya qawmi in kana kabura AAalaykum maqamee watathkeeree biayati Allahi faAAala Allahi tawakkaltu faajmiAAoo amrakum washurakaakum thumma la yakun amrukum AAalaykum ghummatan thumma iqdoo ilayya wala tunthirooni

تفسير الآية 71

واقصص -أيها الرسول- على كفار "مكة" خبر نوح -عليه السلام- مع قومه حين قال لهم: إن كان عَظُمَ عليكم مقامي فيكم وتذكيري إياكم بحجج الله وبراهينه فعلى الله اعتمادي وبه ثقتي، فأعدُّوا أمركم، وادعوا شركاءكم، ثم لا تجعلوا أمركم عليكم مستترًا بل ظاهرًا منكشفًا، ثم اقضوا عليَّ بالعقوبة والسوء الذي في إمكانكم، ولا تمهلوني ساعة من نهار.

«واتل» يا محمد «عليهم» أي كفار مكة «نبأ» خبر «نوح» ويبدل منه «إذ قال لقومه يا قوم إن كان كُبر» شق «عليكم مقامي» لبثي فيكم «وتذكيري» وعظي إياكم «بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم» اعزموا على أمر تفعلونه بي «وشركاءكم» الواو بمعني مع «ثم لا يكن أمركم عليكم غُمة» مستورا بل أظهروه وجاهروني به «ثم اقضوا إليَّ» امضوا فيما أردتموه «ولا تنظرون» تمهلون فإني لست مباليا بكم.

يقول تعالى لنبيه‏:‏ واتل على قومك ‏‏نَبَأَ نُوحٍ‏‏ في دعوته لقومه، حين دعاهم إلى الله مدة طويلة، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فلم يزدهم دعاؤه إياهم إلا طغيانًا، فتمللوا منه وسئموا، وهو عليه الصلاة والسلام غير متكاسل، ولا متوان في دعوتهم، فقال لهم‏:‏ ‏‏يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ‏‏ أي‏:‏ إن كان مقامي عندكم، وتذكيري إياكم ما ينفعكم ‏‏بِآيَاتِ اللَّهِ‏‏ الأدلة الواضحة البينة، قد شق عليكم وعظم لديكم، وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق‏.‏ ‏‏فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ‏‏ أي‏:‏ اعتمدت على الله، في دفع كل شر يراد بي، وبما أدعو إليه، فهذا جندي، وعدتي‏.‏ وأنتم، فأتوا بما قدرتم عليه، من أنواع العَدَدَ والعُددَ‏.‏‏‏فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ‏‏ كلكم، بحيث لا يتخلف منكم أحد، ولا تدخروا من مجهودكم شيئًا‏.‏‏‏و‏‏ أحضروا ‏‏شُرَكَاءَكُمْ‏‏ الذي كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون الله رب العالمين‏.‏‏‏ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً‏‏ أي‏:‏ مشتبهًا خفيًا، بل ليكن ذلك ظاهرًا علانية‏.‏‏‏ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ‏‏ أي‏:‏ اقضوا علي بالعقوبة والسوء، الذي في إمكانكم، ‏‏وَلَا تُنْظِرُونِ‏‏ أي‏:‏ لا تمهلوني ساعة من نهار‏.‏ فهذا برهان قاطع، وآية عظيمة على صحة رسالته، وصدق ما جاء به، حيث كان وحده لا عشيرة تحميه، ولا جنود تؤويه‏.‏وقد بادأ قومه بتسفيه آرائهم، وفساد دينهم، وعيب آلهتهم‏.‏ وقد حملوا من بغضه، وعداوته ما هو أعظم من الجبال الرواسي، وهم أهل القدرة والسطوة، وهو يقول لهم‏:‏ اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ومن استطعتم، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد، فأوقعوا بي إن قدرتم على ذلك، فلم يقدروا على شيء من ذلك‏.‏فعلم أنه الصادق حقًا، وهم الكاذبون فيما يدعون

يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه : ( واتل عليهم ) أي : أخبرهم واقصص عليهم ، أي : على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك ( نبأ نوح ) أي : خبره مع قومه الذين كذبوه ، كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم ، ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك . ( إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم ) أي : عظم عليكم ، ( مقامي ) أي فيكم بين أظهركم ، ( وتذكيري ) إياكم ( بآيات الله ) أي : بحججه وبراهينه ، ( فعلى الله توكلت ) أي : فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أو لا ! ( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) أي : فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله ، من صنم ووثن ، ( ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) أي : ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبسا ، بل افصلوا حالكم معي ، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون ، فاقضوا إلي ولا تنظرون ، أي : ولا تؤخروني ساعة واحدة ، أي : مهما قدرتم فافعلوا ، فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم ، لأنكم لستم على شيء ، كما قال هود لقومه : ( إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ) [ هود : 54 - 56 ] .

قال الإمام الرازي: «اعلم أنه- سبحانه- لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات وفي الجواب عن الشبه والسؤالات، شرع بعد ذلك في بيان بعض قصص الأنبياء- عليهم السلام- لوجوه:أحدها: أن الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العلوم، فربما حصل نوع من أنواع الملالة، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر، انشرح صدره. ووجد في نفسه رغبة جديدة.وثانيها: ليكون للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، أسوة بمن سلف من الأنبياء، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع أن معاملة الكفار لأنبيائهم سيئة.. خف ذلك على قلبه، لأن المصيبة إذا عمت خفت.وثالثها: أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص، وعلموا أن العاقبة للمتقين كان ذلك سببا في انكسار قلوبهم، ووقوع الخوف والوجل في نفوسهم. وحينئذ يقلعون عن أنواع الإيذاء والسفاهة ... »ونوح- عليه السلام-: واحد من أولى العزم من الرسل، وينتهى نسبه إلى شيث بن آدم- عليه السلام- وقد ذكر في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا.وكان قومه يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.وقد تكررت قصته مع قومه في سورة الأعراف، وهود، والمؤمنون، ونوح ... بصورة أكثر تفصيلا.أما هنا في سورة يونس فقد جاءت بصورة مجملة، لأن الغرض منها هنا، إبراز جانب التحدي من نوح لقومه، بعد أن مكث فيهم زمانا طويلا، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة غيره.والمعنى: واتل- يا محمد- على مسامع هؤلاء المشركين الذين مردوا على افتراء الكذب، نبأ نوح- عليه السلام- مع قومه المغترين بأموالهم وكثرتهم ليتدبروا ما في هذا النبأ من عظات وعبر. وليعلموا أن سنة الله- تعالى- قد اقتضت أن يجعل العاقبة للمتقين.والمقصود من هذه التلاوة، دعوة مشركي مكة وأمثالهم، إلى التدبر فيما جرى للظالمين من قبلهم، لعلهم بسبب هذا التدبر والتأمل يثوبون إلى رشدهم ويتبعون الدين الحق الذي جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.وقوله: يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ..بيان لما قاله لهم بعد أن مكث فيهم زمنا طويلا،، وسمع منهم ما سمع من استهزاء بدعوته،، وتطاول على أتباعه.أى: قال نوح لقومه بعد أن دعاهم ليلا ونهارا: يا قوم إن كان كَبُرَ عَلَيْكُمْ.أى: شق وعظم عليكم مَقامِي فيكم ووجودى بين أظهركم عمرا طويلا وَتَذْكِيرِي إياكم بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته،، والتي تستلزم منكم إخلاص العبادة له والشكر لنعمه.إن كان كبر عليكم ذلك فعلى الله وحده توكلت، وإليه وحده فوضت أمرى ولن يصرفني عن الاستمرار في تبليغ ما أمرنى بتبليغه وعد أو وعيد منكم.وخاطبهم- عليه السلام- بقوله: يا قَوْمِ استمالة لقلوبهم وإشعارا لهم بأنهم أهله وأقرباؤه الذين يحب لهم الخير، ويكره لهم الشر.وجملة فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ جواب الشرط. وقيل جواب الشرط محذوف والتقدير: إن كان كبر عليكم ذلك فافعلوا ما شئتم فإنى على الله وحده توكلت في تبليغ دعوته لكم.وقوله: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ معطوف على ما قبله.والفعل فَأَجْمِعُوا بقطع الهمزة مأخوذ من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه عزما مؤكدا ووطنت نفسك على المضي فيه بدون تردد أو تقاعس.والمراد بالأمر هنا: المكر والكيد والعداوة وما يشبه ذلك.والمراد بشركائهم: أصنامهم التي عبدوها من دون الله وظنوا فيها النفع والضرر والتمسوا فيها العون والنصرة.والمعنى: أن نوحا- عليه السلام- قد قال لقومه بصراحة ووضوح: يا قوم إن كان قد شق عليكم مقامي فيكم، وتذكيري بآيات الله الدالة على وحدانيته فاجمعوا ما تريدون جمعه من مكر وكيد بي، ثم ادعوا شركاءكم ليساعدوكم في ذلك فإنى ماض في طريقي الذي أمرنى الله به، بدون مبالاة بمكركم وبدون اهتمام بكيدكم.قال الآلوسى: «وقوله وَشُرَكاءَكُمْ منصوب على أنه مفعول معه لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم. وقيل إنه منصوب العطف على قوله أَمْرَكُمْ بحذف المضاف.أى فأجمعوا أمركم وأمر شركائكم.وقرأ نافع: فاجمعوا بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال: جمعت شركائى، كما يقال جمعت أمرى ... » .وقوله: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً معطوف على ما قبله، ومؤكد لمضمونه.وكلمة غُمَّةً بمعنى الستر والخفاء. يقال: غم على فلان الأمر أى: خفى عليه واستتر.ومنه الحديث الشريف: «صوموا لرؤيته- أى الهلال- وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما» أى فإن استتر وخفى عليكم الهلال وحال دون رؤيتكم له حائل من عغيم أو ضباب فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما.أى: اجمعوا ما تريدون جمعه لي من مكر وكيد واستعينوا على ذلك بشركائكم ثم لا يكن أمركم، الذي أجمعتم على تنفيذه فيه شيء من الستر أو الخفاء أو الالتباس الذي يجعلكم مترددين في المضي فيه أو متقاعسين عن مجاهرتى بما تريدون فعله معى.ومنهم من يرى أن كلمة غُمَّةً هنا بمعنى الغم كالكربة بمعنى الكرب أى: ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم بسبب مقامي فيكم وتذكيري إياكم بآيات الله.وقد أشار صاحب الكشاف الى هذين الوجهين فقال: «فإن قلت: ما معنى الأمرين:أمرهم الذي يجمعونه وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟قلت: أما الأمر الأول فالقصد إلى إهلاكه يعنى: فأجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه، وابذلوا وسعكم في كيدي. وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده به ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا.وأما الثاني ففيه وجهان: أحدهما أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم، المكروهة عندهم. يعنى: ثم أهلكونى لئلا يكون عيشكم بسببي غصة عليكم. وحالكم عليكم غمة. أى: غما وهما. والغم والغمة كالكرب والكربة.وثانيهما: أن يراد به ما أريد بالأمر الأول. والغمة السترة من غمه إذا ستره، وفي الحديث «لا غمة في فرائض الله» أى لا تستر ولكن يجاهر بها.يعنى: ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا عليكم. ولكن مكشوفا مشهورا تجاهروننى به» .وقوله: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ زيادة في تحديهم وإثارتهم.والقضاء هنا بمعنى الأداء، من قولهم: قضى المدين للدائن دينه، إذا أداه إليه، وقضى فلان الصلاة. أى أداها بعد مضى وقتها.أى: ثم أدوا إلى ذلك الأمر الذي تريدون أداءه من إيذائى أو إهلاكى بدون إنظار أو إمهال.ويصح أن يكون القضاء هنا بمعنى الحكم، أى: ثم احكموا على بما تريدون من أحكام،ولا تتركوا لي مهلة في تنفيذها، بل نفذوها علىّ في الحال.فأنت ترى في هذه الآية الكريمة كيف أن نوحا- عليه السلام- كان في نهاية الشجاعة في مخاطبته لقومه، بعد أن مكث فيهم ما مكث وهو يدعوهم إلى عبادة الله- تعالى- وحده.فهو- أولا- يصارحهم بأنه ماض في طريقه الذي أمره الله بالمضي فيه، وهو تذكيرهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله، وعلى وجوب إخلاص العبادة له سواء أشق عليهم هذا التذكير أم لم يشق، وأنه لا اعتماد له على أحد إلا على الله وحده.وهو- ثانيا- يتحداهم بأن يجمعوا أمرهم وأمر شركائهم وأن يأخذوا أهبتهم لكيده وحربه.وهو- ثالثا- يطالبهم بأن يتخذوا قراراتهم بدون تستر أو خفاء، فإن الأمر لا يحتاج إلى غموض أو تردد، لأن حاله معهم قد أصبح واضحا وصريحا.وهو- رابعا- يأمرهم بأن يبلغوه ما توصلوا إليه من قرارات وأحكام وأن ينفذوها عليه بدون تريث أو انتظار، حتى لا يتركوا له فرصة للاستعداد للنجاة من مكرهم.وهكذا نرى نوحا- عليه السلام- يتحدى قومه تحديا صريحا مثيرا. حتى إنه ليغريهم بنفسه، ويفتح لهم الطريق لإيذائه وإهلاكه- إن استطاعوا ذلك-.وما لجأ- عليه السلام- إلى هذا التحدي الواضح المثير إلا لأنه كان معتمدا على الله- تعالى- الذي تتضاءل أمام قوته كل قوة وتتهاوى إزاء سطوته كل سطوة ويتصاغر كل تدبير وتقدير أمام تدبيره وتقديره.وهكذا نرى القرآن الكريم يسوق للدعاة في كل زمان ومكان تلك المواقف المشرفة لرسل الله- عليهم الصلاة والسلام- لكي يقتدوا بهم في شجاعتهم، وفي اعتمادهم على الله وحده، وفي ثباتهم أمام الباطل مهما بلغت قوته، واشتد جبروته.ومتى فعلوا ذلك، كانت العاقبة لهم لأنه- سبحانه- تعهد أن ينصر من ينصره.

قوله تعالى : ( واتل عليهم نبأ نوح ) أي : اقرأ يا محمد على أهل مكة خبر نوح ( إذ قال لقومه ) وهم ولد قابيل ، ( يا قوم إن كان كبر عليكم ) عظم وثقل عليكم ، ( مقامي ) طول مكثي فيكم ( وتذكيري ) ووعظي إياكم ( بآيات الله ) بحججه وبيناته ، فعزمتم على قتلي وطردي ( فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم ) أي : أحكموا أمركم واعزموا عليه ، ( وشركاءكم ) أي : وادعوا شركاءكم ، أي : آلهتكم ، فاستعينوا بها لتجتمع معكم .وقال الزجاج : معناه : فأجمعوا أمركم مع شركائكم ، فلما ترك " مع " انتصب . وقرأ يعقوب : " وشركاؤكم " رفع ، أي : فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم .( ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) أي : خفيا مبهما ، من قولهم : غم الهلال على الناس ، أي : أشكل عليهم ، ( ثم اقضوا إلي ) أي : أمضوا ما في أنفسكم وافرغوا منه ، يقال : قضى فلان إذا مات ومضى وقضى دينه إذا فرغ منه .وقيل : معناه : توجهوا إلي بالقتل والمكروه .وقيل فاقضوا ما أنتم قاضون ، وهذا مثل قول السحرة لفرعون : " فاقض ما أنت قاض " ( طه - 72 ) ، أي : اعمل ما أنت عامل .( ولا تنظرون ) ولا تؤخرون وهذا على طريق التعجيز ، أخبر الله عن نوح أنه كان واثقا بنصر الله تعالى غير خائف من كيد قومه ، علما منه بأنهم وآلهتهم ليس إليهم نفع ولا ضر إلا أن يشاء الله .

قوله تعالى واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرونقوله تعالى واتل عليهم نبأ نوح أمره عليه السلام أن يذكرهم أقاصيص المتقدمين ، ويخوفهم العذاب الأليم على كفرهم . وحذفت الواو من ( اتل ) لأنه أمر ; أي اقرأ عليهم خبر نوح .إذ قال لقومه ( إذ ) في موضع نصب .ياقوم إن كان كبر عليكم أي عظم وثقل عليكم مقامي . المقام " بفتح الميم " : الموضع الذي يقوم فيه . والمقام " بالضم " الإقامة . ولم يقرأ به فيما علمت ; أي إن طال عليكم لبثي فيكم . وتذكيري وتخويفي لكم . بآيات الله وعزمتم على قتلي وطردي فعلى الله توكلت أي اعتمدت . وهذا هو جواب الشرط ، ولم يزل عليه السلام متوكلا على الله في كل حال ; ولكن بين أنه متوكل في هذا على الخصوص ليعرف قومه أن الله يكفيه أمرهم ; أي إن لم تنصروني فإني أتوكل على من ينصرني .قوله تعالى فأجمعوا أمركم وشركاءكم قراءة العامة ( فأجمعوا ) بقطع الألف ( شركاءكم ) بالنصب . وقرأ عاصم الجحدري " فاجمعوا " بوصل الألف وفتح الميم ; من جمع يجمع . ( شركاءكم ) بالنصب . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب ( فأجمعوا ) بقطع الألف " شركاؤكم " بالرفع . فأما القراءة الأولى من أجمع على الشيء إذا عزم عليه . وقال الفراء : أجمع الشيء أعده . وقال المؤرج : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه . وأنشد :يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمعقال النحاس : وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أوجه ; قال الكسائي والفراء : هو بمعنى وادعو شركاءكم لنصرتكم ; وهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل . وقال محمد بن يزيد : هو معطوف على المعنى ; كما قال :رأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحاوالرمح لا يتقلد ، إلا أنه محمول كالسيف . وقال أبو إسحاق الزجاج : المعنى مع شركائكم على تناصركم ; كما يقال : التقى الماء والخشبة . والقراءة الثانية من الجمع ، اعتبارا بقوله تعالى : فجمع كيده ثم أتى . قال أبو معاذ : ويجوز أن يكون جمع وأجمع بمعنى واحد ، ( وشركاءكم ) على هذه القراءة عطف على أمركم ، أو على معنى فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم ، وإن شئت بمعنى مع ، قال أبو جعفر النحاس : وسمعت أبا إسحاق يجيز قام زيد وعمرا . والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع في أجمعوا ، وحسن ذلك لأن الكلام قد طال . قال النحاس وغيره : وهذه القراءة تبعد ; لأنه لو كان مرفوعا لوجب أن تكتب بالواو ، ولم ير في المصاحف واو في قوله ( وشركاءكم ) ، وأيضا فإن شركاءهم الأصنام ، والأصنام لا تصنع شيئا ولا فعل لها حتى تجمع . قال المهدوي : ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء والخبر محذوف ، أي وشركاءكم ليجمعوا أمرهم ، ونسب ذلك إلى الشركاء وهي لا تسمع ولا تبصر ولا تميز على جهة التوبيخ لمن عبدها .قوله تعالى ثم لا يكن أمركم عليكم غمة اسم ( يكن ) وخبرها . و ( غمة ) وغم سواء ، ومعناه التغطية ; من قولهم : غم الهلال إذا استتر ; أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم ; لا كمن يخفى أمره فلا يقدر على ما يريد . قال طرفة :لعمرك ما أمري علي بغمة نهاري ولا ليلي علي بسرمدالزجاج : غمة ذا غم ، والغم والغمة كالكرب والكربة . وقيل : إن الغمة ضيق الأمر الذي يوجب الغم فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرا لينفرج عنه ما يغمه . وفي الصحاح : والغمة الكربة . قال العجاج :بل لو شهدت الناس إذا تكموا بغمة لو لم تفرج غموايقال : أمر غمة ، أي مبهم ملتبس ; قال تعالى : ثم لا يكن أمركم عليكم غمة . قال أبو عبيدة : مجازها ظلمة وضيق . والغمة أيضا : قعر النحي وغيره . قال غيره : وأصل هذا كله مشتق من الغمامة .قوله تعالى ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ألف ( اقضوا ) ألف وصل ، من قضى يقضي . قال الأخفش والكسائي : وهو مثل : وقضينا إليه ذلك الأمر أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه . وروي عن ابن عباس ثم اقضوا إلي ولا تنظرون قال : امضوا إلي ولا تؤخرون . قال النحاس : هذا قول صحيح في اللغة ; ومنه : قضى الميت أي مضى . وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه ، وهذا من دلائل النبوات . وحكى الفراء عن بعض القراء " ثم أفضوا إلي " بالفاء وقطع الألف ، أي توجهوا ; يقال : أفضت الخلافة إلى فلان ، وأفضى إلي الوجع . وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه كان بنصر الله واثقا ، ومن كيدهم غير خائف ; علما منه بأنهم وآلهتهم لا ينفعون ولا يضرون . وهو تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه .

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (واتل) على هؤلاء المشركين الذين قالوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، من قومك (1) ، (نبأ نوح) ، يقول: خبر نوح (2) (إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي) ، يقول: إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشقّ عليكم، (3) ، (وتذكيري بآيات الله) ، يقول، ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك (4) ، (فعلى الله توكلت) ، يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم ، وتذكيري بآيات الله ، فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي ، وهو سَنَدي وظهري (5) ، (فأجمعوا أمركم)، يقول: فأعدُّوا أمركم ، واعزموا على ما تنوُون عليه في أمري. (6)* * *يقال منه: " أجمعت على كذا "، بمعنى: عزمت عليه، (7)ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : : " من لم يُجْمِع على الصوم من الليل فلا صَوْم له " ، بمعنى: من لم يعزم، (8) ومنه قول الشاعر: (9)يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لا تَنْفَعُهَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ (10)* * *وروي عن الأعرج في ذلك ما:-17760- حدثني بعض أصحابنا ، عن عبد الوهاب ، عن هارون، عن أسيد، عن الأعرج: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) ، يقول: أحكموا أمركم ، وادعوا شركاءكم. (11)ونصب قوله: (وشركاءكم) ، بفعل مضمر له، وذلك: " وادعوا شركاءكم "، وعطف ب " الشركاء " على قوله: (أمركم)، على نحو قول الشاعر:وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَىمُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (12)فالرمح لا يُتَقلَّد، ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليلٌ على ما حذف، اكتفي بذكر ما ذكر منه مما حذف ، (13) فكذلك ذلك في قوله: (وشركاءكم).* * *واختلفت القراء في قراءة ذلك.فقرأته قراء الأمصار: (وَشُرَكَاءَكُمْ) نصبًا، وقوله: (فَأَجْمِعُوا) ، بهمز الألف وفتحها، من : " أجمعت أمري فأنا أجمعه إجماعًا.* * *وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ)، بفتح الألف وهمزها ، (وَشُرَكَاؤُكُمْ)، بالرفع على معنى: وأجمعوا أمركم، وليجمع أمرَهم أيضًا معكم شركاؤكم. (14)* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك قراءةُ من قرأ: ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ) ، بفتح الألف من " أجمعوا "، ونصب " الشركاء "، لأنها في المصحف بغير واو، ولإجماع الحجة على القراءة بها ، ورفض ما خالفها، ولا يعترض عليها بمن يجوز عليه الخطأ والسهو.* * *وعني ب " الشركاء " ، آلهتهم وأوثانهم.* * *وقوله: (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) ، يقول: ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسًا مشكلا مبهمًا.* * *، من قولهم: " غُمَّ على الناس الهلال "، وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبيَّنوه، ومنه قول [العجاج]: (15)بَلْ لَوْ شَهِدْتِ النَّاسَ إِذْ تُكُمُّوابِغُمّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا (16)وقيل: إن ذلك من " الغم "، لأن الصدر يضيق به ، ولا يتبين صاحبه لأمره مَصدرًا يَصْدُرُه يتفرَّج عليه ما بقلبه، (17) ومنه قول خنساء:وَذِي كُرْبَةٍ رَاخَى ابْنُ عَمْرٍو خِنَاقَهوَغُمَّتَهُ عَنْ وَجْهِهِ فَتَجَلَّتِ (18)* * *وكان قتادة يقول في ذلك ما:17761- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أمركم عليكم غمة) ، قال: لا يكبر عليكم أمركم.* * *وأما قوله: (ثم اقضوا إليّ) ، فإن معناه: ثم أمضوا إليّ ما في أنفسكم وافرغوا منه، كما:-17762- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون)، قال: اقضوا إليّ ما كنتم قاضين.17763- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون) ، قال: اقضوا إليّ ما في أنفسكم.17764- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.* * *واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: (ثم اقضوا إليّ) . (19) .فقال بعضهم: معناه: امضوا إلي، كما يقال: " قد قضى فلان "، يراد: قد مات ومَضَى.* * *وقال آخرون منهم: بل معناه: ثم افرغوا إليّ، وقالوا: " القضاء "، الفراغ، والقضاء من ذلك. قالوا: وكأنّ " قضى دينه " من ذلك ، إنما هو فَرَغ منه.* * *وقد حُكي عن بعض القراء أنه قرأ ذلك: (ثُمَّ أَفْضُوا إِلَيَّ) ، بمعنى: توجَّهوا إليّ حتى تصلوا إليّ، من قولهم: " قد أفْضَى إليّ الوَجَع وشبهه ". (20)* * *وقوله: (ولا تنظرون) ، يقول: ولا تؤخرون.* * *، من قول القائل: " أنظرت فلانًا بما لي عليه من الدين " . (21)* * *قال أبو جعفر: وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه: إنه بنُصرة الله له عليهم واثق ، ومن كيدهم وبوائقهم غير خائف (22) ، وإعلامٌ منه لهم أن آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع، يقول لهم: أمضوا ما تحدّثون أنفسكم به فيَّ ، على عزم منكم صحيح، واستعينوا مع من شايعكم عليّ بآلهتكم التي تدْعون من دون الله، ولا تؤخروا ذلك ، فإني قد توكلت على الله ، وأنا به واثق أنكم لا تضروني إلا أن يشاء ربي.وهذا وإن كان خبرًا من الله تعالى عن نوح، فإنه حثٌّ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التأسّي به، وتعريفٌ منه سبيلَ الرشاد فيما قلَّده من الرسالة والبلاغ عنه.-----------------------------الهوامش :(1) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف من فهارس اللغة ( تلا ).(2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص : 102 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .(3) انظر تفسير " كبر " فيما سلف 11 : 336 ، 337 .(4) انظر تفسير " التذكير " فيما سلف من فهارس اللغة ( ذكر ).(5) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 14 : 587 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .(6) في المطبوعة : " وما تقدمون عليه " ، وفي المخطوطة : " وما سومون " غير منقوطة ، وهو وهم من الناسخ ، والصواب الذي أرجحه ، ما أثبت ، لأن " الإجماع " هو إحكام النية والعزيمة .(7) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 473 ، وقد فصل القول فيه هناك .(8) هذا حديث رواه بلا إسناد . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، من حديث حفصة أم المؤمنين . انظر سنن أبي داود 2 : 441 ، 442 ، رقم : 2454 .(9) لم أعرف قائله ، ولكني أظنه لأبي النجم ، هكذا أذكر .(10) نوادر أبي زيد : 133 ، معاني القرآن للفراء 1 : 473 ، اللسان ( جمع ) ، ( زفا ) ، وبعده فيما روى أبو زيد :وَتَحْتَ رَحْلِي زَفَيَانٌ مَيْلَعُحَرْفٌ , إذَا مَا زُجِرَتْ تَبَوَّعُ.(11) الأثر : 17760 - " عبد الوهاب " ، هو " عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي " ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها رقم : 14229 . " وهارون " هو " هارون بن موسى " الأعور النحوي ، مضى برقم : 4985 ، 11693 ، 15514 ، 15515 ." وأسيد " ، هو " أسيد بن أبي أسيد ، يزيد " ، البراد . روى الحروف عن الأعرج ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1/ 49 ، ولم يزد على أن قال " أسيد ، حدثنا موسى ، حدثنا هارون ، عن أسيد سمع عكرمة ، وعن الأعرج في القراءة " ، لم يذكر له نسبًا . وفي ابن أبي حاتم 1 / 1 / 316 ، في ترجمة " أسيد بن يزيد المدني " ، وقال : " روى عن الأعرج ، روى عنه هارون النحوي". ثم أتبعه بترجمة " أسيد بن أبي أسيد البراد " ، وقال : " واسم أبي أسيد يزيد " ، ولم يذكر له رواية عن الأعرج ، ولا في الرواة عنه هارون النحوي ، فجعلهما رجلين . بيد أني رأيت ابن الجزري في طبقات القراء 1 : 381 في ترجمة " الأعرج " ، وهو " عبد الرحمن بن هرمز " قال : " وروى عنه الحروف أسيد بن أبي أسيد " . وانظر هذا الاختلاف في التهذيب ، وما قاله الحافظ ابن حجر هناك .(12) مضى البيت وتخريجه في مواضع ، آخرها 13 : 434 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك ، وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 473 .(13) في المطبوعة والمخطوطة : " فاكتفى " بالفاء ، والصواب حذفها ، وإنما خلط الناسخ .(14) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1 : 473 .(15) في المطبوعة والمخطوطة : " ومنه قول رؤبة " ، وأنا أرجح أنه خطأ من الناسخ ، فلذلك وضعته بين القوسين ، وإنما نقل هذا أبو جعفر من مجاز القرآن لأبي عبيدة ، وهو فيه على الصواب " العجاج " .(16) ديوانه : 63 ، واللسان ( غمم ) ، ( كمم ) ، وغيرها . أول رجز له طويل في ديوانه ، ذكر فيه مسعود بن عمرو العتكي ، وما أصابه وقومه من تميم رهط العجاج ، وسلف بيان ذلك 13 : 75 ، تعليق : 2 ، في شرح بيت من هذا الرجز . وقوله : " تكموا " من قوله : " تكممه " ، أي غطاه وغشاه ، ثم لما توالت الميمات في " تكمموا " ، قلبت الأخيرة ياء ، كما قيل في " التظنن " و " التظني " ، فلما أسند إليه الواو ، قال : " تكموا " .(17) في المطبوعة : " يتفرج عنه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .(18) ديوانها : 22 ، وروايته " ومُخْتَنِقٍ رَاخَى ابنُ عَمْرٍو " من رثائها في أخيها صخر .(19) انظر تفسير " قضى " فيما سلف ص : 33 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .(20) انظر بيان هذه القراءة في معاني القرآن للفراء 1 : 474 .(21) انظر تفسير " الإنظار " فيما سلف 13 : 322 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .(22) في المطبوعة : " من كيدهم وتواثقهم " ، وهي قراءة فاسدة ، صوابها ما أثبت . والمخطوطة غير منقوطة . و " البوائق " ، جمع " بائقة " . يعني : غوائلهم وشرهم وظلمهم وبغيهم عليه .

من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم ، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب ، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم ، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج؛ فإن نوحاً عليه السلام مع قومه مَثَل لحال محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره ، ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلاً ثم يؤخذون أخذة رابية ، كما متع قوم نوح زمناً طويلاً ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا ، فذكر قصة نوح مع قومه عِظة للمشركين وملقياً بالوجل والذعر في قلوبهم ، وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء ، والصالحين من أقوامهم ، وكذلك قصة موسى عليه السلام عقبها كما ينبيء عن ذلك قولهُ في نهاية هذه القصص { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [ يونس : 99 ] الآيات . وقوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } [ يونس : 94 ] الآيات .وبهذا يظهر حسن موقع ( إذْ ) من قوله : { إذ قال لقومه يا قوم } إلى آخره ، فإن تقييد النبأ بزمن قوله : { لقومه } إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة ، لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح عليه السلام في صم آذانهم عن دعوة رسولهم ، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءَهم زمناً طويلاً فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح عليه السلام مع قومه ، وكان هو الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق .و { إذا } اسم للزمن الماضي . وهو هنا بدل اشتمال من { نبأ } أو من { نوح }. وفي ذكر قصة نوح عليه السلام وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى : { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمَّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات } [ يونس : 13 ].وضمير { عليهم } عائد إلى { الذين يفترون على الله الكذب } [ يونس : 69 ].والتلاوة : القراءة . وتقدمت في سورة الأنفال .والنبأ : الخبر . وتقدم في قوله : { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } في سورة [ الأنعام : 34 ].والتعريف بنوح عليه السلام وتاريخه مضى في أول آل عمران .وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله : إذ قَال لقومه } إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به ، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جَد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم ، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] ، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } [ الأعراف : 74 ]وظرف { إذ } وما أضيف إليه في موضع الحال من { نبأ نوح }.وافتتاح خطاب نوح قومَه ب { يا قوم } إيذان بأهيمة ما سيلقيه إليهم ، لأن النداء طلب الإقبال . ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازاً في طلب الإقبال المجازي ، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله .واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخيرَ لهم ، لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيراً . وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم .ومعنى : { إن كان كبُر عليكم مقامي } شق عليكم وأحرجكم .والكبَر : وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه ، ويستعار الكبَر لكون وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه ، فقد يكون مدحاً كقوله تعالى : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [ البقرة : 45 ] ، ويكون ذماً كقوله : { كَبُرَتْ كلمة تخرج من أفواههم } [ الكهف : 5 ] ، ويستعار الكبَر للمشقة والحرج ، كقوله تعالى : { كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] وقوله : { وإن كان كَبُر عليك إعراضهم } [ الأنعام : 35 ] وكذلك هنا .والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام . وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى : { ولمَن خاف مقام ربه جنتان } [ الرحمن : 46 ] ، وقوله : { قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مَقاماً } [ مريم : 73 ] أي خير حالة وشأناً . وهو استعمال من قبيل الكناية ، لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته ، وفيهما مظاهر أحواله .وخَص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله ، لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه ، فعطفه من عطف الخاص على العام . فمعنى : { كَبُر عليكم مقامي وتذكيري } سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله .وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعاً مُرّ المَذاق من نفوسهم ، شديد الإيلام لقلوبهم ، لما في منازعة الحق نفوسهم من صَولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها ، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم ، وتشمئز منها نفوسهم ، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم . وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله .والباء في { بآيات الله } لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني ، والمفعولُ الأول محذوف ، والتقدير : تذكيري إياكم .و { آيات الله } مفعول ثان للتذكير .يقال : ذكرته أمراً نسيه ، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] ، وقول مسور بن زيادةَ الحارثي: ... أذَكَّر بالبقيا على من أصابنيوبقياي أني جاهد غير مؤتلي ... ولذلك قالوا في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله .وآيات الله : دلائل فضله عليهم ، ودلائل وحدانيته ، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا تلك الدلائل ، فكان يذكرهم بها ، وذلك يُبرمهم ويحرجهم .وجملة : { فعلى الله توكلت } جواب شرط { إن كان كبُر عليكم مقامي } باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله ، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم ، وهم في كثرة ومنعَة وهو في قلة وضعف ، لا يصُده عن استمرار الدعوة ، وأنه وإن كان بينهم وحيداً فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله . ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله : { فعلى الله توكلت } أي لا على غيره .والتوكل : التعويل على من يدبر أمره . وقد مر عند قوله : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة [ آل عمران : 159 ].والفاء في فأجمعوا أمركم } للتفريع على جملة { على الله توكلت } فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب ، ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناواتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول : إن كان كبُر عليكم مقامي الخ ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت ، كما قال هود لقومه { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم } [ هود : 55 ، 56 ].وإجماع الأمر : العزم على الفعل بعد التردد بين فِعله وفعل ضده . وهوَ مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق ، لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جَمَع ما كان متفرقاً . فالهمزة فيه للجعل ، أي جعلَ أمره جمعاً بعد أن كان متفرقاً .ويقولون : جاؤوا وأمرهم جميع ، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف .والأمر : هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله .و { شركاءكم } منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه . والواو بمعنى ( مع ) أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم .وقرأ يعقوب { وشركاؤكم } مرفوعاً عطفاً على ضمير { فأجمعوا } ، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول . والمعنى : وليجْمَع شركاؤكم أمرَهم .وصيغة الأمر في قوله : { فأجمعوا } مستعملة في التسوية ، أي أن عزمهم لا يضيره بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته . وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشاً من القوم ، وذلك تهكم بهم ، كما في قوله تعالى : { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون } [ الأعراف : 195 ].وعطْف جملة : { ثم لا يكن أمركم عليكم غُمة } ب { ثم } الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يُهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم .وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأنّ شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباساً عليهم ، أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك .والغمة : اسم مصدر للغم . وهو الستر . والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي ، وهو انبهام الحال ، وعدم تبين السداد فيه ، ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل: ... لعمرك ما أمري علي بغمةنهاري ولا ليلي علي بسرمد ... وإظهار لفظ الأمر في قوله : { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } مع أنه عين الذي في قوله : { فأجمعوا أمركم } لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه .و ( ثم ) في قوله : { ثم اقضوا إلي } للتراخي في الرتبة ، فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزمعون عليه من أذاهُ أقوى من تدبير ذلك ، ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه ، فعطف ب ( ثم ) التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل .و { اقضُوا } أمر من القضاء ، فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل ، أي انفذوا ما ترونه من الإضرار بي . ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم ، وهو قريب من الوجه الأول ، أي أنفذوا حكمكم .وعدي ب ( إلى ) دون ( على ) لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصاً على معنى التنفيذ بالفعل ، لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو ، ويكون بالفعل ، فهو قضاء بتنفيذ . ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي .وقوله : { ولا تُنظرون } تأكيد المدلول التضمين المشار إليه بحرف ( إلى ). والإنظار التأخير ، وحذفت ياء المتكلم من { تنظرون } للتخفيف ، وهو حذف كثير في فصيح الكلام ، وبقاء نون الوقاية مشعر بها .
الآية 71 - سورة يونس: (۞ واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله...)