سورة طه: الآية 63 - قالوا إن هذان لساحران يريدان...

تفسير الآية 63, سورة طه

قَالُوٓا۟ إِنْ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ

الترجمة الإنجليزية

Qaloo in hathani lasahirani yureedani an yukhrijakum min ardikum bisihrihima wayathhaba bitareeqatikumu almuthla

تفسير الآية 63

فتجاذب السحرة أمرهم بينهم وتحادثوا سرًا، قالوا: إن موسى وهارون ساحران يريدان أن يخرجاكم من بلادكم بسحرهما، ويذهبا بطريقة السحر العظيمة التي أنتم عليها، فأحكموا كيدكم، واعزموا عليه من غير اختلاف بينكم، ثم ائتوا صفًا واحدًا، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة؛ لتَبْهَروا الأبصار، وتغلبوا سحر موسى وأخيه، وقد ظفر بحاجته اليوم مَن علا على صاحبه، فغلبه وقهره.

«قالوا» لأنفسهم «إن هذان» وهو موافق للغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث ولأبي عمرو: هذين «لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى» مؤنث أمثل بمعنى أشرف أي بأشرافكم بميلهم إليهما لغلبتهما.

والنجوى التي أسروها فسرها بقوله: قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى كمقالة فرعون السابقة، فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون والسحرة على هذه المقالة من غير قصد، وإما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته، التي صمم عليها وأظهرها للناس، وزادوا على قول فرعون أن قالوا: وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى أي: طريقة السحر حسدكم عليها، وأراد أن يظهر عليكم، ليكون له الفخر والصيت والشهرة، ويكون هو المقصود بهذا العلم، الذي أشغلتم زمانكم فيه، ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه، وما يتبع ذلك من الرياسة، وهذا حض من بعضهم على بعض على الاجتهاد في مغالبته

( قالوا إن هذان لساحران ) هذه لغة لبعض العرب ، جاءت هذه القراءة على إعرابها ، ومنهم من قرأ : " إن هذين لساحران " وهذه اللغة المشهورة ، وقد توسع النحاة في الجواب عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه .والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم : تعلمون أن هذا الرجل وأخاه - يعنون : موسى وهارون - ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر ، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس ، وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده ، فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم .وقوله : ( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) أي : ويستبدا بهذه الطريقة ، وهي السحر ، فإنهم كانوا معظمين بسببها ، لهم أموال وأرزاق عليها ، يقولون : إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض ، وتفردا بذلك ، وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم .وقد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس [ قال ] في قوله : ( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) يعني : ملكهم الذي هم فيه والعيش .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا هشيم ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله : ( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) قال : يصرفا وجوه الناس إليهما .وقال مجاهد : ( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) قال : أولي الشرف والعقل والأسنان .وقال أبو صالح : ( بطريقتكم المثلى ) أشرافكم وسرواتكم . وقال عكرمة : بخيركم . وقال قتادة : وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل ، كانوا أكثر القوم عددا وأموالا فقال عدو الله : يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما .وقال عبد الرحمن بن زيد : ( بطريقتكم المثلى ) بالذي أنتم عليه .

ويبدو أن هذا الفريق الأخير هو الذي استطاع أن ينتصر على غيره من السحرة في النهاية، بدليل قوله- تعالى- بعد ذلك: قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى.فهاتان الآيتان تشيران إلى خوف السحرة من موسى وهارون، وإلى أنهم بذلوا أقصى جهدهم في تجميع صفوفهم، وفي تشجيع بعضهم لبعض، حتى لا يستلب موسى- عليه السلام- منهم جاههم وسلطانهم ومنافعهم ...أى: قال السحرة بعضهم لبعض بطريق التناجي والإسرار، ما استقر عليه رأيهم، من أن موسى وهارون ساحران يُرِيدانِ عن طريق سحرهما أن يخرجا السحرة من أرضهم مصر: ليستوليا هما وأتباعهما عليها.ويريدان كذلك أن يذهبا بطريقتكم المثلى. أى بمذهبكم ودينكم الذي هو أمثل المذاهب وأفضلها، وبملككم الذي أنتم فيه، وبعيشكم الذي تنعمون به.فالمثلى: مؤنث أمثل بمعنى أشرف وأفضل. وإنما أنث باعتبار التعبير بالطريقة. هذا، وهناك قراءات في قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ذكرها الإمام القرطبي.فقال ما ملخصه: قوله- تعالى-: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ قرأ أبو عمرو: إن هذين لساحران ورويت- هذه القراءة- عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة ...وقرأ الزهري والخليل ابن أحمد وعاصم في رواية حفص عنه إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بتخفيف إِنْ ... وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، ويكون معناها: ما هذان إلا ساحران.وقرأ المدنيون والكوفيون: إِنْ هذانِ بتشديد إن لَساحِرانِ فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب.فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة من الأئمة..والعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال: الأول أنها لغة بنى الحارث بن كعب وزبيد وخثعم..، يجعلون رفع المثنى ونصبه وخفضه بالألف.. وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية .

ثم ( قالوا ) وأسر بعضهم إلى بعض يتناجون : ( إن هذان لساحران ) يعني موسى وهارون .قرأ ابن كثير وحفص : ( إن ) بتخفيف النون ، ( هذان ) أي : ما هذان إلا ساحران ، كقوله : وإن نظنك لمن الكاذبين ( الشعراء : 186 ) ، أي : ما نظنك إلا من الكاذبين ، ويشدد ابن كثير النون من " هذان " .وقرأ أبو عمرو " إن " بتشديد النون " هذين " بالياء على الأصل .وقرأ الآخرون : " إن " بتشديد النون ، " هذان " بالألف ، واختلفوا فيه :فروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أنه خطئ من الكاتب .وقال قوم : هذه لغة الحارث بن كعب ، وخثعم ، وكنانة ، فإنهم يجعلون الاثنين في الرفع والنصب والخفض بالألف ، يقولون : أتاني الزيدان [ ورأيت الزيدان ] ومررت بالزيدان ، [ فلا يتركون ] ألف التثنية في شيء منها وكذلك يجعلون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفا ، كما في التثنية ، يقولون : كسرت يداه وركبت علاه ، يعني يديه وعليه . وقال شاعرهمتزود مني بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التراب عقيميريد بين أذنيه .وقال آخرإن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاهاوقيل : تقدير الآية : إنه هذان ، فحذف الهاء .وذهب جماعة إلى أن حرف " إن " هاهنا ، بمعنى نعم ، أي : نعم هذان . روي أن أعرابيا سأل ابن الزبير شيئا فحرمه ، فقال : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال ابن الزبير : إن وصاحبها ، أي : نعم .وقال الشاعربكرت علي عواذلي يلحينني وألومهنهويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنهأي : نعم .( يريدان أن يخرجاكم من أرضكم ) مصر ( بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ) قال ابن عباس : يعني بسراة قومكم وأشرافكم ، يقال : هؤلاء طريقة قومهم أي : أشرافهم و ( المثلى ) تأنيث " الأمثل " ، وهو الأفضل ، حديث الشعبي عن علي ، قال : يصرفان وجوه الناس إليهما .قال قتادة : طريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا وأموالا ، فقال عدو الله : يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهم .وقيل : ( بطريقتكم المثلى ) أي بسنتكم ودينكم الذي أنتم عليه و ( المثلى ) نعت الطريقة ، تقول العرب : فلان على الطريقة المثلى ، يعني : على الهدى المستقيم .

قوله تعالى : قالوا إن هذان لساحران قرأ أبو عمر ( إن هذين لساحران ) . ورويت عن عثمان وعائشة - رضي الله عنهما - وغيرهما من الصحابة ؛ وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين ؛ ومن القراء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري ؛ فيما ذكر النحاس . وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف . وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه إن هذان بتخفيف ( إن ) ( لساحران ) وابن كثير يشدد نون ( هذان ) . وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب ، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران . وقرأ المدنيون والكوفيون ( إن هذان ) بتشديد ( إن ) ( لساحران ) فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب . قال النحاس فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الأئمة ، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ ( إن هذان إلا ساحران ) وقال الكسائي في قراءة عبد الله : ( إن هذان ساحران ) بغير لام ؛ وقال الفراء في حرف أبي ( إن ذان إلا ساحران ) فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف .قلت : وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الرد له ، والنحاس في إعرابه ، والمهدوي في تفسيره ، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض . وقد خطأها قوم حتى قال أبو عمرو : إني لأستحي من الله أن أقرأ ( إن هذان ) وروى عروة عن عائشة - رضي الله عنها - أنها سئلت عن قوله تعالى : لكن الراسخون في العلم ثم قال : والمقيمين وفي ( المائدة ) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون و ( إن هذان لساحران ) فقالت يا ابن أختي ! هذا خطأ من الكاتب . وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم . وقال أبان بن عثمان : قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان ، فقال لحن وخطأ ؛ فقال له قائل : ألا تغيروه ؟ فقال : دعوه فإنه لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما . القول الأول من الأقوال الستة أنها لغة بني الحارث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالألف ؛ يقولون : جاء الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان ، ومنه قوله تعالى : ولا أدراكم به على ما تقدم . وأنشد الفراء لرجل من بني أسد - قال : وما رأيت أفصح منه :فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى مساغا لناباه الشجاع لصمماويقولون : كسرت يداه وركبت علاه ؛ يديه وعليه ؛ قال شاعرهم [ هوبر الحارثي ] :تزود منا بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التراب عقموقال آخر :طاروا علاهن فطر علاهاأي عليهن وعليها .وقال آخر :إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاهاأي إن أبا أبيها وغايتيها . قال أبو جعفر النحاس : وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية ؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة ، وقد حكاها من يرتضى بعلمه وأمانته ؛ منهم أبو زيد الأنصاري وهو الذي يقول : إذا قال سيبويه حدثني من أثق به فإنما يعنيني ؛ وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة ، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحارث بن كعب . وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة . المهدوي : وحكى غيره أنها لغة لخثعم . قال النحاس ومن أبين ما في هذا قول سيبويه : واعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين ، الأولى منهما حرف مد ولين وهو حرف الإعراب ؛ قال أبو جعفر فقول سيبويه : وهو حرف الإعراب ، يوجب أن الأصل ألا يتغير ، فيكون ( إن هذان ) جاء على أصله ليعلم ذلك ، وقد قال تعالى : استحوذ عليهم الشيطان ولم يقل استحاذ ؛ فجاء هذا ليدل على الأصل ، وكذلك ( إن هذان ) ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذا كان الأئمة قد رووها . القول الثاني أن يكون ( إن ) بمعنى نعم ؛ كما حكى الكسائي عن عاصم قال : العرب تأتي ب إن بمعنى نعم ، وحكى سيبويه أن ( إن ) تأتي بمعنى أجل ، وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد وإسماعيل بن إسحاق القاضي يذهبان ؛ قال النحاس : ورأيت أبا إسحاق الزجاج وعلي بن سليمان يذهبان إليه . الزمخشري : وقد أعجب به أبو إسحاق . النحاس : وحدثنا علي بن سليمان ، قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام النيسابوري ، ثم لقيت عبد الله بن أحمد فحدثني ، قال حدثني عمير بن المتوكل ، قال حدثنا محمد بن موسى النوفلي من ولد حارث بن عبد المطلب ، قال حدثنا عمر بن جميع الكوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي - وهو ابن الحسين - عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين ، قال : لا أحصي كم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على منبره : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ثم يقول : أنا أفصح قريش كلها وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص قال أبو محمد الخفاف قال عمير : إعرابه عند أهل العربية والنحو إن الحمد لله بالنصب إلا أن العرب تجعل ( إن ) في معنى نعم كأنه أراد - صلى الله عليه وسلم - ؛ نعم الحمد لله ؛ وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح خطبها بنعم . وقال الشاعر في معنى نعم :قالوا غدرت فقلت إن وربما نال العلا وشفى الغليل الغادروقال عبد الله بن قيس الرقيات :بكر العواذل في الصبا ح يلمنني وألومهنهويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنهفعلى هذا جائز أن يكون قول الله - عز وجل - : إن هذان لساحران بمعنى نعم ولا تنصب . قال النحاس : أنشدني داود بن الهيثم ، قال : أنشدني ثعلب :ليت شعري هل للمحب شفاء من جوى حبهن إن اللقاءقال النحاس : وهذا قول حسن إلا أن فيه شيئا لأنه إنما يقال : نعم زيد خارج ، ولا تكاد تقع اللام هاهنا ، وإن كان النحويون قد تكلموا في ذلك فقالوا : اللام ينوى بها التقديم ؛ كما قال :خالي لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكرم الأخوالاآخر :أم الحليس لعجوز شهربه ترضى من الشاة بعظم الرقبهأي لخالي ولأم الحليس ؛ وقال الزجاج : والمعنى في الآية إن هذان لهما ساحران ثم حذف المبتدأ . المهدوي : وأنكره أبو علي وأبو الفتح بن جني . قال أبو الفتح : ( هما ) المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عرف ، وإذا كان معروفا فقد استغني بمعرفته عن تأكيده باللام ، ويقبح أن تحذف المؤكد وتترك المؤكد . القول الثالث قال الفراء أيضا : وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها كما قلت : ( الذي ) ثم زدت عليه نونا فقلت : جاءني الذين عندك ، ورأيت الذين عندك ، ومررت بالذين عندك القول الرابع قاله بعض الكوفيين قال : الألف في ( هذان ) مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير . القول الخامس : قال أبو إسحاق : النحويون القدماء يقولون الهاء هاهنا مضمرة ، والمعنى إنه هذان لساحران ؛ قال ابن الأنباري : فأضمرت الهاء التي هي منصوب ( إن ) و ( هذان ) خبر ( إن ) و ( ساحران ) يرفعها ( هما ) المضمر ، والتقدير : إنه هذان لهما ساحران . والأشبه عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم ( إن ) و ( هذان ) رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء . القول السادس قال أبو جعفر النحاس وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية ، فقال : إن شئت أجبتك بجواب النحويين ، وإن شئت أجبتك بقولي ؛ فقلت بقولك ؛ فقال : سألنيإسماعيل بن إسحاق عنها فقلت . القول عندي أنه لما كان يقال ( هذا ) في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة ، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحدة ؛ فقال ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول به حتى يؤنس به ؛ قال ابن كيسان : فقلت له : فيقول القاضي به حتى يؤنس به ؛ فتبسم .قوله تعالى : يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى هذا من قول فرعون للسحرة ؛ أي غرضهما إفساد دينكم الذي أنتم عليه ؛ كما قال فرعون : إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد . ويقال : فلان حسن الطريقة أي حسن المذهب . وقيل : طريقة القوم أفضل القول ؛ وهذا الذي ينبغي أن يسلكوا طريقته ويقتدوا به ؛ فالمعنى : ويذهبا بسادتكم ورؤسائكم ؛ استمالة لهم . أو يذهبا ببني إسرائيل وهم الأماثل وإن كانوا خولا لكم لما يرجعون إليه من الانتساب إلى الأنبياء . أو يذهبا بأهل طريقتكم فحذف المضاف . و المثلى تأنيث الأمثل ؛ كما يقال الأفضل والفضلى . وأنث الطريقة على اللفظ ، وإن كان يراد بها الرجال . ويجوز أن يكون التأنيث على الجماعة . وقال الكسائي : بطريقتكم بسنتكم وسمتكم . والمثلى نعت كقولك امرأة كبرى . تقول العرب : فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم .

وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار ( إنَّ هَذَانِ) بتشديد إن وبالألف في هذان، وقالوا: قرأنا ذلك كذلك، وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: " إن " خفيفة في معنى ثقيلة، وهي لغة لقوم يرفعون بها، ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى ما، وقال بعض نحويي الكوفة: ذلك على وجهين: أحدهما على لغة بني الحارث بن كعب ومن جاورهم، يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف، وقد أنشدني رجل من الأسد عن بعض بني الحارث بن كعب:فأطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأىمَساغا لِناباه الشُّجاعُ لصَمما (3)قال: وحكى عنه أيضا: هذا خط يدا أخي أعرفه، قال: وذلك وإن كان قليلا أقيس، لأن العرب قالوا: مسلمون، فجعلوا الواو تابعة للضمة، لأنها لا تعرب، ثم قالوا: رأيت المسلمين، فجعلوا الياء تابعة لكسرة الميم، قالوا: فلما رأوا الياء من الاثنين لا يمكنهم كسر ما قبلها، وثبت مفتوحا، تركوا الألف تتبعه، فقالوا: رجلان في كلّ حال. قال: وقد اجتمعت العرب على إثبات الألف في كلا الرجلين، في الرفع والنصب والخفض، وهما اثنان، إلا بني كنانة، فإنهم يقولون: رأيت كلي الرجلين، ومررت بكلي الرجلين، وهي قبيحة قليلة مضوا على القياس، قال: والوجه الآخر أن تقول: وجدت الألف من هذا دعامة، وليست بلام فعل، فلما بنيت زدت عليها نونا، ثم تركت الألف ثابتة على حالها لا تزول بكلّ حال، كما قالت العرب الذي، ثم زادوا نونا تدلّ على الجمع، فقالوا: الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم، كما تركوا هذان في رفعه ونصبه وخفضه، قال: وكان القياس أن يقولوا: اللذون، وقال آخر منهم: ذلك من الجزم المرسل، ولو نصب لخرج إلى الانبساط.وحُدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى، قال: قال أبو عمرو وعيسى بن عمر ويونس: إن هذين لساحران في اللفظ، وكتب هذان كما يريدون الكتاب، واللفظ صواب، قال: وزعم أبو الخطاب أنه سمع قوما من بني كنانة وغيرهم، يرفعون الاثنين في موضع الجر والنصب، قال: وقال بشر بن هلال: إن بمعنى الابتداء والإيجاب، ألا ترى أنها تعمل فيما يليها، ولا تعمل فيما بعد الذي بعدها، فترفع الخبر ولا تنصبه، كما نصبت الاسم، فكان مجاز " إن هذان لساحران "، مجاز كلامين، مَخْرجه: إنه إي نعم، ثم قلت: هذان ساحران. ألا ترى أنهم يرفعون المشترك كقول ضابئ:فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدِينَةِ رَحْلُهُفإنّي وَقيار بِهَا لَغَرِيبُ (4)وقوله:إنَّ السُّيوفَ غُدُوَّها ورَوَاحَهاتَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعْضَبِ (5)قال: ويقول بعضهم: إن الله وملائكته يصلون على النبيّ، فيرفعون على شركة الابتداء، ولا يعملون فيه إنَّ. قال: وقد سمعت الفصحاء من المحرمين يقولون: إن الحمد والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك، قال: وقرأها قوم على تخفيف نون إن وإسكانها، قال: ويجوز لأنهم قد أدخلوا اللام في الابتداء وهي فصل، قال:أُمُّ الحُلَيْس لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ (6)قال: وزعم قوم أنه لا يجوز، لأنه إذا خفف نون " إن " فلا بدّ له من أن يدخل " إلا " فيقول: إن هذا إلا ساحران.قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا(إنّ) بتشديد نونها، وهذان بالألف لإجماع الحجة من القرّاء عليه، وأنه كذلك هو في خطّ المصحف، ووجهه إذا قرئ كذلك مشابهته الذين إذ زادوا على الذي النون، وأقرّ في جميع الأحوال الإعراب على حالة واحدة، فكذلك (إنَّ هَذَانِ) زيدت على هذا نون وأقرّ في جميع أحوال الإعراب على حال واحدة، وهي لغة الحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد، ومن وليهم من قبائل اليمن.وقوله ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) يقول: ويغلبا على ساداتكم وأشرافكم، يقال: هو طريقة قومه ونظورة قومه، ونظيرتهم إذا كان سيدهم وشريفهم والمنظور إليه، يقال ذلك للواحد والجمع، وربما جمعوا، فقالوا: هؤلاء طرائق قومهم، ومنه قول الله تبارك وتعالى: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا وهؤلاء نظائر قومهم.وأما قوله (المُثْلَى) فإنها تأنيث الأمثل، يقال للمؤنث، خذ المثلى منهما. وفي المذكر: خذ الأمثل منهما، ووحدت المثلى، وهي صفة ونعت للجماعة، كما قيل لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وقد يحتمل أن يكون المُثلى أنثت لتأنيث الطريقة.وبنحو ما قلنا في معنى قوله ( بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) يقول: أمثلكم وهم بنو إسرائيل.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) قال: أولي العقل والشرف والأنساب.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال: أولي العقول والأشراف والأنساب.حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتَادة، قوله: ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) وطريقتهم المُثلى يومئذ كانت بنو إسرائيل، وكانوا أكثر القوم عددا وأموالا وأولادا، قال عدوّ الله: إنما يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهما.حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله ( بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال: ببني إسرائيل.حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) يقول: يذهبا بأشراف قومكم.وقال آخرون: معنى ذلك، ويغيرا سنتكم ودينكم الذي أنتم عليه، من قولهم: فلان حسن الطريقة.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال: يذهبا بالذي أنتم عليه، يغير ما أنتم عليه، وقرأ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ قال: هذا قوله: ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) وقال: يقول طريقتكم اليوم طريقة حسنة، فإذا غيرت ذهبت هذه الطريقة.ورُوي عن عليّ في معنى قوله ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) ما حدثنا به القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم، عن عليّ بن أبي طالب، قال: يصرفان وجوه الناس إليهما.قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد في قوله ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) وإن كان قولا له وجه يحتمله الكلام، فإن تأويل أهل التأويل خلافه، فلا أستجيز لذلك القول به.--------------------الهوامش :(3) البيت للمتلمس : جرير بن عبد العزى ، وقيل جرير بن عبد المسيح ، من كلمة له رواها ابن الشجري ( انظر كتاب الأشموني في النحو بشرح الأستاذ محيي الدين عبد الحميد ، طبعة الحلبي 1 : 47 ) . قال : أطرق : سكت فلم يتكلم وأرخى عينيه ينظر إلى الأرض . والشجاع : ضرب من الحيات لطيف دقيق ، وهو أجرؤها . أو هو الحية العظيمة تثب على الفارس والراجل وتقوم على ذنبها ، وربما بلغت رأس الفارس ، وتكون في الصحاري . ومساغا : اسم مكان من ساغ يسوغ : إذا دخل ونفذ . وصمما عضد ونيب . والبيت جار على لغة بني الحارث بن كعب ومن لف لفهم ، والشاهد فيه أن قوله لناباه مثنى مجرور باللام ، وقد جاء بالألف ، وهي لغة بني الحارث بن كعب وبني العنبر وبني الهجيم وبطون من ربيعة وبكر بن وائل ، وزبيد وخثعم وهمدان وعذرة . ويخرج بعض النحويين على هذه اللغة قوله تعالى : " إن هذان لساحران " وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا وتران في ليلة " . قال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 198 من مصورة الجامعة 24059 ) فقراءتنا بتشديد إن ، وبالألف ؛ على جهتين : إحداهما على لغة بني الحارث بن كعب يجعلون الاثنين في رفعهما وخفضهما بالألف ، أنشدني رجل من الأسد عنهم " فأطرق إطراق الشجاع " . . . البيت . وحكى هذا الرجل عنهم : هذا خط يدا أخي ، أعرفه بعينه وذلك وإن كان قليلا أقيس . ( وساق المؤلف كلام الفراء إلى آخره ) .(4) البيت لضابئ بن الحارث البرجمي ، وهو أول أبيات قالها وهو محبوس بالمدينة ، في زمن عثمان بن عفان . وبعده ثلاثة أبيات أنشدها أبو العباس المبرد في الكامل ( خزانة الأدب للبغدادي 4 : 323 - 328 ) واستشهد به النحاة على أن قوله ( قيار ) مبتدأ حذف خبره ، والجملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها ، والتقدير : فإني وقيار كذلك ، لغريب . وإنما لم يجعل الخبر لقيار ، ويكون خبر إن محذوفا ؛ لأن اللام لا تدخل في خبر المبتدأ حتى يقدم ، نحو لقائم زيد . وهذا تخريج له خلاف مذهب سيبويه ، فإن الجملة عنده في نية التأخير ، فهي معطوفة لا معترضة ، وزعم الكسائي والفراء أن نصب إن ضعيف لأنها إنما تغير الاسم ولا تغير الخبر ، قال الزجاج : وهذا غلط ، لأن إن قد عملت عملين : الرفع والنصب ، وليس في العربية ناصب ليس معه مرفوع ، لأن كل منصوب مشبه بالمفعول ، والمفعول لا يكون بغير فاعل ، إلا فيما لم يسم فاعله . وكيف يكون نصب إن ضعيفا وهي تتخطى الظروف وتنصب ما بعدها نحو " إن فيها قوما جبارين " ، ونصب إن من أقوى المنصوبات أه .(5) البيت للأخطل ( خزانة الأدب للبغدادي 2 : 372 ) من قصيدة له ستة عشر بيتا مدح بها العباس بن محمد بن عبد الله بن العباس . والبيت شاهد عند النحاة على أنه قد يعتبر الأول في اللفظ دون الثاني ، أي يعتبر المبدل منه في اللفظ دون البدل فإن قوله " غدوها " بدل من السيوف ، قال المبرد في الكامل : هو بدل اشتمال ، وقد روعي المبدل منه في اللفظ ، بإرجاع الضمير إليه من الخبر ، ولم يراع البدل ولو روعي لقيل " تركا " بالتثنية . وهوازن : أبو قبيلة ، وهو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر . والأعضب : الذي انكسر أحد قرنيه . وأورد المؤلف البيت شاهدا على أنهم قد يرفعون المشترك ، أي المعطوف على اسم إن ، وليس في البيت عطف على اسم إن ، وإنما هو إبدال من المنصوب كما قرره المبرد وأبو علي الفارسي في إيضاح الشعر .(6) هذا بيت من مشطور الرجز نسبه الصاغاني في العباب إلى عنترة بن عروش بالشين في آخره ، وقيل بالسين ، مولى ثقيف . ( خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 4 : 328 - 330 ) . وهو شاهد على أنه شذ دخول اللام على خبر المبتدأ المؤخر ، مجردا من إن . وقدر بعضهم : لهي عجوز ، لتكون في التقدير داخلة على المبتدأ . قال ابن السراج في الأصول : قال أبو عثمان : وقرأ سعيد بن جبير ( إلا أنهم لا يأكلون الطعام ) : فتح أن ، وجعل اللام زائدة كما زيدت في قوله :أم الحليس لعجوز شهربهترضى من اللحم بعظم الرقبةانتهى . وعند ابن جني غير زائدة ، لكنها في البيت ضرورة . قال في سر الصناعة : وأما الضرورة التي تدخل لها اللام في خبر إن فمن ضرورات الشعر ، ولا يقاس عليها ؛ والوجه أن يقال : لأم الحليس عجوز شهربه ، كما يقال لزيد قائم . وأورد المؤلف البيت شاهدا على أن اللام فيه " وقيار بها لغريب " هي لام ابتداء أخرجت إلى الخبر ، كما في قول الراجز : أم الحليس لعجوز ، وأصله : لأم الحليس عجوز .

قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) وجملة { قَالُوا إنْ هذانن لساحران } بدل اشتمال من جملة { وأسَرُّوا النجوى } ، لأن إسرار النجوى يشتمل على أقوال كثيرة ذُكر منها هذا القول ، لأنّه القول الفصل بينهم والرأي الذي أرسوا عليه ، فهو زبدة مخيض النجوى . وذلك شأن التشاور وتنازع الآراء أن يسفر عن رأي يصدر الجميع عنه .وإسناد القول إلى ضمير جمعهم على معنى : قال بعضهم : هذان لساحران ، فقال جميعهم : نعم هذان لسَاحران ، فأسند هذا القول إلى جميعهم ، أي مقالة تداولوا الخوض في شأنها فأرسوا عليها . وقال بعضهم لبعض : نعم هو كذلك ، ونطقوا بالكلام الذي استقرّ عليه رأيهم ، وهو تحققهم أنّ موسى وأخاه ساحران .واعلم أنّ جميع القراء المعتبرين قرأوا بإثبات الألف في اسم الإشارة من قوله «هاذان» ما عدا أبا عمرو من العشرة وما عدا الحسن البصري من الأربعة عشر . وذلك يوجب اليقين بأن إثبات الألف في لفظ ( هذانِ ) أكثر تواتراً بقطع النظر عن كيفيّة النطق بكلمة ( إنّ ) مشدّدة أو مخفّفة ، وأن أكثر مشهور القراءات المتواترة قرأوا بتشديد نون ( إنّ ) ما عدا ابنَ كثير وحفصاً عن عاصم فهما قرءَا ( إنْ ) بسكون النون على أنها مخففة من الثقيلة .وإن المصحف الإمام ما رسمُوه إلاّ اتّباعاً لأشهر القراءات المسموعة المروية من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقرّاء أصحابه ، فإن حفظ القرآن في صدور القرّاء أقدم من كتابته في المصاحف ، وما كتب في أصول المصاحف إلاّ من حفظ الكاتِبين ، وما كُتب المصحف الإمام إلا من مجموع محفوظ الحُفاظ وما كتبه كتاب الوحي في مدة نزول الوحي .فأما قراءة الجمهور { إنّ هذان لساحران بتشديد نون ( إنّ ) وبالألف في هذان وكذلك في لساحران ، فللمفسرين في توجيهها آراء بلغت الستّة . وأظهرها أن تكون ( إنّ ) حرف جواب مثل : نعم وأجَل ، وهو استعمال من استعمالات ( إنّ ) ، أي اتبعوا لما استقر عليه أمرهم بعد النّجوى كقول عبد الله بن قيس الرقيّات :ويقلْن شيب قد عَلا ... كَ وقد كبِرت فقلت إنّهأي أجل أو نعم ، والهاء في البيت هاءُ السّكْتتِ ، وقول عبد الله بن الزُبير لأعرابي استجداه فلم يعطه ، فقال الأعرابي : لعَن الله ناقة حملتني إليك . قال ابن الزّبير : إنّ وراكِبَها . وهذا التوجيه من مبتكرات أبي إسحاق الزجاج ذكره في تفسيره }. وقال : عرضته على عالمينا وشيْخينا وأستاذيْنا محمد بن يزيد ( يعني المبرد ) ، وإسماعيل بن إسحاق بن حمّاد ( يعني القاضي الشهير ) فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعاه في هذا .وقلت : لقد صدقا وحقّقا ، وما أورده ابن جنّي عليه من الرد فيه نظر .وفي «التفسير الوجيز» للواحدي سأل إسماعيل القاضي ( هو ابن إسحاق بن حمّاد ) ابنَ كيسان عن هذه المسألة ، فقال ابنُ كيسان : لما لم يظهر في المبهم إعرابٌ في الواحد ولا في الجمع ( أي في قولهم هذا وهؤلاء إذ هما مبنيان ) جرت التثنية مجرى الواحد إذ التثنية يجب أن لا تغيّر . فقال له إسماعيل : ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يُؤْنس به فقال له ابنُ كيسان : فليقل به القاضي حتى يؤنس به ، فتبسم .وعلى هذا التوجيه يكون قوله تعالى : { إنّ هَذاننِ لسَاحِرانِ } حكايةً لمقال فريق من المتنازعين ، وهو الفريق الذي قبِل هذا الرأي لأنّ حرف الجواب يقتضي كلاماً سبقه .ودخلت اللاّم على الخبر : إما على تقدير كون الخبر جملة حذف مبتدأها وهو مدخول اللام في التقدير ، ووجودُ اللاّم ينبىء بأن الجملة التي وقعت خبراً عن اسم الإشارة جملة قسميّة؛ وإما على رأي من يجيز دخول اللام على خبر المبتدأ في غير الضرورة .ووجهت هذه القراءة أيضاً بجعل ( إنّ ) حرف توكيد وإعراببِ اسمها المثنّى جَرى على لغة كنانة وبِلْحارث بن كعب الذين يجعلون علامة إعراب المثنى الألفَ في أحوال الإعراب كلها ، وهي لغة مشهورة في الأدب العربي ولها شواهد كثيرة منها قول المتلمّس :فأطرقَ إطراقَ الشُجاع ولو درى ... مساغاً لِنَأبَاهُ الشجاعُ لصمّماوقرأه حفص بكسر الهمزة وتخفيف نون ( إنْ ) مسكنة على أنها مخففة ( إنّ ) المشددة . ووجه ذلك أن يكون اسم ( إنْ ) المخففة ضمير شأن محذوفاً على المشهور . وتكون اللاّم في { لساحران } اللاّم الفارقة بين ( إنْ ) المخففة وبين ( إن ) النافية .وقرأ ابن كثير بسكون نون ( إنْ ) على أنها مخففة من الثقيلة وبإثبات الألف في «هذان» وبتشديد نون ( هاذانّ ).وأما قراءة أبي عمرو وحده { إنَّ هذَيْن بتشديد نون ( إنّ ) وبالياء بعد ذال هذين . فقال القرطبي : هي مخالفة للمصحف . وأقل : ذلك لا يطعن فيها لأنّها رواية صحيحة ووافقت وجهاً مقبولاً في العربيّة .ونزول القرآن بهذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال ضرب من ضروب إعجازه لتجري تراكيبه على أفانين مختلفة المعاني متحدة المقصود . فلا التفات إلى ما روي من ادعاء أن كتابة إن هاذان خطأ من كاتب المصحف ، وروايتِهم ذلك عن أبانَ بن عثمان بن عفّان عن أبيه ، وعن عروة بن الزبير عن عائشة ، وليس في ذلك سند صحيح .حسبوا أنّ المسلمين أخذوا قراءة القرآن من المصاحف وهذا تغفّل ، فإن المصحف ما كتب إلاّ بعد أن قرأ المسلمون القرآن نيّفاً وعشرين سنة في أقطار الإسلام ، وما كتبت المصاحف إلاّ من حفظ الحفّاظ ، وما أخذ المسلمون القرآن إلاّ من أفواه حُفّاظه قبل أن تكتب المصاحف ، وبعد ذلك إلى اليوم فلو كان في بعضها خطأ في الخطّ لما تبعه القراء ، ولكان بمنزلة ما تُرك من الألفات في كلمات كثيرة وبمنزلة كتابة ألف الصلاة ، والزكاة ، والحياة ، والرّبا بالواو في موضع الألف وما قرأوها إلاّ بألِفاتها .وتأكيد السحرة كونَ موسى وهارون ساحرين بحرف ( إنّ ) لتحقيق ذلك عند من يخامره الشكّ في صحّة دعوتهما .وجعل ما أظهره موسى من المعجزة بين يدي فرعون سحراً لأنّهم يطلقون السحر عندهم على خوارق العادات ، كما قالت المرأة الّتي شاهدت نبع الماء من بين أصابع النبي لقومها : جئتكم من عندِ أسْحر النّاس ، وهو في كتاب المغازي من صحيح البخاري }.والقائلون : قد يكون بعضهم ممن شاهد ما أتى به موسى في مجلس فرعون ، أو ممن بلغهم ذلك بالتسامع والاستفاضة .والخطاب في قوله { أن يُخْرِجَاكُم } لملئهم . ووجه اتهامهما بذلك هو ما تقدم عند قوله تعالى : { قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى } [ طه : 57 ]. ونزيد هنا أن يكون هذا من النجوى بين السحرة ، أي يريداننِ الاستئثار بصناعة السحر في أرضكم فتخرجوا من الأرض بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سحر موسى وهارون .والطريقة : السُّنّة والعادة؛ شبهت بالطريق الذي يسير فيه السائر ، بجامع الملازمة .والمثلى : مؤنّث الأمثل . وهو اسم تفضيل مشتقّ من المَثَالة ، وهي حسن الحالة يقال : فلان أمثل قومِه ، أي أقربهم إلى الخير وأحسنهم حالاً .وأرادوا من هذا إثارة حمية بعضهم غيرة على عوائدهم ، فإن لكلّ أمّة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها . ولذا فرّعوا على ذلك أمرهم بأن يجمعوا حيلهم وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى .والباء في { بطريقتكم } لتعدية فعل { يذهبا . والمعنى : يُذهبانها ، وهو أبلغ في تعلّق الفعل بالمفعول من نصب المفعول . وتقدّم عند قوله تعالى : { ذهب الله بنورهم } في سورة البقرة ( 17 ).وقرأ الجمهور فأجمِعوا } بهمزة قطع وكسر الميم أمراً من : أجمع أمره ، إذا جعله متفقاً عليه لا يختلف فيه .وقرأ أبو عمرو { فاجمَعوا } بهمزة وصل وبفتح الميم أمراً من جمع ، كقوله فيما مضى { فجَمَع كيْدَه } [ طه : 60 ]. أطلق الجمع على التعاضد والتعاون ، تشبيهاً للشيء المختلف بالمتفرّق ، وهو مقابل قوله { فتنازعوا أمرهم }.وسموا عملهم كيداً لأنهم تواطئوا على أن يظهروا للعامة أن ما جاء به موسى ليس بعجيب ، فهم يأتون بمثله أو أشدّ منه ليصرفوا الناس عن سماع دعوته فيكيدوا له بإبطال خصيصية ما أتى به .والظاهر أنّ عامة الناس تسامعوا بدعوة موسى ، وما أظهره الله على يديه من المعجزة ، وأصبحوا متحيّرين في شأنه؛ فمن أجل ذلك اهتمّ السحرة بالكيد له ، وهو ما حكاه قوله تعالى : في آية سورة الشعراء ( 38 40 ) :
الآية 63 - سورة طه: (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى...)