سورة محمد: الآية 15 - مثل الجنة التي وعد المتقون...

تفسير الآية 15, سورة محمد

مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَآ أَنْهَٰرٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَٰرٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُۥ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَٰلِدٌ فِى ٱلنَّارِ وَسُقُوا۟ مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ

الترجمة الإنجليزية

Mathalu aljannati allatee wuAAida almuttaqoona feeha anharun min main ghayri asinin waanharun min labanin lam yataghayyar taAAmuhu waanharun min khamrin laththatin lilshsharibeena waanharun min AAasalin musaffan walahum feeha min kulli alththamarati wamaghfiratun min rabbihim kaman huwa khalidun fee alnnari wasuqoo maan hameeman faqattaAAa amAAaahum

تفسير الآية 15

صفة الجنة التي وعدها الله المتقين: فيها أنهارٌ عظيمة من ماء غير متغيِّر، وأنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه، وأنهار من خمر يتلذذ به الشاربون، وأنهار من عسل قد صُفِّي من القذى، ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة جميع الثمرات من مختلف الفواكه وغيرها، وأعظم من ذلك السَّتر والتجاوزُ عن ذنوبهم، هل مَن هو في هذه الجنة كمَن هو ماكث في النار لا يخرج منها، وسُقوا ماء تناهى في شدة حره فقطَّع أمعاءهم؟

«مثل» أي صفة «الجنة التي وعد المتقون» المشتركة بين داخليها مبتدأ خبره «فيها أنهار من ماءٍ غير آسن» بالمد والقصر كضارب وحذر، أي غير متغير بخلاف ماء الدنيا فيتغير بعارض «وأنهار من لبن لم يتغير طعمه» بخلاف لبن الدنيا لخروجه من الضروع «وأنهار من خمر لذة» لذيذة «للشاربين» بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب «وأنهار من عسل مصفى» بخلاف عسل الدنيا فإنه بخروجه من بطون النحل يخالط الشمع وغيره «ولهم فيها» أصناف «من كل الثمرات ومغفرة من ربهم» فهو راض عنهم مع إحسانه إليهم بما ذكر بخلاف سيد العبيد في الدنيا فإنه قد يكون مع إحسانه إليهم ساخطا عليهم «كمن هو خالد في النار» خبر مبتدأ مقدر، أي أمن هو في هذا النعيم «وسقوا ماء حميما» أي شديد الحرارة «فقطَّع أمعاءهم» أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم، وهو جمع معى بالقصر، وألفه عن ياء لقولهم ميعان.

أي: مثل الجنة التي أعدها الله لعباده، الذين اتقوا سخطه، واتبعوا رضوانه، أي: نعتها وصفتها الجميلة. فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي: غير متغير، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بمرارة، ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها ريحا، وألذها شربا. وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بحموضة ولا غيرها، وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي: يلتذ به شاربه لذة عظيمة، لا كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع الرأس، ويغول العقل. وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى من شمعه، وسائر أوساخه. وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ من نخيل، وعنب، وتفاح، ورمان، وأترج، وتين، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم.ثم قال: وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ يزول بها عنهم المرهوب، فأي هؤلاء خير أم من هو خالد في النار التي اشتد حرها، وتضاعف عذابها، وَسُقُوا فيها مَاءً حَمِيمًا أي: حارا جدا، فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين، والعاملين والعملين.

ثم قال : ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) قال عكرمة : ( مثل الجنة ) أي : نعتها : ( فيها أنهار من ماء غير آسن ) قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : يعني غير متغير . وقال قتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني : غير منتن . والعرب تقول : أسن الماء ، إذا تغير ريحه .وفي حديث مرفوع أورده ابن أبي حاتم : ( غير آسن ) يعني : الصافي الذي لا كدر فيه .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق قال : قال عبد الله : أنهار الجنة تفجر من جبل من مسك .( وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ) أي : بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة . وفي حديث مرفوع : " لم يخرج من ضروع الماشية " .( وأنهار من خمر لذة للشاربين ) أي : ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا ، بل [ هي ] حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل ، ( لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ) [ الصافات : 47 ] ، ( لا يصدعون عنها ولا ينزفون ) [ الواقعة : 19 ] ، ( بيضاء لذة للشاربين ) [ الصافات : 46 ] ، وفي حديث مرفوع : " لم تعصرها الرجال بأقدامها " .[ وقوله ] ( وأنهار من عسل مصفى ) أي : وهو في غاية الصفاء ، وحسن اللون والطعم والريح ، وفي حديث مرفوع : " لم يخرج من بطون النحل " .وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الجريري ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " في الجنة بحر اللبن ، وبحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار منها بعد " .ورواه الترمذي في " صفة الجنة " ، عن محمد بن بشار ، عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن إياس الجريري به وقال : حسن صحيح .وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هذه الأنهار تشخب من جنة عدن في جوبة ، ثم تصدع بعد أنهارا "وفي الصحيح : " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن " .وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري ، وعبد الله بن الصقر السكري قالا : حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة ، حدثني عبد الرحمن بن عياش ، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي ، عن أبيه ، عن عمه لقيط بن عامر ، قال دلهم : وحدثنيه أيضا أبو الأسود ، عن عاصم بن لقيط أن لقيط بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : يا رسول الله ، فعلام نطلع من الجنة ؟ قال : " على أنهار عسل مصفى ، وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة ، لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله ، وأزواج مطهرة " قلت : يا رسول الله ، أولنا فيها أزواج مصلحات ؟ قال : " الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم ، غير ألا توالد " .وقال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا يعقوب بن عبيدة ، عن يزيد بن هارون ، أخبرني الجريري ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك قال : لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أخدود في الأرض ، والله إنها لتجري سائحة على وجه الأرض ، حافاتها قباب اللؤلؤ ، وطينها المسك الأذفر .وقد رواه أبو بكر بن مردويه ، من حديث مهدي بن حكيم ، عن يزيد بن هارون به مرفوعا .وقوله : ( ولهم فيها من كل الثمرات ) ، كقوله : ( يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ) [ الدخان : 55 ] . وقوله : ( فيهما من كل فاكهة زوجان ) [ الرحمن : 52 ] .وقوله : ( ومغفرة من ربهم ) أي : مع ذلك كله .وقوله : ( كمن هو خالد في النار ) أي : أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة كمن هو خالد في النار ؟ ليس هؤلاء كهؤلاء ، أي : ليس من هو في الدرجات كمن هو في الدركات ، ( وسقوا ماء حميما ) أي : حارا شديد الحر ، لا يستطاع . ( فقطع أمعاءهم ) أي : قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء ، عياذا بالله من ذلك .

ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى بأن بين مصير الفريقين فقال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ.والمراد بالمثل هنا: الصفة. وهو مبتدأ، والكلام على تقدير الاستفهام الإنكارى، وتقدير مضاف محذوف، والخبر قوله- تعالى-: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ. أى: أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد في النار، أو: أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار، وقدر الاستفهام في المبتدأ لأنه مرتب على الإنكارى السابق في قوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ.ورحم الله- تعالى- صاحب الكشاف، فقد قال: فإن قلت ما معنى قوله- تعالى-:مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ كمن هو خالد في النار؟قلت: هو كلام في صورة الإثبات، ومعناه النفي والإنكار، لانطوائه تحت حكم كلام مصدر بحروف الإنكار، ودخوله في حيزه، وانخراطه في سلكه، وهو قوله- تعالى-:أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ..؟ فكأنه قيل: أمثل الجنة كمن هو خالد في النار، أى كمثل جزاء من هو خالد في النار؟فإن قلت: فلم عرّى في حرف الإنكار؟ وما فائدة التعرية؟قلت: تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوى بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجرى فيها الأنهار، وبين النار التي يسقى أهلها الجحيم.. .وقوله- سبحانه-: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ تفسير مسوق لشرح محاسن الجنة أى: صفة الجنة التي وعد الله- تعالى- بها عباده المتقين، أنها فيها أنهار من ماء ليس متغيرا في طعمه أو رائحته، وإنما هو ماء طيب لذيذ تشتهيه النفوس.والماء الآسن: هو الماء الذي تغير طعمه وريحه، لطول مكثه في مكان معين. يقال: أسن الماء يأسن- كضرب- يضرب، إذا تغير.وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ أى: وفيها- أيضا- أنهار من لبن لم يتغير طعمه لا بالحموضة ولا بغيرها مما يجرى على الألبان التي تشرب في الدنيا.وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أى: وفيها كذلك أنهار من خمر هي في غاية اللذة لمن يشربها، إذ لا يعقبها ذهاب عقل، ولا صداع.وقال- سبحانه- لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ للإشعار بأنها لذيذة لجميع من يشربونها بخلاف خمر الدنيا فإن من الناس من ينفر منها ويعافها حتى ولو كان على غير دين الإسلام.وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى أى: وفيها- أيضا- أنهار من عسل لا يخالطه ما يخالط عسل الدنيا من الشمع أو غيره.وَلَهُمْ أى: للمؤمنين فِيها أى: في الجنة فضلا عن كل ذلك مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ التي يشتهونها، وأهم من كل ذلك أنهم لهم فيها: مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أى: لهم ثواب عظيم وفضل كبير من ربهم، حيث ستر لهم ذنوبهم، وأزالها عنهم، وحولها إلى حسنات بكرمه وإحسانه.وقوله- سبحانه-: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ أى:أمثل جزاء المؤمنين الذي هو الجنة التي فيها ما فيها من أنهار الماء واللبن والخمر والعسل..كمثل عقاب الكافرين والمتمثل في نارهم خالدين فيها أبدا، وفي ماء في أشد درجات الحرارة، يشربونه فيقطع أمعاءهم؟لا شك أن كل عاقل يرى فرقا شاسعا، بين حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة الكافرين.وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد فرقت بين الأخيار والأشرار في المنهج والسلوك، وفي المصير الذي يصير إليه كل فريق.وبعد هذا الحديث المفصل عن حال المؤمنين وحال الكافرين وعن مصير كل فريق. انتقلت السورة إلى الحديث عن المنافقين، وعن موقفهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن القرآن الكريم الذي أنزله الله- تعالى- عليه، فقال- سبحانه-:

( مثل الجنة التي وعد المتقون ) أي صفتها ( فيها أنهار من ماء غير آسن ) آجن متغير منتن ، قرأ ابن كثير " أسن " بالقصر ، والآخرون بالمد ، وهما لغتان يقال : أسن الماء يأسن أسنا ، وأجن يأجن ، أسونا وأجونا ، إذا تغير ( وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة ) [ لذيذة ] ( للشاربين ) لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي ( وأنهار من عسل مصفى ) .أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر ، عن عبيد الله بن عمر ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة " .قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر .( ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار ) أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار ( وسقوا ماء حميما ) شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا أدني منهم شوى وجوههم ووقعت فروة رءوسهم فإذا شربوه ( فقطع أمعاءهم ) فخرجت من أدبارهم ، والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معى .

قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم .قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون لما قال - عز وجل - : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات وصف تلك الجنات ، أي : صفة الجنة المعدة للمتقين . وقد مضى الكلام في هذا في ( الرعد ) وقرأ علي بن أبي طالب ( مثال الجنة التي وعد المتقون )فيها أنهار من ماء غير آسن أي غير متغير الرائحة . والآسن من الماء مثل الآجن . وقد أسن الماء يأسن ويأسن أسنا وأسونا إذا تغيرت رائحته . وكذلك أجن الماء يأجن ويأجن أجنا وأجونا . ويقال بالكسر فيهما : أجن وأسن يأسن ويأجن أسنا وأجنا ، قاله اليزيدي . وأسن الرجل أيضا يأسن ( بالكسر لا غير ) إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك فغشي عليه أو دار رأسه ، قال زهير :قد أترك القرن مصفرا أنامله يميد في الرمح ميد المائح الأسنويروى ( الوسن ) وتأسن الماء تغير . أبو زيد : تأسن علي تأسنا اعتل وأبطأ . أبو عمرو : تأسن الرجل أباه أخذ أخلاقه . وقال اللحياني : إذا نزع إليه في الشبه ، وقراءة العامة آسن بالمد . وقرأ ابن كثير وحميد ( أسن ) بالقصر ، وهما لغتان ، مثل حاذر وحذر . وقال الأخفش : أسن للحال ، وآسن ( مثل فاعل ) يراد به الاستقبال .وأنهار من لبن لم يتغير طعمه أي لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة . وأنهار من خمر لذة للشاربين أي لم تدنسها الأرجل ولم ترنقها الأيدي كخمر الدنيا ، فهي لذيذة الطعم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون . يقال : شراب لذ ولذيذ بمعنى . واستلذه عده لذيذا . وأنهار من عسل مصفى العسل ما يسيل من لعاب النحل . مصفى أي : من الشمع والقذى ، خلقه الله كذلك لم يطبخ على نار ولا دنسه النحل . وفي الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد . قال : حديث حسن صحيح . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة . وقال كعب : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم . وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر . والعسل : يذكر ويؤنث . وقال ابن عباس : من عسل مصفى أي : لم يخرج من بطون النحل .ولهم فيها من كل الثمرات من زائدة للتأكيد . ومغفرة من ربهم أي لذنوبهم . كمن هو خالد في النار قال الفراء : المعنى أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار . وقال الزجاج : أي : أفمن كان على بينة من ربه وأعطي هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار . فقوله : كمن بدل من قوله : أفمن زين له سوء عمله . وقال ابن كيسان : مثل هذه الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم . ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمثل أهل النار في العذاب المقيم .وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم أي حارا شديد الغليان ، إذا أدني منهم شوى وجوههم ، ووقعت فروة رءوسهم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم . والأمعاء : جمع معى ، والتثنية معيان ، وهو جميع ما في البطن من الحوايا .

القول في تأويل قوله تعالى : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)يقول تعالى ذكره: صفة الجنة التي وعدها المتقون, وهم الذين اتقوا في الدنيا عقابه بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) يقول تعالى ذكره في هذه الجنة التي: ذكرها أنهار من ماء غير متغير الريح, يقال منه: قد أسن ماء هذه البئر: إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت, فهو يأسَن أسَنًا, وكذلك يُقال للرجل إذا أصابته ريح منتنة: قد أَسِن فهو يأْسَن. وأما إذا أَجَنَ الماء وتغير, فإنه يقال له: أسِن فهو يأسَن, ويأسن أسونا, وماء أسن.وبنحو الذي قلنا في معنى قوله ( مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني علي, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) يقول: غير متغير.حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله ( أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) قال: من ماء غير مُنْتن.حدثني عيسى بن عمرو, قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد, قال: ثنا مصعب بن سلام, عن سعد بن طريف, قال: سألت أبا إسحاق عن ( مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) قال: سألت عنها الحارث, فحدثني أن الماء الذي غير آسن تسنيم, قال: بلغني أنه لا تمسه يد, وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل فى فيه. وقوله ( وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) يقول تعالى ذكره: وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع, ولكنه خلقه الله ابتداء في الأنهار, فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه.وقوله ( وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) يقول: وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين يلتذّون بشربها.كما حدثني عيسى, قال: ثنا إبراهيم بن محمد, قال: ثنا مصعب, عن سعد بن طريف, قال: سألت عنها الحارث, فقال: لم تدسه المجوس, ولم ينفخ فيه الشيطان, ولم تؤذها شمس, ولكنها فوحاء (1) قال: قلت لعكرمة: ما الفوحاء: قال: الصفراء.وكما حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: ثنا حفص بن عمر, قال: ثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة, في قوله ( مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) قال: لم يحلب, وخُفِضت اللذة على النعت للخمر, ولو جاءت رفعا على النعت للأنهار جاز, أو نصبا على يتلذّذ بها لذة, كما يقال: هذا لك هبة. كان جائزا ; فأما القراءة فلا أستجيزها فيها إلا خفضا لإجماع الحجة من القرّاء عليها.وقوله ( وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ) يقول: وفيها أنهار من عسل قد صُفِّي من القَذى, وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية, إنما أعلم تعالى ذكره عباده بوصفه ذلك العسل بأنه مصفى أنه خلق في الأنهار ابتداء سائلا جاريا سيل الماء واللبن المخلوقين فيها, فهو من أجل ذلك مصفًّى, قد صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا يصفو من الأقذاء إلا بعد التصفية, لأنه كان في شمع فصُفي منه.وقوله ( وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) يقول تعالى ذكره: ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة من هذه الأنهار التي ذكرنا من جميع الثمرات التي تكون على الأشجار ( وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) يقول: وعفو من الله لهم عن ذنوبهم التي أذنبوها في الدنيا, ثم تابوا منها, وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبة عليها.وقوله ( كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ) يقول تعالى ذكره: أمَّن هو في هذه الجنة التي صفتها ما وصفنا, كمن هو خالد في النار. وابتُدئ الكلام بصفة الجنة, فقيل: مثل الجنة التي وعد المتقون, ولم يقل: أمَّن هو في الجنة. ثم قيل بعد انقضاء الخبر عن الجنة وصفتها( كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ) . وإنما قيل ذلك كذلك, استغناء بمعرفة السامع معنى الكلام, ولدلالة قوله ( كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ) على معنى قوله ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ).وقوله ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا ) يقول تعالى ذكره: وسُقي هؤلاء الذين هم خلود في النار ماء قد انتهى حرّه فقطع ذلك الماء من شدّة حرّه أمعاءهم.كما حدثني محمد بن خلف العَسْقلانيّ, قال: ثنا حَيْوة بن شُريح الحِمصِيّ, قال: ثنا بقية, عن صفوان بن عمرو, قال: ثني عبيد الله بن بشر, عن أبي أُمامة الباهلي, عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقوله وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ قال: يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ, فإذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ, وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رأْسِهِ, فإذَا شَرِبَ قَطَّعَ أمْعاءَهُ حتى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ. قال: يقول الله ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) يقول الله عزّ وجلّ &; 22-169 &; يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا .------------------------الهوامش:(1) في اللسان : الفوح : وجدانك الريح الطيبة . فاحت ريح المسك تفوح وتفيح ، فوحا وفيحا . وفوحانا فيحانا : انتشرت رائحته .

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15(استئناف بياني لأن ما جرى من ذكر الجنة في قوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتتٍ تجري من تحتها الأنهار } [ محمد : 12 ] مما يستشرف السامعُ إلى تفصيل بعض صفاتها ، وإذ قد ذكر أنها تجري من تحتها الأنهار مُوهم السامع أنها أنهار المياه لأن جري الأنهار أكمل محاسن الجنات المرغوب فيها ، فلما فُرغ من توصيف حال فريقي الإيمان والكفر ، ومما أعد لكليهما ، ومن إعلان تباين حاليهما ثُني العنان إلى بيان ما في الجنة التي وعد المتقون ، وخص من ذلك بيان أنواع الأنهار ، ولما كان ذلك موقع الجملة كان قوله : { مثَل الجنة } مبتدأ محذوف الخبر . والتقدير : مَا سيوصف أو ما سيتلى عليكم ، أو مما يتلى عليكم .وقوله : { كمن هو خالد في النار } كلام مستأنف مقدر فيه استفهام إنكاري دلّ عليه ما سبق من قوله : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زيّن له سوء عمله } [ محمد : 14 ] . والتقدير : أكَمَنْ هو خالد في النار . والإنكار متسلط على التشبيه الذي هو بمعنى التسوية . ويجوز أن تكون جملة { مثَل الجنة } بدلاً من جملة { أفمن كان على بينة من ربه } فهي داخلة في حيز الاستفهام الإنكاري . والخبر قوله : { كمن هو خالد في النار } ، أي كحال من هو خالد في النار وذلك يستلزم اختلاف حال النار عن حال الجنة ، فحصل نحو الاحتباك إذ دل { مَثَل الجنة } على مَثَل أصحابها ودلّ مثل من هو خالد في النار على مثل النار .والمقصود : بيان البَون بين حالي المسلمين والمشركين بذكر التفاوت بين حالي مصيرهما المقرر في قوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعمل الصالحات جناتٍ } [ الحج : 23 ] إلى آخره ، ولذلك لم يترك ذكر أصحاب الجنّة وأصحاب النار في خلال ذكر الجنة والنار فقال : { مثل الجنة التي وُعد المتقون } وقال بعده { كمن هو خالد في النار } . ولقصد زيادة تصوير مكابرة من يُسَوِّي بين المتمسك ببينةِ ربه وبين التابع لهواه ، أي هو أيضاً كالذي يسوي بين الجنّة ذات تلك الصفات وبين النار ذاتتِ صفاتتٍ ضدها .وفيه اطراد أساليب السورة إذ افتتحت بالمقابلة بين الذين كفروا والذين آمنوا ، وأعقب باتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق ، وثُلّثَ بقوله : { أفمن كان على بيّنة من ربّه } الخ . والمثل : الحال العجيب .وجملة { فيها أنهار } وما عطف عليها تفصيل للإجمال الذي في جملة { مَثل الجنة } ، فهو استئناف ، أو بدل مفصَّل من مجمل على رأي من يثبته في أنواع البدل .والأنهار : جمع نهْر ، وهو الماء المستبحر الجاري في أخدود عظيم من الأرض ، وتقدم في قوله تعالى : { قال إن الله مبْتلِيكم بنهَر } في سورة البقرة ( 249 ( .فأما إطلاق الأنهار على أنهار الماء فهو حقيقة ، وأما إطلاق الأنهار على ما هو من لبن وخَمر وعَسل فذلك على طريقة التشبيه البليغ ، أي مماثلة للأنهار ، فيجوز أن تكون المماثلة تامة في أنها كالأنهار مستبحرة في أخاديد من أرض الجنة فإن أحوال الآخرة خارقة للعادة المعروفة في الدنيا ، فإن مرأى أنهار من هذه الأصناف مرأى مُبهج .ويجوز أن تكون مماثلة هذه الأصناف للأنهار في بعض صفات الأنهار وهي الاستبحار . وهذه الأصناف الخمسة المذكورة في الآية كانت من أفضل ما يتنافسون فيه ومن أعزّ ما يتيسر الحصول عليه ، فكيف الكثير منها ، فكيف إذا كان منها أنهار في الجنة . وتناولُ هذه الأصناف من التَفَكُّهِ الذي هو تنعم أهل اليسار والرفاهية .وقد ذكر هنا أربعة أشربة هي أجناس أشربتهم ، فكانوا يستجيدون الماء الصافي لأن غالب مياههم من الغُدران والأحواض بالبادية تمتلىء من ماء المطر أو من مرور السيول فإذا استقرت أياماً أخذت تتغير بالطحلب وبما يدخل فيها من الأيدي والدلاء ، وشرب الوحوش وقليلٌ البلاد التي تكون مجاورة الأنهار الجارية . وكذلك اللبن كانوا إذا حلبوا وشربوا أبقوا ما استفضلوه إلى وقت آخر لأنهم لا يحلبون إلا حَلْبة واحدة أو حلْبتين في اليوم فيقع في طعم اللبن تغيير . فأما الخمر فكانت قليلة عزيزة عندهم لقلة الأعناب في الحجاز إلا قليلاً في الطائف ، فكانت الخمر تجتلب من بلاد الشام ومن بلاد اليمن ، وكانت غالية الثمن وقد ينقطع جلبها زماناً في فصل الشتاء لعسر السير بها في الطرق وفي أوقات الحروب أيضاً خوف انتهابها .والعسل هو أيضاً من أشربتهم ، قال تعالى في النحل ( 69 ( { يَخرج من بطونها شَراب مختلف ألوانه } والعرب يقولون : سقاه عسلاً ، ويقولون : أطعمه عسلاً . وكان العسل مرغوباً فيه يجتلب من بلاد الجبال ذات النبات المستمر . فأما الثمرات فبعضها كثير عندهم كالتمر وبعضها قليل كالرمان .والآسِن : وصف من أسَن الماء من باب ضرب ونصر وفرح ، إذا تغيّر لونه . وقرأه ابن كثير أسِنٍ } بدون ألف بعد الهمزة على وزن فَعِللٍ للمبالغة .والخمر : عصير العنب الذي يترك حتى يصيبه التخمر وهو الحموضة مثل خمير العجين . و { لَذَة } وصفٌ وليس باسم ، وهو تأنيث اللذّ ، أي اللذيذ قال بشار :ذكرت شبابي اللذّ غير قريب ... ومجلس لهو طاب بين شروبواللّذاذة : انفعال نفساني فيه مسرة ، وهي ضد الألم وأكثر حصوله من الطعوم والأشربة والملامس البدنية ، فوصف خمر هنا بأنها { لذة } معناه يجد شاربها لذاذة في طعمها ، أي بخلاف خمر الدنيا فإنها حريقة الطعم فلولا ترقب ما تفعله في الشارب من نشوة وطرب لما شربها لحُموضة طعمها .والعسل المصفى : الذي خُلِّص مما يخالط العسل من بقايا الشمع وبقايا أعضاء النحل التي قد تموت فيه ، وتقدم الكلام على العسل وتربيته في سورة النحل .ومعنى { من كلّ الثمرات } أصناف من جميع أجناس الثمرات ، فالتعريف في { الثمرات } للجنس ، و { كُلّ } مستعملة في حقيقتها وهو الإحاطة ، أي جميع ما خلق الله من الثمرات مما علموه في الدنيا وما لم يعلموه مما خلقه الله للجنة .و { مِن } تبعيضية ، وهذا كقوله تعالى : { فيهما من كل فاكهة زوجان } [ الرحمن : 52 ] .و { مغفرة } عطف على { أنهار } وما بعده ، أي وفيها مغفرة لهم ، أي تجاوز عنهم ، أي إطلاق في أعمالهم لا تكليف عليهم كمغفرته لأهل بدر إذ بينت بأن يعملوا ما شاؤوا في الحديث « لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » وقد تكون المغفرة كناية عن الرضوان عليهم كما قال تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] .وتقدير المضاف في { مثله } ظاهر للقرينة . وقوله : { وسُقوا ماءً حميعاً } جيء به لمقابلة ما وصف من حال أهل الجنة الذي في قوله : { فيها أنهار من ماء غير آسن } إلى قوله : { من كل الثمرات } ، أي أن أهل النار محرومون من جميع ما ذكر من المشروبات . وليسوا بذائقين إلا الماء الحميم الذي يقطع أمعاءهم بفور سقيه . ولذلك لم يعرج هنا على طعام أهل النار الذي ذكر في قوله تعالى : { لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم } [ الواقعة : 52 54 ] وقوله : { أذلك خير نُزُلاً أم شجرة الزقوم } [ الصافات : 62 ] إلى قوله : { فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم } [ الصافات : 66 67 ] .وضمير { سقوا } راجع إلى { من هو خالد في النار } باعتبار معنى ( من ( وهو الفريق من الكافرين بعد أن أعيد عليه ضمير المفرد في قوله : { هو خالد } .والأمعاء : جمع مِعًى مقصوراً وبفتح الميم وكسرها ، وهو ما ينتقل الطعام إليه بعد نزوله من المعدة . ويسمى عَفِج بوَزن كَتِف .
الآية 15 - سورة محمد: (مثل الجنة التي وعد المتقون ۖ فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من...)