سورة الزمر: الآية 21 - ألم تر أن الله أنزل...

تفسير الآية 21, سورة الزمر

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِۦ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَٰنُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُۥ حُطَٰمًا ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُو۟لِى ٱلْأَلْبَٰبِ

الترجمة الإنجليزية

Alam tara anna Allaha anzala mina alssamai maan fasalakahu yanabeeAAa fee alardi thumma yukhriju bihi zarAAan mukhtalifan alwanuhu thumma yaheeju fatarahu musfarran thumma yajAAaluhu hutaman inna fee thalika lathikra liolee alalbabi

تفسير الآية 21

ألم تر -أيها الرسول- أن الله أنزل من السحاب مطرًا فأدخله في الأرض، وجعله عيونًا نابعة ومياهًا جارية، ثم يُخْرج بهذا الماء زرعًا مختلفًا ألوانه وأنواعه، ثم ييبس بعد خضرته ونضارته، فتراه مصفرًا لونه، ثم يجعله حطامًا متكسِّرًا متفتتًا؟ إن في فِعْل الله ذلك لَذكرى وموعظة لأصحاب العقول السليمة.

«ألم تر» تعلم «أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع» أدخله أمكنة نبع «في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج» ييبس «فتراه» بعد الخضرة مثلا «مصفرا ثم يجعله حطاما» فتاتا «إن في ذلك لذكرى» تذكيرا «لأولي الألباب» يتذكرون به لدلالته على وحدانية الله تعالى وقدرته.

يذكر تعالى أولي الألباب، ما أنزله من السماء من الماء، وأنه سلكه ينابيع في الأرض، أي: أودعه فيها ينبوعا، يستخرج بسهولة ويسر، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ من بر وذرة، وشعير وأرز، وغير ذلك. ثُمَّ يَهِيجُ عند استكماله، أو عند حدوث آفة فيه فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا متكسرا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ يذكرون بها عناية ربهم ورحمته بعباده، حيث يسر لهم هذا الماء، وخزنه بخزائن الأرض تبعا لمصالحهم.ويذكرون به كمال قدرته، وأنه يحيي الموتى، كما أحيا الأرض بعد موتها، ويذكرون به أن الفاعل لذلك هو المستحق للعبادة.اللّهم اجعلنا من أولي الألباب، الذين نوهت بذكرهم، وهديتهم بما أعطيتهم من العقول، وأريتهم من أسرار كتابك وبديع آياتك ما لم يصل إليه غيرهم، إنك أنت الوهاب.

يخبر تعالى : أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) [ الفرقان : 48 ] ، فإذا أنزل الماء من السماء كمن في الأرض ، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء ، وينبعه عيونا ما بين صغار وكبار ، بحسب الحاجة إليها ; ولهذا قال : ( فسلكه ينابيع في الأرض ) .قال ابن أبي حاتم - رحمه الله - : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ) ، قال : ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ، ولكن عروق في الأرض تغيره ، فذلك قوله تعالى : ( فسلكه ينابيع في الأرض ) ، فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعده .وكذا قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي : أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء .وقال سعيد بن جبير : أصله من الثلج يعني : أن الثلج يتراكم على الجبال ، فيسكن في قرارها ، فتنبع العيون من أسافلها .وقوله : ( ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ) أي : ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا ( مختلفا ألوانه ) أي : أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه ، ( ثم يهيج ) أي : بعد نضارته وشبابه يكتهل ( فتراه مصفرا ) ، قد خالطه اليبس ، ( ثم يجعله حطاما ) أي : ثم يعود يابسا يتحطم ، ( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) أي : الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا ، تكون خضرة نضرة حسناء ، ثم تعود عجوزا شوهاء ، والشاب يعود شيخا هرما كبيرا ضعيفا [ قد خالطه اليبس ] ، وبعد ذلك كله الموت . فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير ، وكثيرا ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء ، وينبت به زروعا وثمارا ، ثم يكون بعد ذلك حطاما ، كما قال تعالى : ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ) [ الكهف : 45 ] .

ثم ضرب- سبحانه- مثلا لسرعة زوال الحياة الدنيا، وقرب اضمحلال بهجتها. كما بين حال من شرح الله صدره للإسلام فقال- تعالى-:.والاستفهام في قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... للتقرير.والينابيع: جمع ينبوع، وهو المنبع أو المجرى الذي يكون في باطن الأرض، والذي يحمل الكثير من المياه الجارية أو المخزونة في جوف الأرض.والمعنى: لقد علمت- أيها العاقل- أن الله- تعالى- أنزل من السحب المرتفعة في جو السماء، ماء كثيرا، فأدخله بقدرته في عيون ومسارب في الأرض، هذه العيون والمسارب تارة تكون ظاهرة على وجه الأرض، وتارة تكون في باطنها، وكل ذلك من أعظم الأدلة على قدرة الله- تعالى- ورحمته بعباده.ثم بين- سبحانه- مظهرا آخر من مظاهر قدرته فقال: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ....أى: هذا الماء الذي أنزله- سبحانه- بقدرته من السماء، قد سلكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج بسبب هذا الماء زرعا مختلفا في ألوانه وفي أشكاله، فمنه ما هو أخضر ومنه ما هو أصفر، ومنه ما ليس كذلك مما يدل على كمال قدرة الله- تعالى-.وقوله- تعالى-: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً بيان لمظهر ثالث من مظاهر قدرته- عز وجل-.والفعل «يهيج» مأخوذ من الهيج بمعنى اليبس والجفاف. يقال: هاج النبات هيجا وهياجا، إذا يبس وأصفر. أو مأخوذ من الهيج بمعنى شدة الحركة. يقال: هاج الشيء يهيج، إذا ثار لمشقة أو ضرر، ثم يعقب ذلك الهيجان الجفاف واليبس.أى: ثم يصاب هذا الزرع المختلف الألوان بالجفاف والضمور، فتراه مصفرا من بعد اخضراره ونضارته، ثم يجعله- سبحانه- «حطاما» أى: فتاتا متكسرا. يقال: حطم الشيء حطما- من باب تعب- إذا تكسر وتفتت وتحطم.إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرناه من إنزال الماء من السماء، ومن سلكه ينابيع في الأرض، ومن إخراج النبات المختلف الألوان بسببه لَذِكْرى عظيمة لِأُولِي الْأَلْبابِ.أى: لأصحاب العقول السليمة، والأفكار القويمة.والمقصود من هذه الآية الكريمة، التحذير من الانهماك في الحياة الدنيا ومتعها، حيث شبهها- سبحانه- في سرعة زوالها وقرب اضمحلالها- بالزرع الذي يبدو مخضرا وناضرا ... ثم يعقب ذلك الجفاف والذبول والاضمحلال.وفي هذا المعنى وردت آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً .

قوله عز وجل : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ) أدخل ذلك الماء ، ) ( ينابيع ) عيونا وركايا ) ( في الأرض ) قال الشعبي : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ، ( ثم يخرج به ) أي : بالماء ( زرعا مختلفا ألوانه ) أحمر وأصفر وأخضر ، ) ( ثم يهيج ) ييبس ) ( فتراه ) بعد خضرته ونضرته ، ( مصفرا ثم يجعله حطاما ) فتاتا متكسرا ، ( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) .

قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب .قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء أي إنه لا يخلف الميعاد في إحياء الخلق ، والتمييز بين المؤمن والكافر ، وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء . " أنزل من السماء " أي : من السحاب " ماء " أي : المطر " فسلكه ينابيع في الأرض " أي فأدخله في الأرض وأسكنه فيها ، كما قال : " فأسكناه في الأرض " . " ينابيع " جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع وينبع وينبع بالرفع والنصب والخفض . النحاس : وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر [ عنترة ] :ينباع من ذفرى غضوب جسرةأن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا نبوعا خرج . والينبوع عين الماء والجمع الينابيع . وقد مضى في [ سبحان ] .ثم يخرج به أي : بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض زرعا هو للجنس أي : زروعا شتى لها ألوان مختلفة ، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونورا . قال الشعبي والضحاك : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة ، ثم تقسم منها العيون والركايا .ثم يهيج أي : ييبس . فتراه أي : بعد خضرته " مصفرا " قال المبرد قال الأصمعي : يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى . قال : كذلك هاج النبت . قال : وكذلك قال غير الأصمعي . وقال الجوهري : هاج النبت هياجا أي : يبس . وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر ، وأهاجت الريح النبت أيبسته ، وأهيجنا الأرض أي : وجدناها هائجة النبات ، وهاج هائجه أي : ثار غضبه ، وهدأ هائجه أي : سكنت فورته .ثم يجعله حطاما أي فتاتا مكسرا ، من تحطم العود إذا تفتت من اليبس . والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة . وقيل : هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض ، أي : أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه أي : دينا مختلفا ، بعضه أفضل من بعض ، فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا ، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع . وقيل : هو مثل ضربه الله للدنيا ، أي : كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها . إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب .

القول في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ (21)يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( أَلَمْ تَرَ ) يا محمد ( أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) وهو المطر ( فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) يقول: فأجراه عيونا في الأرض، واحدها ينبوع, وهو ما جاش من الأرض.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن يمان, عن سفيان, عن جابر, عن الشعبيّ, في قوله: ( فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) قال: كلّ ندى وماء في الأرض من السماء نزل.قال: ثنا ابن يمان, عن سفيان, عن جابر, عن الحسن بن مسلم بن بيان, قال: ثم أنبت بذلك الماء الذي أنزله من السماء فجعله في الأرض عيونا زرعا( مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ) يعني: أنواعا مختلفة من بين حنطة وشعير وسمسم وأرز, ونحو ذلك من الأنواع المختلفة ( ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) يقول: ثم ييبس ذلك الزرع من بعد خُضرته, يقال للأرض إذا يبس ما فيها من الخضر وذوى: هاجت الأرض, وهاج الزرع.وقوله: ( فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) يقول: فتراه من بعد خُضرته ورطوبته قد يبس فصار أصفر, وكذلك الزرع إذا يبس اصفرّ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ) والحطام: فتات التبن والحشيش, يقول: ثم يجعل ذلك الزرع بعد ما صار يابسا فُتاتا متكسرا.وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) يقول تعالى ذكره: إن في فعل الله ذلك كالذي وصف لذكرى وموعظة لأهل العقول والحجا يتذكرون به, فيعلمون أن من فعل ذلك فلن يتعذر عليه إحداث ما شاء من الأشياء, وإنشاء ما أراد من الأجسام والأعراض, وإحياء من هلك من خلقه من بعد مماته وإعادته من بعد فنائه, كهيئته قبل فنائه, كالذي فعل بالأرض التي أنزل عليها من بعد موتها الماء, فأنبت بها الزرع المختلف الألوان بقدرته.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)استئناف ابتدائي انتُقل به إلى غرض التنويه بالقرآن وما احتوى عليه من هدى الإِسلام ، وهو الغرض الذي ابتدئت به السورة وانثنى الكلام منه إلى الاستطراد بقوله تعالى : { فاعبد اللَّه مخلصاً له الدين } [ الزمر : 2 ] إلى هنا ، فهذا تمهيد لقوله : { أفَمَن شَرَحَ الله صَدرهُ للإسلامِ } إلى قوله : { ذلِكَ هُدَى الله يهْدِي به من يشاءُ } [ الزمر : 22 ، 23 ] فمُثلت حالة إنزال القرآن واهتداء المؤمنين به والوعدُ بنماء ذلك الاهتداء ، بحالة إنزال المطر ونبات الزرع به واكتماله . وهذا التمثيل قابل لتجزئة أجزائه على أجزاء الحالة المشبه بها : فإِنزال الماء من السماء تشبيه لإِنزال القرآن لإِحياء القلوب ، وإسلاكُ الماء ينابيع في الأرض تشبيه لِتبليغ القرآن للناس ، وإخراج الزرع المختلف الألوان تشبيه لحال اختلاف الناس من طَيِّب وغيره ، ونافع وضار ، وهياج الزرع تشبيه لِتكاثر المؤمنين بين المشركين . وأما قوله تعالى : { ثُمَّ يَجْعلُهُ حُطاماً } فهو إدماج للتذكير بحالة الممات واستواءِ الناس فيها من نافع وضار . وفي تعقيب هذا بقوله : { أفَمَن شَرَحَ الله صدرَهُ للإسلامِ } إلى قوله : { وَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 22 ، 23 ] إشارة إلى العبرة من هذا التمثيل .وقريب من تمثيل هذه الآية ما في «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقيَّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشُب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً فذلك مَثَل من فقُه في دين الله ونفعَه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم ، ومثَل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به " ويجوز أن يكون المعنى أصالةً وإدماجاً على عكس ما بيّنا ، فيكونَ عَوْداً إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية بدليل من مخلوقاته التي يشاهدها الناس مشاهدة متكررة ، فيكونَ قوله تعالى : { ألم ترَ أن الله أنزل من السماءِ ماءً } إلى قوله : { إن في ذلك لذكرى لأولي الألبابِ } متصلاً بقوله تعالى : { خلقكم من نفسسٍ واحدةٍ ثمَّ جعَلَ منها زَوجَهَا } [ الزمر : 6 ] المتصل بقوله تعالى : { خَلَق السماواتتِ والأرض بالحققِ يُكورُ الليل على النَّهار } [ الزمر : 5 ] ، ويكونَ ما بيناه من تمثيل حال نزول القرآن وانتفاع المؤمنين إدماجاً في هذا الاستدلال . وعلى كلا الوجهين أُدمج في أثناء الكلام إيماء إلى إمكان إحياء الناس حياة ثانية .والكلام استفهام تقريري ، والخطاب لكل من يصلح للخطاب فليس المراد به مخاطباً معيَّناً . والرؤية بصرية .وقوله : { أنزلَ مِن السماءِ ماءً } تقدم نظيره في قوله : { وهو الذي أنزل من السماء ماء } في سورة [ الأنعام : 99 ] .و { سلكه } أدخله ، أي جعله سالكاً ، أي داخلاً ، ففعل سلك هنا متعد وقد تقدم عند قوله تعالى :{ وسلك لكم فيها سبلاً } في سورة [ طه : 53 ] ، وذكرنا هنالك أن فعل سلك يكون قاصراً ومتعدّياً ، وهذا الإِدخال دليل ثان .و { يَنابيعَ } جمع ينبوع وهو العين من الماء ، تقدم في قوله تعالى : { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } في سورة [ الإِسراء : 90 ] . وانتصب { ينابيعَ } على الحال من ضمير { مَاءً } . وتصيير الماء الداخل في الأرض ينابيع دليل ثالث على عظيم قدرة الله .وعطف ب { ثم } قوله : { ثُمَّ يُخرجُ بهِ زَرعاً } لإِفادة التراخي الرتبي بحرف { ثم } كشأنها في عطف الجمل لأن إخراج الزرع من الأرض بعد إقحالها أوقع في نفوس الناس لأنه أقرب لأبصارهم وأنفع لعيشهم وإذ هو المقصود من المطر . وهذا الإِخراج دليل رابع .والألوان : جمع لون ، واللون : كيفية لائحة على ظاهر الجسم في الضوء ، وتقدم في سورة فاطر [ 27 ، 28 ] . واختلاف ألوان الزرع بالمعنى الأول أن لكل نوع من الزرع لوناً ولنَوْرها ألواناً ولكل صنف من الزرع ألوان مختلفة في أطوار نباته وبلوغه أشُدّه ، وهذا الاختلاف مع اتّحاد الأرض التي تنبت فيها واتحاد الماء الذي نبت به آية خامسة على عظيم القدرة والانفراد بالتصرف .ومعنى { يهيج } يغلظ ويرتفع . وحقيقة الهياج : ثورة الإنسان أو الحيوان ، ويستعار الهياج لشدة الشيء من غير الحيوان يقال : هاجت ريِح ، ومنه هياج الزرع في الآية لأن الزرع تطول سوقه وسنابله فيتم جفافه فإذا تحرك بمرور الريح عليه صار له حفيف وخشخشة سواء في ذلك الحَب والكَلأ وهذا الطور آية سادسة على الوحدانية .والحطام : المحطوم ، أي المكسور المفتوت ، ووزن فُعال ( بضم الفاء ) يدل على المفعول كالفُتات والدُقاق ، ومثله الفُعالة كالصُبابة والقُلامة والقُمامة . والمعنى : أنه يبلغ من اليبس إلى حد أن يتحطم ويتكسر بحك بعضه بعضاً وتساقُطه وكسر الريح إياه . وهذا الطور آية سابعة على قدرة الله . وجميعها آيات على دقة صنعه وكيف أودع الأطوار الكثيرة في الشيء الواحد يخلف بعضها بعضاً من طور وجوده إلى طور اضمحلاله .وجملة { إنَّ في ذلك لذكرى لأُولِى الألباب } مبيّنة للاستفهام التقريري وفذلكة للأطوار المستفهم عنها ، فالإِشارة بذلك إلى المذكور من الإِنزال إلى آخر الأطوار .والمراد : ذكرى بالدلالة على ما يغفل عنه العاقل . ويجوز أن تكون الذكرى لما يذهل عنه العاقل مما تشتمل عليه هذه الأحوال من مبدئها إلى منتهاها . فمن ذلك أنها تصلح مثالاً لتقريب البعث فإن إنزال الماء على الأرض وإنباتها بسببه أمر يتجدد بعد أن صار ما عليها من النبات حطاماً ، وتخللت زراريعه الأرض فنبتت مرة أخرى بنزول الماء ، فكذلك يعود الإِنسان بعد فنائه كما أشار إليه قوله تعالى : { واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } [ نوح : 17 ، 18 ] فتتضمن الآية إدماج تقريب البعث وإمكانه مع الاستدلال على انفراد الله تعالى بالتصرف ، ومن ذلك أنها تصلح مثلاً للحياة الدنيا كما في آية سورة يونس وفي سورة الكهف ، والمقصود : تشبيه الحالة بالحالة فلا يُعتبر التجوز في مفردات هذا المركب بأن يطلب لكل طور من أطوار الدنيا طور يشتبه به من أطوار النبات .ومنها أنها مثل لأطوار الإِنسان من طور النطف إلى الشباب إلى الشيخوخة ثم الهلاك ، والمقصود تشبيه الحالة بالحالة مع إمكان توزيع تشبيه كل طور من أطوار الحالة المشبهة بطور من أطوار الحالة المشبه بها وهو أكمل أنواع التمثيلية .و { أولي الألبَابِ } هم الذين ينتفعون بألبابهم فيهتدون بما نصب لهم من الأدلة ، كما تقدم آنفاً في قوله : { إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألباب } [ الزمر : 9 ] ، وهم الذين استدلوا فآمنوا . وفي هذا تعريض بأن الذين لم يستفيدوا من الأدلة بمنزلة مَن عدموا العقول .
الآية 21 - سورة الزمر: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج...)