وقال محمد صلى الله عليه وسلم شاكيًا إلى ربه قومه الذين كذَّبوه: يا ربِّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون بك وبما أرسلتني به إليهم.
«وقيله» أي قول محمد النبي، ونصبه على المصدر بفعله المقدر، أي وقال «يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون».
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ هذا معطوف على قوله: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: وعنده علم قيله، أي: الرسول صلى اللّه عليه وسلم، شاكيا لربه تكذيب قومه، متحزنا على ذلك، متحسرا على عدم إيمانهم، فاللّه تعالى عالم بهذه الحال، قادر على معاجلتهم بالعقوبة، ولكنه تعالى حليم، يمهل العباد ويستأني بهم، لعلهم يتوبون ويرجعون.
وقوله : ( وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) أي : وقال : محمد : قيله ، أي : شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه ، فقال : يا رب ، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، كما أخبر تعالى في الآية الأخرى : ( وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) [ الفرقان : 30 ] وهذا الذي قلناه هو [ معنى ] قول ابن مسعود ، ومجاهد ، وقتادة ، وعليه فسر ابن جرير .قال البخاري : وقرأ عبد الله - يعني ابن مسعود - : " وقال الرسول يا رب " .وقال مجاهد في قوله : ( وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) ، قال : فأبر الله قول محمد .وقال قتادة : هو قول نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يشكو قومه إلى ربه عز وجل .ثم حكى ابن جرير في قوله : ( وقيله يارب ) قراءتين ، إحداهما النصب ، ولها توجيهان : أحدهما أنه معطوف على قوله : ( نسمع سرهم ونجواهم ) [ الزخرف : 80 ] والثاني : أن يقدر فعل ، وقال : قيله . والثانية : الخفض ، وقيله ، عطفا على قوله : ( وعنده علم الساعة ) تقديره : وعلم قيله .
ثم حكى- سبحانه- ما تضرع به الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه فقال: وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ...والقيل، والقال، والقول ... كلها مصادر بمعنى واحد. والضمير يعود إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقراءة الجمهور بفتح اللام وضم الهاء، على أنه معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك: سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ويكون مقول القول: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ.والمعنى: أيحسب هؤلاء الكافرون الجاهلون، أننا لا نسمع سرهم ونجواهم، ونسمع تضرع رسولنا إلينا بقوله: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ؟إن كانوا يحسبون ذلك الحسبان، فقد كذبوا وخسروا، لأننا نعلم ذلك وغيره علما تاما.ويصح أن يكون قوله- تعالى- وَقِيلِهِ منصوبا بفعل محذوف والتقدير: ويعلم قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون..وقرأ عاصم وحمزة وَقِيلِهِ بكسر اللام والهاء، عطفا على الساعة أى: وعنده- سبحانه- علم الساعة، وعلم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم يا رب إن هؤلاء المشركين قوم لا يؤمنون.والتعبير بالنداء بلفظ الرب، يشعر بالقرب، ويوحى بالإجابة ويفيد كمال التضرع..كما أن التعبير بقوله قَوْمٌ يشير إلى أن كفرهم كان كفرا جماعيا، لا كفرا فرديا.
( وقيله يا رب ) يعني قول محمد - صلى الله عليه وسلم - شاكيا إلى ربه : يا رب ( إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) قرأ عاصم وحمزة " وقيله " بجر اللام والهاء ، على معنى : وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب ، وقرأ الآخرون بالنصب ، وله وجهان : أحدهما معناه : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله يا رب ، والثاني : وقال قيله .
قوله تعالى : وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون .في قيله ثلاث قراءات : النصب ، والجر ، والرفع . فأما الجر فهي قراءة عاصم وحمزة . وبقية السبعة بالنصب . وأما الرفع فهي قراءة الأعرج وقتادة وابن هرمز ومسلم بن جندب . فمن جر حمله على معنى : وعنده علم الساعة وعلم قيله . ومن نصب فعلى معنى : وعنده علم الساعة ويعلم قيله ، وهذا اختيار الزجاج . وقال الفراء والأخفش : يجوز أن يكون قيله عطفا على قوله : ( أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ) قال ابن الأنباري : سألت أبا العباس محمد بن يزيد المبرد بأي شيء تنصب القيل ؟ فقال : أنصبه على ( وعنده علم الساعة ويعلم قيله ) فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على ( ترجعون ) ، ولا على ( يعلمون ) ويحسن الوقف على ( يكتبون ) وأجاز الفراء والأخفش أن ينصب القيل على معنى : لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله ، كما ذكرنا عنهما فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على ( يكتبون ) وأجاز الفراء والأخفش أيضا : أن ينصب على المصدر ، كأنه قال : وقال قيله ، وشكا شكواه إلى الله عز وجل ، كما قال كعب بن زهير :تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم إنك يا ابن أبي سلمى لمقتولأراد : ويقولون قيلهم . ومن رفع ( قيله ) فالتقدير : وعنده قيله ، أو قيله مسموع ، أو قيله هذا القول . الزمخشري : والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم . وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه . والرفع على قولهم : أيمن الله وأمانة الله ويمين الله ولعمرك ، ويكون قوله : ( إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) جواب القسم ، كأنه قال : وأقسم بقيله يا رب ، أو قيله يا رب قسمي ، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون . وقال ابن الأنباري : ويجوز في العربية ( وقيله ) الرفع ، على أن ترفعه بإن هؤلاء قوم لا يؤمنون . المهدوي : أو يكون على تقدير وقيله قيله يا رب ، فحذف قيله الثاني الذي هو خبر ، وموضع يا رب نصب بالخبر المضمر ، ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع حذف بعض الموصول وبقي بعضه ; لأن حذف القول قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور .والهاء في ( قيله ) لعيسى ، وقيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد جرى ذكره إذ قال : ( قل إن كان للرحمن ولد ) وقرأ أبو قلابة ( يا رب ) بفتح الباء . والقيل مصدر كالقول ، ومنه الخبر [ نهى عن قيل وقال ] . ويقال : قلت قولا وقيلا وقالا . وفي النساء ( ومن أصدق من الله قيلا ) .
وقوله: ( وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله:( وَقِيلِهِ ) فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والبصرة " وَقِيلَهُ" بالنصب. وإذا قرئ كذلك ذلك, كان له وجهان في التأويل: أحدهما العطف على قوله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ونسمع قيله يا رب. والثاني: أن يضمر له ناصب, فيكون معناه حينئذ: وقال قوله: ( يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) وشكا محمد شكواه إلى ربه. وقرأته عامة قرّاء الكوفة ( وقِيلِهِ ) بالخفض على معنى: وعنده علم الساعة, وعلم قيله.والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار صحيحتا المعنى فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فتأويل الكلام إذن: وقال محمد قيله شاكيا إلى ربه تبارك وتعالى قومه الذين كذّبوه, وما يلقى منهم: يا ربّ إن هؤلاء الذين أمرتني بإنذارهم وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك, قوم لا يؤمنون.كما حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) قال: فأبرّ الله عزّ وجلّ قول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) قال: هذا قول نبيكم عليه الصلاة والسلام يشكو قومه إلى ربه.حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( وَقِيلِهِ يَارَبِّ ) قال: هو قول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ).
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)القيل مصدر قَال ، والأظهر أنه اسم مراد به المفعول ، أي المقول مثل الذِبح وأصله : قِوْل ، بكسر القاف وسكون الواو . والمعنى : ومقوله .والضمير المضاف إليه : ( قيل ) ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم بقرينة سياق الاستدلال وَالحجاججِ من قوله : { قل إن كان للرحمن ولدٌ فأنا أول العابدين } [ الزخرف : 81 ] ، وبقرينة قوله : { يا رب } وبقرينة أنه قال : { إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } وبقرينة إجابته بقوله : { فاصفح عنهم وقلْ سلام } [ الزخرف : 89 ] ، والأولى أن يكون ضمير الغائب التفاتاً عن الخطاب في قوله : { ولئن سألتهم من خلقهم } [ الزخرف : 87 ] ، فإنه بعد ما مضى من المحاجّة ومن حكاية إقرارهم بأن الله الذي خلقهم ، ثم إنهم لم يتزحزحوا عن الكفر قيد أنملة ، حصل اليأس للرسول من إيمانهم فقال : { يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } التجاء إلى الله فيهم وتفويضاً إليه ليجري حكمه عليهم .وهذا من استعمال الخبر في التحسر أو الشكاية وهو خبر بمعنى الإنشاء مثل قوله تعالى : { وقال الرسول يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } [ الفرقان : 30 ] ، أي لم يعملوا به فلم يؤمنوا ، ويؤيّد هذا تفريع { فاصفَح عنهم } [ الزخرف : 89 ] ، ففي ضمير الغيبة التفات لأن الكلام كان جارياً على أسلوب الخطاب من قوله : { ولئن سألتهم من خلقهم } [ الزخرف : 87 ] فمقتضى الظاهر : وقولَكَ : يا ربّ الخ . ويحسِّن هذا الالتفات أنه حكاية لشيء في نفس الرّسول فجعل الرسول بمنزلة الغائب لإظهار أن الله لا يهمل نداءه وشكواه على حدّ قوله تعالى : { عبس وتولّى } [ عبس : 1 ] . وإضافة القيل إلى ضمير الرسول مشعرة بأنه تكرر منه وعرف به عند ربّه ، أي عُرف بهذا وبما في معناه من نحو { يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً وقوله : { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه مَتَى نصر الله } [ البقرة : 214 ] .وقرأ الجمهور { وقيلَه } بنصب اللام على اعتبار أنه مصدر نُصب على أنه مفعول مطلق بَدل من فعله .والتقدير : وقال الرسول قيلَه ، والجملة معطوفة على جملة { ولئن سألتهم من خلقهم } [ الزخرف : 87 ] أو على جملة { فأنى يؤفكون } [ الزخرف : 87 ] ، أي وقال الرسول حينئذٍ يا ربّ الخ . ونظيره قول كعب بن زهير: ... تمشي الوشاة جنابيْها وقيلَهمإنك يا بنَ أبي سُلْمى لمقتول ... على رواية ( قيلَهم ) ونصبه ، أي ويقولون : قيلهم وهي رواية الأصمعي .ويجوز أن يكون النصب على المفعول به لقوله : { لا نَسْمَع } [ الزخرف : 80 ] ، والتقدير : بلى ونعلم قِيلَه وهذا اختيار الفراء والأخفش ، وقال المبرد والزجاج : هو منصوب بفعل مقدر دل عليه قوله : { وعنِده علم الساعة } [ الزخرف : 85 ] أي ويعلم قيله .وقرأ عاصم وحمزة بجرّ لام ( قيلِه ) ويجوز في جرّه وجهان :أحدهما : أن يكون عطفاً على { الساعة في قوله : { وعنده علم الساعةِ } [ الزخرف : 85 ] أي وعلمُ قيللِ الرسول : يا ربّ ، وهو على هذا وعد للرسول بالنصر وتهديد لهم بالانتقام .وثانيهما : أنْ تكون الواو للقسم ويكون جواب القسم جملة { إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } على أن الله أقسم بقول الرسول : يا ربّ ، تعظيماً للرسول ولقيله الذي هو تفويض للرب وثقة به .ومقول { قيله } هُو { يا رب } فقط ، أي أُقسم بندَاء الرسول ربَّه نداءَ مضطر .وذكر ابن هشام في «شرح الكَعبية» عن أبي حاتم السجستاني : أن مَن جرّ فقوله بظن وتخليط ، وأنكره عليه ابن هشام لإمكان تخريج الجرّ على وجه صحيح .وقد حذف بعد النداء ما نودي لأجله مما دل عليه مقام من أعيته الحيلة فيهم ففوض أمره إلى ربّه فأقسم الله بتلك الكلمة على أنهم لا يؤمنون ولكن الله سينتقم منهم فلذلك قال : { فسوف تعلمون } [ الزخرف : 89 ] .والإشارة ب { هؤلاء } إلى المشركين من أهل مكة كما هي عادة القرآن غالباً ووصفهم بأنهم قوم لا يؤمنون ، أدل على تمكن عدم الإيمان منهم مِن أن يقول : هؤلاء لا يؤمنون .