وتكاثرت بركة الله، وكَثُر خيره، وعَظُم ملكه، الذي له وحده سلطان السموات السبع والأرضين السبع وما بينهما من الأشياء كلها، وعنده علم الساعة التي تقوم فيها القيامة، ويُحشر فيها الخلق من قبورهم لموقف الحساب، وإليه تُرَدُّون - أيها الناس- بعد مماتكم، فيجازي كلا بما يستحق.
«وتبارك» تعظم «الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة» متى تقوم «وإليه يرجعون» بالياء والتاء.
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا تبارك بمعنى تعالى وتعاظم، وكثر خيره، واتسعت صفاته، وعظم ملكه. ولهذا ذكر سعة ملكه للسموات والأرض وما بينهما، وسعة علمه، وأنه بكل شيء عليم، حتى إنه تعالى، انفرد بعلم كثير من الغيوب، التي لم يطلع عليها أحد من الخلق، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولهذا قال: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ قدم الظرف، ليفيد الحصر، أي: لا يعلم متى تجيء الساعة إلا هو، ومن تمام ملكه وسعته، أنه مالك الدنيا والآخرة، ولهذا قال: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي: في الآخرة فيحكم بينكم بحكمه العدل، ومن تمام ملكه، أنه لا يملك أحد من خلقه من الأمر شيئا، ولا يقدم على الشفاعة عنده أحد إلا بإذنه.
( وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما ) أي : هو خالقهما ومالكهما والمتصرف فيهما ، بلا مدافعة ولا ممانعة ، فسبحانه وتعالى عن الولد ، وتبارك : أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص ; لأنه الرب العلي العظيم ، المالك للأشياء ، الذي بيده أزمة الأمور نقضا وإبراما ، ( وعنده علم الساعة ) أي : لا يجليها لوقتها إلا هو ، ( وإليه ترجعون ) أي : فيجازي كلا بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
وقوله- تعالى-: وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ثناء منه- سبحانه- على ذاته بما هو أهله.ولفظ تَبارَكَ فعل ماض، أى تعالى الله وتعظم، وزاد خيره وكثر إنعامه، وهو مأخوذ من البركة- بفتح الراء- بمعنى الكثرة من كل خير.. أو من البرك- بسكون الراء- بمعنى الثبوت والدوام.. وكل شيء ثبت ودام فقد برك.أى: وتعالى الله وتقدس، وثبت خيره، وزاد إنعامه، فهو- سبحانه- الذي له ملك السموات والأرض، وله ملك ما بينهما من مخلوقات أخرى لا يعملها أحد سواه.وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أى: وعنده وحده لا عند غيره العلم التام بوقت قيام الساعة.فالمصدر وهو عِلْمُ مضاف لمفعوله وهو السَّاعَةِ والعالم بذلك هو الله- تعالى-.والمراد بالساعة: يوم القيامة، وسميت بذلك لسرعة قيامها، كما قال- تعالى- وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ....وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أى: وإليه وحده مرجعكم للحساب أو الجزاء، وليس إلى أحد سواه- عز وجل-.
( وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ) قرأ ابن كثير والكسائي " يرجعون " بالياء ، والآخرون بالتاء .
قوله تعالى : وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون .( تبارك ) تفاعل من البركة . وقد تقدم . وعنده علم الساعة أي وقت قيامها . وإليه ترجعون قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ( وإليه يرجعون ) بالياء . الباقون بالتاء . وكان ابن محيصن وحميد ويعقوب وابن أبي إسحاق يفتحون أوله على أصولهم . وضم الباقون .
القول في تأويل قوله تعالى : وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)يقول تعالى ذكره, وتبارك الذي له سلطان السموات السبع والأرض, وما بينهما من الأشياء كلها, جار على جميع ذلك حكمه, ماض فيهم قضاؤه. يقول: فكيف يكون له شريكا من كان في سلطانه وحكمه فيه نافذ.( وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) يقول: وعنده علم الساعة التي تقوم فيها القيامة, ويُحشر فيها الخلق من قبورهم لموقف الحساب.قوله: ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يقول: وإليه أيها الناس تردّون من بعد مماتكم, فتصيرون إليه, فيجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته.
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)عطف على { سبحان ربّ السموات والأرض } [ الزخرف : 82 ] ، قصد منه إتباع إنشاء التنزيه بإنشاء الثناء والتمجيد .و { تبارك } خبر مستعمل في إنشاء المدح لأن معنى { تبارك } كان متصفاً بالبَركة اتصافاً قوياً لما يدل عليه صيغة تفَاعَل من قوة حصول المشتق منه لأن أصلها أن تدل على صدور فعل من فاعلين مثل : تقاتل وتمارى ، فاستعملت في مجرد تكرر الفعل ، وذلك مثل : تسامى وتعالى .والبركَة : الزيادة في الخير .وقد ذكر مع التنزيه أنه رب السماوات والأرض لاقتضاء الربوبية التنزيهَ عن الولد المسوق الكلام لنفيه ، وعن الشريك المشمول لقوله : { عما يصفون } [ الزخرف : 82 ] ، وذُكر مع التبريك والتعظيم أن له مُلك السماوات والأرض لمناسبة الملك للعظمة وفيْضضِ الخير ، فلا يَرِيبك أنَّ { ربِّ السماوات والأرض } [ الزخرف : 82 ] مغننٍ عن { الذي له مُلك السماوات والأرض } ، لأن غرض القرآن التذكير وأغراضُ التذكير تخالف أغراض الاستدلال والجدل ، فإن التذكير يلائم التنبيه على مختلف الصفات باختلاف الاعتبارات والتعرض للاستمداد من الفضل . ثم إنّ صيغة { تبارك } تدل على أن البركة ذاتية لله تعالى فيقتضي استغناءه عن الزيادة باتخَاذِ الولد واتخاذِ الشريك ، فبهذا الاعتبار كانت هذه الجملة استدلالاً آخر تابعاً لدليل قوله : { سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون } [ الزخرف : 82 ] .وقد تأكد انفراده بربوبية أعظم الموجودات ثلاث مرات بقوله : { رب العرش } [ الزخرف : 82 ] وقوله : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] وقوله : { الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما } .فكم من خصائص ونكت تنهالُ على المتدبر من آيات القرآن التي لا يحيط بها إلا الحكيم العليم .ولما كان قوله : { الذي له ملك السموات والأرض } مفيداً التصرف في هذه العوالم مدة وجودها ووجودِ ما بينها أردفه بقوله : { وعنده علم الساعة وإليه ترجعون } للدلالة على أن له مع ملك العوالم الفانية مُلك العوالم الباقية ، وأنه المتصرف في تلك العوالم بما فيها بالتنعيم والتعذيب ، فكان قوله : { وعنده علم الساعة } توطئة لقوله : { وإليه ترجعون } وإدماجاً لإثبات البعث . وتقديم المجرور في { إليه ترجعون } لقصد التقوّي إذ ليس المخاطبون بمثبتين رُجْعَى إلى غيره فإنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً .وأما قولهم للأصنام { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] فمرادهم أنهم شفعاء لهم في الدنيا أو هو على سبيل الجدل ولذلك أتبع بقوله : { ولا يملك الذين يَدْعُون من دونه الشفاعة } [ الزخرف : 86 ] .وقرأ الجمهور { ترجعون } بالفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمباشرة بالتهديد . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتحتية تبعاً لأسلوب الضمائر التي قبله ، وهم متفقون على أنه مبني للمجهول .