ونادى هؤلاء المجرمون بعد أن أدخلهم الله جهنم "مالكًا" خازن جهنم: يا مالك لِيُمِتنا ربك، فنستريح ممَّا نحن فيه، فأجابهم مالكٌ: إنكم ماكثون، لا خروج لكم منها، ولا محيد لكم عنها، لقد جئناكم بالحق ووضحناه لكم، ولكن أكثركم لما جاء به الرسل من الحق كارهون.
قال تعالى: «لقد جئناكم» أي أهل مكة «بالحق» على لسان الرسول «ولكن أكثركم للحق كارهون».
ثم وبخهم بما فعلوا فقال: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ الذي يوجب عليكم أن تتبعوه فلو تبعتموه، لفزتم وسعدتم، وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ فلذلك شقيتم شقاوة لا سعادة بعدها.
( لقد جئناكم بالحق ) أي : بيناه لكم ووضحناه وفسرناه ، ( ولكن أكثركم للحق كارهون ) أي : ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه ، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه ، وتصد عن الحق وتأباه ، وتبغض أهله ، فعودوا على أنفسكم بالملامة ، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة .
وقوله- سبحانه-: لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ تأكيد منه- تعالى- وتقرير لرد مالك عليهم، ومبين لسبب مكثهم فيها..أى: لقد جئناكم- أيها الكافرون- بالحق على ألسنة رسلنا الذين لم يتركوا وسيلة من الوسائل إلا وسلكوها معكم في الإرشاد إلى طريق الهدى، ولكن أكثركم كان كارها للحق والهدى، معرضا عنهما إعراضا كليا، مصرا على كفره وشركه.وعبر- سبحانه- بالأكثر لأن قلة منهم لم تكن كارهة للحق، ولكنها كانت منقادة لأمر سادتها وكبرائها.. أما الذين كانوا يعرفون الحق ولكن يكرهونه، فهم الزعماء والكبراء، لأنهم يرون في اتباعه انتقاصا من شهواتهم وتصادما مع أهوائهم.
( لقد جئناكم بالحق ) يقول أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا بالحق ( ولكن أكثركم للحق كارهون ) .
قوله تعالى : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون .يحتمل أن يكون هذا من قول مالك لهم ، أي : إنكم ماكثون في النار لأنا جئناكم في الدنيا بالحق فلم تقبلوا . ويحتمل أن يكون من كلام الله لهم اليوم ، أي : بينا لكم الأدلة وأرسلنا إليكم الرسل . ( ولكن أكثركم ) قال ابن عباس : ( ولكن أكثركم ) أي : ولكن كلكم . وقيل : أراد بالكثرة الرؤساء والقادة منهم ، وأما الأتباع فما كان لهم أثر ، ( للحق ) أي : للإسلام ودين الله كارهون
وقوله: ( لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ ) يقول: لقد أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا محمدا بالحق.كما حدثني محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ,( لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ ), قال: الذي جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) يقول تعالى ذكره: ولكن أكثرهم لما جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الحق كارهون.
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)وجملة { لقد جئناكم بالحق } إلى آخرها في موضع العلة لِجملة { إنكم ماكثون } باعتبار تمَام الجملة وهو الاستدراك بقوله : { ولكن أكثركم للحق كارهون } .وضمير { جئناكم } للملائكة ، والحقُ : الوحي الذي نزل به جبريل فنسب مالك المجيء بالحق إلى جَمْععِ الملائكة على طريقة اعتزاز الفريق والقبيلة بمزايا بعضها ، وهي طريقة معروفة في كلام العرب كقول الحارث بن حلزة: ... وفككْنا غُلّ امرىء القيس عنهبعد مَا طال حبسه والعَناء ... وإنما نسبت كراهة الحق إلى أكثرهم دون جميعهم لأن المشركين فريقان أحدهما سادة كبراء لملة الكفر وهم الذين يصدون الناس عن الإيمان بالإرهاب والترغيب مثل أبي جهل حين صَدَّ أبَا طالب عند احتضاره عن قول لا إله إلا الله وقال : أترغب عن ملة عبد المطلب ، وثانيهما دهماء وعامة وهم تبع لأيمة الكفر . وقد أشارت إلى ذلك آيات كثيرة منها قوله في سورة البقرة ( 166 ) { إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا } الآيات فالفريق الأول هم المراد من قوله : { ولكن أكْثَرُكُمْ للحق كارهون } وأولئك إنما كرهوا الحق لأنه يرمي إلى زوال سلطانهم وتعطيل منافعهم .وتقديم { للحق } على { كارهون } للاهتمام بالحق تنويهاً به ، وفيه إقامة الفاصلة أيضاً .