سورة الشورى: الآية 15 - فلذلك فادع ۖ واستقم كما...

تفسير الآية 15, سورة الشورى

فَلِذَٰلِكَ فَٱدْعُ ۖ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ۖ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَٰبٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَآ أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ

الترجمة الإنجليزية

Falithalika faodAAu waistaqim kama omirta wala tattabiAA ahwaahum waqul amantu bima anzala Allahu min kitabin waomirtu liaAAdila baynakum Allahu rabbuna warabbukum lana aAAmaluna walakum aAAmalukum la hujjata baynana wabaynakumu Allahu yajmaAAu baynana wailayhi almaseeru

تفسير الآية 15

فإلى ذلك الدين القيِّم الذي شرعه الله للأنبياء ووصَّاهم به، فادع -أيها الرسول- عباد الله، واستقم كما أمرك الله، ولا تتبع أهواء الذين شكُّوا في الحق وانحرفوا عن الدين، وقل: صدَّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، وأمرني ربي أن أعدل بينكم في الحكم، الله ربنا وربكم، لنا ثواب أعمالنا الصالحة، ولكم جزاء أعمالكم السيئة، لا خصومة ولا جدال بيننا وبينكم بعدما تبين الحق، الله يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه، وإليه المرجع والمآب، فيجازي كلا بما يستحق.

«فلذلك» التوحيد «فادع» يا محمد الناس «واستقم» عليه «كما أمرت ولا تتبع أهواءهم» في تركه «وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل» أي بأن أعدل «بينكم» في الحكم «الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم» فكل يجازى بعمله «لا حجة» خصومة «بيننا وبينكم» هذا قبل أن يؤمر بالجهاد «الله يجمع بيننا» في المعاد لفصل القضاء «وإليه المصير» المرجع.

فَلِذَلِكَ فَادْعُ أي: فللدين القويم والصراط المستقيم، الذي أنزل الله به كتبه وأرسل رسله، فادع إليه أمتك وحضهم عليه، وجاهد عليه، من لم يقبله، وَاسْتَقِمْ بنفسك كَمَا أُمِرْتَ أي: استقامة موافقة لأمر الله، لا تفريط ولا إفراط، بل امتثالا لأوامر الله واجتنابا لنواهيه، على وجه الاستمرار على ذلك، فأمره بتكميل نفسه بلزوم الاستقامة، وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك.ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمر لأمته إذا لم يرد تخصيص له. وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ أي: أهواء المنحرفين عن الدين، من الكفرة والمنافقين إما باتباعهم على بعض دينهم، أو بترك الدعوة إلى الله، أو بترك الاستقامة، فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين، ولم يقل: "ولا تتبع دينهم" لأن حقيقة دينهم الذي شرعه الله لهم، هو دين الرسل كلهم، ولكنهم لم يتبعوه، بل اتبعوا أهواءهم، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا. وَقُلْ لهم عند جدالهم ومناظرتهم: آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ أي: لتكن مناظرتك لهم مبنية على هذا الأصل العظيم، الدال على شرف الإسلام وجلالته وهيمنته على سائر الأديان، وأن الدين الذي يزعم أهل الكتاب أنهم عليه جزء من الإسلام، وفي هذا إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن ناظروا مناظرة مبنية على الإيمان ببعض الكتب، أو ببعض الرسل دون غيره، فلا يسلم لهم ذلك، لأن الكتاب الذي يدعون إليه، والرسول الذي ينتسبون إليه، من شرطه أن يكون مصدقا بهذا القرآن وبمن جاء به، فكتابنا ورسولنا لم يأمرنا إلا بالإيمان بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل، التي أخبر بها وصدق بها، وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته.وأما مجرد التوراة والإنجيل، وموسى وعيسى، الذين لم يوصفوا لنا، ولم يوافقوا لكتابنا، فلم يأمرنا بالإيمان بهم.وقوله: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي: في الحكم فيما اختلفتم فيه، فلا تمنعني عداوتكم وبغضكم، يا أهل الكتاب من العدل بينكم، ومن العدل في الحكم، بين أهل الأقوال المختلفة، من أهل الكتاب وغيرهم، أن يقبل ما معهم من الحق، ويرد ما معهم من الباطل، اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ أي: هو رب الجميع، لستم بأحق به منا. لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ من خير وشر لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ أي: بعد ما تبينت الحقائق، واتضح الحق من الباطل، والهدى من الضلال، لم يبق للجدال والمنازعة محل، لأن المقصود من الجدال، إنما هو بيان الحق من الباطل، ليهتدي الراشد، ولتقوم الحجة على الغاوي، وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب لا يجادلون، كيف والله يقول: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وإنما المراد ما ذكرنا. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يوم القيامة، فيجزي كلا بعمله، ويتبين حينئذ الصادق من الكاذب.

شتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات ، كل منها منفصلة عن التي قبلها ، [ لها ] حكم برأسه - قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي ، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه .قوله ( فلذلك فادع ) أي : فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم ، فادع الناس إليه .وقوله : ( واستقم كما أمرت ) أي : واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله ، كما أمركم الله عز وجل .وقوله : ( ولا تتبع أهواءهم ) يعني : المشركين فيما اختلقوه ، وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان .وقوله : ( وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ) أي : صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم .وقوله : ( وأمرت لأعدل بينكم ) أي : في الحكم كما أمرني الله .وقوله : ( الله ربنا وربكم ) أي : هو المعبود ، لا إله غيره ، فنحن نقر بذلك اختيارا ، وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا ، فله يسجد من في العالمين طوعا واختيارا .وقوله : ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) أي : نحن برآء منكم ، كما قال تعالى : ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) [ يونس : 41 ] .وقوله : ( لا حجة بيننا وبينكم ) قال مجاهد : أي لا خصومة . قال السدي : وذلك قبل نزول آية السيف . وهذا متجه لأن هذه الآية مكية ، وآية السيف بعد الهجرة .وقوله : ( الله يجمع بيننا ) أي : يوم القيامة ، كقوله : ( قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ) [ سبأ : 26 ] .وقوله : ( وإليه المصير ) أي : المرجع والمآب يوم الحساب .

ثم حض- سبحانه- نبيه صلّى الله عليه وسلّم على المضي في دعوته فقال: فَلِذلِكَ فَادْعُ.واسم الإشارة يعود إلى ما سبق الحديث عنه من ذم التفرق، ومن الأمر بإقامة الدين، أى: فلأجل ما أمرناك به من دعوة الناس إلى إقامة الدين وإلى النهى عن الاختلاف والتفرق، من أجل ذلك فادع الناس إلى الحق الذي بعثناك به، وإلى جمعهم على كلمة التوحيد، التي تجعلهم يعيشون حياتهم آمنين مطمئنين.وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أى: واستقم على الصراط الذي كلفناك بالسير على نهجه، والزم المنهج القويم الذي أمرناك بالتزامه.وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أى: ولا تتبع شيئا من أهواء هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا.وَقُلْ لهم بكل ثبات وقوة آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أى: آمنت بكل ما أنزله- تعالى- من كتب سماوية. فالمراد بالكتاب: جنسه.وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أى: وأمرنى ربي أن أعدل بينكم في الحكم عند رفع قضاياكم إليّ، فإن العدل شريعة الله تعالى.اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أى: الله- تعالى- وحده هو الخالق لنا ولكم، وهو المنعم علينا وعليكم بالنعم التي لا تحصى.لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أى: لنا أعمالنا التي سيحاسبنا الله عليها يوم القيامة، ولكم أنتم أعمالكم التي ستحاسبون عليها، فنحن لا نسأل عن أعمالكم وأنتم لا تسألون عن أعمالنا.لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أى: لا احتجاج ولا خصومة بيننا وبينكم، لأن الحق قد ظهر، فلم يبق للجدال أو الخصام حاجة بيننا وبينكم.اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أى. الله- تعالى- يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة، وإليه وحده، مصيرنا ومصيركم، وسيجازى كل فريق منا ومنكم بما يستحقه من جزاء.فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على عشر جمل، هذه الجمل الكريمة قد جاءت بأسمى ألوان الدعوة إلى الله- تعالى- بالحكمة والموعظة الحسنة.

( فلذلك فادع ) أي : فإلى ذلك كما يقال دعوت إلى فلان ولفلان ، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد ، ( واستقم كما أمرت ) اثبت على الدين الذي أمرت به ، ( ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ) أي : آمنت بكتب الله كلها ، ( وأمرت لأعدل بينكم ) أن أعدل بينكم . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم من الأحكام . وقيل : لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء ، ( الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) يعني : إلهنا واحد ، وإن اختلفت أعمالنا ، فكل يجازى بعمله ، ( لا حجة ) لا خصومة ، ( بيننا وبينكم ) نسختها آية القتال ، فإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة ، ( الله يجمع بيننا ) في المعاد لفصل القضاء ، ( وإليه المصير ) .

قوله تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير .قوله تعالى : فلذلك فادع واستقم لما أجاز أن يكون الشك لليهود والنصارى ، أو لقريش قيل له : فلذلك فادع أي : فتبينت شكهم فادع إلى الله ، أي : إلى ذلك الدين الذي شرعه الله للأنبياء ووصاهم به . فاللام بمعنى إلى ، كقوله تعالى : بأن ربك أوحى لها أي : إليها . ( وذلك ) بمعنى هذا . وقد تقدم أول ( البقرة ) والمعنى فلهذا القرآن فادع . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع . وقيل : إن اللام على بابها ، والمعنى : فمن أجل ذلك الذي تقدم ذكره فادع واستقم . قال ابن عباس : أي : إلى القرآن فادع الخلق . ( واستقم ) خطاب له عليه السلام . قال قتادة : أي : استقم على أمر الله . وقال سفيان : أي : استقم على القرآن . وقال الضحاك : استقم على تبليغ الرسالة .ولا تتبع أهواءهم أي لا تنظر إلى خلاف من خالفك . وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم أي أن أعدل ، كقوله تعالى : وأمرت أن أسلم لرب العالمين وقيل : هي لام كي ، أي : لكي أعدل . قال ابن عباس وأبو العالية : لأسوي بينكم في الدين فأؤمن بكل كتاب وبكل رسول . وقال غيرهما : لأعدل في جميع الأحوال . وقيل : هذا العدل هو العدل في الأحكام . وقيل : في التبليغ . الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم قال ابن عباس ومجاهد : الخطاب لليهود ، أي : لنا ديننا ولكم دينكم . قال : نسخت بقوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية . قال مجاهد : ومعنى لا حجة بيننا وبينكم لا خصومة بيننا وبينكم . وقيل : ليس بمنسوخ ، لأن البراهين قد ظهرت ، والحجج قد قامت ، فلم يبق إلا العناد ، وبعد العناد لا حجة ولا جدال . قال النحاس : ويجوز أن يكون معنى : لا حجة بيننا وبينكم على ذلك القول : لم يؤمر أن يحتج عليكم ويقاتلكم ، ثم نسخ هذا . كما أن قائلا لو قال من قبل أن تحول القبلة : لا تصل إلى الكعبة ، ثم حول الناس بعد ، لجاز أن يقال نسخ ذلك . الله يجمع بيننا يريد يوم القيامة . وإليه المصير أي فهو يحكم بيننا إذا صرنا إليه ، ويجازي كلا بما كان عليه . وقيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة ، وقد سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش ، على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته .

القول في تأويل قوله تعالى : فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)يقول تعالى ذكره: فإلى ذلك الدين الذي شَرَع لكم, ووصّى به نوحا, وأوحاه إليك يا محمد, فادع عباد الله, واستقم على العمل به, ولا تزغ عنه, واثبت عليه كما أمرك ربك بالاستقامة. وقيل: فلذلك فادع, والمعنى: فإلى ذلك, فوضعت اللام موضع إلى, كما قيل: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا وقد بيَّنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا.وكان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك, في قوله: ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ ) إلى معنى هذا, ويقول: معنى الكلام: فإلى هذا القرآن فادع واستقم. والذي قال من هذا القول قريب المعنى مما قلناه, غير أن الذي قلنا في ذلك أولى بتأويل الكلام, لأنه في سياق خبر الله جلّ ثناؤه عما شرع لكم من الدين لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإقامته, ولم يأت من الكلام ما يدلّ على انصرافه عنه إلى غيره.وقوله: ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) يقول تعالى ذكره: ولا تتبع يا محمد أهواء الذين شكُّوا في الحقّ الذي شرعه الله لكم من الذين أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم, فتشك فيه, كالذي شكوا فيه.يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: صدّقت بما أنزل الله من كتاب كائنا ما كان ذلك الكتاب, توراة كان أو إنجيلا أو زبورا أو صحف إبراهيم, لا أكذب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب, وتصديقكم ببعض.وقوله: ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب, فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه.كالذي حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) قال: أمر نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعدل, فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه. والعدل ميزان الله في الأرض, به يأخذ للمظلوم من الظالم, وللضعيف من الشديد, وبالعدل يصدّق الله الصادق, ويكذّب الكاذب, وبالعدل يردّ المعتدي ويوبخه.ذكر لنا أن نبي الله داود عليه السلام: كان يقول: ثلاث من كن فيه أعجبني جدا: القصد في الفاقة والغنى, والعدل في الرضا والغضب, والخشية في السر والعلانية; وثلاث من كن فيه أهلكه: شح مطاع, وهوى متبع, وإعجاب المرء بنفسه. وأربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: لسان ذاكر, وقلب شاكر, وبدن صابر, وزوجة مؤمنة.واختلف أهل العربية في معنى اللام التي في قوله: ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) فقال بعض نحويي البصرة: معناها: كي, وأمرت كي أعدل; وقال غيره: معنى الكلام: وأمرت بالعدل, والأمر واقع على ما بعده, وليست اللام التي في لأعدل بشرط; قال: ( وَأُمِرْتُ ) تقع على " أن " وعلى " كي" واللام أمرت أن أعبد, وكي أعبد, ولأعبد. قال: وكذلك كلّ من طالب الاستقبال, ففيه هذه الأوجه الثلاثة.والصواب من القول في ذلك عندي أن الأمر عامل في معنى لأعدل, لأن معناه: وأمرت بالعدل بينكم.وقوله: ( اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ) يقول: الله مالكنا ومالكم معشر الأحزاب ما أهل الكتابين التوراة والإنجيل.يقول: لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال, ولكم ثواب ما اكتسبتم منها.وقوله: ( لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ) يقول: لا خصومة بيننا وبينكم. كما:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; والحارث, قال: ثنا الحسن, قال ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم ) قال: لا خصومة.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله عز وجل: ( لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ) لا خصومة بيننا وبينكم, وقرأ: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .... إلى آخر الآية.وقوله: ( اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ) يقول: الله يجمع بيننا يوم القيامة, فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه.( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) يقول: وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا.

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)الفاء للتفريع على قوله : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } [ الشورى : 13 ] إلى آخره ، المفسر بقوله : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى : 13 ] المخلل بعضه بجمل معترضة من قوله : { كبر على المشركين إلى من ينيب } [ الشورى : 13 ] .واللام يجوز أن تكون للتعليل وتكونَ الإشارة بذلك إلى المذكور ، أي جميع ما تقدم من الأمر بإقامة الدّين والنهي عن التفرق فيه وتلقي المشركين للدعوة بالتجهم وتلقي المؤمنين لها بالقبول والإنابة ، وتلقي أهل الكتاب لها بالشك ، أي فلأجل جميع ما ذكر فادعُ واستقِم ، أي لأجل جميع ما تقدم من حصول الاهتداء لمن هداهم الله ومن تبرم المشركين ومن شك أهل الكتاب فادْع .ولم يذكر مفعول ( ادْع ) لدلالة ما تقدم عليه ، أي ادع المشركين والذين أوتوا الكتاب والذين اهتدوا وأنابوا . وتقديم ( لذلك ) على متعلقه وهو فعل ( ادع ) للاهتمام بما احتوى عليه اسم الإشارة إذ هو مجموع أسباب للأمر بالدوام على الدعوة . ويجوز أن تكون اللام في قوله : { فلذلك } لامَ التقوية وتكون مع مجرورها مفعول ( ادعُ ) . والإشارة إلى { الدّين من قوله : { شرع لكم من الدين } [ الشورى : 13 ] أي فادع لذلك الدّين .وتقديم المجرور على متعلَّقه للاهتمام بالدّين .وفعل الأمر في قوله : فادع } مستعمل في الدّوام على الدّعوة كقوله : { يا أيها الذّين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] ، بقرينة قوله : { كما أُمرت } ، وفي هذا إبطال لشبهتهم في الجهة الثالثة المتقدمة عند قوله تعالى : { كَبُر على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] .والفاء في قوله : { فادع } يجوز أن تكون مؤكدة لفاء التفريع التي قبلها ، ويجوز أن تكون مضمنة معنى الجزاء لما في تقديم المجرور من مشابهة معنى الشرط كما في قوله تعالى : { فبذلك فليفرحوا } [ يونس : 58 ] .والاستقامة : الاعتدال ، والسين والتاء فيها للمبالغة مثل : أجاب واستجاب . والمراد هنا الاعتدال المجازي وهو اعتدال الأمور النفسانية من التقوى ومكارم الأخلاق ، وإنّما أُمر بالاستقامة ، أي الدوام عليها ، للإشارة إلى أن كمال الدعوة إلى الحق لا يحصل إلا إذا كان الداعي مستقيماً في نفسه .والكاف في { كما أمرت } لتشبيه معنى المماثلة ، أي دعوة واستقامة مثل الذي أمرت به ، أي على وفاقه ، أي وافية بما أمرت به . وهذه الكاف مما يسمى كاف التعليل كقوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] ، وليس التعليل من معاني الكاف في التحقيق ولكنه حاصلُ معنًى يعرض في استعمال الكاف إذا أريد تشبيه عاملها بمدخولها على معنى المطابقة والموافقة .والاتِّباع يطلق مجازاً على المجاراة والموافقة ، وعلى المحاكاة والمماثلة في العمل ، والمراد هنا كِلا الإطلاقين ليرجع النهي إلى النهي عن مخالفة الأمرين المأمور بهما في قوله { فادع واستقم } .وضمير { أهواءهم } للذين ذكروا من قبل من المشركين والذين أوتوا الكتاب ، والمقصود : نهي المسلمين عن ذلك من باب { لَئن أشركتَ ليحبَطَنَّ عَمَلُك } [ الزمر : 65 ] ألا ترى إلى قوله : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك }في سورة هود ( 112 ) .ويجوز أن يكون معنى { ولاَ تتبع أهواءَهم } لا تجارِهم في معاملتهم ، أي لا يحملك طعنهم في دعوتك على عدم ذكر فضائل رُسلهم وهدي كتبهم عدا ما بدَّلوه منها فأعْلِن بأنك مؤمن بكتبهم ، ولذلك عطف على قوله : { ولا تتبع أهواءهم } قولُه : { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } الآية ، فموقع واو العطف فيه بمنزلة موقع فاء التفريع . ويكون المعنى كقوله تعالى : { ولا يَجْرِمنَّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } في سورة المائدة ( 8 ) .والأهواء : جمع هوى وهو المحبة ، وغلب على محبة ما لاَ نفع فيه ، أي ادعهم إلى الحق وإن كرهوه ، واستقم أنت ومن معك وإن عادَاكم أهل الكتاب فهم يحبون أن تتبعوا ملتهم ، وهذا من معنى قوله : { ولن ترضَى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قُل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } [ البقرة : 120 ] .وقوله : { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } بعد قوله : { فادع } أمرٌ بمخالفة اليهود إذ قالوا : { نؤمن ببعضٍ } [ النساء : 150 ] يعنون التوراة ، { ونكفر ببعضٍ } [ النساء : 150 ] يعنون الإنجيل والقرآن ، فأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالإيمان بالكتب الثلاثة الموحى بها من الله كما قال تعالى : { وتؤمنون بالكتاب كلّه } [ آل عمران : 119 ] . فالمعنى : وقل لمن يهمه هذا القول وهم اليهود . وإنما أمر بأن يقول ذلك إعلاناً به وإبلاغاً لأسماع اليهود ، فلا يقابِل إنكارَهم حقّيَّةَ كتابه بإنكاره حقّيّةَ كتابهم وفي هذا إظهار لِما تشتمل عليه دعوته من الإنصاف .و { من كتاب } بيان لما أنزل الله ، فالتنكير في { كتاب } للنوعية ، أي بأي كتاب أنزله الله وليس يومئذٍ كتاب معروف غير التوراة والإنجيل والقرآن .وضمير { بينكم } خِطاب للذين أمر بأن يُوجه هذا القول إليهم وهم اليهود ، أي أمرت أن أقيم بينَكم العدل بأن أدعوكم إلى الحق ولا أظلمكم لأجل عداواتكم ولكني أنفذ أمر الله فيكم ولا أنتمي إلى اليهود ولا إلى النصارى . ومعنى { بينكم } أنني أقيم العدل بينكم فلا ترون بينكم جوراً مني ، ف ( بين ) هنا ظرف متحد غير موزَّع فهو بمعنى وسَط الجَمع وخلالَه ، بخلاف ( بين ) في قول القائل : قضَى بين الخصمين أو قسم المال بين العفاة . فليس المعنى : لأعدل بين فرقكم إذ لا يقتضيه السياق .وفي هذه الآية مع كونها نازلة في مكة في زمن ضعف المسلمين إعجاز بالغيب يدل على أن الرّسول صلى الله عليه وسلم سيكون له الحكم على يهود بلاد العرب مثل أهل خيبر وتيماءَ وقُريظة والنضِير وبني قَيْنُقَاع ، وقد عَدَل فيهم وأقرهم على أمرهم حتى ظاهروا عليه الأحزاب كما تقدم في سورة الأحزاب .واللام في قوله : { لأعدل } لامٌ يكثر وقوعها بعد أفعال مادتَيْ الأمر والإرَادة ، نحو قوله تعالى : { يُريد الله ليبيّنَ لكم } [ النساء : 26 ] ، وتقدم الكلام عليها وبعضهم يجعلها زائدة .وجملة { الله ربنا وربكم } من المأمور بأن يقوله . فهي كلها جملة مستأنفة عن جُملة { آمنت بما أنزل الله من كتاب } مقررةٌ لمضمونها لأن المقصود من جملة { الله ربنا وربكم } بِحذَافِرها هو قوله : { لا حجة بيننا وبينكم } فهي مقررة لمضمون { آمنت بما أنزل الله من كتاب } ، وإنما ابتدئت بجملتي { الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } تمهيداً للغرض المقصود وهو لا حجة بيننا وبينكم ، فلذلك كانت الجمل كلّها مفصولة عن جملة { آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم } .والمقصود من قوله : { الله ربنا وربكم } أننا متفقون على توحيد الله تعالى كقوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً } [ آل عمران : 64 ] الآية ، أي فالله الشهيد علينا وعليكم إذ كذبتم كتاباً أنزل من عنده ، فالخبر مستعمل في التسجيل والإلزام .وجملة { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } دعوةُ إنصاف ، أي أن الله يجازي كُلاً بعمله . وهذا خبر مستعمل في التهديد والتنبيه على الخطأ . وجملة { لا حجة بيننا وبينكم } هي الغرض المقصود بعد قوله { وأُمرت لأعدل بينكم } أي أعدل بينكم ولا أخاصمكم على إنكاركم صدقي .والحجة : الدليل الذي يدلّ المسوق إليه على صدق دعوى القائم به وإنما تكون الحجة بين مختلِفين في دعوى . ونفيُ الحجة نفي جنس يجوز أن يكون كناية عن نفي المجادلة التي من شأنها وقوع الاحتجاج كناية عن عدم التصدّي لخصومتهم فيكون المعنى الامساكُ عن مجادلتهم لأن الحق ظهر وهم مكابرون فيه وهذا تعريض بأن الجدال معهم ليس بذي جدوَى . ويجوز أن يكون المنفي جنسَ الحجة المفيدةِ ، بمعونة القرينة مثل : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب . والمعنى : أن الاستمرار على الاحتجاج عليهم بعد ما أظهر لهم من الأدلة يكون من العبث ، وهذا تعريض بأنهم مُكَابرون . وأيّاً مّا كان فليس هذا النفي مستعملاً في النهي عن التصدّي للاحتجاج عليهم فقد حاجّهم القرآن في آيات كثيرة نزلت بعدَ هذه وحاجّهم النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الرجم وقد قال الله تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } [ العنكبوت : 46 ] فالاستثناء صريح في مشروعية مجادلتهم .و ( بين ) المكررة في قوله : { بيننا وبينكم } ظرف موزع على جماعاتتِ أو أفرادِ ضمير المتكلم المشارَككِ . وضمير المخاطبين ، كما يقال : قَسم بينهم ، وهذا مخالف ل ( بين ) المتقدم آنفاً .والمراد بالجمع في قوله : { الله يجمع بيننا } الحشر لفصل القضاء ، فيومئذٍ يتبين المحق من المبطل ، وهذا كلام منصف . ولما كان مثل هذا الكلام لا يصدر إلا من الواثق بحقه كان خطابُهم به مستعملاً في المتاركة والمحاجزة ، أي سأترك جدالكم ومحاجّتكم لقلة جدواها فيكم وأفوض أمري إلى الله يقضي بيننا يوم يجمعنا ، فهذا تعريض بأن القضاء سيكون له عليهم . وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : { الله يجمع بيننا } للتقوّي ، أي تحقيق وقوع هذا الجمع وإلا فإن المخاطبين وهم اليهود يثبتون البعث .و ( بَين ) هنا ظرف موزَّع مثلُ الذي في قوله : { لا حجة بيننا وبينكم } .وجملة { وإليه المصير } عطف على جملة { يجمع بيننا } . والتعريف في { المصير } للاستغراق ، أي مصير النّاس كلّهم ، فبذلك كانت الجملة تذييلاً بما فيها من العموم ، أي مصيرنا ومصيركم ومصير الخلق كلهم .وهذه الجمل الأربع تقتضي المحاجزة بين المؤمنين وبين اليهود وهي محاجزة في المقاولة ومتاركة في المقاتلة في ذلك الوقت حتى أذن الله في قتالهم لما ظاهروا الأحزاب .وليس في صيغ هذه الجمل ما يقتضي دوام المتاركة إذ ليس فيها ما يقتضي عموم الأزمنة فليس الأمر بقتال بعضهم بعد يوم الأحزاب ناسخاً لهذه الآية .
الآية 15 - سورة الشورى: (فلذلك فادع ۖ واستقم كما أمرت ۖ ولا تتبع أهواءهم ۖ وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ۖ وأمرت...)