سورة الشورى: الآية 13 - ۞ شرع لكم من الدين...

تفسير الآية 13, سورة الشورى

۞ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحًا وَٱلَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِۦٓ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓ ۖ أَنْ أَقِيمُوا۟ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ ٱللَّهُ يَجْتَبِىٓ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِىٓ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ

الترجمة الإنجليزية

SharaAAa lakum mina alddeeni ma wassa bihi noohan waallathee awhayna ilayka wama wassayna bihi ibraheema wamoosa waAAeesa an aqeemoo alddeena wala tatafarraqoo feehi kabura AAala almushrikeena ma tadAAoohum ilayhi Allahu yajtabee ilayhi man yashao wayahdee ilayhi man yuneebu

تفسير الآية 13

شرع الله لكم- أيها الناس- من الدِّين الذي أوحيناه إليك -أيها الرسول، وهو الإسلام- ما وصَّى به نوحًا أن يعمله ويبلغه، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى (هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل على المشهور) أن أقيموا الدين بالتوحيد وطاعة الله وعبادته دون مَن سواه، ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتكم به، عَظُمَ على المشركين ما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له، الله يصطفي للتوحيد مَن يشاء مِن خلقه، ويوفِّق للعمل بطاعته مَن يرجع إليه.

«شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً» هو أول أنبياء الشريعة «والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه» هذا هو المشروع الموصى به، والموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوحيد «كبر» عظم «على المشركين ما تدعوهم إليه» من التوحيد «الله يجتبي إليه» إلى التوحيد «من يشاء ويهدي إليه من ينيب» يقبل إلى طاعته.

هذه أكبر منة أنعم الله بها على عباده، أن شرع لهم من الدين خير الأديان وأفضلها، وأزكاها وأطهرها، دين الإسلام، الذي شرعه الله للمصطفين المختارين من عباده، بل شرعه الله لخيار الخيار، وصفوة الصفوة، وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الآية، أعلى الخلق درجة، وأكملهم من كل وجه، فالدين الذي شرعه الله لهم، لا بد أن يكون مناسبا لأحوالهم، موافقا لكمالهم، بل إنما كملهم الله واصطفاهم، بسبب قيامهم به، فلولا الدين الإسلامي، ما ارتفع أحد من الخلق، فهو روح السعادة، وقطب رحى الكمال، وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم، ودعا إليه من التوحيد والأعمال والأخلاق والآداب.ولهذا قال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي: أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونون على البر والتقوى ولا تعاونون على الإثم والعدوان. وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي: ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزابا، وتكونون شيعا يعادي بعضكم بعضا مع اتفاقكم على أصل دينكم.ومن أنواع الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة، كاجتماع الحج والأعياد، والجمع والصلوات الخمس والجهاد، وغير ذلك من العبادات التي لا تتم ولا تكمل إلا بالاجتماع لها وعدم التفرق. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي: شق عليهم غاية المشقة، حيث دعوتهم إلى الإخلاص للّه وحده، كما قال عنهم: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وقولهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ أي يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته ومنه أن اجتبى هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم، واختار لها أفضل الأديان وخيرها. وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ هذا السبب الذي من العبد، يتوصل به إلى هداية الله تعالى، وهو إنابته لربه، وانجذاب دواعي قلبه إليه، وكونه قاصدا وجهه، فحسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب الهداية، من أسباب التيسير لها، كما قال تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وفي هذه الآية، أن الله يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ مع قوله: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ مع العلم بأحوال الصحابة رضي الله عنهم، وشدة إنابتهم، دليل على أن قولهم حجة، خصوصا الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم أجمعين.

يقول تعالى لهذه الأمة : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ) ، فذكر أول الرسل بعد آدم وهو نوح ، عليه السلام وآخرهم وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم : إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، عليهم السلام . وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية " الأحزاب " عليهم في قوله : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) الآية [ الأحزاب : 7 ] . والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو : عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] . وفي الحديث : " نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " أي : القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم ، كقوله تعالى : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) [ المائدة : 48 ] ; ولهذا قال هاهنا : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) أي : وصى الله [ سبحانه و ] تعالى جميع الأنبياء ، عليهم السلام ، بالائتلاف والجماعة ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف .وقوله : ( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) أي : شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد .ثم قال : ( الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) أي : هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد ; ولهذا قال :

قال الفخر الرازي: أعلم أنه- تعالى- لما عظم وحيه إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله:كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ...أى: شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا وإبراهيم وموسى وعيسى.. وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر، لأنهم أكابر الأنبياء، وأصحاب الشرائع العظيمة، والأتباع الكثيرة .والمراد بما شرعه- سبحانه- على ألسنة هؤلاء الرسل: أصول الأديان التي لا يختلف فيها دين عن دين، أو شريعة عن شريعة، كإخلاص العبادة لله- تعالى- والإيمان بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، والتحلي بمكارم الأخلاق كالصدق والعفاف.أما ما يتعلق بفروع الشرائع، كتحليل بعض الطيبات لقوم على سبيل التيسير لهم، وتحريمها على قوم على سبيل العقوبة لهم فهذا لا يدخل في الأصول الثابتة في جميع الأديان، وإنما يختلف باختلاف الظروف والأحوال.ويؤيد ذلك قوله- تعالى-: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً .وقوله- سبحانه- حكاية عن عيسى- عليه السلام- وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ .والمعنى: سن الله- تعالى- لكم- يا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم من العقائد ومكارم الأخلاق، ما سنه لنوح- عليه السلام- الذي هو أول أولى العزم من الرسل، وأول أصحاب الشرائع الجامعة.وشرع الله- تعالى- لكم- أيضا ما أوحاه إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم من آداب وأحكام وأوامر ونواه.وشرع لكم كذلك ما وصى به- سبحانه- أنبياءه: إبراهيم وموسى وعيسى، من وصايا تتعلق بوجوب طاعة الله- تعالى-، وإخلاص العبادة له، والبعد عن كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم.وقوله- سبحانه-: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ تفصيل وتوضيح لما شرعه- سبحانه- لهؤلاء الكرام، ولما أوصاهم به.والمراد بإقامة الدين: التزام أوامره ونواهيه، وطاعة الرسل في كل ما جاءوا به من عند ربهم طاعة تامة.قال صاحب الكشاف: والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله- تعالى- وطاعته، والإيمان برسله وكتبه، وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى- لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً.ومحل أَنْ أَقِيمُوا إما النصب على أنه بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه، وإما الرفع على الاستئناف، كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. .أى: أوصاكم كما أوصى من قبلكم بالمحافظة على ما اشتمل عليه دين الإسلام من عقائد وأحكام وآداب.. وأصول أجمعت عليها جميع الشرائع الإلهية، كما أوصاكم بعدم الاختلاف في أحكامه التي لا تقبل الاختلاف أو التفرق.ثم بين- سبحانه- موقف المشركين من الدين الحق فقال: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.أى: شق وعظم على المشركين دعوتكم إياهم إلى وحدانية الله- تعالى-، وإلى ترك ما ألفوه من شرك، ومن تقاليد فاسدة ورثوها عن آبائهم.وقوله- تعالى-: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ بيان لكمال قدرته- تعالى- ونفاذ مشيئته. والاجتباء: الاصطفاء والاختيار. أى: الله- تعالى- بإرادته وحكمته يصطفى ويختار لرسالته من يشاء من عباده، ويهدى إلى الحق من ينيب إليه، ويرجع إلى طاعته- عز وجل- ويقبل على عبادته.

قوله عز وجل : ( شرع لكم من الدين ) بين وسن لكم ، ( ما وصى به نوحا ) وهو أول أنبياء الشريعة . قال مجاهد : أوصيناك وإياه يا محمد دينا واحدا . ( والذي أوحينا إليك ) من القرآن وشرائع الإسلام ، ( وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ) واختلفوا في وجه الآية : فقال قتادة : تحليل الحلال وتحريم الحرام . وقال الحكم : تحريم الأمهات والبنات والأخوات .وقال مجاهد : لم يبعث الله نبيا إلا وصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة له ، فذلك دينه الذي شرع لهم .وقيل : هو التوحيد والبراءة من الشرك . وقيل : هو ما ذكر من بعد ، وهو قوله : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة .( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) من التوحيد ورفض الأوثان ثم قال : ( الله يجتبي إليه من يشاء ) يصطفي إليه من عباده من يشاء ، ( ويهدي إليه من ينيب ) يقبل إلى طاعته .

قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب .قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : شرع لكم من الدين أي : الذي له مقاليد السماوات والأرض شرع لكم من الدين ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، ثم بين ذلك بقوله تعالى : أن أقيموا الدين وهو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء ، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما . ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسن أحوالها ، فإنها مختلفة متفاوتة ، قال الله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وقد تقدم القول فيه . ومعنى ( شرع ) أي : نهج وأوضح وبين المسالك . وقد شرع لهم يشرع شرعا أي : سن . والشارع : الطريق الأعظم . وقد شرع المنزل إذا كان على طريق نافذ . وشرعت الإبل إذا أمكنتها من الشريعة . وشرعت الأديم إذا سلخته . وقال يعقوب : إذا شققت ما بين الرجلين ، قال : وسمعته من أم الحمارس البكرية . وشرعت في هذا الأمر شروعا أي : خضت . أن أقيموا الدين ( أن ) في محل رفع ، على تقدير والذي وصى به نوحا أن أقيموا الدين ، ويوقف على هذا الوجه على ( عيسى ) . وقيل : هو نصب ، أي : شرع لكم إقامة الدين . وقيل : هو جر بدلا من الهاء في ( به ) ، كأنه قال : به أقيموا الدين . ولا يوقف على عيسى على هذين الوجهين . ويجوز أن تكون ( أن ) مفسرة ، مثل : أن امشوا ، فلا يكون لها محل من الإعراب . .الثانية : قال القاضي أبو بكر بن العربي : ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور : ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقولون له أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض . . . وهذا صحيح لا إشكال فيه ، كما أن آدم أول نبي بغير إشكال ; لأن آدم لم يكن معه إلا نبوة ، ولم تفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان تنبيها على بعض الأمور واقتصارا على ضرورات المعاش ، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء ، واستقر المدى إلى نوح فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات ، ووظف عليه الواجبات وأوضح له الآداب في الديانات ، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء - صلوات الله عليهم - واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمها الله بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان المعنى أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا ، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة ، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج ، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال ، والزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة وصلة الرحم ، وتحريم الكفر والقتل والزنى والأذية للخلق كيفما تصرفت ، والاعتداء على الحيوان كيفما دار ، واقتحام الدناءات ، وما يعود بخرم المروآت ؛ فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة ، لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم ؛ وذلك قوله تعالى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه أي : اجعلوه قائما ، يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب ، فمن الخلق من وفى بذلك ومنهم من نكث ؛ ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) . واختلفت الشرائع وراء هذا في معان حسبما أراده الله مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم . والله أعلم . قال مجاهد : لم يبعث الله نبيا قط إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة ، فذلك دينه الذي شرع لهم ، وقاله الوالبي عن ابن عباس ، وهو قول الكلبي . وقال قتادة : يعني تحليل الحلال وتحريم الحرام . وقال الحكم : تحريم الأمهات والأخوات والبنات . وما ذكره القاضي يجمع هذه الأقوال ويزيد عليها . وخص نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر لأنهم أرباب الشرائع .قوله تعالى : كبر على المشركين أي : عظم عليهم . ( ما تدعوهم إليه ) من التوحيد ورفض الأوثان . قال قتادة : كبر على المشركين فاشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله ، وضاق بها إبليس وجنوده ، فأبى الله - عز وجل - إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها على من ناوأها . ثم قال : ( الله يجتبي إليه من يشاء ) أي : يختار . والاجتباء الاختيار ، أي : يختار للتوحيد من يشاء . ( ويهدي إليه من ينيب ) أي : يستخلص لدينه من رجع إليه .

القول في تأويل قوله تعالى : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)يقول تعالى ذكره: ( شَرَعَ لَكُمْ ) ربكم أيها الناس ( مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) أن يعمله ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يقول لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وشرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك يا محمد, فأمرناك به ( وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) يقول: شرع لكم من الدين, أن أقيموا الدين ف " أن " إذ كان ذلك معنى الكلام, في موضع نصب على الترجمة بها عن " ما " التي في قوله: ( مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ). ويجوز أن تكون في موضع خفض ردّا على الهاء التي في قوله: ( بِهِ ) , وتفسيرا عنها, فيكون معنى الكلام حينئذ: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا, أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. وجائز أن تكون في موضع رفع على الاستئناف, فيكون معنى الكلام حينئذ: شرع لكم من الدين ما وصى به, وهو أن أقيموا الدين. وإذ كان معنى الكلام ما وصفت, فمعلوم أن الذي أوصى به جميع هؤلاء الأنبياء وصية واحدة, وهي إقامة الدين الحق, ولا تتفرقوا فيه.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال: ما أوصاك به وأنبيائه, كلهم دين واحد.حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال: هو الدين كله.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) بعث نوح حين بعث بالشريعة بتحليل الحلال, وتحريم الحرام ( وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ).حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال: الحلال والحرام.حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ).... إلى آخر الآية, قال: حسبك ما قيل لك.وعنى بقوله: ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض, كما قد بينا فيما مضى قبل في قوله: أَقِيمُوا الصَّلاةَ .وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) قال: اعملوا به.وقوله: ( وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) يقول: ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتم بالقيام به, كما اختلف الأحزاب من قبلكم.كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) تعلموا أن الفرقة هلكة, وأن الجماعة ثقة.وقوله: ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: كبر على المشركين بالله من قومك يا محمد ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لله, وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) قال: أنكرها المشركون, وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلا الله, فصادمها إبليس وجنوده, فأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها.وقوله: ( اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) يقول: الله يصطفي إليه من يشاء من خلقه, ويختار لنفسه, وولايته من أحبّ.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) يقول: ويوفق للعمل بطاعته, واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحق من أقبل إلى طاعته, وراجع التوبة من معاصيه.كما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) : من يقبل إلى طاعة الله.

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13){ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا } .انتقال من الامتنان بالنعم الجثمانية إلى الامتنان بالنعمة الروحية بطريق الإقبال على خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين للتنويه بدين الإسلام وللتعريض بالكفار الذين أعرضوا عنه . فالجملة ابتدائية .ومعنى { شرع } أوضح وبيّن لكم مسالك ما كلفكم به . وأصل { شَرَعَ } جعل طريقاً واسعة ، وكثُر إطلاقه على سنّ القوانين والأديان فسُمّي الدّين شريعة . فشرع هنا مستعار للتبيين كما في قوله : { أم لَهم شركاء شرَعُوا لهم من الدّين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] ، وتقدم في قوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شِرْعَةً ومنهاجاً } في سورة [ العقود : 48 ] .والتعريف في الدين } تعريف الجنس ، وهو يعمّ الأديان الإلهاية السابقة . و { من } للتبعيض .والتوصية : الأمر بشيء مع تحريض على إيقاعه والعمل به . ومعنى كونه شرع للمسلمين من الدّين ما وصَّى به نوحاً أن الإسلام دين مثل ما أمر بِه نوحاً وحضَّه عليه . فقوله : { ما وصى به نوحاً } مقدر فيه مضاف ، أي مثلَ ما وصَّى به نوحاً ، أو هو بتقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ مبالغة في شدة المماثلة حتى صار المِثل كأنّه عين مثله . وهذا تقدير شائع كقول ورقة بن نوفل : «هذا هو الناموس الذي أنزل على عيسى» .والمراد : المماثلة في أصول الدّين مما يجب لله تعالى من الصفات ، وفي أصول الشريعة من كليات التشريع ، وأعظمُها توحيدُ الله ، ثم ما بعده من الكليات الخمس الضروريات ، ثم الحاجيات التي لا يستقيم نظام البشر بدونها ، فإن كل ما اشتملت عليه الأديان المذكورة من هذا النوع قد أُودع مثله في دين الإسلام . فالأديان السابقة كانت تأمر بالتوحيد ، والإيمان بالبعث والحياةِ الآخرة ، وتقْوى الله بامتثال أمره واجتناب مَنْهِيّه على العموم ، وبمكارم الأخلاق بحسب المعروف ، قال تعالى : { قد أفلح من تزكّى وذكر اسمَ ربّه فَصلَّى بل تؤثرون الحياة الدّنيا والآخرة خير وأبقى إنّ هذا لفي الصحف الأولى صحففِ إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 14 19 ] . وتختلف في تفاصيل ذلك وتفاريعه .ودين الإسلام لم يَخْلُ عن تلك الأصول وإن خالفها في التفاريع تضييقاً وتوسيعاً ، وامتازت هذه الشريعة بتعليل الأحكام وسدّ الذرائع والأمر بالنظر في الأدلة وبرفع الحرج وبالسماحة وبشدة الاتصال بالفطرة ، وقد بيّنتُ ذلك في كتابي «مقاصدِ الشريعة الإسلامية» . أو المراد المماثلة فيما وقع عقبه بقوله : { أن أقيموا الدين } إلخ بناء على أن تكون { أنْ } تفسيرية ، أي شرع لكم وجوب إقامة الدّين المُوحَى به وعدم التفرّق فيه كما سيأتي . وأيًّا مَّا كان فالمقصود أن الإسلام لا يخالف هذه الشرائع المسمّاة ، وأن اتّباعه يأتي بما أتت به من خير الدّنيا والآخرة .والاقتصار على ذكر دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن نوحاً أول رسول أرسله الله إلى النّاس ، فدينه هو أساس الدّيانات ، قال تعالى :{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] ولأن دين إبراهيم هو أصل الحنيفية وانتشر بين العرب بدعوة إسماعيل إليه فهو أشهر الأديان بين العرب ، وكانوا على أثارة منه في الحجّ والختان والقِرى والفتوة . ودين موسى هو أوسع الأديان السابقة في تشريع الأحكام ، وأما دين عيسى فلأنه الدّين الذي سبق دين الإسلام ولم يكن بينهما دين آخر ، وليتضمنَ التهيئةَ إلى دعوة اليهود والنصارى إلى دين الإسلام . وتعقيب ذكر دين نوح بما أُوحي إلى محمّد عليهما السلام للإشارة إلى أن دين الإسلام هو الخاتم للأديان ، فعطف على أول الأديان جمعاً بين طَرفيْ الأديان ، ثم ذُكر بعدهما الأديانُ الثلاثة الأخَر لأنها متوسطة بين الدينين المذكورين قبلها . وهذا نسج بديع من نظم الكلام ، ولولا هذا الاعتبار لكان ذكر الإسلام مبتدأ به كما في قوله : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] وقوله : { وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح } الآية في سورة [ الأحزاب : 7 ] .وذكرَ في الكشاف } في آية الأحزاب أن تقديم ذِكر النبي صلى الله عليه وسلم في التفصيل لبيان أفضليته لأن المقام هنالك لسرد من أخذ عليهم الميثاق ، وأما آية سورة الشورى فإنّما أوردت في مقام وصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنّ الله قال : شرع لكم الدّينَ الأصيل الذي بعث به نوحاً في العهد القديم وبعث به محمداً صلى الله عليه وسلم في العهد الحديث ، وبعث به من توسط بينهما .فقوله : { والذي أوحينا إليك } هو ما سبق نزوله قبل هذه الآية من القرآن بما فيه من أحكام ، فعطْفُهُ على ما وصَّى به نوحاً لما بينه وبين ما وصَّى به نوحاً من المغايرة بزيادة التفصيل والتفريع . وذكرُه عقب ما وصّى به نوحاً للنكتة التي تقدمت .وفي قوله تعالى : { ما وصى به نوحاً } وقولِه : { وما وصينا به إبراهيم } ، جيء بالموصول { ما } ، وفي قوله : { والذي أوحينا إليك } جيء بالموصول { الذي } ، وقد يظهر في بادىء الرأي أنه مجرّد تفنّن بتجنب تكرير الكلمة ثلاثَ مرات متواليات ، وذلك كاففٍ في هذا التخالف . وليس يبعد عندي أن يكون هذا الاختلافُ لغرض معنويّ ، وأنه فَرق دقيق في استعمال الكلام البليغ وهو أن { الذي } وأخواته هي الأصل في الموصولات فهي موضوعة من أصل الوضع للدلالة على من يُعيَّن بحالة معروفة هي مضمون الصلة ، ف { الذي } يدلّ على معروف عند المخاطب بصلته .وأمّا { مَا } الموصولةُ فأصلها اسم عام نكرة مبهمة محتاجة إلى صفة نحو قوله تعالى : { إنَّ الله نعِمَّا يَعِظُكم به } [ النساء : 58 ] عند الزمخشري وجماعة إذ قدّروه : نعم شيئاً يعظكم به . ف { ما } نكرة تمييز ل ( نِعْم ) وجملة { يعظكم به صفة لتلك النكرة . وقال سيبويه في قوله تعالى : { هذا ما لديَّ عتيد } [ ق : 23 ] المراد : هذا شيء لدي عتِيد ، وأنشدوا: ... لِمَا نافععٍ يسعَى اللبيبُ فلا تكُنلشيء بَعيدٍ نفعُه الدّهرَ ساعيا ... أي لشيء نَافع ، فقد جاءت صفتها اسماً مفرداً بقرينة مقابلته بقوله : لشيء بعيد نفعه ، ثم يعْرِض ل { مَا } التعريفُ بكثرة استعمالها نكرة موصوفة بجملةٍ فتعرفت بصفتها وَأشْبهت اسم الموصول في ملازمة الجملة بعدها ، ولذلك كثر استعمال { ما } موصولة في غير العقلاء ، فيكون إيثار { ما وصَّى به نوحاً } و { ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } بحرف { ما } لمناسبة أنّها شرائع بَعُد العهدُ بها فلم تكن معهودة عند المخاطبين إلا إجمالاً فكانت نكرات لا تتميز إلا بصفاتها ، وأما إيثار الموحَى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم باسم { الذي } فلأنه شرع متدَاوَل فيهم معروفٌ عندهم . فالتقدير : شرع لكم شيئاً وصَّى به نوحاً وشيئاً وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى ، والشيءَ الموحى به إليك . ولعل هذا من نكت الإعجاز المغفول عنها . وفي العدول من الغيبة إلى التكلم في قوله : { والذي أوحينا إليك } بعد قوله { شرع لكم } التفات .وذُكر في جانب الشرائع الأربع السابقة فعل { وصى } وفي جانب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فعل الإيحَاء لأن الشرائع التي سبقت شريعةَ الإسلام كانت شرائع موقتة مقدّراً ورود شريعة بعدها فكان العمل بها كالعمل الذي يقوم به مؤتمن على شيء حتى يأتي صاحبه ، وليقع الاتصال بين فعل { أوحينا إليك } وبين قوله في صدر السورة { كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } [ الشورى : 3 ] .و { أنْ } في قوله : { أن أقيموا الدين } يجوز أن تكون مصدرية ، فإنّها قد تدخل على الجملة الفعلية التي فعلها متصرف ، والمصدرُ الحاصل منها في موضع بدل الاشتمال من { مَا } الموصولة الأولى أو الأخيرة . وإذا كان بدلاً من إحداهما كان في معنى البدل من جميع أخواتهما لأنها سواء في المفعولية لفعل { شرع } بواسطة العطف فيكون الأمر بإقامة الدّين والنهي عن التفرق فيه مما اشتملت عليه وصاية الأديان . ويجوز أن تكون تفسيريةً لمعنى { وصى } لأنه يتضمن معنى القول دون حروفه . فالمعنى : أن إقامة الدّين واجتماع الكلمة عليه أوصى الله بها كلَّ رسول من الرّسل الذين سماهم . وهذا الوجه يقتضي أن ما حُكي شرعه في الأديان السابقة هو هذا المعنى وهو إقامة الدّين المشروع كما هو ، والإقامة مُجملةٌ يفسرها ما في كل دين من الفروع .وإقامة الشيء : جعله قائماً ، وهي استعارة للحرص على العمل به كقوله : { ويقيمون الصلاة } وقد تقدم في سورة [ البقرة : 3 ] .وضمير { أقيموا } مراد به : أُمَم أولئك الرسل ولم يسبق لهم ذكر في اللّفظ لكن دل على تقديرهم ما في فعل { وصى } من معنى التبليغ . وأعقب الأمرُ بإقامة الدّين بالنهي عن التفرق في الدين .والتفرق : ضد التجمع ، وأصله : تباعد الذوات ، أي اتساع المسافة بينها ويستعار كثيراً لقُوّة الاختلاف في الأحوال والآراء كما هنا ، وهو يشمل التفرق بين الأمة بالإيمان بالرّسول ، والكفر به ، أي لا تختلفوا على أنبيائكم ، ويشمل التفرق بين الذين آمنوا بأن يكونوا نِحَلاً وأحزاباً ، وذلك اختلاف الأمة في أمور دينها ، أي في أصوله وقواعده ومقاصده ، فإن الاختلاف في الأصول يفضي إلى تعطيل بعضها فينخرم بعض أساس الدّين .والمراد : ولا تتفرقوا في إقامته بأن ينشط بعضهم لإقامته ويتخاذل البعض ، إذ بدون الاتفاق على إقامة الدّين يضطرب أمره . ووجه ذلك أن تأثير النفوس إذا اتفقت يَتوارد على قصد واحد فيقوَى ذلك التأثير ويسرع في حصول الأثر إذ يصير كل فرد من الأمة مُعِيناً للآخر فيسهل مقصدهم من إقامة دينهم . أما إذا حصل التفرق والاختلاف فذلك مُفضضٍ إلى ضياع أمور الدّين في خلال ذلك الاختلاف ، ثم هو لا يلبث أن يُلقِيَ بالأمة إلى العداوة بينها وقد يجرّهم إلى أن يتربص بعضهم ببعض الدوائرَ ، ولذلك قال الله تعالى : { ولا تَنَازَعُوا فتفْشَلُوا وتَذهَبَ ريحُكم } [ الأنفال : 46 ] .وأما الاختلاف في فروعه بحسب استنباط أهل العلم بالدّين فذلك من التفقّه الوارد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم « من يُرِدِ الله به خيراً يفقِهْه في الدّين » .{ فِيهِ كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ } .اعتراض بين جملة { شرع لكم من الدين } وجملةِ { وما تفرّقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم } [ الشورى : 14 ] . ولك أن تجعله استئنافاً بيانياً جواباً عن سُؤال مَن يتعجب من إعراض المشركين عن الإسلام مع أنه دين مؤيّد بما سَبق من الشرائع الإلهاية ، فأجيب إجمالاً بأنه كَبُر على المشركين وتجهموه و { كبر } بمعنى صعُب ، وقريب منه إطلاق ثقل ، أيْ عجزوا عن قبول ما تدعوهم إليه ، فالكبر مجاز استعير للشيء الذي لا تطمئن النفس لقبوله ، والكِبرُ في الأصل الدّال على ضخامة الذات لأن شأن الشيء الضخم أن يعسر حمله ولما فيه من تضمين معنى ثقل عدّي ب { على } .وعبر عن دعوة الإسلام ب { ما } الموصولة اعتباراً بنُكران المشركين لهذه الدعوة واستغرابِهم إيّاها ، وعدِّهم إيّاها من المحال الغريب ، وقد كبر عليهم ذلك من ثلاث جهات :جهة الداعي لأنه بشر مثلهم قالوا { أبعَث الله بشراً رسولاً } [ الإسراء : 94 ] ، ولأنه لم يكن قبْل الدعوة من عظماء القريتين { لولا نُزّل هذا القرآن على رجللٍ من القريتين عظيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .وجهةِ ما به الدعوة فإنهم حسبوا أن الله لا يخاطب الرّسل إلا بكتاب ينزله إليه دفعة من السماء فقد قالوا { لن نُؤمن لِرُقيِّك حتى تُنزّل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا } [ الفرقان : 21 ] { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } [ البقرة : 118 ] والقائلون هم المشركون .ومن جهة ما تضمنته الدعوة مما لم تساعد أهواؤهم عليه قالوا : { أجعل الآلهة إلها واحداً } [ ص : 5 ] { هل ندُلُّكم على رجل ينبِّئكم إذا مُزِّقتم كلَّ مُمَزَّققٍ إنكم لفي خلققٍ جديدٍ } [ سبأ : 7 ] . وجيء بالفعل المضارع في { تدعوهم } للدلالة على تجدد الدعوة واستمرارها .{ إِلَيْهِ الله يجتبى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدى إِلَيْهِ مَن } .استئناف بياني جواب عن سؤال من يسأل : كيف كبرت على المشركين دعوة الإسلام ، بأن الله يجتبي من يشاء ، فالمشركون الذين لم يقتربوا من هدى الله غيرُ مجتبَيْنَ إلى الله إذ لم يشأ اجتباءهم ، أي لم يقدر لهم الاهتداء . ويجوز أن يكون ردّاً على إحدى شبههم الباعثة على إنكارهم رسالته بأن الله يجتبي من يشاء ولا يلزمه مراعاة عوائدكم في الزعامة والاصطفاء .والاجتباء : التقريب والاختيار قال تعالى : { قالوا لولا اجتَبَيْتَها } [ الأعراف : 203 ] . ومن يشاء الله اجتباءه مَن هداه إلى دينه ممن ينيب وهو أعلم بسرائر خلقه .وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفِعلي لإفادة القصر ردّاً على المشركين الذين أحالوا رسالة بشر من عند الله . وحين أكبروا أن يكون الضعفة من المؤمنين خيراً منهم .
الآية 13 - سورة الشورى: (۞ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ۖ أن...)