أي فبأي الآلاء يا معشر الثقلين من الإنس الجن تكذبان؟ قاله مجاهد وغير واحد ويدل عليه السياق بعده أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون به اللهم ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد وكان ابن عباس يقول لا بأيها يا رب أي لا نكذب بشيء منها قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يستمعون "فبأي آلاء ربكما تكذبان".
ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله : ( فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .والفاء للتفريع على النعم المتعددة التى سبق ذكرها ، والاستفهام للتعجيب ممن يكذب بهذه النعم ، والآلاء : جمع إِلْى - بكسر الهمزة وفتحها وسكون اللام - وهى النعمة ، والخطاب للمكلفين من الجن والإنس ، وقيل لأفراد الإنس مؤمنهم وكافرهم ، أى : فبأى واحدة من هذه النعم تكذبان ربكما ، أى : تجحدان فضله ومننه - يا معشر الجن والإنس - مع أن كل نعمة من هذه النعم تستحق منكم الطاعة لى ، والخضوع لعزتى والإخلاص فى عبادتى .قال الجمل ما ملخصه : كررت هذه الآية هنا إحدى وثلاثين مرة تقريرا للنعمة ، وتأكيدا للتذكير بها ، وذلك كقول الرجل لمن أحسن إليه ، وهو ينكر هذا الإحسان : ألم تكن فقيرا فأغنيتك ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك ، أفتنكر هذا . . . ؟ومثل هذا الكلام شائع فى كلام العرب ، وذلك أن الله - تعالى - عدد على عباده نعمه ، ثم خاطبهم بقوله : ( فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .وقد كرر - سبحانه - هذه الآية ثمانى مرات ، عقب آيات فيها تعداد عجائب خلقه ، ومبدأ هذا الخلق ونهايته ، ثم كررها سبع مرات عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها بعدد أبواب جهنم . . . ثم كررها - أيضا - ثمانى مرات فى وصف الجنتين وأهلهما ، بعدد أبواب الجنة ، وكررها كذلك ثمانى مرات فى الجنتين التين هما دون الجنتين السابقتين ، فمن اعتقد الثمانية الأولى ، وعمل بموجبها ، استحق هاتين الثمانيتين من الله - تعالى - ، ووقاه السبعة السابقة بفضله وكرمه . . .
" فبأي آلاء ربكما تكذبان ".
خطاب للإنس والجن , لأن الأنام واقع عليهما .وهذا قول الجمهور , يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة , وخرجه الترمذي وفيه " للجن أحسن منكم ردا " .وقيل : لما قال : " خلق الإنسان " [ الرحمن : 3 ] " وخلق الجان " [ الرحمن : 15 ] دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما .وأيضا قال : " سنفرغ لكم أيها الثقلان " [ الرحمن : 31 ] وهو خطاب للإنس والجن وقد قال في هذه السورة : " يا معشر الجن والإنس " [ الرحمن : 33 ] .وقال الجرجاني : خاطب الجن مع الإنس وإن لم يتقدم للجن ذكر , كقوله تعالى : " حتى توارت بالحجاب " .وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن , والقرآن كالسورة الواحدة , فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات .وقيل : الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية , حسب ما تقدم من القول في " ألقيا في جهنم " [ ق : 24 ] .وكذلك قوله [ امرؤ القيس ] : قفا نبك [ من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل ] خليلي مرا بي [ على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب ] فأما ما بعد " خلق الإنسان " و " خلق الجان " [ الرحمن : 15 ] فإنه خطاب للإنس والجن , والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى : " والأرض وضعها للأنام " والآلاء النعم , وهو قول جميع المفسرين , واحدها إلى وألى مثل معى وعصا , وإلي وألي أربع لغات حكاها النحاس قال : وفي واحد " آناء الليل " ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف المسكنة اللام , وقد مضى في " الأعراف " و " النجم " .وقال ابن زيد : إنها القدرة , وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان , وقاله الكلبي واختاره الترمذي محمد بن علي , وقال : هذه السورة من بين السور علم القرآن , والعلم إمام الجند والجند تتبعه , وإنما صارت علما لأنها سورة صفة الملك والقدرة , فقال : " الرحمن .علم القرآن " فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال : " الرحمن .علم القرآن " ثم ذكر الإنسان فقال : " خلق الإنسان " ثم ذكر ما صنع به وما من عليه به , ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نجم وشجر , وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل , ووضع الأرض للأنام , فخاطب هذين الثقلين الجن والإنس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك , فأشركوا به الأوثان وكل معبود اتخذوه من دونه , وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم , فقال سائلا لهم : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي بأي قدرة ربكما تكذبان , فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكا يملك معه ويقدر معه , فذلك تكذيبهم .ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال , وذكر خلق الجان من مارج من نار , ثم سألهم فقال : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي بأي قدرة ربكما تكذبان , فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة , فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير , واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق خلق .وقال القتبي : إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه , وذكر خلقه آلاءه , ثم أتبع كل خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها , كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره : ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن صرورة فحججت بك أفتنكر هذا ! ؟ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا ؟ ! والتكرير حسن في مثل هذا .قال : كم نعمة كانت لكم كم كم وكم وقال آخر : لا تقتلي مسلما إن كنت مسلمة إياك من دمه إياك إياك وقال آخر : لا تقطعن الصديق ما طرفت عيناك من قول كاشح أشر ولا تملن من زيارته زره وزره وزر وزر وزر وقال الحسين بن الفضل : التكرير طردا للغفلة , وتأكيدا للحجة .
وقوله: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول: فبأيّ نعم ربكما معشر الجنّ والإنس من هذه النعم التي أنعم بها عليكم من تسخيره الشمس لكم في هذين المشرقين والمغربين تجري لكما دائبة بمرافقكما، ومصالح دنياكما ومعايشكما تكذّبان.
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18(تكرير كما علمت آنفاً .