سورة النحل: الآية 76 - وضرب الله مثلا رجلين أحدهما...

تفسير الآية 76, سورة النحل

وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَىْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَىٰهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ

الترجمة الإنجليزية

Wadaraba Allahu mathalan rajulayni ahaduhuma abkamu la yaqdiru AAala shayin wahuwa kallun AAala mawlahu aynama yuwajjihhu la yati bikhayrin hal yastawee huwa waman yamuru bialAAadli wahuwa AAala siratin mustaqeemin

تفسير الآية 76

وضرب الله مثلا آخر لبطلان الشرك رجلين: أحدهما أخرس أصم لا يَفْهَم ولا يُفْهِم، لا يقدر على منفعة نفسه أو غيره، وهو عبء ثقيل على مَن يَلي أمره ويعوله، إذا أرسله لأمر يقضيه لا ينجح، ولا يعود عليه بخير، ورجل آخر سليم الحواس، ينفع نفسه وغيره، يأمر بالإنصاف، وهو على طريق واضح لا عوج فيه، فهل يستوي الرجلان في نظر العقلاء؟ فكيف تُسَوُّون بين الصنم الأبكم الأصمِّ وبين الله القادر المنعم بكل خير؟

«وضرب الله مثلاً» ويبدل منه «رجلين أحدهما أبكم» ولد أخرس «لا يقدر على شيء» لأنه لا يفهم ولا يُفهم «وهو كلّ» ثقيل «على مولاه» وليّ أمره «أينما يوجهه» يصرفه «لا يأت» منه «بخير» ينجح وهذا مثل الكافر «هل يستوي هو» أي الأبكم المذكور «ومن يأمر بالعدل» أي ومن هو ناطق نافع للناس حيث يأمر به ويحث عليه «وهو على صراط» طريق «مستقيم» وهو الثاني المؤمن؟ لا، وقيل هذا مثل الله، والأبكم للأصنام والذي قبله مثل الكافر والمؤمن.

والمثل الثاني مثل رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يسمع ولا ينطق و لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لا قليل ولا كثير وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أي: يخدمه مولاه، ولا يستطيع هو أن يخدم نفسه فهو ناقص من كل وجه، فهل يستوي هذا ومن كان يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، فأقواله عدل وأفعاله مستقيمة، فكما أنهما لا يستويان فلا يستوي من عبد من دون الله وهو لا يقدر على شيء من مصالحه، فلولا قيام الله بها لم يستطع شيئا منها، ولا يكون كفوا وندا لمن لا يقول إلا الحق، ولا يفعل إلا ما يحمد عليه.

قال مجاهد : وهذا أيضا المراد به الوثن والحق تعالى ، يعني : أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ، ولا يقدر على شيء بالكلية ، فلا مقال ، ولا فعال ، وهو مع هذا ) كل ) أي : عيال وكلفة على مولاه ، ( أينما يوجهه ) أي : يبعثه ( لا يأت بخير ) ولا ينجح مسعاه ) هل يستوي ) من هذه صفاته ، ( ومن يأمر بالعدل ) أي : بالقسط ، فقاله حق وفعاله مستقيمة ( وهو على صراط مستقيم ) وبهذا قال السدي ، وقتادة وعطاء الخراساني . واختار هذا القول ابن جرير .وقال العوفي ، عن ابن عباس : هو مثل للكافر والمؤمن أيضا ، كما تقدم .وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، حدثنا حماد ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إبراهيم ، عن عكرمة ، عن يعلى بن أمية ، عن ابن عباس في قوله : ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ) نزلت في رجل من قريش وعبده . وفي قوله : ( [ وضرب الله ] مثلا رجلين أحدهما أبكم [ لا يقدر على شيء ] ) إلى قوله : ( وهو على صراط مستقيم ) قال : هو عثمان بن عفان . قال : والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت بخير قال هو : مولى لعثمان بن عفان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة ، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما .

أما المثال الثاني فهو أشد وضوحا من سابقه على وحدانية الله- تعالى- ورحمته بعباده، وعلى الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر، ويتجلى هذا المثال في قوله- عز وجل-:وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ...أى: وذكر الله- تعالى- مثلا آخر لرجلين، أَحَدُهُما أَبْكَمُ أى: لا يستطيع النطق أو الكلام، ضعيف الفهم والتفهيم لغيره.لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ أى: لا يقدر على فعل شيء من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره.وَهُوَ أى هذا الرجل كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أى: حمل ثقيل، وهم كبير على مولاه الذي يتولى شئونه من طعام وشراب وكساء وغير ذلك. وهذا بيان لعدم قدرته على القيام بمصالح نفسه، بعد بيان عدم قدرته على القيام بفعل أى شيء على الإطلاق.قال القرطبي: قوله وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أى ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه، وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر:أكول لمال الكلّ قبل شبابه ... إذا كان عظم الكلّ غير شديدفالكل هو الإنسان العاجز الضعيف الذي يكون محتاجا إلى من يرعى شئونه.وقوله أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ أى: أن هذا الرجل حيثما يوجهه مولاه وكافله لقضاء أمر من الأمور يعود خائبا، لعجزه، وضعف حيلته، وقلة إدراكه..فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف هذا الرجل بأربع صفات، تدل على سوء فهمه، وقلة حيلته، وثقله على ولى أمره، وانسداد طرق الخير في وجهه..هذا هو الجانب الأول من المثل، أما الجانب الثاني فيتجلى في قوله- تعالى-: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ..أى: «هل يستوي هو» أى هذا الرجل الأبكم العاجز.. مع رجل آخر «يأمر» غيره بالعدل «وهو» أى هذا الرجل الآخر في نفسه «على صراط مستقيم» أى: على دين قويم، وخلق كريم فقد جمع بذلك بين فضيلتين جليلتين: نفعه لغيره، وصلاحه في ذاته.لا شك أن هذين الرجلين لا يستويان في عقل أى عاقل، إذ أن أولهما أبكم عاجز خائب..وثانيهما منطيق، ناصح لغيره، جامع لخصال الخير في نفسه.ومادام الأمر كذلك فكيف سويتم- أيها المشركون الضالون المكذبون- في العبادة بين الله- تعالى- وهو الخالق لكل شيء، وبين تلك الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغنى عن عابديها شيئا.أو كيف سويتم بين المؤمن الجامع لكل مكرمة، وبين الكافر الغبي الأبله الذي آثر الغي على الرشد، فتكون الآية الكريمة مسوقة لبيان الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر.وقد قابل- سبحانه- الأوصاف الأربعة للرجل الأول، بهذين الوصفين للرجل الثاني، لأن حاصل أوصاف الأول أنه غير مستحق لشيء، وحاصل وصفي الثاني أنه مستحق لكل فضل وخير.وقوله وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ... معطوف على الضمير المستتر في قوله هَلْ يَسْتَوِي....وجملة «وهو على صراط مستقيم» في محل نصب على الحال.وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا مثلين واضحين، لبيان الفرق الشاسع بين ذات الله- تعالى- الخلاق العليم، الرزاق الكريم.. وبين تلك المعبودات الباطلة التي أشركها الضالون في العبادة مع الله- عز وجل-.أو بين المؤمن الذي هو على بصيرة من أمره، وبين الكافر الذي استحب العمى على الهدى.. أو بين الحق في وضوحه وجماله وجلاله، وبين الباطل في ظلامه وقبحه وخسته.هذا، وما ذكره بعضهم من أن المثلين في الآيتين الكريمتين، قد وردا في أشخاص معينين من المؤمنين أو الكافرين، لا يعول عليه، لضعف الروايات التي وردت في ذلك، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.قال الآلوسى ما ملخصه: وما روى من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار، أو بالأبكم أبى بن خلف، والآمر بالعدل عثمان بن مظعون لا يصح إسناده..».وبهذين المثلين تكون السورة الكريمة قد أقامت أعظم الأدلة وأسطعها على صحة قوله- تعالى- قبل ذلك: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ....ثم ساقت السورة بعد ذلك ما يدل على إحاطة علمه- سبحانه- بكل شيء، وعلى شمول قدرته، وعلى سابغ نعمته، فقال- تعالى-:

ثم ضرب مثلا للأصنام فقال : ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه ) كل : ثقل ووبال " على مولاه " ابن عمه ، وأهل ولايته ، ( أينما يوجهه ) يرسله ، ( لا يأت بخير ) لأنه لا يفهم ما يقال له ، ولا يفهم عنه ، هذا مثل الأصنام ، لا تسمع ، ولا تنطق ، ولا تعقل ، ( وهو كل على مولاه ) عابده ، يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويخدمه .( هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ) يعني : الله تعالى قادر ، متكلم ، يأمر بالتوحيد ، ( وهو على صراط مستقيم ) [ قال الكلبي : يعني يدلكم على صراط مستقيم .وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم .وقيل : كلا المثلين للمؤمن والكافر ، يرويه عطية عن ابن عباس .وقال عطاء : الأبكم : أبي بن خلف ، ومن يأمر بالعدل : حمزة ، وعثمان بن عفان ، وعثمان بن مظعونوقال مقاتل : نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي ، وكان قليل الخير يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم .وقيل : نزلت في عثمان بن عفان ومولاه ، كان عثمان ينفق عليه ، وكان مولاه يكره الإسلام .

قوله تعالى : وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيمقوله تعالى : وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم هذا مثل آخر ضربه الله - تعالى - لنفسه وللوثن ، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن ، والذي يأمر بالعدل هو الله - تعالى - ; قاله قتادة وغيره . وقال ابن عباس : الأبكم عبد كان لعثمان - رضي الله عنه - ، وكان يعرض عليه الإسلام فيأبى ، ويأمر بالعدل عثمان . وعنه أيضا أنه مثل لأبي بكر الصديق ومولى له كافر . وقيل : الأبكم أبو جهل ، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر العنسي ، وعنس " بالنون " حي من مذحج ، وكان حليفا لبني مخزوم رهط أبي جهل ، وكان أبو جهل يعذبه على الإسلام ويعذب أمه سمية ، وكانت مولاة لأبي جهل ، وقال لها ذات يوم : إنما آمنت بمحمد لأنك تحبينه لجماله ، ثم طعنها بالرمح في قبلها فماتت ، فهي أول شهيد مات في الإسلام ، رحمها الله . من كتاب النقاش وغيره . وسيأتي هذا في آية الإكراه مبينا إن شاء الله - تعالى - . وقال عطاء : الأبكم أبي بن خلف ، كان لا ينطق بخير . وهو كل على مولاه أي قومه لأنه كان يؤذيهم ويؤذي عثمان بن مظعون . وقال مقاتل : نزلت في هشام بن عمرو بن الحارث ، كان كافرا قليل الخير يعادي النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : إن الأبكم الكافر ، والذي يأمر بالعدل المؤمن جملة بجملة ; روي عن ابن عباس وهو حسن لأنه يعم . والأبكم الذي لا نطق له . وقيل الذي لا يعقل . وقيل الذي لا يسمع ولا يبصر . وفى التفسير إن الأبكم هاهنا الوثن . بين أنه لا قدرة له ولا أمر ، وأن غيره ينقله وينحته فهو كل عليه . والله الآمر بالعدل ، الغالب على كل شيء .وهو كل على مولاه أي ثقل على وليه وقرابته ، ووبال على صاحبه وابن عمه . وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله ; ومنه قول الشاعر :أكول لمال الكل قبل شبابه إذا كان عظم الكل غير شديدوالكل أيضا الذي لا ولد له ولا والد . والكل العيال ، والجمع الكلول ، يقال منه : كل السكين يكل كلا أي غلظت شفرته فلم يقطع .أينما يوجهه لا يأت بخير قرأ الجمهور يوجهه وهو خط المصحف ; أي أينما يرسله صاحبه لا يأت بخير ، لأنه لا يعرف ولا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه . وقرأ يحيى بن وثاب " أينما يوجه " على الفعل المجهول . وروي عن ابن مسعود أيضا " توجه " على الخطاب .هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم أي هل يستوي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل وهو على الصراط المستقيم .

وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والآلهة التي تُعبد من دونه، فقال تعالى ذكره ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئا ، ولا ينطق، لأنه إما خشب منحوت ، وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه ، ولا دفع ضرّ عنه وهو كَلٌّ على مولاه ، يقول: وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته، فكذلك الصنم كَلّ على من يعبده، يحتاج أن يحمله ، ويضعه ويخدمه، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء، فهو كَلّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم ( أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ) يقول: حيثما يوجهه لا يأت بخير، لأنه لا يفهم ما يُقال له، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد، فهو لا يفهم ، ولا يُفْهَم عنه ، فكذلك الصنم ،لا يعقل ما يقال له ، فيأتمر لأمر من أمره، ولا ينطق فيأمر وينهي ، يقول الله تعالى ( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكلّ على مولاه الذي لا يأتي بخير حيث توجه ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه وهو الله الواحد القهار ، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته ، يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله ( وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول: وهو مع أمره بالعدل، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل ، وأمره به مستقيم، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه.وقد اختلف أهل التأويل في المضروب له هذا المثل، فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) قال: هو الوثن ( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) قال: الله يأمر بالعدل ( وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وكذلك كان مجاهد يقول إلا أنه كان يقول: المثل الأوّل أيضا ضربه الله لنفسه وللوثَن.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا و ( رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ )( وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) قال: كلّ هذا مثل إله الحقّ، وما يُدعى من دونه من الباطل.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ) قال: إنما هذا مثل ضربه الله.وقال آخرون: بل كلا المثلين للمؤمن والكافر. وذلك قول يُروَى عن ابن عباس، وقد ذكرنا الرواية عنه في المثل الأوّل في موضعه.وأما في المثل الآخر:فحدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ ) ... إلى آخر الآية، يعني بالأبكم: الذي هو كَلٌّ على مولاه الكافر، وبقوله ( وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) المؤمن، وهذا المثل في الأعمال.حدثنا الحسن بن الصباح البزار، قال: ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، قال: ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إبراهيم، عن عكرمة، عن يَعْلى بن أمية، عن ابن عباس، في قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا قال: نزلت في رجل من قريش وعبده. وفي قوله ( مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) ... إلى قوله ( وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال: هو عثمان بن عفان . قال: والأبكم الذي أينما يُوَجَّهُ لا يأت بخير، ذاك مولى عثمان بن عفَّان، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما.وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في المثل الأوّل لأنه تعالى ذكره مثَّل مثَل الكافر بالعبد الذي وصف صفته، ومثَّل مثل المؤمن بالذي رزقه رزقًاحسنًا ، فهو ينفق مما رزقه سرّا وجهرا، فلم يجز أن يكون ذلك لله مثلا إذ كان الله إنما مثل الكافر الذي لا يقدر على شيء بأنه لم يرزقه رزقا ينفق منه سرّا ؛ ومثَّل المؤمن الذي وفَّقه الله لطاعته فهداه لرشده ، فهو يعمل بما يرضاه الله، كالحرّ الذي بسط له في الرزق فهو ينفق منه سرًّا وجهرًا، والله تعالى ذكره هو الرازق غير المرزوق، فغير جائز أن يمثل إفضاله وجوده بإنفاق المرزوق الرزق الحسن ، وأما المثل الثاني، فإنه تمثيل منه تعالى ذكره مَنْ مثله الأبكم الذي لا يقدر على شيء والكفار لا شكّ أن منهم من له الأموال الكثيرة، ومن يضرّ أحيانا الضرّ العظيم بفساده، فغير كائن ما لا يقدر على شيء، كما قال تعالى ذكره مثلا لمن يقدر على أشياء كثيرة. فإذا كان ذلك كذلك كان أولى المعاني به تمثيل ما لا يقدر على شيء كما قال تعالى ذكره بمثله ما لا يقدر على شيء، وذلك الوثن الذي لا يقدر على شيء، بالأبكم الكَلّ على مولاه الذي لا يقدر على شيء كما قال ووصف.

هذا تمثيل ثاننٍ للحالتين بحالتين باختلاف وجه الشبّه . فاعتبر هنا المعنى الحاصل من حال الأبكم ، وهو العجز عن الإدراك ، وعن العمل ، وتعذّر الفائدة منه في سائر أحواله؛ والمعنى الحاصل من حال الرجل الكامل العقل والنّطق في إدراكه الخيرَ وهديه إليه وإتقاننِ عمله وعمل من يهديه ، ضربه الله مثلاً لكماله وإرشاده الناس إلى الحقّ ، ومثلاً للأصنام الجامدة التي لا تنفع ولا تضرّ .وقد قرن في التمثيل هنا حال الرجلين ابتداء ، ثم فصل في آخر الكلام مع ذكر عدم التّسوية بينهما بأسلوب من نظم الكلام بديع الإيجاز ، إذ حذف من صدر التمثيل ذكر الرجل الثاني للاقتصار على ذكره في استنتاج عدم التسوية تفنّناً في المخالفة بين أسلوب هذا التمثيل وأسلوب سابقه الذي في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً } [ سورة النحل : 75 ]. ومثْل هذا التفنّن من مقاصد البلغاء كراهية للتكرير لأن تكرير الأسلوب بمنزلة تكرير الألفاظ .والأبكم : الموصوف بالبَكم بفتح الباء والكاف وهو الخَرَس في أصل الخلقة من وقت الولادة بحيث لا يفهم ولا يُفهم . وزيد في وصفه أنه زَمِنٌ لا يقدر على شيء . وتقدّم عند قوله تعالى : { صم بكم عمي } في أول سورة البقرة ( 18 ).والكَلّ بفتح الكاف العالَة على الناس . وفي الحديث مَن تَرَك كَلاّ فعلينا ، أي من ترك عِيالاً فنحن نكفلهم . وأصل الكلّ : الثّقَل . ونشأت عنه معاننٍ مجازية اشتهرت فساوت الحقيقة .والمولى : الذي يلي أمر غيره . والمعنى : هو عالة على كافله لا يدبّر أمر نفسه . وتقدّم عند قوله تعالى : { بل الله مولاكم } في سورة آل عمران ( 15 ) ، وقوله تعالى : { وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ } في سورة يونس ( 30 ).ثم زاد وصفه بقلّة الجدوى بقوله تعالى : { أينما يوجّهه } ، أي مولاه في عمل ليعمله أو يأتي به لا يأتتِ بخير ، أي لا يهتدي إلى ما وجّه إليه ، لأن الخير هو ما فيه تحصيل الغرض من الفعل ونفعه .ودلّت صلة { يأمر بالعدل } على أنه حكيم عالم بالحقائق ناصح للناس يأمرهم بالعدل لأنه لا يأمر بذلك إلا وقد علمه وتبصّر فيه .والعدل : الحقّ والصواب الموافق للواقع .والصراط المستقيم : المحجّة التي لا التواء فيها . وأطلق هنا على العمل الصالح ، لأن العمل يشبّه بالسيرة والسلوك فإذا كان صالحاً كان كالسلوك في طريق موصلة للمقصود واضحة فهو لا يستوي مع من لا يعرف هدى ولا يستطيع إرشاداً ، بل هو محتاج إلى من يكفله .فالأول مثَل الأصنام الجامدة التي لا تفقه وهي محتاجة إلى من يحرسها وينفض عنها الغبار والوسخ ، والثاني مثل لكماله تعالى في ذاته وإفاضته الخير على عباده .
الآية 76 - سورة النحل: (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير ۖ...)