سورة المائدة: الآية 97 - ۞ جعل الله الكعبة البيت...

تفسير الآية 97, سورة المائدة

۞ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْىَ وَٱلْقَلَٰٓئِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ

الترجمة الإنجليزية

JaAAala Allahu alkaAAbata albayta alharama qiyaman lilnnasi waalshshahra alharama waalhadya waalqalaida thalika litaAAlamoo anna Allaha yaAAlamu ma fee alssamawati wama fee alardi waanna Allaha bikulli shayin AAaleemun

تفسير الآية 97

امتنَّ الله على عباده بأن جعل الكعبة البيت الحرام صلاحًا لدينهم، وأمنًا لحياتهم؛ وذلك حيث آمنوا بالله ورسوله وأقاموا فرائضه، وحرَّم العدوان والقتال في الأشهر الحرم (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) فلا يعتدي فيها أحد على أحد، وحرَّم تعالى الاعتداء على ما يُهدَى إلى الحرم من بهيمة الأنعام، وحرَّم كذلك الاعتداء على القلائد، وهي ما قُلِّد إشعارًا بأنه بقصد به النسك؛ ذلك لتعلموا أن الله يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض، ومن ذلك ما شرعه لحماية خلقه بعضهم من بعض، وأن الله بكل شيء عليم، فلا تخفى عليه خافية.

«جعل الله الكعبة البيت الحرام» المحرم «قياما للناس» يقوم به أمر دينهم بالحج إليه ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرض له وجبي ثمرات كل شيء إليه، وفي قراءة قيما بلا ألف مصدر قام غير معل «والشهر الحرام» بمعنى الأشهر الحرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب قياما لهم بأمنهم من القتال فيها «والهدي والقلائد» قياما لهم بأمن صاحبهما من التعرض له «ذلك» الجعل المذكور «لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم» فإن جعله ذلك لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن.

يخبر تعالى أنه جعل الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ يقوم بالقيام بتعظيمه دينُهم ودنياهم، فبذلك يتم إسلامهم، وبه تحط أوزارهم، وتحصل لهم - بقصده - العطايا الجزيلة، والإحسان الكثير، وبسببه تنفق الأموال، وتتقحم - من أجله - الأهوال. ويجتمع فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين، فيتعارفون ويستعين بعضهم ببعض، ويتشاورون على المصالح العامة، وتنعقد بينهم الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية. قال تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ومن أجل كون البيت قياما للناس قال من قال من العلماء: إن حج بيت الله فرض كفاية في كل سنة. فلو ترك الناس حجه لأثم كل قادر، بل لو ترك الناس حجه لزال ما به قوامهم، وقامت القيامة. وقوله: وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ أي: وكذلك جعل الهدي والقلائد -التي هي أشرف أنواع الهدي- قياما للناس، ينتفعون بهما ويثابون عليهما. ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فمن علمه أن جعل لكم هذا البيت الحرام، لما يعلمه من مصالحكم الدينية والدنيوية.

قال الفخر الرازي: «اعلم أن اتصال هذه الآية- جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ بما قبلها هو ان الله- تعالى- حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم. فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير. فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة» .والكعبة في اللغة: البيت المكعب أى المربع. وقيل المرتفع.قال القرطبي: وقد سميت الكعبة كعبة، لأنها مربعة.. وقيل: إنما سميت كعبة لنتوئها وبروزها، فكل ناتئ بارز كعب، ومنه كعب القدم وكعوب الفتاة، وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها» .وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى فيتعدى لاثنين أو لهما الكعبة وثانيهما قياما ويحتمل أن يكون بمعنى خلق أو شرع فيتعدى لواحد وهو الكعبة ويكون قوله: قِياماً حال من البيت الحرام.والبيت الحرام: بدل من الكعبة أو عطف بيان جيء به على سبيل المدح والتعظيم ووصف بالحرام إيذانا بحرمته وإشعارا بشرفه، حيث حرم- سبحانه- القتل فيه، وجعله مكان أمان الناس واطمئنانهم.وقوله قِياماً أصله قواما فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.والقيام والقوام ما به صلاح الشيء، كما يقال: الملك العادل قوام رعيته. لأنه يدبر أمرهم ويردع ظالمهم، ويحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم.والمراد بالشهر الحرام: الأشهر الحرم على إرادة الجنس وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.وقيل المراد به شهر ذي الحجة فحسب، لأنه هو الذي تؤدى فيه فريضة الحج، فالتعريف للعهد وليس للجنس.والهدى: اسم لما يهدى إلى الحرم من حيوان ليتقرب بذبحه إلى الله تعالى- وهو جمع هدية- بسكون الدال- والقلائد جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء.فالمراد بالقلائد هنا الحيوانات ذوات القلائد التي تساق إلى الحرم لذبحها فيه، فيكون ذكر القلائد بعد الهدى من باب التخصيص بالذكر على سبيل الاهتمام بشأنها، لأن الثواب فيها أكثر.وقيل المراد بها: ما كان يفعله بعض الناس من وضع قلادة من شعر أو من غيره في أعناقهم عند ما يحرمون حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء.وقوله: وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ معطوف على ما قبله وهو الكعبة.والمعنى: اقتضت حكمة الله- تعالى- ورحمته بعباده أن يصير الكعبة التي هي البيت الحرام قِياماً لِلنَّاسِ أى به قوامهم في إصلاح أمورهم دينا ودنيا، وكذلك جعل الأشهر الحرم والهدى وخصوصا ما يقلد منه قياما للناس أيضا.وذلك لأن البيت الحرام الذي يأتى الناس إليه من كل فج عميق، يجدون في رحابه ما يقوى إيمانهم، ويرفع درجاتهم، ويغسل سيئاتهم، ويصلح من شئون دنياهم عن طريق تبادل المنافع، وبذل الأموال، والشعور بالأمان والاطمئنان، وتوثيق الصلات الدينية والدنيوية التي ترضى الله- تعالى-، وتجعلهم أهلا لفضله ورحمته.ولأن الأشهر الحرم تأتى للناس فتجعلهم يمتنعون عن القتال فيها، فتهدأ نفوسهم، ويحصل التالف والتزاور بعد التدابر والتقاطع والتعادي ولأن الهدى والقلائد التي يسوقها المحرمون إلى الحرم لذبحها فيها ما فيها من التوسعة على الفقراء. وإشاعة روح المحبة والتسامح والإخاء.ورحم الله الإمام القرطبي حيث يقول: «والحكمة في جعل الله- تعالى- هذه الأشياء قياما للناس، أن الله- سبحانه- خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتقاطع والسلب والغارة. فلم يكن بد في الحكمة الإلهية من وازع يزعهم- أى يزجرهم- عن التنازع، ويحملهم على التآلف، ويرد الظالم عن المظلوم، فقد روى مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن» .فجعل- سبحانه- الخليفة في الأرض حتى لا يكون الناس فوضى، وعظم في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه.ولما كان لهذا البيت موضع مخصوص- ومكان معين- لا يدركه كل مظلوم، فقد جعل- سبحانه- الأشهر الحرم ملجأ آخر. وقرر في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا- أى نفسا- ولا يطلبون فيها دما، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. ثم شرع لهم الهدى والقلائد، فكانوا إذا أخذوا بعيرا وأشعروه دما، أو علقوا عليه قلادة أو فعل ذلك الرجل بنفسه. لم يروعه أحد حيث لقيه» .واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.يعود على الجعل المذكور الذي هو تصيير البيت الحرام وما عطف عليه قياما للناس، أى صلاحا لأحوالهم الدينية والدنيوية.والمعنى: فعل الله- تعالى- ذلك لتعلموا أنه- سبحانه- يعلم علما تاما شاملا ما في السموات وما في الأرض، ولتوقنوا بأنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم، وهتاف أرواحهم. لأن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار ولجلب المصالح الدينية والدنيوية دليل على أنه- سبحانه- يعلم ما في السموات وما في الأرض. وعلى أنه بكل شيء عليم دون أن تخفى عليه خافية مما في هذا الكون: وكرر- سبحانه- «ما. وفي» في المعطوف والمعطوف عليه للإشارة إلى دقة العلم وشموله، وأنه- سبحانه- لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.وقوله وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعميم إثر تخصيص. للتأكيد وقدم الخاص على العام ليكون ذكر الخاص كالدليل على العام.قال الجمل: واسم الإشارة ذلِكَ فيه ثلاثة أوجه:أحدها: أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: الحكم الذي حكمناه ذلك لا غير.والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف أى: ذلك الحكم هو الحق لا غيره.والثالث: أنه منصوب بفعل مقدر يدل عليه السياق. أى: شرع الله ذلك. وهذا أقواها، لتعلق لام العلة به. وقوله لِتَعْلَمُوا منصوب بإضمار أن بعد لام كي. وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معطوف على ما قبله وهو أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ .

قوله عز وجل : ( جعل الله الكعبة البيت الحرام ) قال مجاهد : سميت كعبة لتربيعها ، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة ، قال مقاتل : سميت كعبة لانفرادها من البناء ، وقيل : سميت كعبة لارتفاعها من الأرض ، وأصلها من الخروج والارتفاع ، وسمي الكعب كعبا لنتوئه ، وخروجه من جانبي القدم ، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها : تكعبت . وسمي البيت الحرام : لأن الله تعالى حرمه وعظم حرمته . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض " ( قياما للناس ) قرأ ابن عامر ( قيما ) بلا ألف ، والآخرون : " قياما " بالألف ، أي : قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم ، أما الدين لأن به يقوم الحج والمناسك ، وأما الدنيا فيما يجبى إليه من الثمرات ، وكانوا يأمنون فيه من النهار والغارة فلا يتعرض لهم أحد في الحرم ، قال الله تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) ( العنكبوت ) ( والشهر الحرام ) أراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، أراد أنه جعل الأشهر الحرم قياما للناس يأمنون فيها القتال ، ( والهدي والقلائد ) أراد أنهم كانوا يؤمنون بتقليد الهدي ، فذلك القوام فيه .( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ) فإن قيل : أي اتصال لهذا الكلام بما قبله ؟ قيل : أراد أن الله عز وجل جعل الكعبة قياما للناس لأنه يعلم صلاح العباد كما يعلم ما في السموات وما في الأرض ، وقال الزجاج : قد سبق في هذه السورة الإخبار عن الغيوب والكشف عن الأسرار ، مثل قوله ( سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ) ، ومثل إخباره بتحريفهم الكتب ونحو ذلك ، فقوله ( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ) راجع إليه .

قوله تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليمفيه خمس مسائل :الأولى : قوله تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام جعل هنا بمعنى خلق وقد تقدم ، وقد سميت الكعبة كعبة لأنها مربعة وأكثر بيوت العرب مدورة وقيل : إنما سميت كعبة لنتوئها وبروزها ، فكل ناتئ بارز كعب ، مستديرا كان أو غير مستدير ، ومنه كعب القدم وكعوب القناة ، وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها ، والبيت سمي بذلك لأنها ذات سقف وجدار ، وهي حقيقة البيتية وإن لم يكن بها ساكن ، وسماه سبحانه حراما بتحريمه إياه ; قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس وقد تقدم أكثر هذا مستوفى والحمد لله .الثانية : قوله تعالى : قياما للناس أي : صلاحا ومعاشا ، لأمن الناس بها ; وعلى هذا يكون قياما بمعنى يقومون بها . وقيل : قياما أي : يقومون بشرائعها .وقرأ ابن عامر وعاصم " قيما " وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها ، وقد قيل : " قوام " . قال العلماء : والحكمة في جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس ، أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتنافس والتقاطع والتدابر ، والسلب والغارة والقتل والثأر ، فلم يكن بد في الحكمة الإلهية ، والمشيئة الأولية من كاف يدوم معه الحال ووازع يحمد معه المآل . قال الله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة فأمرهم الله سبحانه بالخلافة ، وجعل أمورهم إلى واحد يزعهم عن التنازع ، ويحملهم على التآلف من التقاطع ، ويرد الظالم عن المظلوم ، ويقرر كل يد على ما تستولي عليه . روى ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن ; ذكره أبو عمر رحمه الله . وجور السلطان عاما واحدا أقل إذاية من كون الناس فوضى لحظة واحدة ; فأنشأ الله سبحانه الخليفة لهذه الفائدة ، لتجري على رأيه الأمور ، ويكف الله به عادية الجمهور ; فعظم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام ، وأوقع في نفوسهم هيبته ، وعظم بينهم حرمته ، فكان من لجأ إليه معصوما به ، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه . قال الله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم . قال العلماء : فلما كان موضعا مخصوصا لا يدركه كل مظلوم ، ولا يناله كل خائف جعل الله الشهر الحرام ملجأ آخر وهي :الثالثة : وهو اسم جنس ، والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب ، فقرر الله في قلوبهم حرمتها ، فكانوا لا يروعون فيها سربا - أي : نفسا - ولا يطلبون فيها دما ولا يتوقعون فيها ثأرا ، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه . واقتطعوا فيها ثلث الزمان ، ووصلوا منها ثلاثة متوالية ، فسحة وراحة ومجالا للسياحة في الأمن والاستراحة ، وجعلوا منها واحدا منفردا في نصف العام دركا للاحترام ، وهو شهر رجب الأصم ويسمى مضر ، وإنما قيل له : رجب الأصم ; لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد ، ويسمى منصل الأسنة ; لأنهم كانوا ينزعون فيه الأسنة من الرماح ، وهو شهر قريش ، وله يقول عوف بن الأحوص :وشهر بني أمية والهدايا إذا سيقت مضرجها الدماءوسماه النبي صلى الله عليه وسلم شهر الله ; أي : شهر آل الله ، وكان يقال لأهل الحرم : آل الله ، ويحتمل أن يريد شهر الله ; لأن الله متنه وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه ، وسيأتي في " براءة " أسماء الشهور إن شاء الله . ثم يسر لهم الإلهام ، وشرع على ألسنة الرسل الكرام الهدي والقلائد وهي :الرابعة : فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما ، أو علقوا عليه نعلا ، أو فعل ذلك الرجل بنفسه من التقليد على - ما تقدم بيانه أول السورة - لم يروعه أحد حيث لقيه ، وكان الفيصل بينه وبين من طلبه أو ظلمه حتى جاء الله بالإسلام وبين الحق بمحمد عليه السلام ، فانتظم الدين في سلكه ، وعاد الحق إلى نصابه ، فأسندت الإمامة إليه ، وانبنى وجوبها على الخلق عليه وهو قوله سبحانه : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية ، وقد مضى في " البقرة " أحكام الإمامة فلا معنى لإعادتها .الخامسة : قوله تعالى : ذلك لتعلموا ذلك إشارة إلى جعل الله هذه الأمور قياما ; والمعنى فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم .

القول في تأويل قوله : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قوامًا للناس الذين لا قِوَام لهم من رئيس يحجز قوِّيهم عن ضعيفهم، (94) ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم=" والشهر الحرام والهدي والقلائد "، فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض, إذ لم يكن لهم قيامٌ غيره, وجعلها معالم لدينهم، ومصالح أمورهم.* * *و " الكعبة "، سميت فيما قيل " كعبة " لتربيعها.* * ** ذكر من قال ذلك:12780 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إنما سميت " الكعبة "، لأنها مربعة.12781 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا هاشم بن القاسم, عن أبي سعيد المؤدب, عن النضر بن عربي, عن عكرمة قال : إنما سميت " الكعبة "، لتربيعها. (95)* * *وقيل " قيامًا للناس " بالياء, وهو من ذوات الواو, لكسرة القاف، وهي" فاء " الفعل, فجعلت " العين " منه بالكسرة " ياء ", كما قيل في مصدر: " قمت "" قيامًا " و " صمت "" صيامًا ", فحوّلت " العين " من الفعل: وهي" واو "" ياء " لكسرة فائه. وإنما هو في الأصل: " قمت قوامًا ", و " صمت صِوَامًا "، وكذلك قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس "، فحوّلت، واوها ياء, إذ هي" قوام ". (96)وقد جاء ذلك من كلامهم مقولا على أصله الذي هو أصله قال الراجز: (97)قَِوامُ دُنْيَا وَقَوَامُ دِين (98)فجاء به بالواو على أصله.* * *وجعل تعالى ذكره الكعبة والشهرَ الحرام والهديَ والقلائد قوامًا لمن كان يحرِّم ذلك من العرب ويعظّمه، (99) بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تُبَّاعه.وأما " الكعبة "، فالحرم كله. وسمّاها الله تعالى " حرامًا "، لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يُخْتلى خَلاها، أو يُعْضد شجرها، (100) وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (101)* * *وقوله: " والشهر الحرام والهدي والقلائد "، يقول تعالى ذكره: وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضًا قيامًا للناس, كما جعل الكعبة البيت الحرام لهم قيامًا.* * *و " الناس " الذين جعل ذلك لهم قيامًا، مختلفٌ فيهم.فقال بعضهم: جعل الله ذلك في الجاهلية قيامًا للناس كلهم.* * *وقال بعضهم: بل عنى به العربَ خاصة.* * *وبمثل الذي قلنا في تأويل " القوام "، قال أهل التأويل.* ذكر من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس "، القوام، على نحو ما قلنا.12782 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا من سمع خُصَيفًا يحدث، عن مجاهد في: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس "، قال: قوامًا للناس.12783 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن خصيف, عن سعيد بن جبير: " قيامًا للناس "، قال: صلاحًا لدينهم.12784- حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا داود, عن ابن جريج, عن مجاهد في: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس "، قال: حين لا &; 11-92 &; يرْجون جنة ولا يخافون نارًا, فشدّد الله ذلك بالإسلام.12785- حدثني هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة, عن إسرائيل, عن أبي الهيثم, عن سعيد بن جبير قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس "، قال: شدةً لدينهم.12786- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن أبي الهيثم, عن سعيد بن جيير, مثله.12787 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس "، قال: قيامها، أن يأمن من توجَّه إليها.12788 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد "، يعني قيامًا لدينهم, ومعالم لحجهم.12789 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد "، جعل الله هذه الأربعةَ قيامًا للناس, هو قوام أمرهم.* * *قال أبو جعفر: وهذه الأقوال وإن أختلفت من قائليها ألفاظُها، (102) فإن معانيها آيلةٌ إلى ما قلنا في ذلك، من أن " القوام " للشيء، هو الذي به صلاحه, كما الملك الأعظم، قوامُ رعيته ومن في سلطانه، (103) لأنه مدبِّر أمرهم، وحاجز ظالمهم عن مظلومهم، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم. وكذلك كانت الكعبة والشهرُ الحرام والهدي والقلائد، قوامَ أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية, وهي في الإسلام لأهله معالمُ حجهم ومناسكهم، ومتوجَّههم لصلاتهم، وقبلتهم التي باستقبالها يتمُّ فرضُهم.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قالت جماعة أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:12790 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد "، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، (104) فكان الرجل لو جَرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقرَبه. وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادةً من شعر فأحمته ومنعته من الناس. وكان إذا نفر تقلَّد قلادة من الإذْخِر أو من لِحَاء السمُر, فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، (105) حواجزُ أبقاها الله بين الناس في الجاهلية.12791- حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد "، قال: كان الناس كلهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضَهم عن بعض. قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعض, فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قيامًا، يُدْفع بعضُهم عن بعض به, والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم، والقلائد. قال: ويلقَى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له. وهذا كله قد نُسِخ.12792 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: " والقلائد "، كان ناس يتقلَّدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحجّ, فيعرفون بذلك.* * *وقد أتينا على البيان عن ذكر: " الشهر الحرام "= و " الهدي"= و " القلائد "، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (106)* * *القول في تأويل قوله : ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " ذلك "، تصييرَه الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. يقول تعالى ذكره: صيرت لكم، أيها الناس، ذلك قيامًا، كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث، مما به قوامكم, علمًا منه بمنافعكم ومضاركم، أنه كذلك يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض مما فيه صلاحُ عاجلكم وآجلكم, ولتعلموا أنه بكل شيء " عليم ", لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم, وهو محصيها عليكم، حتى يجازي المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته. (107)-----------------الهوامش :(94) انظر تفسير"جعل" فيما سلف 3: 18.(95) الأثر: 12781-"هاشم بن القاسم بن مسلم الليثي""أبو النضر" الإمام الحافظ مضى برقم: 184 ، 8239.و"أبو سعيد المؤدب" هو: "محمد بن مسلم بن أبي الوضاح القضاعي" ثقة مأمون مضى برقم 8239 ، 12310.(96) انظر تفسير"قيام" فيما سلف 7: 568 ، 569.(97) هو حميد الأرقط.(98) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 177.(99) في المطبوعة: "يحترم ذلك" وصوابه من المخطوطة وفي المخطوطة: "ويعطيه" وصوابه ما في المطبوعة.(100) "الخلي": الرطب الرقيق من النبات. و"اختلى الخلي": جزه وقطعه ونزعه. و"عضد الشجرة" قطعها.(101) انظر ما سلف 3: 45- 51.(102) في المخطوطة والمطبوعة: "من قائلها" بالإفراد وما أثبته أولى بالصحة.(103) في المطبوعة: "كالملك" والصواب الجيد ما في المخطوطة.(104) عندي أن الصواب"ألقاها الله" باللام في هذا الموضع ، والذي يليه ، ولكن هكذا هي في المخطوطة.(105) "الإذخر": حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب ويطحن فيدخل في الطيب. و"اللحاء" قشر الشجر. و"السمر" (بفتح السين وضم الميم): شجر من الطلح.(106) انظر تفسير"الشهر الحرام" فيما سلف 3: 575- 579/4: 299 ، 300 وما بعدها/9: 466= وتفسير"الهدي" فيما سلف 4: 24 ، 25/9: 466/11: 22= وتفسير"القلائد" فيما سلف 9: 467- 470.(107) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.

استئناف بياني لأنّه يحصل به جواب عمّا يخطر في نفس السامع من البحث عن حكمة تحريم الصيد في الحرم وفي حال الإحرام ، بأنّ ذلك من تعظيم شأن الكعبة التي حُرّمت أرضُ الحرم لأجل تعظيمها ، وتذكيرٌ بنعمة الله على سكّانه بما جعل لهم من الأمن في علائقها وشعائرها .والجعل يطلق بمعنى الإيجاد ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كما في قوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } ، في سورة الأنعام ( 1 ) ، ويطلق بمعنى التصيير فتعدّى إلى مفعولين ، وكلا المعنيين صالح هنا . والأظهر الأول فإنّ الله أوجد الكعبة ، أي أمر خليله بإيجادها لتكون قياماً للناس . فقوله : قياماً } منصوب على الحال ، وهي حال مقدّرة ، أي أوجدها مقدّراً أن تكون قياماً . وإذا حمل { جعل } على معنى التصيير كان المعنى أنّها موجودة بيتَ عبادة فصيّرها الله قياماً للناس لطفاً بأهلها ونسلهم ، فيكون { قياماً } مفعولاً ثانياً ل { جعل } . وأمّا قوله : { البيت الحرام } يصحّ جعله مفعولاً .والكعبة علم على البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام بمكة بأمر الله تعالى ليكون آية للتوحيد . وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : { إنّ أوّل بيتتٍ وضع للناس للذي ببكة } في سورة آل عمران ( 96 ) . قالوا : إنّه علم مشتقّ من الكَعَب ، وهو النتوء والبروز ، وذلك محتمل . ويحتمل أنّهم سمّوا كلّ بارز كعبة ، تشبيهاً بالبيت الحرام ، إذ كان أول بيت عندهم ، وكانوا من قبله أهل خيام ، فصار البيت مثلاً يمثّل به كلّ بارز . وأمّا إطلاق الكعبة على ( القليس ) الذي بناه الحبشة في صنعاء ، وسمّاه بعض العرب الكعبة اليمانية ، وعلى قبة نجران التي أقامها نصارى نجران لعبادتهم التي عناها الأعشى في قوله :فَكعْبَةُ نَجرَان حَتْم عليكِ ... حتى تُناخي بأبوابهافذلك على وجه المحاكاة والتشبيه ، كما سمّى بنو حنيفة مسَليمة رحمان .وقوله : البيت الحرام } بيان للكعبة . قصد من هذا البيان التنويه والتعظيم ، إذ شأن البيان أن يكون موضّحاً للمبيّن بأن يكون أشهر من المبيّن . ولمّا كان اسم الكعبة مساوياً للبيت الحرام في الدلالة على هذا البيت فقد عبّر به عن الكعبة في قوله تعالى : { ولا آمِّين البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] فتعيّن أنّ ذكر البيان للتعظيم ، فإنّ البيان يجيء لما يجيء له النعت من توضيح ومدح ونحو ذلك . ووجه دلالة هذا العلم على التعظيم هو ما فيه من لمح معنى الوصف بالحرام قبل التغليب . وذكر البيت هنا لأنّ هذا الموصوف مع هذا الوصف صارا علماً بالغلبة على الكعبة .والحرام في الأصل مصدر حَرُم إذا مُنِع ، ومصدره الحرام ، كالصلاح من صلُح ، فوصف شيء بحرام مبَالغة في كونه ممنوعاً . ومعنى وصف البيت بالحرام أنّه ممنوع من أيدي الجبابرة فهو محترم عظيم المهابة . وذلك يستتبع تحجير وقوع المظالم والفواحش فيه ، وقد تقدّم أنّه يقال رجل حرام عند قوله تعالى : { غير محلّي الصيد وأنتم حُرُم في هذه السورة ( 1 ) ، وأنّه يقال : شهر حرام ، عند قوله تعالى :{ ولا الشهر الحرام } [ المائدة : 2 ] فيها أيضاً ، فيحمل هذا الوصف على ما يناسبه بحسب الموصوف الذي يجري عليه ، وهو في كلّ موصوف يدلّ على أنّه ممّا يتجنّب جانبه ، فيكون تجنّبه للتعظيم أو مهابته أو نحو ذلك ، فيكون وصفَ مدح ، ويكون تجنّبه للتنزّه عنه فيكون وصف ذمّ ، كما تقول : الخمر حرام .وقرأ الجمهور { قياماً } بألف بعد الياء . وقرأه ابن عامر { قيماً } بدون ألف بعد الياء .والقيام في الأصل مصدر قام إذا استقلّ على رجليه ، ويستعار للنشاط ، ويستعار من ذلك للتدبير والإصلاح ، لأنّ شأن من يعمل عملاً مهمّاً أن ينهض له ، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } في سورة البقرة ( 3 ) . ومن هذا الاستعمال قيل للناظر في أمور شيء وتدبيره : هو قيّم عليه أو قائم عليه ، فالقيام هنا بمعنى الصلاح والنفع . وأمّا قراءة ابن عامر قيما } فهو مصدر ( قام ) على وزن فِعَل بكسر ففتح مثل شِبَع . وقد تقدّم أنّه أحد تأويلين في قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما } في سورة النساء . وإنّما أعلّت واوه فصارت ياء لشدّة مناسبة الياء للكسرة . وهذا القلب نادر في المصادر التي على وزن فِعَل من الواوي العين . وإثباته للكعبة من الإخبار بالمصدر للمبالغة ، وهو إسناد مجازي ، لأنّ الكعبة لمّا جعلها الله سبباً في أحكام شرعية سابقة كان بها صلاح أهل مكة وغيرهم من العرب وقامت بها مصالحهم ، جُعلت الكعبة هي القائمة لهم لأنّها سبب القيام لهم .والناس هنا ناس معهودون ، فالتعريف للعهد . والمراد بهم العرب ، لأنّهم الذين انتفعوا بالكعبة وشعائرها دون غيرهم من الأمم كالفرس والروم . وأمّا ما يحصل لهؤلاء من منافع التجارة ونحوها من المعاملة فذلك تبع لوجود السّكان لا لكون البيت حراماً ، إلاّ إذا أريد التسبّب البعيد ، وهو أنّه لولا حرمة الكعبة وحرمة الأشهر في الحجّ لساد الخوف في تلك الربوع فلم تستطع الأمم التجارة هنالك .وإنّما كانت الكعبة قياماً للناس لأنّ الله لمّا أمر إبراهيم بأن يُنزل في مكة زوجه وابنه إسماعيل ، وأراد أن تكون نشأة العرب المستعربة ( وهم ذرية إسماعيل ) في ذلك المكان لينشأوا أمّة أصيلة الآراء عزيزة النفوس ثابتة القلوب ، لأنّه قدّر أن تكون تلك الأمّة هي أول من يتلقّى الدين الذي أراد أن يكون أفضل الأديان وأرسخها ، وأن يكون منه انبثاث الإيمان الحقّ والأخلاق الفاضلة . فأقام لهم بلداً بعيداً عن التعلّق بزخارف الحياة؛ فنشأوا على إباء الضيم ، وتلقّوا سيرة صالحة نشأوا بها على توحيد الله تعالى والدعوة إليه؛ وأقام لهم فيه الكعبة معلماً لتوحيد الله تعالى ، ووضع في نفوسهم ونفوس جيرتهم تعظيمه حرمته .ودعا مجاوريهم إلى حجّه ما استطاعوا ، وسخّر الناس لإجابة تلك الدعوة ، فصار وجود الكعبة عائداً على سكان بلدها بفوائد التأنّس بالوافدين ، والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق ، وبما يجلب التجّار في أوقات وفود الناس إليه؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوع ولا عراء . وجعل في نفوس أهله القناعة فكان رزقهم كفاناً . وذلك ما دعا به إبراهيم في قوله : { ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون } [ إبراهيم : 37 ] . فكانت الكعبة قياماً لهم يقوم به أوَد معاشهم . وهذا قيام خاصّ بأهله .ثم انتشرت ذرّية إسماعيل ولحقت بهم قبائل كثيرة من العرب القحطانيين وأهِلت بلاد العرب . وكان جميع أهلها يدين بدين إبراهيم؛ فكان من انتشارهم ما شأنه أن يَحدُث بين الأمّة الكثيرة من الاختلاف والتغالب والتقاتل الذي يفضي إلى التفاني ، فإذا هم قد وجدوا حرمة أشهر الحج الثلاثة وحرمة شهر العمرة ، وهو رجب الذي سنَّتْهُ مُضَرُ ( وهم معظم ذرية إسماعيل ) وتبعهم معظم العرب . وجدوا تلك الأشهر الأربعة ملجئة إيّاهم إلى المسالمة فيها فأصبح السلم سائداً بينهم مدة ثلث العام ، يصلحون فيها شؤونهم ، ويستبقون نفوسهم ، وتسعى فيها سادتهم وكبراؤهم وذوو الرأي منهم بالصلح بينهم ، فيما نجم من تِراتتٍ وإحَننٍ . فهذا من قيام الكعبة لهم ، لأنّ الأشهر الحرم من آثار الكعبة إذ هي زمن الحج والعمرة للكعبة .وقد جعل إبراهيم للكعبة مكاناً متّسعاً شاسعاً يحيط بها من جوانبها أميالاً كثيرة ، وهو الحرم ، فكان الداخل فيه آمناً . قال تعالى : { أوَ لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطَّف الناس مِنْ حولهم } [ العنكبوت : 67 ] . فكان ذلك أمناً مستمراً لسكّان مكة وحرمها ، وأمناً يلوذ إليه من عراه خوف من غير سكانها بالدخول إليه عائذاً ، ولتحقيق أمنه أمَّن الله وحوشه ودوابّه تقوية لحرمته في النفوس ، فكانت الكعبة قياماً لكلّ عربي إذا طرقه ضيم .وكان أهل مكة وحرمها يسيرون في بلاد العرب آمنين لا يتعرّض لهم أحد بسوء ، فكانوا يتّجرون ويدخلون بلاد قبائل العرب ، فيأتونهم بما يحتاجونه ويأخذون منهم ما لا يحتاجونه ليبلّغوه إلى من يحتاجونه ، ولولاهم لما أمكن لتاجر من قبيلة أن يسير في البلاد ، فلتعطّلت التجارة والمنافع . ولذلك كان قريش يوصفون بين العرب بالتجّار ، ولأجل ذلك جعلوا رحلتي الشتاء والصيف اللَّتين قال الله تعالى فيهما : { لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الستاء والصيف } [ قريش : 1 ، 2 ] . وبذلك كلّه بقيت أمّه العرب محفوظة الجبلّة التي أراد الله أن يكونوا مجبولين عليها ، فتهيّأت بعد ذلك لتلقّي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وحملِها إلى الأمم ، كما أراد الله تعالى وتمّ بذلك مراده .وإذا شئت أن تعدو هذا فقل : إنّ الكعبة كانت قياماً للناس وهم العرب ، إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتّباع الحنيفية ، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتهم كلّها لم يعدموا عوائد نفعها .فلمّا جاء الإسلام كان الحج إليها من أفضل الأعمال ، وبه تكفّر الذنوب ، فكانت الكعبة من هذا قياماً للناس في أمور أخراهم بمقدار ما يتمسّكون به ممّا جعلت الكعبة له قياماً .وعَطْفُ { الشهرَ الحرامَ } على { الكعبةَ } شبْه عطف الخاصّ على العامّ باعتبار كون الكعبة أريد بها ما يشمل علائقها وتوابعها ، فإنّ الأشهر الحرم ما اكتسبت الحرمة إلاّ من حيث هي أشهر الحج والعمرة للكعبة كما علمت . فالتعريف في { الشهر } للجنس كما تقدّم في قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } [ المائدة : 2 ] . ولا وجه لتخصيصه هنا ببعض تلك الأشهر . وكذلك عطف { الهدي } و { القلائد } . وكون الهدي قياماً للناس ظاهر ، لأنّه ينتفع ببيعه للحاج أصحابُ المواشي من العرب ، وينتفع بلحومه من الحاج فقراءُ العرب ، فهو قيام لهم .وكذلك القلائد فإنّهم ينتفعون بها؛ فيتّخذون من ظفائرها مادّة عظيمة للغزل والنسج ، فتلك قيام لفقرائهم ، ووجه تخصيصها بالذكر هنا ، وإن كانت هي من أقلّ آثار الحج ، التنبيهُ على أنّ جميع علائق الكعبة فيها قيام للناس ، حتى أدنى العلائق ، وهو القلائد ، فكيف بما عداها من جِلال البدْن ونعالها وكسوة الكعبة ، ولأنّ القلائد أيضاً لا يخلو عنها هدي من الهدايا بخلاف الجِلال والنعال . ونظير هذا قول أبي بكر «والله لو منعوني عِقالاً» إلخ . . .وقوله : { ذلك لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } الآية ، مرتبط بالكلام الذي قبله بواسطة لام التعليل في قوله { لتعلموا } . وتوسّط اسم الإشارة بين الكلامين لزيادة الربط مع التنبيه على تعظيم المشار إليه ، وهو الجعل المأخوذ من قوله : { جعل الله الكعبة } ، فتوسّط اسم الإشارة هنا شبيه بتوسّط ضمير الفصل ، فلذلك كان الكلام شبيهاً بالمستأنف وما هو بمستأنف ، لأنّ ماصْدَقَ اسم الإشارة هو الكلام السابق ، ومفاد لام التعليل الربط بالكلام السابق ، فلم يكن في هذا الكلام شيء جديد غير التعليل ، والتعليل اتّصال وليس باستئناف ، لأنّ الاستئناف انفصال . وليس في الكلام السابق ما يصلح لأن تتعلّق به لام التعليل إلاّ قوله { جعل } . وليست الإشارة إلاّ للجعل المأخوذ من قوله { جعل } .والمعنى : جعل الله الكعبة قياماً للناس لتعلموا أن الله يعلم الخ . . ، أي أنّ من الحكمة التي جعل الكعبة قياماً للناس لأجلها أن تعلموا أنه يعلم . فَجَعْل الكعبة قياماً مقصود منه صلاح الناس بادىء ذي بدء لأنّه المجعولة عليه ، ثم مقصود منه عِلم الناس بأنّه تعالى عليم . وقد تكون فيه حكم أخرى لأنّ لام العلّة لا تدلّ على انحصار تعليل الحكم الخبري في مدخولها لإمكان تعدّد العلل للفعل الواحد ، لأنّ هذه علل جعلية لا إيجادية ، وإنّما اقتصر على هذه العلة دون غيرها لشدّة الاهتمام بها ، لأنّها طريق إلى معرفة صفة من صفات الله تحصل من معرفتها فوائد جمّة للعارفين بها في الامتثال والخشية والاعتراف بعجز من سواه وغير ذلك .فحصول هذا العلم غاية من الغايات التي جعل الله الكعبة قياماً لأجلها .والمقصود أنّه يعلم ما في السموات وما في الأرض قبل وقوعه لأنّه جعل التعليل متعلّقاً بجعل الكعبة وما تبعها قياماً للناس . وقد كان قيامها للناس حاصلاً بعد وقت جعلها بمدّة ، وقد حصل بعضُه يتلُو بعضاً في أزمنة متراخية كما هو واضح . وأمّا كونه يعلم ذلك بعد وقوعه فلا يحتاج للاستدلال لأنّه أولى ، ولأنّ كثيراً من الخلائق قد علم تلك الأحوال بعد وقوعها .ووجه دلالة جَعْل الكعبة قياماً للناس وما عطف عليها ، على كونه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، أنّه تعالى أمر ببناء الكعبة في زمن إبراهيم ، فلم يدر أحد يومئذٍ إلاّ أنّ إبراهيم اتّخذها مسجداً ، ومكة يومئذٍ قليلة السكّان ، ثم إنّ الله أمر بحج الكعبة وبحرمة حرمها وحرمة القاصدين إليها ، ووقّت للناس أشهراً القصد فيها ، وهدايا يسوقونها إليها فإذا في جميع ذلك صلاح عظيم وحوائل دون مضارّ كثيرة بالعرب لولا إيجاد الكعبة ، كما بيّنّاه آنفاً . فكانت الكعبة سبب بقائهم حتى جاء الله بالإسلام . فلا شك أنّ الذي أمر ببنائها قد علم أن ستكون هنالك أمّة كبيرة ، وأن ستحمد تلك الأمّة عاقبة بناء الكعبة وما معه من آثارها . وكان ذلك تمهيداً لما علمه مِن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ، وجعلِهم حملة شريعته إلى الأمم ، وما عقب ذلك من عِظم سلطان المسلمين وبناء حضارة الإسلام . ثم هو يعلم ما في الأرض وليس هو في الأرض بدليل المشاهدة ، أو بالترفّع عن النقص فلا جرم أن يكون عالماً بما في السماواة ، لأنّ السموات إمّا أن تكون مساوية للأرض في أنّه تعالى ليس بمستقرّ فيها ، ولا هي أقرب إليه من الأرض ، كما هو الاعتقاد الخاصّ ، فثبت له العلم بما في السماوات بقياس المساواة؛ وإمّا أن يكون تعالى في أرفع المكان وأشرف العوالم ، فيكون علمه بما في السماوات أحرى من علمه بما في الأرض ، لأنّها أقرب إليه وهو بها أعني ، فيتمّ الاستدلال للفريقين .وأمّا دلالة ذلك على أنّه بكلّ شيء عليم فلأنّ فيما ثبت من هذا العلم الذي تقرّر من علمه بما في السماوات وما في الأرض أنواعاً من المعلومات جليلة ودقيقة؛ فالعلم بها قبل وقوعها لا محالة ، فلو لم يكن يعلم جميع الأشياء لم يخل من جهل بعضها ، فيكون ذلك الجهل معطّلاً لعلمه بكثير ممّا يتوقّف تدبيره على العلم بذلك المجهول فهو ما دبر جعل الكعبة قياماً وما نشأ عن ذلك إلاّ عن عموم علمه بالأشياء ولولا عمومه ما تمّ تدبير ذلك المقدّر .
الآية 97 - سورة المائدة: (۞ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ۚ ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في...)