سورة الجاثية: الآية 17 - وآتيناهم بينات من الأمر ۖ...

تفسير الآية 17, سورة الجاثية

وَءَاتَيْنَٰهُم بَيِّنَٰتٍ مِّنَ ٱلْأَمْرِ ۖ فَمَا ٱخْتَلَفُوٓا۟ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُوا۟ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

الترجمة الإنجليزية

Waataynahum bayyinatin mina alamri fama ikhtalafoo illa min baAAdi ma jaahumu alAAilmu baghyan baynahum inna rabbaka yaqdee baynahum yawma alqiyamati feema kanoo feehi yakhtalifoona

تفسير الآية 17

وآتينا بني إسرائيل شرائع واضحات في الحلال والحرام، ودلالات تبين الحق من الباطل، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، وقامت الحجة عليهم، وإنما حَمَلهم على ذلك بَغْيُ بعضهم على بعض؛ طلبًا للرفعة والرئاسة، إن ربك -أيها الرسول- يحكم بين المختلفين من بني إسرائيل يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا. وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم.

«وآتيانهم بينات من الأمر» أمر الدين من الحلال والحرام وبعثة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام «فما اختلفوا» في بعثته «إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم» أي لبغي حدث بينهم حسداً له «إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون».

وَآتَيْنَاهُمْ أي: آتينا بني إسرائيل بَيِّنَاتٍ أي: دلالات تبين الحق من الباطل مِنَ الْأَمْرِ القدري الذي أوصله الله إليهم.وتلك الآيات هي المعجزات التي رأوها على يد موسى عليه السلام، فهذه النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل تقتضي الحال أن يقوموا بها على أكمل الوجوه وأن يجتمعوا على الحق الذي بينه الله لهم، ولكن انعكس الأمر فعاملوها بعكس ما يجب.وافترقوا فيما أمروا بالاجتماع به ولهذا قال: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ أي: الموجب لعدم الاختلاف، وإنما حملهم على الاختلاف البغي من بعضهم على بعض والظلم. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيميز المحق من المبطل والذي حمله على الاختلاف الهوى أو غيره.

( وآتيناهم بينات من الأمر ) أي : حججا وبراهين وأدلة قاطعات ، فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة ، وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا ، ( إن ربك ) يا محمد ( يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) أي : سيفصل بينهم بحكمه العدل . وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم ، وأن تقصد منهجهم ;

ثم بين- سبحانه- نعمة أخرى من النعم التي أنعم بها على بنى إسرائيل فقال:وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ والبينات جمع بينة، وهي الدليل الواضح الصريح.ومِنَ بمعنى في.أى: وأعطيناهم- فضلا عن كل ما سبق- دلائل واضحة، وشرائع بينة تتعلق بأمر دينهم، بأن فصلنا لهم الحلال والحرام، والحسن والقبيح، والحق والباطل، فصاروا بذلك على علم تام بشريعتهم، بحيث لا يخفى عليهم شيء مما اشتملت عليه من أوامر أو نواه، أو حلال أو حرام.فالمقصود من هذه الجملة الكريمة أن الله- تعالى- قد أعطاهم شريعة واضحة لا غموض فيها ولا التباس، ولا عوج فيها ولا انحراف.بل إن شريعتهم قد أخبرتهم عن طريق رسلهم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وبوجوب إيمانهم به عند ظهوره، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ .ثم بين- سبحانه- الموقف القبيح الذي وقفه بنو إسرائيل من نعم الله عليهم فقال:فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.والبغي: تجاوز الحق إلى الباطل في كل شيء. يقال بغت المرأة إذا أتت مالا يحل لها.وبغى فلان على فلان إذا اعتدى عليه، ومنه قوله- تعالى-: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ.والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو الأوقات، وقوله: بَغْياً مفعول لأجله.أى: أن بنى إسرائيل أنعمنا عليهم بتلك النعم الدينية والدنيوية، فما اختلفوا في أمور دينهم التي وضحناها لهم، إلا عن علم لا عن جهل، ولم يكن خلافهم في حال من الأحوال إلا من أجل البغي والحسد فيما بينهم، لا من أجل الوصول إلى الحق.فأنت ترى أن الجملة الكريمة توبخ بنى إسرائيل توبيخا شديدا، لأنها بينت أن خلافهم لم يكن عن جهل، وإنما كان عن علم، والاختلاف بعد العلم بالحق أقبح وأشنع، وأن اختلافهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق، وإنما كان سببه البغي والحسد.فهم قد اختلفوا في الحق مع علمهم به، لأن العلم كالمطر، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية، والقلوب الواعية..والنفوس عند ما يستولى عليها الهوى، تحول المقتضى إلى مانع.ورحم الله الإمام الرازي فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: والمقصود من هذه الجملة، التعجب من أحوالهم، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف. وهاهنا صار مجيء العلم سببا لحصول الاختلاف، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والبغي .وقوله- تعالى-: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيان لحكم الله العادل فيهم.أى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- يقضى بين هؤلاء المختلفين يوم القيامة، بقضائه العادل، بأن ينزل بهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ما كانوا يختلفون فيه من أمر الدين، الذي جعل الله أحكامه واضحة لهم، ولا تحتمل الاختلاف أو التنازع.

( وآتيناهم بينات من الأمر ) يعني العلم بمبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وما بين لهم من أمره ( فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) .

وآتيناهم بينات من الأمر قال ابن عباس : يعني أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وشواهد نبوته بأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ، وينصره أهل يثرب . وقيل : بينات الأمر شرائع واضحات في الحلال والحرام ومعجزات . فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم يريد يوشع بن نون ، فآمن بعضهم وكفر بعضهم ، حكاه النقاش . وقيل : إلا من بعد ما جاءهم العلم : نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاختلفوا فيها . بغيا بينهم أي حسدا على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال معناه الضحاك . قيل : معنى بغيا أي : بغى بعضهم على بعض يطلب الفضل والرياسة ، وقتلوا الأنبياء ، فكذا مشركو عصرك يا محمد ، قد جاءتهم البينات ولكن أعرضوا عنها للمنافسة في الرياسة . إن ربك يقضي بينهم أي يحكم ويفصل . يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا .

القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)يقول تعالى ذكره: وأعطينا بني إسرائيل واضحات من أمرنا بتنزيلنا إليهم التوراة فيها تفصيل كل شيء ( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) طلبا للرياسات, وتركا منهم لبيان الله تبارك وتعالى في تنزيله.وقوله ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بغيا بينهم يوم القيامة, فيما كانوا فيه في الدنيا يختلفون بعد العلم الذي آتاهم, والبيان الذي جاءهم منه, فيفلج المحقّ حينئذ على المبطل بفصل الحكم بينهم.

.وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)قوله هنا { وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } ، ومثل قوله :{ ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون } [ الجاثية : 14 ] فإنه مقابل قوله هنا { إن ربك يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } .و { الكتاب } : التوراة .و { الحكم } يصح أن يكون بمعنى الحِكمة ، أي الفهم في الدّين وعلم محاسن الأخلاق كقوله تعالى : { وآتيناه الحُكم صبيّاً } [ مريم : 12 ] ، يعني يحيى ، ويصح أن يكون بمعنى السيادة ، أي أنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم ولا تحكمهم أمة أخرى كقوله تعالى و { جَعلَكم ملوكاً } [ المائدة : 20 ] ، و { النبوءة } أن يقوم فيهم أنبياء . ومعنى إيتائهم هذه الأمور الثلاثة : إيجادها في الأمة وإيجاد القائمين بها لأن نفع ذلك عائد على الأمة جمعاء فكان كل فرد من الأمة كمن أوتي تلك الأمور .وأما رزقهم من الطيبات فبأن يسّر لهم امتلاك بلاد الشام التي تفيض لبناً وعسلاً كما في التوراة في وعد إبراهيم والتي تجبى إليها ثمرات الأرضين المجاورة لها وتَرد عليها سلع الأمم المقابلة لها على سواحل البحر فتزخر مراسيها بمختلف الطعام واللباس والفواكه والثمار والزخارف ، وذلك بحُسن موقِععِ البلاد من بين المشرق براً والمغرب بحراً . و { الطيبات } : هي التي تطيب عند الناس وتحسن طعْماً ومنظراً ونفعاً وزينة . وأما تفضيلهم على العالمين فبأن جمع الله لهم بين استقامة الدّين والخَلق ، وبين حكم أنفسهم بأنفسهم ، وبث أصول العدل فيهم ، وبين حسن العيش والأمن والرخاء ، فإن أمماً أخرى كانوا في بحبوحة من العيش ولكن ينقص بعضَها استقامةُ الدّين والخلق ، وبعضها عزة حكم النفس وبعضَها الأمن بسبب كثرة الفتن .والمراد ب { العالمين } : أمم زمانهم وكل ذلك إخبار عما مضى من شأن بني إسرائيل في عنفوان أمرهم لا عَمَّا آل إليه أمرهم بعد أن اختلفوا واضمحل ملكهم ونسخت شريعتهم .و { بيّنات } صفة نزلت منزلة الجامد ، فالبينة : الحجة الظاهرة ، أي آتيناهم حججاً ، أي علمناهم بواسطة كتبهم وبواسطة علمائهم حجج الحق والهدى التي من شأنها أن لا تترك للشك والخطإ إلى نفوسهم سبلاً إلا سدتها .و { الأمر } : الشأن كما في قوله : { وما أمر فرعون برشيدٍ } [ هود : 97 ] والتعريف في { الأمر } للتعظيم ، أي من شؤون عظيمة ، أي شأن الأمة وما به قوام نظامها إذْ لم يترك موسى والأنبياء من بعده شيئاً مُهماً من مصالحهم إلا وقد وضحوه وبينوه وحذروا من الالتباس فيه .و { مِن } في قوله { من الأمر } بمعنى ( في ) الظرفيّة فيحصل من هذا أن معنى { وءاتيناهم بينات من الأمر } : علمناهم حججاً وعلوماً في أمر دينهم ونظامهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامة من مخاطر الخطإ والخطل . وفُرع على ذلك قولُه { فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } تفريعَ إدماج لمناسبته للحالة التي أريد تنظيرها . وتقدير الكلام : فاختلفوا وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ، فحذف المفرَّع لدلالة ما بعده عليه على طريقة الإيجاز إذ المقصود هو التعجيب من حالهم كيف اختلفوا حينَ لا مظنة للاختلاف إذ كان الاختلاف بينهم بعدما جاءهم العلم المعهود بالذكر آنفاً من الكتاب والحُكم والنبوءة والبينات من الأمر ، ولو اختلفوا قبل ذلك لكان لهم عذر في الاختلاف وهذا كقوله تعالى :{ وأضلّه الله على علم } [ الجاثية : 23 ] . وهذا الكلام كناية عن عدم التعجيب من اختلاف المشركين مع المؤمنين حيث أن المشركين ليسوا على علم ولا هدى ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملطوف به في رسالته .والبغي : الظلم . والمراد : أن اختلافهم عن عمد ومكابرة بعضهم لبعض وليس عن غفلة أو تأويل ، وهذا الظلم هو ظلم الحسد فإن الحسد من أعظم الظلم ، أي فكذلك حال نظرائهم من المشركين ما اختلفوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغياً منهم عليه مع علمهم بصدقه بدلالة إعجاز القرآن لفظاً ومعاني .وانتصب { بغياً } إمّا على المفعول لأجله ، وإمّا على الحال بتأويل المصدر باسم الفاعل ، وعلى كلا الوجهين فالعامل فيه فعل { اختلفوا } ، وإن كان منفياً في اللفظ لأن الاستثناء أبطل النفي إذ ما أريد إلا نفي أن يكون الاختلاف في وقت قبل أن يحثهم العلم فلما استفيد ذلك بالاستثناء صار الاختلاف ثابتاً وما عدا ذلك غير منفي .وجملة { إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن خبرَهم العجيب يثير سؤالاً في نفس سامعه عن جزاء الله إياهم على فعلهم ، وهذا جواب فيه إجمال لتهويل ما سيُقضَى به بينهم في الخير والشر لأن الخلاف يقتضي محقّاً ومبطلاً .ونظير هذه الآية قوله تعالى : { ولقد بوَّأنا بني إسرائيل مُبَوّأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } في سورة يونس ( 93 ) .
الآية 17 - سورة الجاثية: (وآتيناهم بينات من الأمر ۖ فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ۚ إن ربك يقضي بينهم...)