سورة غافر: الآية 11 - قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا...

تفسير الآية 11, سورة غافر

قَالُوا۟ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ

الترجمة الإنجليزية

Qaloo rabbana amattana ithnatayni waahyaytana ithnatayni faiAAtarafna bithunoobina fahal ila khuroojin min sabeelin

تفسير الآية 11

قال الكافرون: ربنا أمتَّنا مرتين: حين كنا في بطون أمهاتنا نُطَفًا قبل نفخ الروح، وحين انقضى أجلُنا في الحياة الدنيا، وأحييتنا مرتين: في دار الدنيا، يوم وُلِدْنا، ويوم بُعِثنا من قبورنا، فنحن الآن نُقِرُّ بأخطائنا السابقة، فهل لنا من طريق نخرج به من النار، وتعيدنا به إلى الدنيا؛ لنعمل بطاعتك؟ ولكن هيهات أن ينفعهم هذا الاعتراف.

«قالوا ربنا أمتَّنا اثنتين» إماتتين «وأحييتنا اثنتين» إحياءتين لأنهم نطفٌ أموات فأحيوا ثم أميتوا ثم أحيوا للبعث «فاعترفنا بذنوبنا» بكفرنا بالبعث «فهل إلى خروج» من النار والرجوع إلى الدنيا لنطيع ربنا «من سبيل» طريق وجوابهم: لا.

فتمنوا الرجوع و قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ يريدون الموتة الأولى وما بين النفختين على ما قيل أو العدم المحض قبل إيجادهم، ثم أماتهم بعدما أوجدهم، وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الحياة الدنيا والحياة الأخرى، فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أي: تحسروا وقالوا ذلك، فلم يفد ولم ينجع، ووبخوا على عدم فعل أسباب النجاة.

وقوله : ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) قال الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود [ رضي الله عنه ] : هذه الآية كقوله تعالى : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ) [ البقرة : 28 ] وكذا قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، وأبو مالك . وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية .وقال السدي : أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا ، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة .وقال ابن زيد : أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم ، ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم [ ثم أحياهم ] يوم القيامة .وهذان القولان - من السدي وابن زيد - ضعيفان ; لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات . والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما . والمقصود من هذا كله : أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله - عز وجل - في عرصات القيامة ، كما قال : ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ) [ السجدة : 12 ] ، فلا يجابون . ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ، ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال ، سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة ، فلا يجابون ، قال الله تعالى : ( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) [ الأنعام : 27 ، 28 ] فإذا دخلوا النار وذاقوا مسها وحسيسها ومقامعها وأغلالها ، كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم ، ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ) [ فاطر : 37 ] ، ( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون . قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ) [ المؤمنون : 107 ، 108 ] ، وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال ، وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة ، وهي قولهم : ( ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) أي : قدرتك عظيمة ، فإنك أحييتنا بعد ما كنا أمواتا ، ثم أمتنا ثم أحييتنا ، فأنت قادر على ما تشاء ، وقد اعترفنا بذنوبنا ، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا ، ( فهل إلى خروج من سبيل ) أي فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا ؟ فإنك قادر على ذلك ; لنعمل غير الذي كنا نعمل ، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون . فأجيبوا ألا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا . ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تجحده وتنفيه ; ولهذا قال تعالى :

ثم يحكى- سبحانه- ما يقوله الكافرون بعد أن أنزل بهم- سبحانه- عقابه العادل فيقول: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ....وأرادوا بالموتة الأولى: خلقهم من مادة لا روح فيها وهم في بطون أمهاتهم.. وأرادوا بالثانية: قبض أرواحهم عند انقضاء آجالهم.وأرادوا بالحياة الأولى: نفخ أرواحهم في أجسادهم وهي في الأرحام، وأرادوا بالثانية إعادتهم إلى الحياة يوم البعث، للحساب والجزاء.وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. .فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا أى: أنت يا ربنا الذي- بقدرتك وحدها- أمتنا إماتتين اثنتين، وأحييتنا إحياءتين اثنتين، وها نحن قد اعترفنا بذنوبنا التي وقعت منا في الدنيا، وندمنا على ما كان منا أشد الندم..فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أى: فهل بعد هذا الاعتراف، في الإمكان أن تخرجنا من النار، وأن تعيدنا إلى الحياة الدنيا، لنؤمن بك حق الإيمان. ونعمل غير الذي كنا نعمل.فأنت ترى أن الآية تصور ذلهم وحسرتهم أكمل تصوير، وأنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم، ولكن هذا التمني والتلهف جاء بعد فوات الأوان.قال ابن كثير ما ملخصه: هذه الآية كقوله- تعالى-: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ... وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية.وقال السدى: أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة.وقال ابن زيد: أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم، ثم خلقهم في الأرحام. ثم أماتهم يوم القيامة.وهذا القولان ضعيفان لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات.والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله، كما قال- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ .

( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وقتادة والضحاك : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، فهما موتتان وحياتان ، وهذا كقوله تعالى : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " ( البقرة - 28 ) ، وقال السدي : أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم للسؤال ، ثم أميتوا في قبورهم ثم أحيوا في الآخرة . ( فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) أي : من خروج من النار إلى الدنيا فنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك ، نظيره : " هل إلى مرد من سبيل " ( الشورى - 44 ) .

قوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين اختلف أهل التأويل في معنى قولهم : أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة والضحاك : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ، ثم أحياهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا ، ثم أحياهم للبعث والقيامة ، فهاتان حياتان وموتتان ، وهو قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم وقال السدي : أميتوا في الدنيا ثم أحياهم في القبور للمسألة ، ثم أميتوا ثم أحيوا في الآخرة . وإنما صار إلى هذا ; لأن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على النطفة . واستدل العلماء من هذا فيإثبات سؤال القبر ، ولو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة ؟ والروح عند من يقصر أحكام الآخرة على الأرواح لا تموت ولا تتغير ولا تفسد ، وهو حي لنفسه لا يتطرق إليه موت ولا غشية ولا فناء . وقال ابن زيد في قوله : ربنا أمتنا اثنتين . . . الآية قال : خلقهم في ظهر آدم وأخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق ، ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم . وقد مضى هذا في [ البقرة ] .فاعترفنا بذنوبنا اعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف ، وندموا حيث لا ينفعهم الندم . فهل إلى خروج من سبيل أي هل نرد إلى الدنيا لنعمل بطاعتك ، نظيره : هل إلى مرد من سبيل وقوله : فارجعنا نعمل صالحا وقوله : يا ليتنا نرد الآية .

وقوله: ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قد أتينا عليه في سورة البقرة, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع, ولكنا نذكر بعض ما قال بعضهم فيه.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم, فأحياهم الله في الدنيا, ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها, ثم أحياهم للبعث يوم القيامة, فهما حياتان وموتتان.وحُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول فى قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) هو قول الله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: هو كقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا ... الآية.حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله, في قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: هي كالتي في البقرة وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ .حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس, قال: ثنا عبثر, قال: ثنا حصين, عن أبي مالك في هذه الآية ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا, ثم أحييتنا.حدثني يعقوب, قال: ثنا هشيم, عن حصين, عن أبي مالك, في قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قالوا: كانوا أمواتا فأحياهم الله, ثم أماتهم, ثم أحياهم.وقال آخرون فيه ما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: أميتوا في الدنيا, ثم أحيوا في قبورهم, فسئلوا أو خوطبوا, ثم أميتوا في قبورهم, ثم أحيوا في الآخرة.وقال آخرون في ذلك ما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق, وقرأ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فقرأ حتى بلغ الْمُبْطِلُونَ قال: فنساهم الفعل, وأخذ عليهم الميثاق, قال: وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصرى, فخلق منه حواء, ذكره عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, قال: وذلك قول الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً قال: بث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا, وقرأ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ قال: خلقا بعد ذلك, قال: فلما أخذ عليهم الميثاق, أماتهم ثم خلقهم في الأرحام, ثم أماتهم, ثم أحياهم يوم القيامة, فذلك قول الله: ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ) , وقرأ قول الله: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا قال: يومئذ, وقرأ قول الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا .وقوله: ( فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ) يقول: فأقررنا بما عملنا من الذنوب في الدنيا( فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) يقول: فهل إلى خروج من النار لنا سبيل, لنرجع إلى الدنيا, فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها.كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) : فهل إلى كرّة إلى الدنيا.

قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)جواب عن النداء الذي نودوا به من قِبل الله تعالى فحكي مقالهم على طريقة حكاية المحاورات بحذف حرف العطف ، طمعوا أن يكون اعترافهم بذنوبهم وسيلة إلى منحهم خروجاً من العذاب خروجاً مَّا ليستريحوا منه ولو بعضَ الزمن ، وذلك لأن النداء الموجه إليهم من قبل الله أوهمهم أن فيه إقبالاً عليهم .والمقصود من الاعتراف هو اعترافهم بالحياة الثانية لأنهم كانوا ينكرونها وأما الموتتان والحياة الأولى فإنما ذُكِرْن إِدماجاً للاسْتدلال في صُلب الاعتراف تزلفاً منهم ، أي أيقَنَّا أن الحياة الثانية حق وذلك تعريض بأن إقرارهم صدق لا مواربة فيه ولا تصنع لأنه حاصل عن دليل ، ولذلك جعل مسبباً على هذا الكلام بعطفه بفاء السببية في قوله : { فاعترفنا بذُنُوبنا } .والمراد بإحدى الموتتين : الحالةُ التي يكون بها الجنين لَحْماً لا حياة فيه في أول تكوينه قبل أن يُنفخ فيه الروح ، وإطلاق الموت على تلك الحالة مجاز وهو مختار الزمخشري والسكاكي بناء على أن حقيقة الموت انعدام الحياة من الحي بعد أن اتصف بالحياة ، فإطلاقه على حالة إنعدام الحياة قبلَ حصولها فيه استعارةٌ ، إلا أنها شائعة في القرآن حتى ساوت الحقيقة فلا إشكال في استعمال { أمتنا } في حقيقته ومجازه ، ففي ذلك الفعل جمع بين الحقيقة والاستعارة التبعية تبعاً لِجريان الاستعارة في المصدر ، ولا مانع من ذلك لأنه واقع ووارد في الكلام البليغ كاستعمال المشترككِ في معنييه ، والذين لا يرون تقييد مدلول الموت بأن يكون حاصلاً بعد الحياة يكون إطلاق الموت على حالة ما قبل الاتصاف بالحياة عندهم واضحاً ، وتقدم في قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } في سورة [ البقرة : 28 ] ، على أن إطلاق الموت على الحالة التي قبل نفخ الروح في هذه الآية أسوغ لأن فيه تغليباً للموتة الثانية . وأما الموتة الثانية فهي الموتة المتعارفة عند انتهاء حياة الإنسان والحيوان .والمراد بالاحياءتَيْن : الاحياءة الأولى عند نفخ الروح في الجسد بعد مبدأ تكوينه ، والإِحياءة الثانية التي تحصل عند البعث ، وهو في معنى قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } [ البقرة : 28 ] .وانتصب { اثنتين } في الموضعين على الصفة لمفعول مطلق محذوف . والتقدير : موتتين اثنتين وإحياءتَيْن اثنتين فيجيء في تقدير موتتين تغليب الاسم الحقيقي على الاسم المجازي عند من يُقيِّد معنى الموت .وقد أورد كثير من المفسرين إشكال أن هنالك حياةً ثالثة لم تذكر هنا وهي الحياةُ في القبر التي أشار إليها حديث سؤال القَبر وهو حديث اشتهر بين المسلمين من عهد السلف ، وفي كون سؤال القبر يقتضي حياة الجسم حياة كاملة احتمال ، وقد يُتأول بسؤال روح الميت عِند جسده أو بحصول حياة بعض الجسد أو لأنها لما كانت حياة مؤقتة بمقدار السؤال ليس للمتصف بها تصرف الإِحياء في هذا العالم ، لم يعتد بها لاسيما والكلام مراد منه التوطئة لسؤال خروجهم من جهنم ، وبهذا يعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها لثبوت الحياة عند السؤال في القبر .وتفرع قولهم : { فاعترفنا بذُنُوبنا } على قولهم : { وأحييتنا اثنتين } اعتبار أن إحدى الإِحياءتين كانت السبب في تحقق ذنوبهم التي من أصولها إنكارهم البعث فلما رأوا البعث رأي العين أيقنوا بأنهم مذنبون إذ أنكروه ومذنبون بما استكثروه من الذنوب لاغترارهم بالأمن من المؤاخذة عليهم بعد الحياة العاجلة .فجملة { فاعترفنا بذُنُوبنا } إنشاء إقرار بالذنوب ولذلك جيء فيه بالفعل الماضي كما هو غالب صيغ الخبر المستعمل في الإِنشاء مثل صيغ العقود نحو : بعتُ . والمعنى : نعترف بذنوبنا .وجعلوا هذا الاعتراف ضرباً من التوبة توهماً منهم أن التوبة تنفع يومئذٍ ، فلذلك فرعوا عليه : { فَهَل إلى خُرُوج مِن سبيل } ، فالاستفهام مستعمل في العَرض والاستعطاف كلياً لرفع العذاب ، وقَد تكرر في القرآن حكاية سؤال أهل النار الخروجَ أو التخفيف ولو يوماً .والاستفهام بحرف { هَل } مستعمل في الاستعطاف . وحرف { مِن } زائد لتوكيد العموم الذي في النكرة ليفيد تطلبهم كل سبيل للخروج وشأن زيادة { مِن } أن تكُون في النفي وما في معناه دون الاثبات . وقد عُدّ الاستفهام ب { هل } خاصة من مواقع زيادة { مِن } لتوكيد العموم كقوله تعالى : { وتقول هل من مزيد } [ ق : 30 ] ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } في سورة [ الأعراف : 53 ] ، وأن وجه اختصاص { هَل بوقوع مِن الزائدة في المستفهم عنه بها أنه كثر استعمال الاستفهام بها في معنى النفي ، وزيادةُ من حينئذٍ لتأكيد النفي وتنصيص عموم النفي ، فخف وقوعها بعد هل على ألسن أهل الاستعمال .وتنكير خروج للنَّوعية تلطفاً في السؤال ، أي إلى شيء من الخروج قليللٍ أو كثير لأن كل خروج يتنفعون به راحةٌ من العذاب كقولهم : { ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب } [ غافر : 49 ] .والسبيل : الطريق واستعير إلى الوسيلة التي يحصل بها الأمر المرغوب ، وكثُر تصرف الاستعمال في إطلاقات السبيل والطريق والمسلك والبلوغ على الوسيلة وبحصول المقصود .وتنكير { سبيل } كتنكير { خروج } أي من وسيلة كيف كانت بحق أو بعفو بتخفيف أو غير ذلك .قال في «الكشاف» «وهذا كلامُ من غلب عليه اليأس والقنوط» يريد أَنَّ في اقتناعهم بخروج مَّا دلالة على أنهم يستبعدون حُصول الخروج .
الآية 11 - سورة غافر: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل...)