سورة الفرقان: الآية 18 - قالوا سبحانك ما كان ينبغي...

تفسير الآية 18, سورة الفرقان

قَالُوا۟ سُبْحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُوا۟ ٱلذِّكْرَ وَكَانُوا۟ قَوْمًۢا بُورًا

الترجمة الإنجليزية

Qaloo subhanaka ma kana yanbaghee lana an nattakhitha min doonika min awliyaa walakin mattaAAtahum waabaahum hatta nasoo alththikra wakanoo qawman booran

تفسير الآية 18

قال المعبودون من دون الله: تنزيهًا لك- يا ربنا- عَمَّا فعل هؤلاء، فما يصحُّ أن نَتَّخِذ سواك أولياء نواليهم، ولكن متعتَ هؤلاء المشركين وآباءهم بالمال والعافية في الدنيا، حتى نسوا ذكرك فأشركوا بك، وكانوا قومًا هلكى غلب عليهم الشقاء والخِذْلان.

«قالوا سبحانك» تنزيها لك عما لا يليق بك «ما كان ينبغي» يستقيم «لنا أن نتخذ من دونك» أي غيرك «من أولياء» مفعول أول ومن زائدة لتأكيد النفي وما قبله الثاني فكيف نأمر بعبادتنا؟ «ولكن متعتهم وآباءهم» من قبلهم بإطالة العمر وسعة الرزق «حتى نسوا الذكر» تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن «وكانوا قوما بورا» هلكى، قال تعالى.

قَالُوا سُبْحَانَكَ نزهوا الله عن شرك المشركين به وبرؤوا أنفسهم من ذلك، مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أي: لا يليق بنا ولا يحسن منا أن نتخذ من دونك من أولياء نتولاهم ونعبدهم وندعوهم، فإذا كنا محتاجين ومفتقرين إلى عبادتك متبرئين من عبادة غيرك، فكيف نأمر أحدا بعبادتنا؟ هذا لا يكون أو، سبحانك عن أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وهذا كقول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ الآية.وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ فلما نزهوا أنفسهم أن يدعوا لعبادة غير الله أو يكونوا أضلوهم ذكروا السبب الموجب لإضلال المشركين فقالوا: وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ في لذات الدنيا وشهواتها ومطالبها النفسية، حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ اشتغالا في لذات الدنيا وإكبابا على شهواتها، فحافظوا على دنياهم وضيعوا دينهم وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا أي: بائرين لا خير فيهم ولا يصلحون لصالح لا يصلحون إلا للهلاك والبوار، فذكروا المانع من اتباعهم الهدى وهو التمتع في الدنيا الذي صرفهم عن الهدى، وعدم المقتضي للهدى وهو أنهم لا خير فيهم، فإذا عدم المقتضي ووجد المانع فلا تشاء من شر وهلاك، إلا وجدته فيهم

ولهذا قال تعالى مخبرا عما يجيب به المعبودون يوم القيامة : ( قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ) قرأ الأكثرون بفتح " النون " من قوله : ( نتخذ من دونك من أولياء ) أي : ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك ، لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل هم قالوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم ، كما قال تعالى : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 40 - 41 ] . وقرأ آخرون : " ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " أي : ما ينبغي لأحد أن يعبدنا ، فإنا عبيد لك ، فقراء إليك . وهي قريبة المعنى من الأولى .( ولكن متعتهم وآباءهم ) أي : طال عليهم العمر حتى نسوا الذكر ، أي : نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك ، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك .( وكانوا قوما بورا ) قال ابن عباس : أي هلكى . وقال الحسن البصري ، ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم . وقال ابن الزبعرى حين أسلم :يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أجاري الشيطان في سنن الغي ، ومن مال ميله مثبور

ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما أجاب به المعبودون فقال: قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً.أى قال المعبودون لخالقهم- عز وجل-: «سبحانك» أى: ننزهك تنزيها تاما عن الشركاء وعن كل ما لا يليق بجلالك وعظمتك، وليس للخلائق جميعا أن يعبدوا أحدا سواك. ولا يليق بنا نحن أو هم أن نعبد غيرك، وأنت يا مولانا الذي أسبغت عليهم وعلى آبائهم الكثير من نعمك. «حتى نسوا الذكر» أى: حتى تركوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك «وكانوا» بسبب ذلك «قوما بورا» أى: هلكى، جمع بائر من البوار وهو الهلاك.قال القرطبي: وقوله بُوراً أى: هلكى قاله ابن عباس.. وقال الحسن «بورا» أى: لا خير فيهم، مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها عن الزرع فلا يكون فيها خير.وقال شهر بن حوشب: البوار: الفساد والكساد، من قولهم: بارت السلعة إذا كسدت كساد الفساد.. وهو اسم مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث .وهكذا، يتبرأ المعبودون من ضلال عابديهم، ويوبخونهم على جحودهم لنعم الله- تعالى- وعلى عبادتهم لغيره. ويعترفون لخالقهم- عز وجل- بأنه لا معبود بحق سواه.

( قالوا سبحانك ) نزهوا الله من أن يكون معه إله ، ( ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ) يعني : ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك ، بل أنت ولينا من دونهم . وقيل : ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك . وقرأ أبو جعفر " أن نتخذ " بضم النون وفتح الخاء ، فتكون " من " الثاني صلة . ( ولكن متعتهم وآباءهم ) في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة ، ) ( حتى نسوا الذكر ) تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن . وقيل : تركوا ذكرك وغفلوا عنه ، ( وكانوا قوما بورا ) يعني هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان ، رجل يقال له بائر ، وقوم بور ، وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ، ومنه بوار السلعة وهو كسادها . وقيل هو اسم مصدر كالزور ، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث .

قالوا سبحانك أي قال المعبودون من دون الله سبحانك ; أي تنزيها لك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء فإن قيل : فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد ؟ قيل له : ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل . وقرأ الحسن وأبو جعفر : " أن نتخذ " بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول . وقد تكلم في هذه القراءة النحويون ; فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر : لا يجوز " نتخذ " وقال أبو عمرو : لو كانت " نتخذ " لحذفت " من " الثانية ، فقلت : أن نتخذ من دونك أولياء . كذلك قال أبو عبيدة ، لا يجوز " نتخذ " لأن الله تعالى ذكر " من " مرتين ، ولو كان كما قرأ لقال : أن نتخذ من دونك أولياء . وقيل : إن " من " الثانية صلة . قال النحاس : ومثل أبي عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال ; لأنه جاء ببينة . وشرح ما قال أنه يقال : ما اتخذت رجلا وليا ; فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه ; ثم يقال : ما اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما ، وقولك ( وليا ) تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه " من " لأنه لا فائدة في ذلك . ولكن متعتهم وآباءهم أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم . حتى نسوا الذكر أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك .وفي " الذكر " قولان : أحدهما : القرآن المنزل على الرسل ; تركوا العمل به ; قاله ابن زيد . الثاني : الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم . إنهم كانوا قوما بورا ، أي هلكى ; قاله ابن عباس . مأخوذ من البوار وهو الهلاك . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حمص : يا أهل حمص ! هلم إلى أخ ، لكم ناصح ، فلما اجتمعوا حوله قال : ما لكم لا تستحون ! تبنون ما لا تسكنون ، وتجمعون ما لا تأكلون ، وتأملون ما لا تدركون ، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا عبيدا ، وأملوا بعيدا ، فأصبح جمعهم بورا ، وآمالهم غرورا ، ومساكنهم قبورا . فقوله : بورا أي هلكى . وفي خبر آخر : فأصبحت منازلهم بورا ; أي خالية لا شيء فيها . وقال الحسن : بورا لا خير فيهم . مأخوذ من بوار الأرض ، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير . وقال شهر بن حوشب : البوار : الفساد والكساد ; مأخوذ من قولهم : بارت السلعة : إذا كسدت كساد الفاسد ; ومنه الحديث : " نعوذ بالله من بوار الأيم " . وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث . قال ابن الزبعرى :يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أباري الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبوروقال بعضهم : الواحد بائر والجمع بور . كما يقال : عائذ وعوذ ، وهائد وهود . وقيل : بورا عميا عن الحق .

يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى: تنزيها لك يا ربنا، وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون, ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم, أنت ولينا من دونهم, ولكن متعتهم بالمال يا ربنا في الدنيا والصحة، حتى نسوا الذكر وكانوا قوما هَلْكى، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يقول: قوم قد ذهبت أعمالهم وهم في الدنيا, ولم تكن لهم أعمال صالحة.حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يقول: هلكى.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يقول: هلكى.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن الحسن ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) قال: هم الذين لا خير فيهم، حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) قال: يقول: ليس من الخير في شيء. البور: الذي ليس فيه من الخير شيء.واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار ( نَتَّخِذَ ) بفتح النون سوى الحسن ويزيد بن القعقاع, فإنهما قرآه: (أنَّ نُتَّخَذَ) بضم النون. فذهب الذين فتحوها إلى المعنى الذي بَيَّنَّاه في تأويله من أن الملائكة وعيسى، ومن عُبِد من دون الله من المؤمنين، هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم وليّ غير الله تعالى ذكره. وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون, فإنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن المعبودين في الدنيا إنما تبرّءوا إلى الله أن يكون كان لهم أن يعبدوا من دون الله جلّ ثناؤه, كما أخبر الله عن عيسى، أنه قال إذا قيل: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ....* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْقال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بفتح النون, لعلل ثلاث: إحداهن إجماع من القرّاء عليها. والثانية: أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة في سورة سبأ, فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ، فأخبر عن الملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبادة من عبدهم تبرّءوا إلى الله من ولايتهم, فقالوا لربهم: أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ فذلك يوضح عن صحة قراءة من قرأ ذلك ( مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) بمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نتخذهم من دونك أولياء. والثالثة: أن العرب لا تدخل " مِن " هذه التي تدخل في الجحد إلا في الأسماء, ولا تدخلها في الأخبار, لا يقولون: ما رأيت أخاك من رجل, وإنما يقولون: ما رأيت من أحد, وما عندي من رجل، وقد دخلت ها هنا في الأولياء، وهي في موضع الخبر, ولو لم تكن فيها " من " كان وجها حسنا. وأما البور: فمصدر واحد وجمع للبائر, يقال: أصبحت منازلهم بورا: أي خالية لا شيء فيها, ومنه قولهم: بارت السوق وبار الطعام إذا خلا من الطلاب والمشتري، فلم يكن له طالب, فصار كالشيء الهالك; ومنه قول ابن الزبعْرى:يَا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لسانِيرَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ (2)وقد قيل: إن بور: مصدر, كالعدل والزور والقطع, لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وإنما أريد بالبور في هذا الموضع أن أعمال هؤلاء الكفار كانت باطلة؛ لأنها لم تكن لله كما ذكرنا عن ابن عباس.القول في تأويل قوله تعالى : فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًايقول تعالى ذكره مخبرا عما هو قائل للمشركين عند تبرّي من كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله منهم: قد كذّبوكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم، ودعوكم إلى عبادتهم بما تقولون، يعني بقولكم, يقول: كذّبوكم بكذبكم.وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) يقول الله للذين كانوا يعبدون عيسى وعُزيرا والملائكة, يكذّبون المشركين.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) قال: عيسى وعُزيرا والملائكة, يكذّبون المشركين بقولهم.وكان ابن زيد يقول في تأويل ذلك: ما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال: كذّبوكم بما تقولون بما جاء من عند الله جاءت به الأنبياء والمؤمنون آمنوا به، وكذب هؤلاء فوجه ابن زيد تأويل قوله: ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) إلى: فقد كذّبوكم أيها المؤمنون المكذّبون بما جاءهم به محمد من عند الله، بما تقولون من الحقّ, وهو أن يكون خبرا عن الذين كذّبوا الكافرين في زعمهم أنهم دعوهم إلى الضلالة، وأمروهم بها على ما قاله مجاهد من القول الذي ذكرناه عنه أشبه وأولى; لأنه في سياق الخبر عنهم، والقراءة في ذلك عندنا( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) بالتاء على التأويل الذي ذكرناه, لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وقد حُكي عن بعضهم أنه قرأه (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا يَقُولُونَ) بالياء, بمعنى: فقد كذبوكم بقولهم.وقوله جلّ ثناؤه ( فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) يقول: فما يستطيع هؤلاء الكفار صرف عذاب الله حين نزل بهم عن أنفسهم, ولا نصرها من الله حين عذّبها وعاقبها.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال: المشركون لا يستطيعونه.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال: المشركون. قال ابن جُرَيج: لا يستطيعون صرف العذاب عنهم, ولا نصر أنفسهم.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال: لا يستطيعون يصرفون عنهم العذاب الذي نزل بهم حين كذّبوا, ولا أن ينتصروا قال: وينادي مناد يوم القيامة حين يجتمع الخلائق: ما لكم لا تناصرون، قال: من عبد من دون الله لا ينصر اليوم من عبده, وقال العابدون من دون الله: لا ينصره اليوم إلهه الذي يعبد من دون الله, فقال الله تبارك وتعالى: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وقرأ قول الله جلّ ثناؤه فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ .ورُوي عن ابن مسعود في ذلك ما حدثنا به أحمد بن يونس, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا حجاج, عن هارون, قال: هي في حرف عبد الله بن مسعود (فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لكَ صَرْفًا) فإن تكن هذه الرواية عنه صحيحة صحّ التأويل الذي تأوّله ابن زيد في قوله: ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) ويصير قوله ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) خبرا عن المشركين أنهم كذّبوا المؤمنين, ويكون تأويل قوله حينئذ (فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لكَ صَرْفًا) فما يستطيع يا محمد هؤلاء الكفار لك صرفا عن الحق الذي هداك الله له, ولا نصر أنفسهم, مما بهم من البلاء الذي هم فيه, بتكذيبهم إياك.------------------------الهوامش:(2) البيت لعبد الله بن الزبعرى قاله حين أسلم عند فتح مكة . وهو في أول المقطوعة قبل البيت الذي مضى شرحه قبل هذا . وراتق : مصلح لما أفسدت ، وأصل الرتق السد للثوب الممزق بإصلاح ما تقطع منه . وفتقت : أي أفسدت من الدين ، فكل إثم فتق وتمزيق ، وكل ثوبة رتق وإصلاح . وبور : هالك . يقال : رجل بور وبائر ، وقوم بور ، وأصل البور : مصدر بار يبور بورًا ، ثم وصف به فلزم الإفراد لأن المصادر لا تجمع . وقال المؤلف : إنه مصدر واحد (غير مجموع) ، وجمع للبائر ، قال يقال: أصبحت منازلهم بورًا ، أي خالية

قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)وقولهم : { سبحانك } كلمة تنزيه كني بها عن التعجب من قول فظيع . كقول الأعشى :قد قلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخروتقدم في سورة النور )16 ): { سبحانك هذا بهتان عظيم } واعلم أن ظاهر ضمير نحشرهم } أن يعود على المشركين الذين قرعتهم الآية بالوعيد وهم الذين قالوا : { مال هذا الرسول يأكل الطعام } إلى قوله : { مسحوراً } [ الفرقان : 7 ، 8 ] ؛ لكن ما يقتضيه وصفهم ب { الظالمون } والإخبار عنهم بأنهم كذبوا بالساعة وما يقتضيه ظاهر الموصول في قوله : { لمن كذب بالساعة } [ الفرقان : 11 ] من شمول كل من تحقق فيه مضمون الصلة ، كل ذلك يقتضي أن يكون ضمير { نحشرهم } عائداً إلى { من كذب بالساعة } فيشمل المشركين الموجودين في وقت نزول الآية ومن انقرض منهم بعد بلوغ الدعوة المحمدية ومن سيأتي بعدهم من المشركين .ووصف العباد هنا تسجيل على المشركين بالعبودية وتعريض بكفرانهم حقها .والإشارة إليهم لتمييزهم من بين بقية العباد .وهذا أصل في أداء الشهادة على عين المشهود عليه لدى القاضي .وإسناد القول إلى ما يُعبدون من دون الله يقتضي أن الله يجعل في الأصنام نطقاً يسمعه عبدتها ، أما غير الأصنام ممن عبد من العقلاء فالقول فيهم ظاهر .وإعادة فعل { ضلوا } في قوله : { أم هم ضلوا السبيل } ليجري على ضميرهم مسند فعلي فيفيد التقوّي في نسبة الضلال إليهم . والمعنى : أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم . وحق الفعل أن يعدى ب )عن )ولكنه عدي بنفسه لتضمنه معنى )أخطؤوا )، أو على نزع الخافض .و { سبحانك } تعظيم لله تعالى في مقام الاعتراف بأنهم ينزهون الله عن أن يدّعوا لأنفسهم مشاركته في الإلهية .ومعنى : { ما كان ينبغي لنا } ما يطاوعنا طلب أن نتخذ عبدة لأن )انبغى )مطاوع )بغاه )إذا طلبه . فالمعنى : لا يمكن لنا اتخاذنا أولياء ، أي عباداً ، قال تعالى : { وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } [ ص : 35 ] . وقد تقدم في قوله تعالى : { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } في سورة مريم )92 ). وهو هنا كناية عن انتفاء طلبهم هذا الاتخاذ انتفاء شديداً ، أي نتبرأ من ذلك ، لأن نفي )كان )وجعل المطلوب نفيه خبراً عن )كان )أقوى في النفي ولذلك يسمى جحوداً . والخبر مستعمل في لازم فائدته ، أي نعلم أنه لا ينبغي لنا فكيف نحاوله .)ومن )في قوله : { من دونك } للابتداء لأن أصل )دون )أنه اسم للمكان ، ويقدر مضاف محذوف يضاف إليه )دون )نحو : جلست دون ، أي دون مكانه ، فموقع )من )هنا موقع الحال من { أولياء } . وأصلها صفة ل { أولياء } فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالاً . والمعنى : لا نتخذ أولياء لنا موصوفين بأنهم من جانب دون جانبك ، أي أنهم لا يعترفون لك بالوحدانية في الإلهية فهم يشركون معك في الإلهية .وعن ابن جني : أن )من )هنا زائدة . وأجاز زيادة )من )في المفعول .و )من )في قوله : { من أولياء } مزيدة لتأكيد عموم النفي ، أي استغراقه لأنه نكرة في سياق النفي .والأولياء : جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء ، أي على السيد والعبد ، أو الناصر والمنصور . والمراد هنا : الوليّ التابع كما في قوله : { فتكون للشيطان ولياً } في سورة مريم )45 )، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا .وقرأ الجمهور { نتخذ } بالبناء للفاعل . وقرأه أبو جعفر { نتخذ } بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول ، أي أن يتخذنا الناس أولياء لهم من دونك . فموقع { من دونك } موقع الحال من ضمير { نتخذ } . والمعنى عليه : أنهم يتبرَّؤون من أن يدعوا الناس لعبادتهم ، وهذا تسفيه للذين عبدوهم ونسبوا إليهم موالاتهم .والمعنى لا نتخذ من يوالينا دونك ، أي من يعبدنا دونك .والاستدراك الذي أفاده )لكن )ناشىء عن التبريء من أن يكونوا هم المضلين لهم بتعقيبه ببيان سبب ضلالهم لئلا يتوهم أن تبرئة أنفسهم من إضلالهم يرفع تبعة الضلال عن الضالين . والمقصود بالاستدراك ما بعد )حتى )وهو { نسوا الذكر } . وأما ما قبلها فقد أدمج بين حرف الاستدراك ومدخوله ما يسجل عليهم فظاعة ضلالهم بأنهم قَابَلوا رحمةَ الله ونعمتَه عليهم وعلى آبائهم بالكفران ، فالخبر عن الله بأنه متّع الضالين وآباءهم مستعمل في الثناء على الله بسعة الرحمة ، وفي الإنكار على المشركين مقابلة النعمة بالكفران غضباً عليهم .وجعل نسيانهم الذكر غاية للتمتيع للإيماء إلى أن ذلك التمتيع أفضى إلى الكفران لخبث نفوسهم فهو كجَوْد في أرضضٍ سبخةٍ قال تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] .والتعرض إلى تمتيع آبائهم هنا مع أن نسيان الذكر إنما حصل من المشركين الذين بلغتهم الدعوة المحمدية ونسوا الذكر ، أي القرآن ، هو زيادة تعظيم نعمة التمتيع عليهم بأنها نعمة متأثلة تليدة ، مع الإشارة إلى أن كفران النعمة قد انجرّ لهم من آبائهم الذين سنّوا لهم عبادة الأصنام . ففيه تعريض بشناعة الإشراك ولو قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلموبهذا يظهر أن ضمير { نسوا } وضمير { كانوا } عائدان إلى الظالمين المكذبين بالإسلام دون آبائهم لأن الآباء لم يسمعوا الذكر .والنسيان مستعمل في الإعراض عن عمد على وجه الاستعارة لأنه إعراض يشبه النسيان في كونه عن غير تأمل ولا بصيرة . وتقدم في قوله تعالى : { وتنسون ما تشركون } في سورة الأنعام )41 ).والذكر : القرآن لأنهُ يُتذكر به الحق ، وقد تقدم في قوله تعالى : { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } في سورة الحجر )6 ).والبور : جمع بائر كالعُوذ جمع عائذ ، والبائر : هو الذي أصابه البوار ، أي الهلاك . وتقدم في قوله تعالى : { وأحلوا قومهم دار البوار } [ إبراهيم : 28 ] أي الموت . وقد استعير البور لشدة سوء الحالة بناء على العرف الذي يعد الهلاك آخر ما يبلغ إليه الحي من سوء الحال كما قال تعالى : { يُهلكون أنفسهم } [ التوبة : 42 ] ، أي سوء حالهم في نفس الأمر و هم عنه غافلون . وقيل : البوار الفساد في لغة الأزد وأنه وما اشتق منه مما جاء في القرآن بغير لغة مضر .واجتلاب فعل )كان )وبناء { بوراً } على { قوماً } دون أن يقال : حتى نسوا الذكر وباروا للدلالة على تمكن البوار منهم بما تقتضيه )كان )من تمكن معنى الخبر ، وما يقتضيه )قوماً )من كون البوار من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى : { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة )164 ).
الآية 18 - سورة الفرقان: (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما...)