سورة الفجر: الآية 16 - وأما إذا ما ابتلاه فقدر...

تفسير الآية 16, سورة الفجر

وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّىٓ أَهَٰنَنِ

الترجمة الإنجليزية

Waamma itha ma ibtalahu faqadara AAalayhi rizqahu fayaqoolu rabbee ahanani

تفسير الآية 16

وأما إذا ما اختبره، فضيَّق عليه رزقه، فيظن أن ذلك لهوانه على الله، فيقول: ربي أهانن.

«وأما إذا ما ابتلاه فقدره» ضيق «عليه رزقه فيقول ربي أهانن».

وأنه إذا قدر عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي: ضيقه، فصار يقدر قوته لا يفضل منه، أن هذا إهانة من الله له.

وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له.

وقوله- سبحانه-: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ... بيان لموقف هذا الإنسان عند فقره. أى: وأما إذا ما امتحنا هذا الإنسان بسلب بعض النعم عنه، وبضيق الرزق..فَيَقُولُ على سبيل التضجر والتأفف وعدم الرضا بقضائه- سبحانه-: رَبِّي أَهانَنِ أى: ربي أذلنى بالفقر، وأنزل بي الهوان والشرور.وقول هذا الإنسان في الحالين، قول مذموم، يدل على سوء فكره، وقصور نظره، وانطماس بصيرته، لأنه في حالة العطاء والسعة في الرزق. يتفاخر ويتباهى، ويتوهم أن هذه النعم هو حقيق وجدير بها، وليست من فضل الله- تعالى- وكأنه يقول ما قاله قارون:إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي وفي حالة المنع والضيق في الرزق يجزع، ويأبى أن يرضى بقضاء الله وقدره.. ولا يخطر بباله أن نعم الله، إنما هي فضل تفضل به- سبحانه- عليه ليختبره، أيشكر أم يكفر. وأن تضييقه عليه في الرزق، ليس من الإهانة في شيء، بل هو للابتلاء- أيضا- والامتحان، كما قال- تعالى-: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ.قال الإمام الشوكانى عند تفسيره لهاتين الآيتين: وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا والتوسع في متاعها، ولا إهانة عنده إلا فوتها وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها، فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته، ويوفقه لعمل الآخرة.ويحتمل أن يراد الإنسان على العموم، لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير، وما أصيب به من الشر في الدنيا، ليس إلا للاختبار والامتحان، وأن الدنيا بأسرها، لا تعدل عند الله- تعالى- جناح بعوضة.. .واقتصر- سبحانه- في الآية الكريمة على تقتير الرزق، في مقابلة النعمة، دون غير ذلك من الأمراض والآفات، للإشعار بأن هذا الإنسان يعتبر دنياه جنته ومنتهى آماله. فهو لا يفكر إلا في المال ولا يحزن إلا من أجله، وأن المقياس عنده لمقادير الناس هو على حسب ما عندهم من أموال كما قال شاعرهم:فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثدفأصبحت ذا مال كثير وطاف بي ... بنون كرام، سادة لمسوّدولما كان هذا القول مذموما من هذا الإنسان في الحالين. لعدم شكره لله- تعالى- في حالة الرخاء، ولعدم صبره على قضائه في حالة البأساء.

( وأما إذا ما ابتلاه ) بالفقر ( ( فقدر عليه رزقه ) قرأ أبوجعفر وابن عامر " فقدر " بتشديد الدال ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، وهما لغتان ، أي ضيق عليه رزقه . وقيل : " قدر " بمعنى قتر وأعطاه قدر ما يكفيه . ( فيقول ربي أهانن ) أذلني بالفقر . وهذا يعني به الكافر ، تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلته . قال الكلبي ومقاتل : نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر

وأما إذا ما ابتلاه أي امتحنه بالفقر واختبره . فقدر أي ضيق عليه رزقه على مقدار البلغة . فيقول ربي أهانن أي أولاني هوانا . وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث : وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته . فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه ، المؤدي إلى حظ الآخرة ، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره .قلت : الآيتان صفة كل كافر . وكثير من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته وفضيلته عند الله ، وربما يقول بجهله : لو لم أستحق هذا لم يعطنيه الله . وكذا إن قتر عليه يظن أن ذلك لهوانه على الله . وقراءة العامة فقدر مخففة الدال . وقرأ ابن عامر مشددا ، وهما لغتان . والاختيار التخفيف لقوله : ومن قدر عليه رزقه . قال أبو عمرو : قدر أي قتر . و ( قدر ) مشددا : هو أن يعطيه ما يكفيه ، ولو فعل به ذلك ما قال ربي أهانن . وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو ربي بفتح الياء في الموضعين . وأسكن الباقون . وأثبت البزي وابن محيصن ويعقوب الياء من أكرمن ، وأهانن في الحالين ; لأنها اسم فلا تحذف . وأثبتها المدنيون في الوصل دون الوقف ، اتباعا للمصحف . وخير أبو عمرو في إثباتها في الوصل أو حذفها ; لأنها رأس آية ، وحذفها في الوقف لخط المصحف . الباقون بحذفها ; لأنها وقعت في الموضعين بغير ياء ، والسنة ألا يخالف خط المصحف ; لأنه إجماع الصحابة .

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16).وقوله: ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) يقول: وأما إذا ما امتحنه ربه بالفقر ( فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) يقول: فضيَّق عليه رزقه وقَتَّره، فلم يكثر ماله، ولم يوسع عليه ( فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ) يقول: فيقول ذلك الإنسان: ربي أهانني، يقول: أذلني بالفقر، ولم يشكر الله على ما وهب له من سلامة جوارحه، ورزقه من العافية في جسمه.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ) ما أسرع كفر ابن آدم.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قوله: ( فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) قال: ضَيَّقه.واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) فقرأت عامة قرّاء الأمصار ذلك بالتخفيف، فقَدَر: بمعنى فقتر، خلا أبي جعفر القارئ، فإنه قرأ ذلك بالتشديد ( فَقَدَّرَ ) . وذُكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: قدّر، بمعنى يعطيه ما يكفيه، ويقول: لو فعل ذلك به ما قال ربي أهانني.والصواب من قراءة ذلك عندنا بالتخفيف، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.

وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) وقد تضمن هذا الوهَم أصولاً انبنى عليها ، وهي : إنكار الجزاء في الآخرة ، وإنكار الحياة الثانية ، وتوهم دوام الأحوال .ففاء التفريع مرتبطة بجملة : { إن ربك لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] بما فيها من العموم الذي اقتضاه كونها تذييلاً .والمعنى : هذا شأن ربك الجاري على وفق علمه وحكمته .فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسَعَة في الدنيا تكريماً من الله له ، وما يناله من ضيق عيش إهانَةً أهانه الله بها .وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله تعالى جارية على غير حكمة قال تعالى : { ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ }[ فصلت : 50 ] . فأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالحقيقة الحق ونبههم لتجنب تخليط الدلائل الدقيقة السامية ، وتجنب تحكيم الواهمة والشاهية ، وذكرهم بأن الأحوال الدنيوية أعراض زائلة ومتفاوتة الطول والقصر ، وفي ذلك كله إبطال لمعتقد أهل الشرك وضلالهم الذي كان غالباً على أهل الجاهلية ولذلك قال النابغة في آل غسان الذين لم يكونوا مشركين وكانوا متدينين بالنصرانية :مَجَلَّتُهم ذَاتُ الإله ودينُهم ... قَويم فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ العَوَاقِبوَلا يَحْسَبُون الخَيْرَ لا شَرَّ بعدَه ... ولا يحسبُون الشرَّ ضَرْبَةَ لازِبِ وليس مثلُ هذا المحكيّ عنهم من شأن المسلمين المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والمتبصرين في مجاري التصرفات الربانية . وقد نجد في بعض العوامّ ومن يشبههم من الغافلين بقايا مت اعتقاد أهل الجاهلية لإِيجاد التخيلات التي تمليها على عقولهم فالواجب عليهم أن يتعظوا بموعظة الله في هذه الآية .لا جرم أن الله قد يعجل جزاء الخير لبعض الصالحين من عباده كما قال : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحْيِينَّه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] . وقد يعجّل العقاب لمن يغضب عليه من عباده . وقد حكَى عن نوح قولَه لقومه : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين } [ نوح : 10 12 ] وقال تعالى : { وأَلَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً } [ الجن : 16 ] . ولهذه المعاملة علامات أظهرها أن تجري على خلاف المألوف كما نرى في نصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاءِ على الأمم العظيمة القاهرة . وتلك مواعيد من الله يحققها أو وعيد منه يحيق بمستحقيه .وحرف ( أمَا ) يفيد تفصيلاً في الغالب ، أي يدل على تقابل بين شيئين من ذواتتٍ وأحوال . ولذلك قد تكرر في الكلام ، فليس التفصيلُ المستفاد منها بمعنى تبييننِ مجمللٍ قبلَها ، بل هو تفصيل وتقابُل وتوازن ، وهو ضرب من ضروب التفصيل الذي تأتي له ( أمَّا ) ، فارتباط التفصيل بالكلام السابق مستفاد من الفاء الداخلة على ( أما ) ، وإنما تعلقه بما قبله تعلَّقُ المفرع بمنشئه لا تفصيل بيان على مجمل .فالمفصل هنا أحوال الإِنسان الجاهِل فُصّلت إلى حاله في الخفض والدعة وحاله في الضنك والشدة فالتوازن بين الحالين المعبَّر عنهما بالظرفين في قوله : { إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه } الخ وفي قوله : { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه } الخ . وهذا التفصيل ليس من قبيل تبيين المُجمل ولكنه تمييز وفصْل بين شيئين أو أشياء تشتبه أو تختلط .وقد تقدم ذكر ( أمّا ) عند قوله تعالى : { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } الآية في سورة البقرة ( 26 ) .والابتلاء : الاختبار ويكون بالخير وبالضرّ لأن في كليهما اختباراً لثبات النفس وخُلق الأناة والصبر قال تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] وبذكر الابتلاء ظهر أن إكرام الله إياه إكرام ابتلاء فيقع على حالين ، حال مرضية وحال غير مرضية وكذلك تقتير الرزق تقتير ابتلاء يقتضي حالين أيضاً . قال تعالى : { ليبلوني أأشكر أم أكفر } [ النمل : 40 ] وقال : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] والأشهر أنه الإِختبار بالضر وقد استعمل في هذه الآية في المعنيين .والمعنى : إذا جَعَلَ ربُّه ما يناله من النعمة أو من التقتير مظهراً لحاله في الشكر والكفر ، وفي الصبر والجزع ، توهَّم أن الله أكرمه بذلك أو أهانه بهذا .والإِكرام : قال الراغب : أن يُوصَل إلى الإِنسان كرامة ، وهي نفع لا تلحق فيه غضاضة ولا مذلة ، وأن يُجعل ما يوصل إليه شيئاً كريماً ، أي شريفاً قال تعالى : { بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] ، أي جعلهم كراماً اه يريد أن الإِكرام يطلق على إعطاء المكرمة ويطلق على جعل الشيء كريماً في صنفه فيصدق قوله تعالى : { فأكرمه } بأن يصيب الإِنسان ما هو نفع لا غضاضة فيه ، أو بأن جُعل كريماً سيداً شريفاً . وقوله : { فأكرمه } من المعنى الأول للإِكرام وقوله : { فيقول ربي أكرمني } من المعنى الثاني له في كلام الراغب واعلم أن قوله : { ونعمه } صريح في أن الله ينعم على الكافرين إيقاظاً لهم ومعاملة بالرحمة ، والذي عليه المحققون من المتكلمين أن الكافر مُنعَم عليه في الدنيا ، وهو قول الماتريدي والباقِلاني . وهذا مما اختلف فيه الأشعري والماتريدي والخُلف لفظي .ومعنى { نعّمه } جعله في نعمة ، أي في طيب عيش .ومعنى : { فقدر عليه رزقه } أعطاه بقَدْر محدود ، ومنه التقتير بالتاء الفوقية عوضاً عن الدال ، وكلّ ذلك كناية عن القلة ويقابله بسط الرزق قال تعالى : { ولو بسط اللَّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء } [ الشورى : 27 ] .والهاء في { رزقه } يجوز أن تعود إلى { الإنسان } من إضافة المصدر إلى المفعول ، ويجوز أن تعود إلى { ربه } من إضافة المصدر إلى فاعله .والإِهانة : المعاملة بالهون وهو الذل .وإسناد { فأكرمه ونعمه . . . فقدر عليه رزقه } إلى الرب تعالى لأن الكرامة والنعمة انساقت للإِنسان أو انساق له قَدَر الرزق بأسباب من جعل الله وسننه في هذه الحياة الدنيا بما يصادف بعضُ الحوادث بعضاً ، وأسباب المقارنة بين حصول هذه المعاني وبين من تقع به من الناس في فُرصها ومناسباتها .والقول مستعمل في حقيقته وهو التكلم ، وإنما يتكلم الانسان عن اعتقاد . فالمعنى : فيقول ربي أكرمني ، معتقداً ذلك ، ويقول : ربيَ أهانني ، معتقداً ذلك لأنهم لا يخلون عن أن يفتخروا بالنعمة ، أو يتذمروا من الضيق والحاجة ، ونظير استعمال القول هذا الاستعمال ما وقع في قوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } [ آل عمران : 75 ] ، أي اعتقدوا ذلك فقالوه واعتذروا به لأنفسهم بين أهل ملتهم .وتقديم { ربي } على فعل { أكرمني } وفعللِ { أهانني } ، دون أن يقول : أكرمني ربي أو أهانني ربي ، لقصد تقوّي الحكم ، أي يقول ذلك جازماً به غير متردد .وجملتا : { فيقول } في الموضعين جوابان ل ( إمَّا ) الأولى والثانية ، أي يطرد قول الإِنسان هذه المقالة كلَّما حصلتْ له نعمة وكلما حصل له تقتير رزق .وأوثِر الفعل المضارع في الجوابين لإِفادة تكرر ذلك القول وتجدده كلما حصل مضمون الشرطين .وحرف { كَلاّ } زجر عن قول الإِنسان { ربي أكرمن } عند حصول النعمة . وقوله : { ربيَ أهانني } عندما يناله تقتير ، فهو ردع عن اعتقاد ذلك فمناط الردع كِلاَ القولين لأن كل قول منهما صادر عن تأول باطل ، أي ليست حالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا دليلاً على منزلته عند الله تعالى .وإنما يُعرَف مراد الله بالطرق التي أرشد الله إليها بواسطة رسله وشرائعه ، قال تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } إلى قوله : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } في سورة الكهف ( 103 105 ) . فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه ورب أشعَث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبَرَّهُ .فمناط الردع جعل الإِنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير علامة على إرادة الإِهانة ، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإِهانة لأن الله أهان الكافرَ بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق .وبهذا ظهر أن لا تنافي بين إثبات إكرام الله تعالى الإِنسان بقوله : { فأكرمه } وبين إبطال ذلك بقوله : { كلا } لأن الإِبطال وارد على ما قصده الإِنسان بقوله : { ربي أكرمن } أن ما ناله من النعمة علامةٌ على رضى الله عنه .فالمعنى : أن لشأن الله في معاملته الناس في هذا العالم أسراراً وعِللاً لا يُحاط بها ، وأن أهل الجهالة بمعزل عن إدراك سرها بأقْيسة وهمية ، والاستناد لمألوفات عادية ، وأن الأولى لهم أن يتطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية ، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله . وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها . وأن يستنتجوا الفروع من غير أصولها .وأما أهل العلم فهم يضعون الأشياء مواضعها ، ويتوسمون التوسم المستند إلى الهدي ولا يخلطون ولا يخبطون .وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { ربي } في الموضعين بفتح الياء . وقرأ الباقون بسكونها .وقرأ الجمهور { فقدر عليه } بتخفيف الدال . وقرأه ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الدال .وقرأ نافع : { أكرمن ، وأهانن } بياء بعد النون في الوصل وبحذفها في الوقف . وقرأهما ابن كثير بالياء في الوصل والوقف ، وقرأهما ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب بدون ياء في الوصل والوقف . وهو مرسوم في المصحف بدون نون بعد الياءين ولا منافاة بين الرواية واسم المصحف . و { كلاّ } ردع عن هذا القول أي ليس ابتلاء الله الإِنسان بالنعيم وبتقتير الرزق مسبباً على إرادة الله تكريم الإِنسان ولا على إرادته إهانته . وهذا ردع مجمل لم يتعرض القرآن لتبيينه اكتفاء بتذييل أحوال الأمم الثلاث في نعمتهم بقوله : { إن ربك لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] بعد قوله : { فصب عليهم ربك سوط عذاب } [ الفجر : 13 ] .{ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ } { للهاليتيم * وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين * وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً } .{ بل } إضراب انتقالي . والمناسبة بين الغرضين المنتقل منه والمنتقللِ إليه مناسبةُ المقابَلةِ لمضمون { فأكرمه ونعمه } من جهة ما توهموه أن نعمة مالِهم وسعة عيشهم تكريم من الله لهم ، فنبههم الله على أنهم إن أكرمهم الله فإنهم لم يُكرموا عبيده شُحّاً بالنعمة إذ حَرموا أهل الحاجة من فضول أموالهم وإذ يستزيدون من المال ما لا يحْتاجُون إليه وذلك دحض لتفخرهم بالكرم والبذل .
الآية 16 - سورة الفجر: (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن...)