سورة البقرة: الآية 253 - ۞ تلك الرسل فضلنا بعضهم...

تفسير الآية 253, سورة البقرة

۞ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٍ ۚ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعْدِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخْتَلَفُوا۟ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُوا۟ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ

الترجمة الإنجليزية

Tilka alrrusulu faddalna baAAdahum AAala baAAdin minhum man kallama Allahu warafaAAa baAAdahum darajatin waatayna AAeesa ibna maryama albayyinati waayyadnahu biroohi alqudusi walaw shaa Allahu ma iqtatala allatheena min baAAdihim min baAAdi ma jaathumu albayyinatu walakini ikhtalafoo faminhum man amana waminhum man kafara walaw shaa Allahu ma iqtataloo walakinna Allaha yafAAalu ma yureedu

تفسير الآية 253

هؤلاء الرسل الكرام فضَّل الله بعضهم على بعض، بحسب ما منَّ الله به عليهم: فمنهم مَن كلمه الله كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وفي هذا إثبات صفة الكلام لله عز وجل على الوجه اللائق بجلاله، ومنهم مَن رفعه الله درجاتٍ عاليةً كمحمد صلى الله عليه وسلم، بعموم رسالته، وختم النبوة به، وتفضيل أمته على جميع الأمم، وغير ذلك. وآتى الله تعالى عيسى ابن مريم عليه السلام البينات المعجزات الباهرات، كإبراء مَن ولد أعمى بإذن الله تعالى، ومَن به برص بإذن الله، وكإحيائه الموتى بإذن الله، وأيده بجبريل عليه السلام. ولو شاء الله ألا يقتتل الذين جاؤوا مِن بعد هؤلاء الرسل مِن بعد ما جاءتهم البينات ما اقتتلوا، ولكن وقع الاختلاف بينهم: فمنهم مَن ثبت على إيمانه، ومنهم مَن أصر على كفره. ولو شاء الله بعد ما وقع الاختلاف بينهم، الموجب للاقتتال، ما اقتتلوا، ولكن الله يوفق مَن يشاء لطاعته والإيمان به، ويخذل مَن يشاء، فيعصيه ويكفر به، فهو يفعل ما يشاء ويختار.

«تلك» مبتدأ «الرسل» نعت أو عطف بيان والخبر «فضلنا بعضهم على بعض» بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره «منهم من كلّم الله» كموسى «ورفع بعضهم» أي محمد صلى الله عليه وسلم «درجات» على غيره بعموم الدعوة وختم النبوة وتفضيل أمته على سائر الأمم والمعجزات المتكاثرة والخصائص العديدة «وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه» قويناه «بروح القدس» جبريل يسير معه حيث سار «ولو شاء الله» هدى الناس جميعا «ما اقتتل الذين من بعدهم» بعد الرسل أي أممهم «من بعد ما جاءتهم البينات» لاختلافهم وتضليل بعضهم بعضا «ولكن اختلفوا» لمشيئته ذلك «فمنهم من آمن» ثبت على إيمانه «ومنهم من كفر» كالنصارى بعد المسيح «ولو شاء الله ما اقتتلوا» تأكيد «ولكن الله يفعل ما يريد» من توفيق من شاء وخذلان من شاء.

يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس، ودعائهم الخلق إلى الله، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين وآتينا عيسى ابن مريم البينات الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأيدناه بروح القدس أي: بالإيمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر به، وقيل أيده بجبريل عليه السلام يلازمه في أحواله ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات الموجبة للاجتماع على الإيمان ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة، ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا، فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للأسباب، وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة، فإذا وجدت اضمحل كل سبب، وزال كل موجب، فلهذا قال ولكن الله يفعل ما يريد فإرادته غالبة ومشيئته نافذة، وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته، ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والأقوال، والأفعال التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية. فائدة: كما يجب على المكلف معرفته بربه، فيجب عليه معرفته برسله، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة، منها: أنهم رجال لا نساء، من أهل القرى لا من أهل البوادي، وأنهم مصطفون مختارون، جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار، وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية، وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف، وأن الله تعالى خصهم بوحيه، فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر، ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله، ودلائل هذه الجمل كثيرة، من تدبر القرآن تبين له الحق

يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال : ( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ) [ الإسراء : 55 ] وقال هاهنا : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ) يعني : موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم وكذلك آدم ، كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه ( ورفع بعضهم درجات ) كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل .فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه : لا والذي اصطفى موسى على العالمين . فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال : أي خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم ! فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى على المسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على الأنبياء ؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ فلا تفضلوني على الأنبياء " وفي رواية : " لا تفضلوا بين الأنبياء " .فالجواب من وجوه :أحدها : أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل ، وفي هذا نظر .الثاني : أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع .الثالث : أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر .الرابع : لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية .الخامس : ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل ، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به .وقوله : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات ) أي : الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به ، من أنه عبد الله ورسوله إليهم ( وأيدناه بروح القدس ) يعني : أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم قال تعالى : ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ) أي : بل كل ذلك عن قضاء الله وقدره ; ولهذا قال : ( ولكن الله يفعل ما يريد )

الإشارة بتلك في قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ إلى جماعة الرسل الذين تقدم ذكرهم في السورة والذين أرسلهم الله- تعالى- لهداية البشر، وأمرنا- سبحانه- بالإيمان بهم.أى أولئك الرسل الذين أرسلناهم لهداية الناس فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أى جعلنا لبعضهم مناقب وخصائص ومزايا لم تتوافر للبعض الآخر.وتِلْكَ مبتدأ والرُّسُلُ عطف بيان لتلك. وجملة فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ هي الخبر. وكانت الإشارة باللفظ الدال على البعيد، لبيان سمو مكانة الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وأنهم هم المصطفون الأخيار.ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر التفضيل فقال: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أى منهم من فضله الله بتكليمه إياه كموسى- عليه السلام- فقد وردت آيات صريحه في ذلك، منها قوله- تعالى-: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وقوله- تعالى-: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي وقوله- تعالى- وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ.ثم قال- سبحانه-: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أى: ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل مراتب سامية ومنازل عالية.قيل كإبراهيم الذي اتخذه الله خليلا، وإدريس الذي رفعه الله مكانا عليا، وداود الذي آتاه الله النبوة والملك.والذي عليه المحققون من العلماء والمفسرين أن المقصود بقوله- تعالى- وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه هو صاحب الدرجات الرفيعة والمعجزة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة والرسالة العامة الناسخة لكل الرسالات قبلها.وقد صرح صاحب الكشاف بذلك فقال: قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أى ومنهم من رفعه الله على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة. الظاهر أنه أراد محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر. لو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتى الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس. ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال فيكون أفخم من التصريح، وسئل الخطيئة عن أشعر الناس، فذكر زهيرا والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخم أمره .ثم قال- تعالى-: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.الْبَيِّناتِ: هي المعجزات الظاهرة البينة. وروح القدس: هو جبريل- عليه السلام- والروح هنا بمعنى الملك الخاص. القدس أصل معناه الطهارة، وهو يطلق على الطهارة المعنوية وعلى الخلوص والنزاهة. فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة. قيل القدس اسم الله كالقدوس فإضافة روح إضافة للتشريف أى روح من ملائكة الله.والمعنى: وأعطينا عيسى بن مريم الآيات الباهرات، والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وإخبار قومه بما يأكلونه ويدخرونه في بيتهم، وفضلا عن هذا فقد قويناه بجبريل- عليه السلام- لأن عيسى- عليه السلام- قد عاش حياته محاربا من أعدائه الرومان ومن قومه الذين أرسل إليهم وهم بنو إسرائيل ولم يؤذن له بالقتال ليدافع عن نفسه بل تولى الله- تعالى- الدفاع عنه بجنده الذين من بينهم جبريل- عليه السلام-.قال الزمخشري: فإن قلت لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات. لما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل. هذا دليل بين على أن من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضل على غيره. ولما كان نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم هو الذي أوتى منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع» .وقال الإمام القرطبي ما ملخصه: هذه الآية نثبت التفاضل بين الأنبياء وهناك أحاديث تقول: «لا تخيرونى على موسى» و «لا تخيروا بين الأنبياء» و «لا تفضلوا بين الأنبياء» أى لا تقولوا فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان فكيف الجمع؟ فالجواب أن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل أو أن قوله هذا من باب الهضم والتواضع. أو المراد النهى عن الخوض في ذلك لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال والجدال قد يؤدى إلى أن يذكر بعضهم بما لا ينبغي أن يذكر به، وقد يؤدى إلى قلة احترامهم. ثم قال. وأحسن من هذا القول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة.الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أخرى زائدة عليها، ولذلك فهم رسل، وأولو عزم، ومنهم من كلمه الله..فالقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل، وأعطى من الوسائل. وبذلك نكون قد جمعنا بين الآية والأحاديث من غير النسخ.ثم قال- تعالى-: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.أى: ولو شاء الله- تعالى- ألا يقتتل الذين جاءوا بعد كل رسول من الرسول وبعد أن جاءهم الرسل بالبينات الدالة على الحق، لو شاء الله ذلك لفعل، ولكن الله- تعالى- لم يشأ ذلك، لأنه خلق الناس مختلفين في تقبلهم للحق، فترتب على هذا الاختلاف أن آمن بالحق الذي جاءت به الرسل من فتح له قلبه، واتجه إليه اختياره، وأن كفر به من آثر الضلالة على الهداية واستحب العمى على الهدى، وترتب عليه- أيضا أن تقاتل الناس وتحاربوا.ومفعول المشيئة محذوف دل عليه جواب الشرط أى لو شاء الله ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد الرسل ما اقتتلوا.وقدم- سبحانه- المسبب وهو الاقتتال على السبب وهو الاختلاف كما يشهد له قوله:وَلكِنِ اخْتَلَفُوا.. للتنبيه على سوء مغبة الاختلاف، وللتحذير من الوقوع فيه، لأن وقوعهم فيه سيؤدي إلى أن يقتل بعضهم بعضا، وللإشارة إلى أنه- سبحانه- قادر على إزالة الاقتتال في ذاته حتى مع وجود أسبابه، لأنه- تعالى- هو الخالق للأسباب والمسببات.وفي قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ إشارة إلى ما جبلت عليه بعض النفوس من العناد الذي يؤدى إلى التنازع والاختلاف والتقاتل حتى بعد ظهور الحق، وانكشاف وجه الصواب، لأن هذه النفوس قد آثرت الهوى على الرشاد، واتخذت طريق الغي طريقا لها.وفي قوله: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا إشارة إلى أنه- سبحانه- لم يشأ أن يزبل القتال الذي حدث بين المقاتلين، لأن هذا القتال قد نشأ بينهم بسبب اختلافهم، وسوء اختيارهم، وعدم استجابتهم للهدايات والتوجيهات والبينات التي جاءتهم بها الرسل- عليهم السلام-.ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ أى:لو شاء الله عدم اقتتالهم لأى سبب من الأسباب لما اقتتلوا، ولكنه- سبحانه- يفعل ما يريد حسب ما تقتضيه حكمته، وترتضيه مشيئته، فهو الكبير المتعال الذي كل شيء عنده بمقدار فالآية الكريمة تبين أن الرسل- عليهم السلام- يتفاضلون فيما بينهم، وتنهى الناس في كل زمان ومكان عن الاختلاف والتنازع لأنهما يؤديان إلى أوخم العواقب، وأسوأ النتائج.ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه ببذل أموالهم في سبيل الدفاع عن الحق، حتى يكونوا أهلا لرضا الله ومثوبته.

( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ) أي كلمه الله تعالى يعني موسى عليه السلام ( ورفع بعضهم درجات ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم قال الشيخ الإمام رحمة الله عليه : وما أوتي نبي آية إلا وقد أوتي نبينا مثل تلك الآية وفضل على غيره بآيات مثل : انشقاق القمر بإشارته وحنين الجذع على مفارقته وتسليم الحجر والشجر عليه وكلام البهائم والشهادة برسالته ونبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء وأهل الأرض عن الإتيان بمثله .أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي ، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس بن محمد بن إسحاق الثقفي ، أنا قتيبة بن سعيد ، أنا الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن سنان ، أخبرنا هشيم أنا سيار ، أنا يزيد الفقير ، أنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحدا قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فضلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون " .قوله تعالى : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم ) أي من بعد الرسل ( من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ) ثبت على إيمانه بفضل الله ( ومنهم من كفر ) بخذلانه ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) أعاده تأكيدا ( ولكن الله يفعل ما يريد ) يوفق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا .سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟ فقال : طريق مظلم لا تسلكه فأعاد السؤال فقال : بحر عميق فلا تلجه فأعاد السؤال فقال : سر الله في الأرض قد خفي عليك فلا تفتشه .

تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريدقوله تعالى : تلك الرسل قال : ( تلك ) ولم يقل : ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة ، وهي رفع بالابتداء . و ( الرسل ) نعته ، وخبر الابتداء الجملة . وقيل : ( الرسل ) عطف بيان ، و ( فضلنا ) الخبر . وهذه آية مشكلة ، والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تخيروا بين الأنبياء و لا تفضلوا بين أنبياء الله رواها الأئمة الثقات ، أي لا تقولوا : فلان خير من فلان ، ولا فلان أفضل من فلان . يقال : خير فلان بين فلان وفلان ، وفضل ( مشددا ) إذا قال ذلك . وقد اختلف العلماء في تأويل هذا المعنى ، فقال قوم : إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم ، وإن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل . وقال ابن قتيبة : إنما أراد بقوله : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ) ؛ لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض ، وأراد بقوله : " لا تخيروني على موسى " على طريق التواضع ، كما قال أبو بكر : وليتكم ولست بخيركم . وكذلك معنى قوله : لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى على معنى التواضع . وفي قوله تعالى : ولا تكن كصاحب الحوت ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه ؛ لأن الله تعالى يقول : ولا تكن مثله ، فدل على أن قوله : ( لا تفضلوني عليه ) من طريق التواضع . ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملا مني ، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة مني . وليس ما أعطاه الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له ، وهذا التأويل اختاره المهلب . ومنهم من قال : إنما نهى عن الخوض في ذلك ؛ لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة . قال شيخنا : فلا يقال : النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير ، كما هو ظاهر النهي لما يتوهم من النقص في المفضول ؛ لأن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى ، فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون ، فلا تقول : نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهي عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل ، والله بحقائق الأمور عليم .قلت : وأحسن من هذا قول من قال : إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها ، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات ، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها ، ولذلك منهم رسل وأولو عزم ، ومنهم من اتخذ خليلا ، ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ، قال الله تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ، وقال : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض .قلت : وهذا قول حسن ، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطي من الوسائل ، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال : إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء ، فقالوا : بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال : إن الله تعالى قال : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين . وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ . قال : قال الله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا كافة للناس فأرسله إلى الجن والإنس ، ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده . وقال أبو هريرة : خير بني آدم : نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم أولو العزم من الرسل ، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين ، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل ، فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم ، وهذا مما لا خفاء فيه ، إلا أن ابن عطية أبا محمد عبد الحق قال : إن القرآن يقتضي التفضيل ، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول ، وكذلك هي الأحاديث ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا أكرم ولد آدم على ربي وقال : أنا سيد ولد آدم ولم يعين ، وقال عليه السلام : لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى وقال : لا تفضلوني على موسى . وقال ابن عطية : وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول ؛ لأن يونس عليه السلام كان شابا وتفسخ تحت أعباء النبوة . فإذا كان التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم فغيره أحرى .قلت : ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى ، فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يبين بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فضلوا بها فقال : منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات ، وقال وآتينا داود زبورا ، وقال تعالى : وآتيناه الإنجيل ، ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين ، وقال تعالى : ولقد آتينا داود وسليمان علما ، وقال : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح . فعم ثم خص وبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا ظاهر .قلت : وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى ، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل ، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم ، وحسبك بقوله الحق : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار إلى آخر السورة . وقال : وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ثم قال : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ( الحديد : 10 ) وقال : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعم وخص ، ونفى عنهم الشين والنقص ، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين .قوله تعالى : منهم من كلم الله المكلم موسى عليه السلام ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال : نعم نبي مكلم . قال ابن عطية : وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة ، فعلى هذا تبقى خاصية موسى . وحذفت الهاء لطول الاسم ، والمعنى من كلمه الله .قوله تعالى : ورفع بعضهم درجات قال النحاس : ( بعضهم ) هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم : بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة . ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف . وقال ابن عطية معناه ، وزاد : وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله . ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صلى الله عليه وسلم وغيره ممن عظمت آياته ، ويكون الكلام تأكيدا . ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلي ، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الإسراء ، وسيأتي .وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل . ( وأيدناه ) قويناه . ( بروح القدس ) جبريل عليه السلام ، وقد تقدم .قوله تعالى : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم أي من بعد الرسل . وقيل : الضمير لموسى وعيسى ، والاثنان جمع . وقيل : من بعد جميع الرسل ، وهو ظاهر اللفظ . وقيل : إن القتال إنما وقع من الذين جاءوا بعدهم وليس كذلك المعنى ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي ، وهذا كما تقول : اشتريت خيلا ثم بعتها ، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا ، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى ، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد . وكسرت النون من ( ولكن اختلفوا ) لالتقاء الساكنين ، ويجوز حذفها في غير القرآن ، وأنشد سيبويه :فلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضلفمنهم من آمن ومنهم من كفر " من " في موقع رفع بالابتداء والصفة .

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " تلك "، الرسل الذين قص الله قصصهم في هذه السورة، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة. يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض، فكلمت بعضهم = والذي كلمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم = ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة، كما:-5755 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض "، قال: يقول: منهم من كلم الله، ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمدا إلى الناس كافة.5756 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.* * *ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك:=5757 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب، فإن العدو ليرعب مني على مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وقيل لي: سل تعطه، فاختبأتها شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا " (1) .* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِقال أبو جعفر :يعني تعالى ذكره بقوله: (2) " وآتينا عيسى ابن مريم البينات "، وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوته: (3) من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وما أشبه ذلك، مع الإنجيل الذي أنزلته إليه، فبينت فيه ما فرضت عليه.* * *ويعني تعالى ذكره بقوله: " وأيدناه "، وقويناه وأعناه= (4) " بروح القدس "، يعني بروح الله، وهو جبريل. وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في معنى روح القدس والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع (5) .* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولو أراد الله=" ما اقتتل الذين من بعدهم "، (6) يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وبعد عيسى ابن مريم، وقد جاءهم من الآيات بما فيه مزدجر لمن هداه الله ووفقه.* * *ويعني بقوله: " من بعد ما جاءتهم البينات "، يعني: من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق، وأوضح لهم السبيل.* * *وقد قيل: إن " الهاء " و " الميم " في قوله: " من بعدهم "، من ذكر موسى وعيسى. * ذكر من قال ذلك:5758 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات "، يقول: من بعد موسى وعيسى.5759 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات " يقول: من بعد موسى وعيسى.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل، لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه، فكفر بالله وبآياته بعضهم، وآمن بذلك بعضهم. فأخبر تعالى ذكره: أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي، (7) بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته.ثم قال تعالى ذكره لعباده: " ولو شاء الله ما اقتتلوا "، يقول: ولو أراد الله أن يحجزهم - بعصمته وتوفيقه إياهم- عن معصيته فلا يقتتلوا، ما اقتتلوا ولا اختلفوا=" ولكن الله يفعل ما يريد "، بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه.----------------الهوامش :(1) الأثر : 5757 -ساقه بغير إسناد ، وقد اختلف ألفاظه ، وهو من حديث ابن عباس في المسند رقم : 2742 ، والمسند 5 : 145 ، 147 ، 148 ، 161 ، 162 (حلبي) والمستدرك 2 : 424 ورواه مسلم بغير اللفظ 5 : 3 ، والبخاري ، (الفتح 1 : 369 ، 444) مواضع أخرى . وهو حديث صحيح .(2) في المطبوعة والمخطوطة : "يعنى تعالى ذكره بذلك" ، وهو لا يستقيم .(3) انظر تفسير"البينات"فيما سلف 2 : 328/ 4 : 271 ، والمراجع هناك ، وانظر فهرس اللغة .(4) انظر تفسير"أيد"فيما سلف 2 : 319 ، 320 .(5) انظر ما سلف 2 : 320- 323 .(6) في المطبوعة ، أتم الآية : "من بعد ما جاءتهم البينات" ، وأثبت ما في المخطوطة .(7) في المخطوطة : "أتوا ما أنزل من الكفر" ، وهو سهو فاحش من شدة عجلة الكاتب ، كما تتبين ذلك جليا من تغيُّر خطه في هذا الموضع أيضًا .

موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها . فأما الأول فإنّ الله تعالى لما أنبأ باختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله : تلك ءايت اللَّه نتلوها عليك بالحق { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وأيدناه بِرُوحِ القدس } [ البقرة : 252 ] . جمع ذلك كلّه في قوله : { تلك الرسل } لَفْتاً إلى العبر التي في خلال ذلك كلّه . ولما أنهى ذلك كلّه عَقَّبه بقوله : { وإنّك لمن المرسلين } [ البقرة : 252 ] تذكيراً بأنّ إعلامه بأخبار الأمم والرسل آية على صدق رسالته . إذ ما كان لمثله قِبَلٌ بعلم ذلك لولا وحي الله إليه . وفي هذا كلّه حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فموقع اسم الإشارة مثل موقعه في قول النابغة: ... بني عمه دنيا وعمِرو بن عامرأولئك قومٌ بأسهم غير كاذب ... والإشارة إلى جماعة المرسلين في قوله : { وإنّك لمن المرسلين } . وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار حتى كأنّ جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مرّ من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال .وأما الثاني فلأنّه لما أفيض القول في القتال وفي الحثّ على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنّه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكنّهم أساؤوا الفهم فجحدوا البيّنات فأفضى بهم سود فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال . فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع ضمير الشأن ، أي هي قصة الرسل وأممهم ، فضّلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذّب اليهود عيسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام وكذب النصارى محمداً صلى الله عليه وسلموقرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويهاً بمراتبهم كقوله : { ذلك الكتاب } [ البقرة : 2 ] .واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر ، وليس الرسل بدلاً لأنّ الإخبار عن الجماعة بأنّها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم ، وجملة «فضّلنا» حال .والمقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم السلام ، وتعليم المسلمين أنّ هاته الفئة الطيّبة مع عظيم شأنها قد فضّل الله بعضها على بعض ، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، غير أنّها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المُصلِحة للبشر ومن نصر الحق ، وما لقوه من الأذى في سبيل ذلك ، وما أيَّدُوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر ، وفي عموم ذلك الهديِ ودوامهِ ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لأنْ يهدي الله بك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس "فما بالك بمن هدى الله بهم أمماً في أزمان متعاقبة ، ومن أجل ذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل . ويتضمن الكلام ثناء عليهم وتسلية للرسول عليه السلام فيما لقي من قومه .وقد خصّ الله من جملة الرسل بعضاً بصفات يتعيّن بها المقصود منهم ، أو بذكر اسمه ، فذكر ثلاثةً إذ قال : منهم من كلَّم اللَّهُ ، وهذا موسى عليه السلام لاشتهاره بهذه الخصلة العظيمة في القرآن ، وذَكَر عيسى عليه السلام ، ووسط بينهما الإيماءَ إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه ، بقوله : { ورفع بعضهم درجات } .وقوله : { ورفع بعضهم درجات } يتعيّن أن يكون المراد من البعض هنا واحداً من الرسل معيّناً لا طائفة ، وتكون الدرجات مراتبَ من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد : لأنّه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مُجملاً ، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكراراً مع قوله فضّلنا بعضهم على بعض ، ولأنّه لو أريد بعضٌ فُضِّل على بعض لقال ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } [ الأنعام : 165 ] .وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلِّغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد صلى الله عليه وسلم والعرب تعبّر بالبعض عن النفس كما في قول لبيد: ... تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَهاأوْ يعْتَلِقْ بعضَ النّفوسسِ حِمَامُها ... أراد نفسه ، وعن المخاطب كقولي أبي الطيّب: ... إذا كان بعضُ النّاس سيفاً لِدَوْلَةٍففي النّاسسِ بُوقات لها وطُبُول ... والذي يعيِّن المراد في هذا كلّه هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على واحد كقول طرفة: ... إذا القَوْم قالوا مَنْ فتًى خِلْتُ أنّنيعُنِيْتُ فلم أكسل ولم أتَبَلَّدِ ... وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى : { وما أرسلناك عليهم وكيلاً وربّك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض } [ الإسراء : 54 ، 55 ] عَقب قوله : { وإذا قرآتَ القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا } إلى أن قال { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } إلى قوله { ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض } [ الإسراء : 45 ، 55 ] .وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدممِ تعيين الفاضل من المفضول : ذلك أنّ كل فريق اشتركوا في صفةِ خيرٍ لا يخلُونَ من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم ، وفي تمييز صفات التفاضل غموض ، وتطرق لتوقّع الخطإ وعروض ، وليس ذلك بسهللٍ على العقول المعرّضة للغفلة والخطإ . فإذا كان التفضيل قد أنبأ به ربّ الجميع ، ومَنْ إليه التفضيل ، فليس من قدْر النّاس أن يتصدّوا لوضع الرسل في مراتبهم ، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله .وهذا مورد الحديث الصحيح« لا تُفضّلوا بين الأنبياء » يعني به النهى عن التفضيل التفصيلي ، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال ، كما نقول : الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلاً . وقد ثبت أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل لما تظاهر من آيات تفضيله وتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه . وهي متقارنة الدلالة تنصيصاً وظهوراً . إلاّ أنّ كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملاً بقاعدة كثرة الظواهر تفيد القطع . وأعظمها آية { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنُنّ به ولتنصُرنَّه } [ آل عمران : 81 ] الآية .وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم « لا يقولَنّ أحَدُكُم أنا خير من يونس بن مَتَّى » يعني بقوله : « أنا » نفسه على أرجح الاحتمالين ، وقوله : « لا تُفَضِّلوني على مُوسَى » فذلك صدر قبل أن يُنبئَه اللَّهُ بأنّه أفضل الخلق عنده .وهذه الدرجات كثيرة عرَفْنَا منها : عمومَ الرسالة لكافة الناس ، ودوامَها طُولَ الدهر ، وختمها للرسالات ، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعْوذة ، وبدوام تلك المعجزة ، وإمكان أن يشاهدها كل من يؤهّل نفسه لإدراك الإعجاز ، وبابتناء شريعته على رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال ، وبتيسير إدانة معانديه له ، وتمليكه أرضهم وديارَهم وأموالَهم في زمن قصير ، وبجعل نقل معجزته متواتراً لا يجهلها إلاّ مُكابر ، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف ، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلى الله عليه وسلموقد عطف ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى عليهما السلام لشدة الشبه بين شريعَتَيْهما ، لأنّ شريعة موسى عليه السلام أوسع الشرائع ، ممّا قبلها ، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام .وتكليمُ الله موسى هو ما أوحاه إليه بدون واسطةِ جبريل ، بأن أسمعه كلاماً أيقن أنّه صادر بتكوين الله ، بأن خلق الله أصواتاً من لغة موسى تضمنت أصول الشريعة ، وسيجيء بيان ذلك عند قوله تعالى : { وكلَّم الله موسى تكليماً } [ النساء : 164 ] في سورة النساء .وقوله : { وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } البينات هي المعجزات الظاهرة البيّنة ، وروح القدس هو جبريل ، فإنّ الروح هنا بمعنى المَلَك الخاص كقوله : { تنزل الملائكة والروح فيها } [ القدر : 4 ] .والقُدُس بضم القاف وبضم الدال عند أهل الحجاز وسكونها عند بني تميمَ بمعنى الخلوص والنزاهة ، فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ولذلك يقال الروحُ القدس ، وقيل القُدُس اسم الله كالقدّوس فإضافة روح إليه إضافة أصلية ، أي روح من ملائكةِ الله .وروح القدس هو جبريل قال تعالى : { قل نزله روح القدس من ربك بالحق } [ النحل : 102 ] ، وفي الحديث : « إنّ رُوح القدس نفث في رُوعي أنّ نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها » وفي الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان :" اهجُهُم ومَعَك روحُ القدس " .وإنّما وصف عيسى بهذين مع أنّ سائر الرسل أيّدوا بالبيّنات وبروح القدس ، للرد على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته ، وللرد على النصارى الذين غلَوْا فزعموا ألوهيته ، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه مهما ذكر للتنبيه على أنّ ابن الإنسان لا يكون إلهاً ، وعلى أنّ مريم أمة الله تعالى لا صاحبة لأنّ العرب لا تذكر أسماء نسائِها وإنّما تكنى ، فيقولون ربّة البيت ، والأهل ، ونحو ذلك ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل ، أو أسماء الإماء .{ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .اعتراض بين الفذلكة المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها وبين الجملة { يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } [ البقرة : 254 ] ، فالواو اعتراضية : فإنّ ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بَيّنَتْ خصال الشجاعة والجبن وآثارهما ، المقصود منه تشريعاً وتمثيلاً قتالُ أهللِ الإيمان لأهللِ الكفر لإعلاءِ كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهُدى وإزهاق الضلال . بيّن اللَّه بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا : بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل ، ولو اتّبعوا الحق لسلموا وسالموا .ثم يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله : { من بعدهم } مراداً به جملة الرسّل أي ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود ، ومقاتلة الفلسطينيَّين لبني إسرائيل انتصاراً لأصنامهم ، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصاراً لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليَمن ، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناوَوْه وقاتلوا المسلمين أهلَه ، وهم المشركون الذين يزعمون أنّهم على ملة إبراهيم واليهودُ والنصارى ، ويكون المراد بالبيّنات دلائللِ صدق محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية بإنحاء على الذين عاندوا النبي وناووا المسلمين وقاتلوهم ، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرّع على قوله : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا } [ البقرة : 244 ] إلخ .ويجوز أن يكون ضمير «مِنْ بعدهم» ضميرَ الرسل على إرادة التوزيع ، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل ، فيكون مفيداً أنّ أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافاً واقتتالاً نشَآ من تكفير بعضهم بعضاً كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدِّين إلى حد عبادة الأوثان ، وكما وقع للنصارى في عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفَّر بعضهم بعضاً ، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالاً جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل ، وتقاتلت النصارى كذلك من جرّاء الخلاف بين اليعاقبة والمَلَكية قبل الإسلام ، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفّاراً لادّعائهم ألوهية المسيح ، فعظمت بذلك حروب بين فرَانسا وأسبانيا وجرمانيا وإنكلترا وغيرها من دول أوروبا .والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك ، وقد حَذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيراً متواتراً بقوله في خطبة حجة الوداع : " فَلاَ ترجعوا بعدي كُفّاراً يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعض " يحذّرهم ما يقع من حروب الردَّة وحروب الخوارج بدعوى التكفير ، وهذه الوصية من دلائللِ النبوءة العظيمة .وورد في «الصحيح» قوله : " إذا التقَى المسلمان بسيْفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النار " قيل يا رسول الله هذا القاتلُ ، فما بالُ المقتول ، قال : " أمَا إنَّه كان حريصاً على قتل أخيه " وذلك يفسّر بعضه بعضاً أنّه القتالَ على اختلاف العقيدة .والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقْبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عَرض الدنيا ، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا ، وشاء اختلافهم فاختلفوا ، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقديرِ لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلَوْ كقول طرفة: ... فلو شاء ربي كنتُ قيس بن خالدولو شاء ربي كنتُ عَمْرو بن مرثد ... وقوله : { ولمن اختلفوا } استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله : وهو ما اقتتل ، لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لِجواب لوْ وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لَمَا اقتتلوا . وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تَرْكَهم الاقتتال ، هو أنه خلَق داعية الاختلاف فيهم ، فبتلك الداعية اختلفوا ، فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع ، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطإ أهل الدين فيه إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به ، وإن كان المراد اختلاف أمممِ الرسل كللٍ للأخرى كما في قوله : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } [ البقرة : 113 ] ، فالإيمان والكفر في الآية ظاهر ، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتّبعه ومنهم من كفر به فعاداه ، فاقتتل الفريقان .وأياما كان المراد من الوجهين فإن قوله : { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل ، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يُعْمِهم سوء الفهم وقلة الهدى .لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام ، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسباباً لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب ، فأسباب الاختلاف إذَنْ مركوزة في الطباع ، ولهذَا قال تعالى : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } ثم قال : { ولكن اختلفوا } فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا ، لكنّ الخلاف مركوز في الجبلة . بيد أن الله تَعالى قد جعل أيضاً في العقول أصُولاً ضرورية قطعية أو ظنّية ظناً قريباً من القطع به تستطيع العقول أن تعيِّن الحق من مختلف الآراء ، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلاتُ البعيدة التي تحمِل عليها المكابرةُ أو كراهيةُ ظهور المغلوبيّة ، أو حُب المدحة من الأشياع وأهللِ الأغراض ، أو السعي إلى عَرَض عاجل من الدنيا ، ولو شاء الله ما غَرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافاً يدوم ، ولكن اختلفوا هذا الخلافَ فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر ، فلا عذر في القتال إلا لفريقين : مؤمن ، وكافر بما آمن به الآخر ، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم ، أما الخلاف الناشيء بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب قتال .ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها " لأنّه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل ، فرجع هو بإثم الكفر لأنّه المتسبب فيما يتسبب على الكفر ، ولأنّه إذا كان يرى بعضَ أحوال الإيمان كفراً ، فقد صار هو كافراً لأنّه جعل الإيمان كفراً . وقال عليه الصلاة والسلام : «فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ، فجعل القتال شعار التكفير . وقد صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافاً بلغ بهم إلى التكفير والقتال ، وأوّله خلاف الردة في زمن أبي بكر ، ثم خلاف الحرورية في زمن عليّ وقد كفَّروا علياً في قبوله تحكيم الحكمي ، ثم خلاف أتباع المقنَّع بخراسان الذي ادعى الإلاهية واتخذ وجهاً من ذهب ، وظهر سنة 159 وهلك سنة 163 ، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائِبة مِن الخلاف المذهبي لأنّهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفَروا وادّعوا الحلول أي حلول الرب في المخلوقات واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين ، وذلك من سنة 293 . واختلف المسلمون أيضاً خلافاً كثيراً في المذاهب جَرّ بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة ، وأكثرها حروب الخوارج غير المكفِّرين لبقية الأمة في المشرق ، ومقاتلات أبي يزيد النكارى الخارجي بالقيروان وغيرها سنة 333 ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة 407 ، ومقاتلة الشافعية والحنابلة ببغداد سنة 475 ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة 445 ، وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة 502 وزال الشر بينهم ، وقتال الباطنية المعروفين بالإسْمَاعِيلية لأهل السنة في سَاوَة وغيرها من سنة 494 إلى سنة 523 .ثم انقلبت إلى مقاتلات سياسية . ثم انقلبوا أنصاراً للإسلام في الحروب الصليبية ، وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل . لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظم الإسلام . وتطرّقت كل جهة منه حتى البلدِ الحرام .فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصاله العقول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائللِ التي يتفادون بها عن التقاتل ، فهم ملومون من هذه الجهة ، ومشيرة إلى أنّ الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدّوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصّر في العواقب قبل ذلك الإبّان ، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة ، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة ، ولذلك قال : { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } فأعاد { ولو شاء الله ما اقتتلوا } تأكيداً للأول وتمهيداً لقوله : { ولكن الله يفعل ما يريد } ليعلَمَ الواقف على كلام الله تعالى أنّ في هدى الله تعالى مقنعاً لهم لو أرادوا الاهتداء ، وأنّ في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكملَ من هذا الخَلق كما خلق الملائكةِ . فالله يخلق ما يشاء ولكنّه يكمل حال الخلق بالإرشاد والهدى ، وهم يفرّطون في ذلك .
الآية 253 - سورة البقرة: (۞ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ۘ منهم من كلم الله ۖ ورفع بعضهم درجات ۚ وآتينا عيسى ابن...)