سورة البقرة: الآية 24 - فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا...

تفسير الآية 24, سورة البقرة

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا۟ وَلَن تَفْعَلُوا۟ فَٱتَّقُوا۟ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ

الترجمة الإنجليزية

Fain lam tafAAaloo walan tafAAaloo faittaqoo alnnara allatee waqooduha alnnasu waalhijaratu oAAiddat lilkafireena

تفسير الآية 24

فإن عجَزتم الآن -وستعجزون مستقبلا لا محالة- فاتقوا النار بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى. هذه النار التي حَطَبُها الناس والحجارة، أُعِدَّتْ للكافرين بالله ورسله.

«فإن لم تفعلوا» ما ذكر لعجزكم «ولن تفعلوا» ذلك أبداً لظهور إعجازه- اعتراض «فاتقوا» بالإيمان بالله وانه ليس من كلام البشر «النارَ التي وقودها الناس» الكفار «والحجارة» كأصنامهم منها، يعني أنها مفرطة الحرارة تتقد بما ذكر، لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه «أعدَّت» هُيئت «للكافرين» يعذَّبون بها، جملة مستأنفة أو حال لازمة.

وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال: وإن كنتم معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله. وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم. وفي قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق. وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه. وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق. وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين. كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ وفي مقام الإنزال، فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ وفي قوله: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة. وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها

ولهذا قال تعالى : ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) ولن : لنفي التأبيد أي : ولن تفعلوا ذلك أبدا . وهذه - أيضا - معجزة أخرى ، وهو أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا وكذلك وقع الأمر ، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن ، وأنى يتأتى ذلك لأحد ، والقرآن كلام الله خالق كل شيء ؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ؟ !ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى ، قال الله تعالى : ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) [ هود : 1 ] ، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف ، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى ، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ، ونهى عن كل شر كما قال : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) [ الأنعام : 115 ] أي : صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام ، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء ، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ، كما قيل في الشعر : إن أعذبه أكذبه ، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر ، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع ، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ، ثم تجد له فيها بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته .وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير ، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة ، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة ، وسواء تكررت أم لا ، وكلما تكرر حلا وعلا ، لا يخلق عن كثرة الرد ، ولا يمل منه العلماء ، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ، فما ظنك بالقلوب الفاهمات ، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن ، كما قال في الترغيب : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) [ السجدة : 17 ] وقال : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ) [ الزخرف : 71 ] ، وقال في الترهيب : ( أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ) [ الإسراء : 68 ] ، ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ) [ الملك : 16 ، 17 ] وقال في الزجر : ( فكلا أخذنا بذنبه ) [ العنكبوت : 40 ] ، وقال في الوعظ : ( أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) [ الشعراء : 205 - 207 ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة ، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي ، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء ؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا ) فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه . ولهذا قال تعالى : ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) الآية [ الأعراف : 157 ] ، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم ، بشرت به وحذرت وأنذرت ؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى ، وثبتت على الطريقة المثلى ، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم ، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم .ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة لفظ مسلم . وقوله : وإنما كان الذي أوتيته وحيا أي : الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه ، بخلاف غيره من الكتب الإلهية ، فإنها ليست معجزة [ عند كثير من العلماء ] والله أعلم . وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته ، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ، ولله الحمد والمنة .[ وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية ، فقال : إن كان هذا القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته ، فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله ؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته ، كما قررنا ، إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر ) و إنا أعطيناك الكوثر ) ] .وقوله تعالى : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) أما الوقود ، بفتح الواو ، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه ، كما قال : ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) [ الجن : 15 ] وقال تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) [ الأنبياء : 98 ] .والمراد بالحجارة هاهنا : هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت ، أجارنا الله منها .قال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله تعالى : ( وقودها الناس والحجارة ) قال : هي حجارة من كبريت ، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا ، يعدها للكافرين . رواهابن جرير ، وهذا لفظه . وابن أبي حاتم ، والحاكم في مستدركه وقال : على شرط الشيخين .وقال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ) أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود ، يعذبون به مع النار .وقال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة . وقال أبو جعفر محمد بن علي : [ هي ] حجارة من كبريت . وقال ابن جريج : حجارة من كبريت أسود في النار ، وقال لي عمرو بن دينار : أصلب من هذه الحجارة وأعظم .[ وقيل : المراد بها : حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) الآية [ الأنبياء : 98 ] ، حكاه القرطبي وفخر الدين ورجحه على الأول ؛ قال : لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى ، وهذا الذي قاله ليس بقوي ؛ وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك ، ثم إن أخذ النار في هذه الحجارة - أيضا - مشاهد ، وهذا الجص يكون أحجارا فتعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك . وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها . وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها ، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال : ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) [ الإسراء : 97 ] . وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمى ويشتد لهبها قال : ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها ، قال : وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل مؤذ في النار وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف ثم قال القرطبي : وقد فسر بمعنيين ، أحدهما : أن كل من آذى الناس دخل النار ، والآخر : كل ما يؤذي فهو في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك ] .وقوله تعالى : ( أعدت للكافرين ) الأظهر أن الضمير في ( أعدت ) عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ، ويحتمل عوده على الحجارة ، كما قال ابن مسعود ، ولا منافاة بين القولين في المعنى ؛ لأنهما متلازمان .و ( أعدت ) أي : أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله ، كما قال [ محمد ] بن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( أعدت للكافرين ) أي : لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله : ( أعدت ) أي : أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها : تحاجت الجنة والنار ومنها : استأذنت النار ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف ، وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة ، الآن وصل إلى قعرها وهو عند مسلم وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى ، وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس .تنبيه ينبغي الوقوف عليه :قوله : ( فأتوا بسورة من مثله ) وقوله في سورة يونس : ( بسورة مثله ) [ يونس : 38 ] يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة ؛ لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه ، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها ، وهذا ما أعلم فيه نزاعا بين الناس سلفا وخلفا ، وقد قال الإمام العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره : فإن قيل : قوله : ( فأتوا بسورة من مثله ) يتناول سورة الكوثر وسورة العصر ، و ( قل يا أيها الكافرون ) ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن . فإن قلتم : إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة ، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين : قلنا : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ، وقلنا : إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن كذلك ، كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزا ، فعلى التقديرين يحصل المعجز ، هذا لفظه بحروفه . والصواب : أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة .قال الشافعي ، رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) [ سورة العصر ] . وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم ، فقال له مسيلمة : ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين ؟ فقال له عمرو : لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال : وما هي ؟ فقال : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل علي مثلها ، فقال : وما هو ؟ فقال : يا وبر يا وبر ، إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حقر فقر ، ثم قال : كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب .

ثم قال - تعالى - : ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة ) .المعنى : فإن لم تفعلوا أي : تعارضوا القرآن ، وتبين لكم أن أحداً لا يستطيع معارضته ، فخافوا العذاب الذي أعده الله للجاحدين وهو النار التي وقودها الناس والحجارة " .والوقود : ما يلقى في النار لإِضرامها كالحطب ونحوه ، والحجارة : الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله كما قال - تعالى - : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) واقتران المشركين بما كانوا يعبدون في النار مبالغة في إيلامهم وتحسيرهم والاقتصار على ذكر الناس والحجارة لا يؤخذ منه أن ليس في النار غيرهما بدليل ما ذكر في مواضع أخرى من القرآن أن الجن والشياطين يدخلونها .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : انتفاء إتيانهم بالسورة واجب فهلا جيء ب " إذا " الذي للوجوب دون " إن " الذي للشك؟ قلت : فيه وجهان :أحدهما : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم ، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام .والثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يعاديه : إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكماً به .وقال : فإن لم تفعلوا ، ولم يقل فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، لأن قوله ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ) جار مجرى الكناية التي تعطي اختصاراً ووجازة تغني عن طول المكنى عنه ، ولأن الإِتيان ما هو إلا فعل من الأفعال ، تقول : أتيت فلانا . فيقال لك : نعم ما فعلت .وجملة ( وَلَن تَفْعَلُواْ ) جملة معترضة بين الشرط والجزاء ، جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته . فإن في نفيها في المستقبل بإطلاق تأكيدا لنفيها في الحال .قال الإِمام الرازي : ( فإن قيل : فما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ فالجواب أنه إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : ( فاتقوا النار ) قائماً مقام قوله فاتركوا العناد ، وهذا هو الإِيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة ، وفيه تهويل لشأن العناد ، لإِنابه اتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار ) .ومعنى ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) هيئت لهم ، لأنهم الذين يخلدون فيها ، أو أنهم خصوا بها وإن كانت معدة للفاسقين - أيضاً لأنه يريد بذلك ناراً مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال - تعالى - ( إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار ) وفي هذه الآية الكريمة معجزة من نوع الإِخبار بالغيب ، إذ لم تقع المعارضة من أحد في أيام النبوة وفيما بعدها إلى هذا العصر .قال صاحب الكشاف : ( فإن قلت : من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو عليه حتى يكون معجزة؟ قلت : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه ، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال ، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من الذابين عنه ، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به ، فكان معجزة ) .وقال بعض العلماء : ( هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدي الكافرين بالتزيل الكريم ) . وقد تحداهم الله في غير موضع منه فقال في سورة القصص :( قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وقال في سورة الإِسراء : ( قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً )وقال في سورة يونس : ( أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وكل هذه الآيات مكية .ثم تحداهم أيضا في المدينة بهذه الآية ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) . . إلخ . فعجزوا عن آخرهم ، وهم فرسان الكلام ، وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يخص به غيرهم من الأمم ، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقه وفيهم غريزة وقوة . يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون ، ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر الحلال . . . ومع هذا فلم يتصد لمعارضة القرآن منهم أحد ، ولم ينهض - لمقدار سورة منه - ناهض من بلغائهم ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإِفراط في المضارة والمضادة . وقد جرد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجة أولا ، والسيف آخراً فلم يعارضوا إلا السيف وحده ، وما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أنهم أعجز من المعارضة ، وبذلك يظهر أن في قوله - تعالى - ( وَلَن تَفْعَلُواْ ) معجزة أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا . . .وحيث عجزت عرب ذلك العصر فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . . فدل على أن القرآن ليس من كلام البشر ، بل هو كلام خالق القوى والقدر أنزله تصديقاً لرسوله ، وتحقيقاً لمقوله . . .وبعد أن ذكر القرآن الكفار ومآلهم ، عطف على ذلك ذكر المؤمنين وما يفوزون به من نعيم في حياتهم الباقية ، كما هي سنة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد فقال - تعالى - :( وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا . . . )

فإن لم تفعلوا فيما مضى.ولن تفعلوا أبداً فيما بقي.وإنما قال ذلك لبيان الإعجاز وأن القرآن كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث عجزوا عن الإتيان بمثله.فاتقوا النار أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار.التي وقودها الناس والحجارة قال ابن عباس وأكثر المفسرين: يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهاباً، وقيل: جميع الحجارة وهودليل على عظمة تلك النار، وقيل: أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت منحوتة من الحجارة كما قال: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [98-الأنبياء].أعدت هُيِّئَت للكافرين.

قوله تعالى : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرينقوله تعالى : فإن لم تفعلوا يعني فيما مضى ولن تفعلوا أي تطيقوا ذلك فيما يأتي . والوقف على هذا على صادقين تام . وقال جماعة من المفسرين : معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا ، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار ، فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على صادقين .فإن قيل : كيف دخلت إن على لم ولا يدخل عامل على عامل ؟ فالجواب أن إن هاهنا غير عاملة في اللفظ ، فدخلت على لم كما تدخل على الماضي ; لأنها لا تعمل في لم كما لا تعمل في الماضي ، فمعنى إن لم تفعلوا إن تركتم الفعل .قوله تعالى ولن تفعلوا نصب ب " لن " ، ومن العرب من يجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة :فلن أعرض أبيت اللعن بالصفدوفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه : فقيل لي " لن ترع " . هذا على تلك اللغة . وفي قوله : " ولن تفعلوا " إثارة لهممهم ، وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها وقال ابن كيسان : ولن تفعلوا توقيفا لهم على أنه الحق ، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب ، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر ، وأنه أساطير الأولين ، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله .وقوله : فاتقوا النار جواب ( فإن لم تفعلوا ) أي اتقوا النار بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى . وقد تقدم معنى التقوى فلا معنى لإعادتها . ويقال : إن لغة تميم وأسد " فتقوا النار " . وحكى سيبويه : تقى يتقي ، مثل قضى يقضي . " النار " مفعولة . ( التي ) من نعتها . وفيها ثلاث لغات : التي واللت ( بكسر التاء ) واللت ( بإسكانها ) . وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة ، ولا يجوز نزع الألف واللام منها للتنكير ، ولا تتم إلا بصلة ، وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضا : اللتان واللتا ( بحذف النون ) واللتان ( بتشديد النون ) وفي جمعها خمس لغات : اللاتي ، وهي لغة القرآن . واللات ( بكسر التاء بلا ياء ) . واللواتي . واللوات ( بلا ياء ) ، وأنشد أبو عبيدة :من اللواتي واللتي واللاتي زعمن أن قد كبرت لداتيواللوا ( بإسقاط التاء ) ، هذا ما حكاه الجوهري وزاد ابن الشجري : اللائي ( بالهمز وإثبات الياء ) . واللاء ( بكسر الهمزة وحذف الياء ) . واللا ( بحذف الهمزة ) فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي : اللواتي وفي اللائي : اللوائي . قال الجوهري : وتصغير التي اللتيا ( بالفتح والتشديد ) ، قال الراجز العجاج :بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها أنفس تردتوبعض الشعراء أدخل على " التي " حرف النداء ، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا : يا الله ، وحده . فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها ، وقال :من أجلك يا التي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عنيويقال : وقع فلان في اللتيا والتي ، وهما اسمان من أسماء الداهية . والوقود ( بالفتح ) : الحطب . وبالضم : التوقد . والناس عموم ، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها ، أجارنا الله منها . والحجارة هي حجارة الكبريت الأسود - عن ابن مسعود والفراء - وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، نتن الرائحة ، كثرة الدخان ، شدة الالتصاق بالأبدان ، قوة حرها إذا حميت . وليس في قوله تعالى : وقودها الناس والحجارة دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها . وقيل : المراد بالحجارة الأصنام ، لقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أي حطب جهنم . وعليه فتكون الحجارة والناس وقودا للنار وذكر ذلك تعظيما للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس . وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة . وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل مؤذ في النار . وفي تأويله وجهان : أحدهما - أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار . الثاني - أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار . وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة . والله أعلم . روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت : يا رسول الله ، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل نفعه ذلك ؟ قال : ( نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح - في رواية - ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) . وقودها مبتدأ . الناس خبره . والحجارة عطف عليهم . وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف : " وقودها " ( بضم الواو ) . وقرأ عبيد بن عمير : " وقيدها الناس " . قال الكسائي والأخفش : الوقود ( بفتح الواو ) : الحطب ، و ( بالضم ) : الفعل ، يقال : وقدت النار تقد وقودا ( بالضم ) ووقدا وقدة ووقيدا ووقدا ووقدانا ، أي توقدت . وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا . والاتقاد مثل التوقد ، والموضع موقد ، مثل مجلس ، والنار موقدة . والوقدة : شدة الحر ، وهي عشرة أيام أو نصف شهر . قال النحاس : يجب على هذا ألا يقرأ إلا " وقودها " بفتح الواو ; لأن المعنى حطبها ، إلا أن الأخفش قال : وحكي أن بعض العرب يجعل الوقود والوقود بمعنى الحطب والمصدر . قال النحاس : وذهب إلى أن الأول أكثر ، قال : كما أن الوضوء الماء ، والوضوء المصدر .قوله تعالى : أعدت للكافرين ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك ، بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة ، على ما يأتي . وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة ، خلافا للمبتدعة في قولهم إنها لم تخلق حتى الآن . وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي . روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تدرون ما هذا قال قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها . وروى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتجت النار والجنة فقالت هذه : يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه : يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه : أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها . وأخرجه مسلم بمعناه . يقال : احتجت بمعنى تحتج ، للحديث المتقدم حديث ابن مسعود ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أريهما في صلاة الكسوف ، ورآهما أيضا في إسرائه ودخل الجنة ، فلا معنى لما خالف ذلك . وبالله التوفيق . وأعدت يجوز أن يكون حالا للنار على معنى معدة ، وأضمرت معه قد ، كما قال : أو جاءوكم حصرت صدورهم فمعناه قد حصرت صدورهم ، فمع ( حصرت ) قد مضمرة لأن الماضي لا يكون حالا إلا مع قد ، فعلى هذا لا يتم الوقف على الحجارة . ويجوز أن يكون كلاما منقطعا عما قبله ، كما قال : " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " . وقال السجستاني : " أعدت للكافرين " من صلة " التي " كما قال في آل عمران : واتقوا النار التي أعدت للكافرين . ابن الأنباري : وهذا غلط ; لأن التي في سورة البقرة قد وصلت بقوله : وقودها الناس فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية ، وفي آل عمران ليس لها صلة غير ( أعدت ) .

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُواقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فإن لم تفعلوا "، إن لم تأتوا بسورة من مثله, فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم (172) ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه, وعلمتم أنه من عندي, ثم أقمتم على التكذيب به.وقوله: " ولن تفعلوا "، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا.501- كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا "، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه (173) .502- حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا "، فقد بَين لكم الحق (174) .القول في تأويل قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُقال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله " فاتقوا النار "، يقول: فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي, بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي, وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي, بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها, وأن الحجارة وَقُودها, فقال: " التي وَقودها الناس والحجارة "، يعني بقوله: " وَقُودُها " حَطبها, والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنزلة الحطب.فإذا ضَمت الواو من " الوقود " كان مصدرًا من قول القائل: وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا, يراد بذلك أنها التهبتْ.فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا؟ص[1-381 ]قيل: إنها حجارةُ الكبريت, وهي أشد الحجارة -فيما بلغنا- حرًّا إذا أحميت.503- كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد, عن عبد الرحمن بن سَابط, عن عمرو بن ميمون, عن عبد الله بن مسعود، في قوله: " وقُودها الناس والحجارة "، قال: هي حجارة من كبريت، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين.504- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا ابن عُيينة, عن مِسعر، عن عبد الملك الزرَّاد، عن عمرو بن ميمون, عن ابن مسعود في قوله: " وقودها الناسُ والحجارة "، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء (175) .505- حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة "، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار (176) .506- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج في قوله: " وقودها الناس والحجارة "، قال: حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم (177) .507- حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة, عن عبد الرحمن بن سابط, عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود, قال: حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء (178) .* * *القول في تأويل قوله: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن " الكافر " في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء (179) ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا، لجحوده آلاءه عنده, وتغطيته نَعماءَه قِبَله.فمعنى قوله إذًا: " أعدت للكافرين "، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم, الذي جَعل لهم الأرض فراشًا, والسماء بناءً, وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة (180) ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق (181) .508- كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: " أعدت للكافرين "، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر (182) .---------------الهوامش :(172) في المطبوعة : "وقد تظاهرتم" ، وما في المخطوطة أجود ، وسيأتي بعد قليل بيان ذلك .(173) الأثر 501- ذكره السيوطي 1 : 35 بنحوه ، ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير . وكتب فيه خطأ مطبعيًّا"ابن جريج" .(174) الأثران 501 ، 502- في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 . ولفظ الطبري في تفسير هذه الآية وفي التي تليها ، وما استدل به من الأثر الأخير ، يدل على أنه يرى أن جواب الشرط محذوف ، لأنه معلوم قد دل عليه السياق؛ وجواب الشرط"فقد بين لكم الحق ، وأقمتم على التكذيب به وبرسولي" ، ثم قال مستأنفًا : "فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي ، أنه جاءكم بوحيي وتنزيلي ، بعد أن تبين لكم أنه كتابي ومن عندي" .ولم أجد من تنبه لهذا غير الزمخشري ، فإنه قال في تفسير الآية من كتابه"الكشاف" ما نصه : "فإن قلت : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار ، انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت : إنهم إذا لم يأتوا بها ، وتبين عجزهم عن المعارضة ، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا صح عندهم صدقه ، ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا ، استوجبوا العقاب بالنار . فقيل لهم : إن استبنتم العجز فاتركوا العناد . فوضع"فاتقوا النار" موضعه ، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد ، من حيث إنه من نتائجه . لأن من اتقى النار ترك المعاندة . ونظيره أن يقول الملك لحشمه : "إن أردتم الكرامة عندي ، فاحذروا سخطي" . يريد : فأطيعوني واتبعوا أمري ، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط . وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة . وفائدته : الإيجاز ، الذي هو حلية القرآن ، وتهويل شأن العناد ، بإنابة اتقاء النار منابه ، وإبرازه في صورته ، مشيعًا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها" .فقد تبين بهذا مراد الطبري ، وأنه أراد أن يبين أن اتقاء النار غير داخل في الشرط ، ولا هو من جوابه ، ليخرج بذلك من أن يكون معنى الكلام : قصر اتقائهم النار ، على عجزهم عن الإتيان بمثله . وتفسير الآتي دال على هذا المعنى تمام الدلالة . وهو من دقيق نظر الطبري رحمه الله وغفر للزمخشري .(175) الخبر 503 ، 504- مسعر ، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين : هو ابن كدام - بكسر الكاف وتخفيف الدال ، وهو ثقة معروف ، أحد الأعلام . عبد الملك بن مَيسرة الهلالي الكوفي الزراد ، نسبة إلى عمل الزرود : ثقة كثير الحديث ، من صغار التابعين . عبد الرحمن بن سابط الجمحي المكي : تابعي ثقة . عمرو بن ميمون الأودي : من كبار التابعين المخضرمين ، كان مسلمًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يره .وهذا الخبر رواه الطبري بهذين الإسنادين وبالإسناد الآتي : 507 . وفي الأول والثالث أن عبد الملك ابن ميسرة يرويه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون ، وفي الثاني : 504"عبد الملك الزراد عن عمرو بن ميمون" مباشرة ، بحذف"عبد الرحمن بن سابط" . ولو كان هذا الإسناد وحده لحمل على الاتصال ، لوجود المعاصرة ، فإن عبد الملك الزراد يروي عن ابن عمر المتوفى سنة 74 ، وعمرو بن ميمون مات سنة 74 أو 75 . ولكن هذين الإسنادين : 503 ، 504 دلا على أنه إنما رواه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون .والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 261 ، من طريق محمد بن عبيد عن مسعر عن عبد الملك الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود . فهذه طريق ثالثة تؤيد الطريقين اللذين فيهما زيادة عبد الرحمن في الإسناد . وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي . وذكره ابن كثير 1 : 1101 - 111 من رواية الطبري ، ونسبه لابن أبي حاتم والحاكم ، ونقل تصحيحه إياه ولم يتعقبه . وذكره السيوطي 1 : 36 وزاد نسبته إلى : عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وهناد بن السري في كتاب الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني في الكبير ، والبيهقي في الشعب .(176) الخبر 505- ذكره ابن كثير 1 : 111 دون أن ينسبه ، والسيوطي 1 : 36 ، ونسبه لابن جرير وحده .(177) الأثر 506- في ابن كثير 1 : 111 دون نسبة .(178) الخبر 507- سبق تفصيل إخراجه مع 503 ، 504 .(179) انظر ما مضى : 255 .(180) قوله"المشركين" من صفة قوله آنفًا : "للجاحدين" .(181) في المخطوطة : "بالأشياء" ، وهو خطأ .(182) الخبر 508- في ابن كثير 1 : 111 ، والدر المنثور 1 : 36 ، والشوكاني 1 : 41 .

تفريع على الشرط وجوابه ، أي فإن لم تأتوا بسورة أو أتيتم بما زعمتم أنه سورة ولم يستطع ذلك شهداؤكم على التفسيرين فاعلموا أنكم اجترأتم على الله بتكذيب رسوله المؤيد بمعجزة القرآن فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم .ومفعول { تفعلوا } محذوف يدل عليه السياق أي فإن لم تفعلوا ذلك أي الإتيان بسورة مثله وسيأتي الكلام على حذف المفعول في مثله عند قوله تعالى : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته } في سورة المائدة ( 67 ) .وجيء بإن الشرطية التي الأصل فيها عدم القطع مع أن عدم فعلهم هو الأرجح بقرينة مقام التحدي والتعجيز؛ لأن القصد إظهار هذا الشرط في صورة النادر مبالغة في توفير دواعيهم على المعارضة بطريق الملاينة والتحريض واستقصاء لهم في إمكانها وذلك من استنزال طائر الخصم وقيد لأوابد مكابرته ومجادلة له بالتي هي أحسن حتى إذا جاء للحق وأنصف من نفسه يرتَقي معه في درجات الجدل؛ ولذلك جاء بعده ولن تفعلوا } كأن المتحدي يتدبر في شأنهم ، ويزن أمرهم فيقول أولاً ائتوا بسورة ، ثم يقول : قدروا أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله وأعدوا لهاته الحالة مخلصاً منها ثم يقول : ها قد أيقنت وأيقنتم أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله ، مع ما في هذا من توفير دواعيهم على المعارضة بطريق المخاشنة والتحذير .ولذلك حسن موقع ( لن ) الدالة على نفي المستقبل فالنفي بها آكد من النفي بلا ، ولهذا قال سيبويه لا لنفي يفعل ، ولن لنفي سيفعل فقد قال الخليل إن لن حرف مختزل من لا النافية وأن الاستقبالية وهو رأي حسن وإذا كانت لنفي المستقبل تدل على النفي المؤبد غالباً لأنه لما لم يوقت بحد من حدود المستقبل دل على استغراق أزمنته إذ ليس بعضها أولى من بعض ومن أجل ذلك قال الزمخشري بإفادتها التأبيد حقيقة أو مجازاً وهو التأكيد ، وقد استقريت مواقعها في القرآن وكلام العرب فوجدتها لا يؤتى بها إلا في مقام إرادة النفي المؤكد أو المؤبد . وكلام الخليل في أصل وضعها يؤيد ذلك فمن قال من النحاة إنها لا تفيد تأكيداً ولا تأبيداً فقد كابر .وقوله : { ولن تفعلوا } من أكبر معجزات القرآن فإنها معجزة من جهتين : الأولى أنها أثبتت أنهم لم يعارضوا لأن ذلك أبعث لهم على المعارضة لو كانوا قادرين ، وقد تأكد ذلك كله بقوله قبل { إن كنتم صادقين } [ البقرة : 23 ] وذلك دليل العجز عن الإتيان بمثله فيدل على أنه كلام مَن قدرتهُ فوق طوق البشر . 5 الثانية أنه أخبر بأنهم لا يأتون بذلك في المستقبل فما أتى أحد منهم ولا ممن خلَفهم بما يعارض القرآن فكانت هاته الآية معجزة من نوع الإعجاز بالإخبار عن الغيب مستمرة على تعاقب السنين فإن آيات المعارضة الكثيرة في القرآن قد قرعت بها أسماع المعاندين من العرب الذين أبوا تصديق الرسول وتواترت بها الأخبار بينهم وسارت بها الركبان بحيث لا يسع ادعاء جهلها ، ودواعي المعارضة موجودة فيهم ، ففي خاصتهم بما يأنسونه من تأهلهم لقول الكلام البليغ وهم شعراؤهم وخطباؤهم .وكانت لهم مجامع التقاول ونوادي التشاور والتعاون ، وفي عامتهم وصعاليكهم بحرصهم على حث خاصتهم لدفع مسبة الغلبة عن قبائلهم ودينهم والانتصار لآلهتهم وإيقاف تيار دخول رجالهم في دين الإسلام ، مع ما عرف به العربي من إباءة الغلبة وكراهة الاستكانة . فما أمسك الكافة عن الإتيان بمثل القرآن إلا لعجزهم عن ذلك وذلك حجة على أنه منزل من عند الله تعالى ، ولو عارضه واحد أو جماعة لطاروا به فرحاً وأشاعوه وتناقلوه فإنهم اعتادوا تناقل أقوال بلغائهم من قبل أن يغريهم التحدي فما ظنك بهم لو ظفروا بشيء منه يدفعون به عنهم هذه الاستكانة وعدم العثور على شيء يدعى من ذلك يوجب اليقين بأنهم أمسكوا عن معارضته ، وسنبين ذلك بالتفصيل في آخر تفسير هذه الآية .و { تفعلوا } الأول مجزوم بلم لا محالة لأن ( إن ) الشرطية دخلت على الفعل بعد اعتباره منفياً فيكون معنى الشرط متسلطاً على ( لم ) وفعلها فظهر أن ليس هذا متنازع بين إن ولم في العمل في { تفعلوا } لاختلاف المعنيين فلا يفرض فيه الاختلاف الواقع بين النحاة في صحة تنازع الحرفين معمولاً واحداً كما توهمه ابن العلج أحد نحاة الأندلس نسبه إليه في «التصريح على التوضيح» على أن الحق أنه لا مانع منه مع اتحاد الاقتضاء من حيث المعنى وقد أخذ جوازه من كلام أبي علي الفارسي في «المسائل الدمشقيات» ومن كتاب «التذكرة» له أنه جعل قول الراجز :حتى تراها وكأنَّ وكأنْ ... أعناقُها مُشَرَّفَات في قَرَنمن قبيل التنازع بين كأنَّ المشددة وكأنْ المخففة .وقوله : { فاتقوا النار } أثر لجواب الشرط في قوله : { فإن لم تفعلوا } دل على جمل محذوفة للإيجاز لأن جواب الشرط في المعنى هو ما جيء بالشرط لأجله وهو مفاد قوله : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } [ البقرة : 23 ] ، فتقدير جواب قوله { فإن لم تفعلوا } أنه : فأيقنوا بأن ما جاء به محمد منزل من عندنا وأنه صادق فيما أمركم به من وجوب عبادة الله وحده واحذروا إن لم تمتثلوا أمره عذاب النار ، فوقع قوله : { فاتقوا النار } موقع الجواب لدلالته عليه وإيذانه به وهو إيجاز بديع وذلك أن اتقاء النار لم يكن مما يؤمنون به من قبل لتكذيبهم بالبعث فإذا تبين صدق الرسول لزمهم الإيمان بالبعث والجزاء .وإنما عُبّر بلم تفعلوا ولن تفعلوا دون فإن لم تأتوا بذلك ولن تأتوا كما في قوله تعالى : { ائتوني بأخ لكم من أبيكم } إلى قوله : { فإن لم تأتوني به } [ يوسف : 59 ، 60 ] الخ لأن في لفظ { تفعلوا } هنا من الإيجاز ما ليس مثلُه في الآية الأخرى إذ الإتيان المتحدَّى به في هذه الآية إتيان مكيف بكيفية خاصة وهي كون المأتيِّ به مثلَ هذا القرآن ومشهوداً عليه ومستعاناً عليه بشهدائهم فكان في لفظ { تفعلوا } من الإحاطة بتلك الصفات والقيود إيجاز لا يقتضيه الإتيان الذي في سورة يوسف .والوَقود بفتح الواو اسم لما يوقد به ، وبالضم مصدر وقيل بالعكس ، وقال ابن عطية حُكي الضم والفتح في كل من الحطب والمصدر . وقياس فَعول بفتح الفاء أنه اسم لما يُفعل به كالوَضوء والحَنوط والسَّعوط والوَجور إلاَّ سبعة ألفاظ وردت بالفتح للمصدر وهي الوَلوع والقَبول والوَضوء والطَّهور والوَزوع واللَّغوب والوَقود . والفتح هنا هو المتعين لأن المراد الاسم وقرىء بالضم في الشاذ وذلك على اعتبار الضم مصدراً أو على حذف مضاف أي ذَوُو وَقودِها الناسُ .والناس أريد به صنف منهم وهم الكافرون فتعريفه تعريف الاستغراق العرفي ويجوز أن يكون تعريف العهد لأن كونهم المشركين قد علم من آيات أخرى كثيرة .والحجارة جمع حجر على غير قياس وهو وزن نادر في كلامهم جمعوا حجراً عن أحجار وألحقوا به هاء التأنيث قال سيبويه كما ألحقوها بالبُعولة والفُحولة . وعن أبي الهيثم أن العرب تدخل الهاء في كل جمع على فِعال أو فُعول لأنه إذا وقف عليه اجتمع فيه عند الوقف ساكنان أحدهما الألف الساكنة والثاني الحرف الموقوف عليه أي استحسنوا أن يكون خفيفاً إذا وقفوا عليه ، وليس هو من اجتماع الساكنين الممنوع ، ومن ذلك عِظامة ونِفارة وفِحالة وحِبالة وذِكارة وفُحولة وحُمولة ( جموعاً ) وبِكارة جمع بَكرٍ ( بفتح الباء ) ومِهارة جمع مُهر .ومعنى وقودها الحجارة أن الحجر جعل لها مكانَ الحطب لأنه إذا اشتعل صار أشد إحراقاً وأبطأَ انطفاءً ومن الحجارة أصنامهم فإنها أحجار وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصَب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] .وفي هذه الآية تعريض بتهديد المخاطبين والمعنى المعرض به فاحذروا أن تكونوا أنتم وما عبدتم وَقود النار وقرينة التعريض قوله : { فاتقوا } وقوله : { والحجارة } لأنهم لما أمروا باتقائها أَمْرَ تحذير علموا أنهم هم الناس ، ولما ذكرت الحجارة علموا أنها أصنامهم ، فلزم أن يكون الناس هم عُبَّاد تلك الأصنام فالتعريض هنا متفاوت فالأول منه بواسطة واحدة والثاني بواسطتين .وحكمة إلقاء حجارة الأصنام في النار مع أنها لا تظهر فيها حكمة الجزاء أن ذلك تحقير لها وزيادةُ إظهارِ خطإ عَبَدَتِها فيما عَبَدوا ، وتكررٌ لحسرتهم على إهانتها ، وحسرتِهم أيضاً على أنْ كان ما أعدوه سبباً لعزهم وفخرهم سبباً لعذابهم ، وما أعدوه لنجاتهم سبباً لعذابهم ، قال تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } الآية .وتعريف ( النار ) للعهد ووصفها بالموصول المقتضي علم المخاطبين بالصلة كما هو الغالب في صلة الموصول لتنزيل الجاهل منزلة العالم بقصد تحقيق وجود جهنم ، أو لأن وصف جهنم بذلك قد تقرر فيما نزل قبلُ من القرآن كقوله تعالى في سورة التحريم ( 6 ) :{ يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } وإن كانت سورة التحريم معدودة في السور التي نزلت بعد سورة البقرة فإن في صحة ذلك العد نظراً ، أو لأنه قد عُلم ذلك عندهم من أخبار أهل الكتاب .وفي جعل الناس والحجارة وقوداً دليل على أن نار جهنم مشتعلة من قبل زَجِّ الناس فيها وأن الناس والحجارة إنما تتقد بها لأن نار جهنم هي عنصر الحرارة كلها كما أشار إليه حديث الموطأ } : « إن شدة الحر من فيح جهنم » فإذا اتصل بها الآدمي اشتعل ونضج جلده وإذا اتصلت بها الحجارة صهرت ، وفي الاحتراق بالسيال الكهربائي نموذج يقرِّب ذلك للناس اليوم . وروي عن ابن عباس أن جهنم تتقد بحجارة الكبريت فيكون نَموذَجُها البراكين الملتهبة .وقوله : { أعدت للكافرين } استئناف لم يُعطف لقصد التنبيه على أنه مقصود بالخبرية لأنه لو عطف لأوهم العطف أنه صفة ثانية أو صلة أخرى وجعلة خبراً أهول وأفخم وأدخل للروع في قلوب المخاطبين وهو تعريض بأنها أعدت لهم ابتداء لأن المحاورة معهم .وهذه الآية قد أثبتت إعجاز القرآن إثباتاً متواتراً امتاز به القرآن عن بقية المعجزات ، فإن سائر المعجزات للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام إنما ثبتت بأخبار آحاد وثبت من جميعها قدر مشترك بين جميعها وهو وقوع أصل الإعجاز بتواتر معنوي مثل كرم حاتم وشجاعة عمرو فأما القرآن فإعجازه ثبت بالتواتر النقلي أدرك معجزته العرب بالحس ، وأدركها عامة غيرهم بالنقل ، وقد تدركها الخاصة من غيرهم بالحس كذلك على ما سنبينه .أما إدراك العرب معجزة القرآن فظاهر من هذه الآية وأمثالها فإنهم كذبوا النبيء صلى الله عليه وسلم وناوؤُه وأعرضوا عن متابعته فحاجهم على إثبات صدقه بكلام أوحاه الله إليه ، وجعل دليل أنه من عند الله عجزهم عن معارضته فإنه مركب من حروف لغتهم ومن كلماتها وعلى أساليب تراكيبها ، وأودع من الخصائص البلاغية ما عرفوا أمثاله في كلام بلغائهم من الخطباء والشعراء ثم حاكمهم إلى الفصل في أمر تصديقه أو تكذيبه بحكم سهل وعدل ، وهو معارضتهم لما أتى به أو عجزهم عن ذلك نطق بذلك القرآن في غير موضع كهاته الآية فلم يستطيعوا المعارضة فكان عجزهم عن المعارضة لا يعدو أمرين : إما أن يكون عجزهم لأن القرآن بلغ فيما اشتمل عليه من الخصائص البلاغية التي يقتضيها الحال حد الإطاقة لأذهان بلغاء البشر بالإحاطة به ، بحيث لو اجتمعت أذهانهم وانقدحت قرائحهم وتآمروا وتشاوروا في نواديهم وبطاحهم وأسواق موسمهم ، فأبدى كل بليغ ما لاح له من النكت والخصائص لوجدوا كل ذلك قد وفت به آيات القرآن في مثله وأتت بأعظم منه ، ثم لو لحق بهم لاحق ، وخلف من بعدهم خلف فأبدى ما لم يبدوه من النكت لوجد تلك الآية التي انقدحت فيها أفهام السابقين وأحصت ما فيها من الخصائص قد اشتملت على ما لاح لهذا الأخير وأوفر منه ، فهذا هو القدر الذي أدركه بلغاء العرب بفطرهم ، فأعرضوا عن معارضته علماً بأنهم لا قبل لهم بمثله ، وقد كانوا من علو الهمة ورجاحة الرأي بحيث لا يعرضون أنفسهم للافتضاح ولا يرضون لأنفسهم بالانتقاص لذلك رأوا الإمساك عن المعارضة أجدى بهم واحتملوا النداء عليهم بالعجز عن المعارضة في مثل هذه الآية ، لعلهم رأوا أن السكوت يقبل من التأويل بالأنفة ما لا تقبله المعارضة القاصرة عن بلاغة القرآن فثبت أنه معجز لبلوغه حداً لا يستطيعه البشر فكان هذا الكلام خارقاً للعادة ودليلاً على أن الله أوجده كذلك ليكون دليلاً على صدق الرسول فالعجز عن المعارضة لهذا الوجه كان لعدم القدرة على الإتيان بمثله وهذا هو رأي جمهور أهل السنة والمعتزلة وأعيان الأشاعرة مثل أبي بكر الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وهو المشهور عن الأشعري .وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ممكنة منهم المعارضة ولكنهم صرفهم الله عن التصدي لها مع توفر الدواعي على ذلك فيكون صدهم عن ذلك مع اختلاف أحوالهم أمراً خارقاً للعادة أيضاً وهو دليل المعجزة ، وهذا مذهب من قول ذهب إليه فريق وقد ذكره أبو بكر الباقلاني في كتابه في «إعجاز القرآن» ولم يعين له قائلاً وقد نسبه التفتزاني في كتاب «المقاصد» إلى القائلين إن الإعجاز بالصرفة وهو قول النظام من المعتزلة وكثير من المعتزلة ونسبه الخفاجي إلى أبي إسحاق الإسفرائيني ونسبه عياض إلى أبي الحسن الأشعري ولكنه لم يشتهر عنه وقال به الشريف المرتضى من الشيعة كما في «المقاصد» وهو مع كونه كافياً في أن عجزهم على المعارضة بتعجيز الله إياهم هو مسلك ضعيف . وقد تقدم الكلام على وجوه إعجاز القرآن تفصيلاً في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير .فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون ترك العرب للمعارضة تعاجزاً لا عجزاً؟ وبعد فمن آمننا أن يكون العرب قد عارضوا القرآن ولم ينقل إلينا ما عارضوا به؟ قلت يستحيل أن يكون فعلهم ذلك تعاجزاً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث في أمة مناوئة له معادية لا كما بعث موسى في بني إسرائيل موالين معاضدين له ومشايعين فكانت العرب قاطبة معارضة للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ كذبوه ولمزوه بالجنون والسحر وغير ذلك لم يتبعه منهم إلا نفر قليل مستضعفين بين قومهم لا نصير لهم في أول الدعوة ثم كان من أمر قومه أن قاطعوه ثم أمروه بالخروج بين هم بقتله واقتصار على إخراجه كل هذا ثبت عنهم في أحاديثهم وأقوالهم المنقولة نقلاً يستحيل تواطؤنا عليه على الكذب وداموا على مناوأته بعد خروجه كذلك يصدونه عن الحج ويضطهدون أتباعه إلى آخر ما عرف في التاريخ والسير ولم تكن تلك المناوأة في أمد قصير يمكن في خلاله كتم الحوادث وطي نشر المعارضة فإنها مدة تسع عشرة سنة إلى يوم فتح مكة .لا جرم أن أقصى رغبة لهم في تلك المدة هي إظهار تكذيبه انتصاراً لأنفسهم ولآلهتهم وتظاهراً بالنصر بين قبائل العرب كل هذا ثبت بالتواتر عند جميع الأمم المجاورة لهم من فرس وروم وقبط وأحباش .ولا جرم أن القرآن قصر معهم مسافة المجادلة وهيأ لهم طريق إلزامه بحقية ما نسبوه إليه فأتاهم كتاباً منزلاً نجوماً ودعاهم إلى المعارضة بالإتيان بقطعة قصيرة مثله وأن يجمعوا لذلك شهداءهم وأعوانهم نطق بذلك هذا الكتاب ، كل هذا ثبت بالتواتر فإن هذا الكتاب متواتر بين العرب ولا يخلو عن العلم بوجوده أهل الدين من الأمم وإن اشتماله على طلب المعارضة ثابت بالتواتر المعلوم لدينا فإنه هو هذا الكتاب الذي آمن المسلمون قبل فتح مكة به وحفظوه وآمن به جميع العرب أيضاً بعد فتح مكة فألفوه كما هو اليوم شهدت على ذلك الأجيال جيلاً بعد جيل .وقد كان هؤلاء المتحدون المدعوون إلى المعارضة بالمكانة المعروفة من أصالة الرأي واستقامة الأذهان ، ورجحان العقول وعدم رواج الزيف عليهم ، وبالكفاءة والمقدرة على التفنن في المعاني والألفاظ تواتر ذلك كله عنهم بما نقل من كلامهم نظماً ونثراً وبما اشتهر وتواتر من القدر المشترك من بين المرويات من نوادرهم وأخبارهم فلم يكن يعوزهم أن يعارضوه لو وجدوه على النحو المتعارف لديهم فإن صحة أذهانهم أدركت أنه تجاوز الحد المتعارف لديهم فلذلك أعرضوا عن المعارضة مع توفر داعيهم بالطبع وحرصهم لو وجدوا إليه سبيلاً ثبت إعراضهم عن المعارضة بطريق التواتر إذ لو وقع مثل هذا لأعلنوه وأشاعوه وتناقله الناس لأنه من الحوادث العظيمة فعدلوا عن المعارضة باللسان إلى المحاربة والمكافحة ، ثبت ذلك بالتواتر لا محالة عند أهل التاريخ وغيرهم .وأياً ما جعلت سبب إعراضهم عن المعارضة من خروج كلامه عن طوق البشر أو من صرف الله أذهانهم عن ذلك فهو دليل على أمر خارق للعادة كان بتقدير من خالق القدر ومعجز البشر .ووراء هذا كله دليل آخر يعرفنا بأن العرب بحسن فطرتهم قد أدركوا صدق الرسول وفطنوا لإعجاز القرآن وأنه ليس بكلام معتاد للبشر وأنهم ما كذبوا إلا عناداً أو مكابرة وحرصاً على السيادة ونفوراً من الاعتراف بالخطأ ، ذلك الدليل هو إسلام جميع قبائل العرب وتعاقبهم في الوفادة بعد فتح مكة فإنهم كانوا مقتدين بقريش في المعارضة مكبرين المتابعة لهذا الدين خشية مسبة بعضهم وخاصة قريش ومن ظاهرهم ، فلما غلبت قريش لم يبق ما يصد بقية العرب عن المجيء طائعين معترفين عن غير غلب فإنهم كانوا يستطيعون الثبات للمقارعة أكثر مما ثبتت قريش إذ قد كان من تلك القبائل أهل البأس والشدة من عرب نجد وطىء وغيرهم ممن اعتز بهم الإسلام بعد ذلك فإنه ليس مما عرف في عوائد الأمم وأخلاقها أن تنبذ قبائل عظيمة كثيرة أدياناً تعتقد صحتها وتجيء جميعها طائعاً نابذاً دينه في خلال أشهر من عام الوفود لم يجمعهم فيه ناد ولم تسر بينهم سفراء ولا حشرهم مجمع لولا أنهم كانوا متهيئين لهذا الاعتراف لا يصدهم عنه إلا صاد ضعيف وهو المكابرة والمعاندة .ثم في هذه الآية معجزة باقية وهي قوله : { ولن تفعلوا } فإنها قد مرت عليها العصور والقرون وماصدقها واضح إذ لم تقع المعارضة من أحد من المخاطبين ولا ممن لحقهم إلى اليوم .فإن قلت : ثبت بهذا أن القرآن معجز للعرب وبذلك ثبت لديهم أنه معجزة وثبت لديهم به صدق الرسول ولكن لم يثبت ذلك لمن ليس مثلهم فما هي المعجزة لغيرهم؟ قلت إن ثبوت الإعجاز لا يستلزم مساواة الناس في طريق الثبوت فإنه إذا أعجز العرب ثبت أنه خارق للعادة لما علمت من الوجهين السابقين فيكون الإعجاز للعرب بالبداهة ولمن جاء بعدهم بالاستدلال والبرهان وهما طريقان لحصول العلم .وبعد فإن من شاء أن يدرك الإعجاز كما أدركه العرب فما عليه إلا أن يشتغل بتعلم اللغة وأدبها وخصائصها حتى يساوي أو يقارب العرب في ذوق لغتهم ثم ينظر بعد ذلك في نسبة القرآن من كلام بلغائهم ولم يخل عصر من فئة اضطلعت بفهم البلاغة العربية وأدركت إعجاز القرآن وهم علماء البلاغة وأدب العربية الصحيح .قال الشيخ عبد القاهر في مقدمة «دلائل الإعجاز» فإن قال قائل إن لنا طريقاً إلى إعجاز القرآن غير ما قلت ( أي من توقفه على علم البيان ) وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه ولو كان الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب وما استوى الناس فيه قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب عن أن يكون محجوجاً بالقرآن قيل له خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير ألا يزال البرهان منه لائحاً معرضاً لكل من أراد العلم به والعلم به ممكناً لمن التمسه وألا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي كان به معجزاً قائم فيه أبداً ا ه .وقال السكاكي في معرض التنويه ببعض مسائل التقديم قوله : «متوسلاً بذلك إلى أن يتأنق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلاً مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل» وقد بينت في المقدمة العاشرة تفاصيل من وجوه إعجازه فقد اشتملت هذه الآية على أصناف من الإعجاز إذ نقلت الإعجاز بالتواتر وكانت ببلاغتها معجزة ، وكانت معجزة من حيث الإخبار عن المستقبل كله بما تحقق صدقه فسبحان منزلها ومؤتيها .
الآية 24 - سورة البقرة: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ۖ أعدت للكافرين...)