سورة البقرة: الآية 220 - في الدنيا والآخرة ۗ ويسألونك...

تفسير الآية 220, سورة البقرة

فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ ۗ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَٰمَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

الترجمة الإنجليزية

Fee alddunya waalakhirati wayasaloonaka AAani alyatama qul islahun lahum khayrun wain tukhalitoohum faikhwanukum waAllahu yaAAlamu almufsida mina almuslihi walaw shaa Allahu laaAAnatakum inna Allaha AAazeezun hakeemun

تفسير الآية 220

يسألك المسلمون -أيها النبي- عن حكم تعاطي الخمر شربًا وبيعًا وشراءً، والخمر كل مسكر خامر العقل وغطاه مشروبًا كان أو مأكولا ويسألونك عن حكم القمار -وهو أَخْذُ المال أو إعطاؤه بالمقامرة وهي المغالبات التي فيها عوض من الطرفين-، قل لهم: في ذلك أضرار ومفاسد كثيرة في الدين والدنيا، والعقول والأموال، وفيهما منافع للناس من جهة كسب الأموال وغيرها، وإثمهما أكبر من نفعهما؛ إذ يصدَّان عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقعان العداوة والبغضاء بين الناس، ويتلفان المال. وكان هذا تمهيدًا لتحريمهما. ويسألونك عن القَدْر الذي ينفقونه من أموالهم تبرعًا وصدقة، قل لهم: أنفقوا القَدْر الذي يزيد على حاجتكم. مثل ذلك البيان الواضح يبيِّن الله لكم الآيات وأحكام الشريعة؛ لكي تتفكروا فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة. ويسألونك -أيها النبي- عن اليتامى كيف يتصرفون معهم في معاشهم وأموالهم؟ قل لهم: إصلاحكم لهم خير، فافعلوا الأنفع لهم دائمًا، وإن تخالطوهم في سائر شؤون المعاش فهم إخوانكم في الدين. وعلى الأخ أن يرعى مصلحة أخيه. والله يعلم المضيع لأموال اليتامى من الحريص على إصلاحها. ولو شاء الله لضيَّق وشقَّ عليكم بتحريم المخالطة. إن الله عزيز في ملكه، حكيم في خلقه وتدبيره وتشريعه.

«في» أمر «الدنيا والآخرة» فتأخذون بالأصلح لكم فيهما «ويسألونك عن اليتامى» وما يلقونه من الحرج في شأنهم فإن واكلوهم يأثموا وإن عزلوا ما لهم من أموالهم وصنعوا لهم طعاما وحدهم فحرج «قل إصلاح لهم» في أموالهم بتنميتها ومداخلتكم «خير» من ترك ذلك «وإن تخالطوهم» أي تخلطوا نفقتكم بنفقتهم «فإخوانكم» أي فهم إخوانكم في الدين ومن شأن الأخ أن يخالط أخاه أي فلكم ذلك «والله يعلم المفسد» لأموالهم بمخالطته «من المصلح» بها فيجازي كلا منهما «ولو شاء الله لأعنتكم» لضيق عليكم بتحريم المخالطة «أن الله عزيز» غالب على أمره «حكيم» في صنعه.

لما نزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا شق ذلك على المسلمين, وعزلوا طعامهم عن طعام اليتامى, خوفا على أنفسهم من تناولها, ولو في هذه الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها, وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأخبرهم تعالى أن المقصود, إصلاح أموال اليتامى, بحفظها وصيانتها, والاتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز على وجه لا يضر باليتامى, لأنهم إخوانكم, ومن شأن الأخ مخالطة أخيه, والمرجع في ذلك إلى النية والعمل، فمن علم الله من نيته أنه مصلح لليتيم, وليس له طمع في ماله, فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه بأس، ومن علم الله من نيته, أن قصده بالمخالطة, التوصل إلى أكلها وتناولها, فذلك الذي حرج وأثم, و " الوسائل لها أحكام المقاصد " وفي هذه الآية, دليل على جواز أنواع المخالطات, في المآكل والمشارب, والعقود وغيرها, وهذه الرخصة, لطف من الله [تعالى] وإحسان, وتوسعة على المؤمنين، وإلا ف لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي: شق عليكم بعدم الرخصة بذلك, فحرجتم. وشق عليكم وأثمتم، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي: له القوة الكاملة, والقهر لكل شيء، ولكنه مع ذلك حَكِيمٌ لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة, فعزته لا تنافي حكمته، فلا يقال: إنه ما شاء فعل, وافق الحكمة أو خالفها، بل يقال: إن أفعاله وكذلك أحكامه, تابعة لحكمته, فلا يخلق شيئا عبثا, بل لا بد له من حكمة, عرفناها, أم لم نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة, أو راجحة, ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة, لتمام حكمته ورحمته.

وقوله : ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) أي : كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها ، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ، ووعيده ، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة .قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو أسامة ، عن الصعق العيشي قال : شهدت الحسن وقرأ هذه الآية من البقرة : ( لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) قال : هي والله لمن تفكر فيها ، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ، ثم دار فناء ، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ، ثم دار بقاء .وهكذا قال قتادة ، وابن جريج ، وغيرهما .وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة : لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا . وفي رواية عن قتادة : فآثروا الآخرة على الأولى .[ وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) [ آل عمران : 190 ] آثارا كثيرة عن السلف في معنى التفكر والاعتبار ] .وقوله : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم ) الآية : قال ابن جرير :حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الإسراء : 34 ] و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه من طرق ، عن عطاء بن السائب ، به . وكذا رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وكذا رواه السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود بمثله . وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .قال وكيع بن الجراح : حدثنا هشام الدستوائي عن حماد ، عن إبراهيم قال : قالت عائشة :إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عرة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي .فقوله : ( قل إصلاح لهم خير ) أي : على حدة ( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) أي : وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ، فلا بأس عليكم ; لأنهم إخوانكم في الدين ; ولهذا قال : ( والله يعلم المفسد من المصلح ) أي : يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح .وقوله : ( ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ) أي : ولو شاء لضيق عليكم وأحرجكم ولكنه وسع عليكم ، وخفف عنكم ، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، كما قال : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الأنعام : 152 ] ، ، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجانا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ، إن شاء الله ، وبه الثقة .

أما السؤال الثالث والأخير الذي ورد في هاتين الآيتين فهو قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ.أخرج أبو داود والحاكم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال:لما نزل قوله- تعالى-: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُوقوله- تعالى-:إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه. وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله- تعالى- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم «1» .والمعنى: ويسألونك يا محمد عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف في أموالهم أو عن أموالهم وكيف يكونون معهم فقل لهم: إن المطلوب هو إصلاحهم بالتهذيب والتربية الرشيدة.والمعاملة الحسنة، وإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وعدم إنفاقها إلا في الوجوه المشروعة فهذا الإصلاح المفيد لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم، وتركهم، ولذا قال- تعالى- بعد ذلك:وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ أى: وإن تعاشروهم وتضموهم إليكم فاعتبروهم إخوانكم في العقيدة والإنسانية، وعاملوهم بمقتضى ما تفرضه الأخوة من تراحم وتعاطف ومساواة.والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها. و «إصلاح» مبتدأ وسوغ الابتداء به مع أنه نكرة وصفه بالجار والمجرور «لهم» و «خير» خبره، وقوله: فَإِخْوانُكُمْ الفاء واقعة في جواب الشرط، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهم إخوانكم، والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط.وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وعد ووعيد، وترغيب في الإصلاح وترهيب من الإفساد، أى: والله يعلم المفسد لشئون هؤلاء اليتامى من المصلح لها، كما أنه- سبحانه- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وسيجازى كل إنسان على حسب عمله، فاحذروا الإفساد ولا تتحروا غير الإصلاح.ثم قال- تعالى-: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ العنت: الشدة والمشقة والتضييق. يقال:أعنته في كذا يعنته إعناتا، إذا أجهده وألزمه ما يشق عليه.أى: ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم بتحريم مخالطة هؤلاء اليتامى، وبغير ذلك مما يشرع لكم، ولكنه- سبحانه- وسع عليكم وخفف فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن، فاشكروه على ذلك.ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى: إن الله- تعالى- غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم قادر على أن يعز من أعز اليتامى ويذل من أذلهم، حكيم في كل تصرفاته وأفعاله، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها.وقد استدل العلماء بهذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح، وعلى أن للولي أن يخالط اليتيم بنفسه في المصاهرة والمشاركة وغير ذلك مما تقتضيه المصلحة.وقد وردت أحاديث متعددة في رعاية اليتيم وإصلاح أحواله ومن ذلك ما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما» .وروى الطبراني عن أبى الدرداء. قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم أتحب أن يلين وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك.وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أفضل ألوان الإصلاح للأفراد والجماعات في مطاعمهم ومشاربهم ونفقتهم وعلاقتهم بغيرهم ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الأب الحانى، والقلب الرحيم، ومن شأن الأمة التي تعمل بهذا التوجيه السامي الحكيم أن تنال السعادة في دنياها. ورضاه الله- في أخراها.ثم تحدثت السورة بعد ذلك في اثنتين وعشرين آية عن بعض أحكام وآداب الزواج والمعاشرة، والإيلاء والطلاق، والعدة، والنفقة، والرضاعة، والخطبة، والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها، وبنائها على أفضل الدعائم، وأحكم الروابط، إذ الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، ومن مجموعها يتكون، فإذا صلحت الوحدات والمكونات صلح البنيان، وإذا تصدعت تصدع.ولقد ابتدأت الآيات التي معنا حديثها عن الأسرة بالحديث عن الزواج لأنه أعمق الروابط وأقواها ومنه تتأتى الذرية، لذا جعل أساس الاختيار فيه هو التدين السليم، والخلق القويم، الذي يسعد ولا يشقى، ويبنى ولا يهدم، ويحفظ ولا يضيع.. ولا يتأتى ذلك إلا باختيار المسلمة الصالحة والإعراض عن المشركة الكافرة.استمع إلى القرآن الكريم وهو يبين ذلك فيقول:

قوله تعالى: " في الدنيا والآخرة " قيل: معناه يبين الله لكم الآيات في أمر النفقة لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى، وقال أكثر المفسرين: معناها هكذا: يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة، " لعلكم تتفكرون " في زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا فيها وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها.قوله تعالى: " ويسألونك عن اليتامى " قال ابن عباس و قتادة : لما نزل قوله تعالى: " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " (152-الأنعام) وقوله تعالى " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً " الآية (10-النساء) تحرج المسلمون من أموال اليتامى تحرجاً شديداً حتى عزلوا أموال اليتامى عن أموالهم حتى كان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد، فاشتد ذلك عليهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية: " قل إصلاح لهم خير " أي (الإصلاح لأموالهم) من غير أجرة ولا أخذ عوض خير لكم وأعظم أجراً، لما لكم في ذلك من الثواب، وخير لهم، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم،قال مجاهد : يوسع عليهم من طعام نفسه ولا يوسع من طعام اليتيم " وإن تخالطوهم " هذه إباحة المخالطة أي وإن تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم في نفقاتكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم فتصيبوا من أموالهم عوضاً من قيامكم بأمورهم وتكافؤوهم على ما تصيبون من أموالهم " فإخوانكم " أي فهم إخوانكم، والاخوان يعين بعضهم بعضاً ويصيب بعضهم من أموال بعض على وجه الإصلاح والرضا " والله يعلم المفسد " لأموالهم " من المصلح " لها يعني الذي يقصد بالمخالظة الخيانة وإفساد أموال اليتيم وأكله بغير حق من الذي يقصد الإصلاح " ولو شاء الله لأعنتكم " أي لضيق عليكم وما أباح لكم مخالطتهم،وقال ابن عباس: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً لكم، وأصل العنت الشدة والمشقة. ومعناه: كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم " إن الله عزيز " والعزيز الذي يأمر بعزة - سهل على العباد أو شق عليهم " حكيم " فيما صنع من تدبيره وترك الإعنات.

قوله تعالى : في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيمقوله تعالى : " ويسألونك عن اليتامى " إلى قوله " حكيم " فيه ثمان مسائل :الأولى : روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : ( لما أنزل الله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن و إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية ، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له ، حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير الآية ، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه ) ، لفظ أبي داود . والآية متصلة بما قبل ؛ لأنه اقترن بذكر الأموال الأمر بحفظ أموال اليتامى . وقيل : إن السائل عبد الله بن رواحة . وقيل : كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم ، فنزلت هذه الآية .الثانية : لما أذن الله جل وعز في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم وفيهم كان ذلك دليلا على جواز التصرف في مال اليتيم ؛ تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك ، على الإطلاق لهذه الآية . فإذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله وإن لم يقدمه وال عليه ؛ لأن الآية مطلقة والكفالة ولاية عامة . لم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمتهم ، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم .الثالثة : تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه ، وفي جواز خلط ماله بماله دلالة على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح ، وجواز دفعه مضاربة ، إلى غير ذلك على ما نذكره مبينا . واختلف في عمله هو قراضا ، فمنعه أشهب ، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشتري لها . وقال غيره : إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه أمضي ، كشرائه شيئا لليتيم بتعقب فيكون أحسن لليتيم . قال محمد بن عبد الحكم : وله أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرا . قال ابن كنانة : وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب ، ومصلحته بقدر حاله وحال من يزوج إليه ، وبقدر كثرة ماله . قال : وكذلك في ختانه ، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان فيأمره بالقصد ، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز ، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز . ودل الظاهر على أن ولي اليتيم يعلمه أمر الدنيا والآخرة ، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات . وإذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " النساء " إن شاء الله تعالى .الرابعة : ولما ينفقه الوصي والكفيل من مال اليتيم حالتان : حالة يمكنه الإشهاد عليه ، فلا يقبل قوله إلا ببينة . وحالة لا يمكنه الإشهاد عليه فقوله مقبول بغير بينة ، فمهما اشترى من العقار وما جرت العادة بالتوثق فيه لم يقبل قوله بغير بينة . قال ابن خويزمنداد : ولذلك فرق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصي ينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته وكسوته ؛ لأنه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ويلبسه في كل وقت ، ولكن إذا قال : أنفقت نفقة لسنة قبل منه ، وبين أن يكون عند أمه أو حاضنته فيدعي الوصي أنه كان ينفق عليه ، أو كان يعطي الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة .الخامسة : واختلف العلماء في الرجل ينكح نفسه من يتيمته ، وهل له أن يشتري لنفسه من مال يتيمه أو يتيمته ؟ فقال مالك : ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة ، حتى قال في الأعراب الذين يسلمون أولادهم في أيام المجاعة : إنهم ينكحونهم إنكاحهم ، فأما إنكاح الكافل والحاضن لنفسه فيأتي في " النساء " بيانه ، إن شاء الله تعالى . وأما الشراء منه فقال مالك : يشتري في مشهور الأقوال ، وكذلك قال أبو حنيفة : له أن يشتري مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن المثل ؛ لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن . وقال الشافعي : لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع ؛ لأنه لم يذكر في الآية التصرف ، بل قال : إصلاح لهم خير من غير أن يذكر فيه الذي يجوز له النظر . وأبو حنيفة يقول : إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه . والشافعي لا يرى في التزويج إصلاحا إلا من جهة دفع الحاجة ، ولا حاجة قبل البلوغ . وأحمد بن حنبل يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح . والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي ، وللأب في حق ولده الذي ماتت أمه لا بحكم هذه الآية . وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن . وهذه المذاهب نشأت من هذه الآية ، فإن ثبت كون التزويج إصلاحا فظاهر الآية يقتضي جوازه . ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى : ويسألونك عن اليتامى أي يسألك القوام على اليتامى الكافلون لهم ، وذلك مجمل لا يعلم منه عين الكافل والقيم وما يشترط فيه من الأوصاف .فإن قيل : يلزم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع إذ جوز له الشراء من يتيمه ، فالجواب أن ذلك لا يلزم ، وإنما يكون ذلك ذريعة فيما يؤدى من الأفعال المحظورة إلى محظورة منصوص عليها ، وأما هاهنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة ، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله : والله يعلم المفسد من المصلح وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال فيه : إنه يتذرع إلى محظور به فيمنع منه ، كما جعل الله النساء مؤتمنات على فروجهن ، مع عظيم ما يترتب على قولهن في ذلك من الأحكام ، ويرتبط به من الحل والحرمة والأنساب ، وإن جاز أن يكذبن . وكان طاوس إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ : والله يعلم المفسد من المصلح . وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه في مال اليتيم أن يجتمع نصحاؤه فينظرون الذي هو خير له ، ذكره البخاري . وفي هذا دلالة على جواز الشراء منه لنفسه ، كما ذكرنا . والقول الآخر أنه لا ينبغي للولي أن يشتري مما تحت يده شيئا ، لما يلحقه في ذلك من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملإ من الناس . وقال محمد بن عبد الحكم : لا يشتري من التركة ، ولا بأس أن يدس من يشتري له منها إذا لم يعلم أنه من قبله .السادسة : قوله تعالى : وإن تخالطوهم فإخوانكم هذه المخالطة كخلط المثل بالمثل كالتمر بالتمر . وقال أبو عبيد : مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه ، ولا يجد بدا من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله ، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان ، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه . قال أبو عبيد : وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية ، وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته ، وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه ، فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعا كان في غيرهم أوسع ، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس .السابعة : قوله تعالى : فإخوانكم خبر لمبتدإ محذوف ، أي فهم إخوانكم ، والفاء جواب الشرط . وقوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح تحذير ، أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح لها ، فيجازي كلا على إصلاحه وإفساده .الثامنة : قوله تعالى : ولو شاء الله لأعنتكم روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس : ولو شاء الله لأعنتكم قال : ( لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا ) . وقيل : لأعنتكم لأهلككم ، عن الزجاج وأبي عبيدة . وقال القتبي : لضيق عليكم وشدد ، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم . وقيل : أي لكلفكم ما يشتد عليكم أداؤه وأثمكم في مخالطتهم ، كما فعل بمن كان قبلكم ، ولكنه خفف عنكم . والعنت : المشقة ، وقد عنت وأعنته غيره . ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه : قد أعنته ، فهو عنت ومعنت . وعنتت الدابة تعنت عنتا : إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه جري . وأكمة عنوت : شاقة المصعد . وقال ابن الأنباري : أصل العنت التشديد ، فإذا قالت العرب : فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادها يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه ، ثم نقلت إلى معنى الهلاك . والأصل ما وصفنا .قوله تعالى : إن الله عزيز أي لا يمتنع عليه شيء . حكيم يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه ، جل وتعالى علوا كبيرا .

القول في تأويل قوله عز ذكره : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْاختلف أهل التأويل فيمَ نزلت هذه الآية. (1)فقال بعضهم: نزلت [ في الذين عزلوا أموال اليتامى الذين كانوا عندهم، وكرهوا أن يخالطوهم في مأكل أو في غيره، وذلك حين نزلت وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ سورة الأنعام: 152]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ سورة النساء : 10 ] .* ذكر من قال ذلك] : (2)4182 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ سورة الأنعام: 152، والإسراء: 34 ] عزلوا أموال اليتامى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: " وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يعلمَ المفسدَ من المصْلح، ولو شاء الله لأعنتكم "، فخالطوهم. (3)4183 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [ سورة النساء: 10]، انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامَه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُل الشيء من طعامه فيُحبس له حتى يأكله أو يفسُد. فاشتدَّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل: " ويسألونك عن اليتامى قل إصْلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم "، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم . (4)4184 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، قال: كنا نصنع لليتيم طعامًا فيفضُل منه الشيء، فيتركونه حتى يَفسد، فأنزل الله: " وإن تخالطوهم فإخوانكم " . (5)4185- حدثنا يحيى بن داود الوسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم قال: سئل عبد الرحمن بن أبي ليلى عن مال اليتيم فقال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، اجتُنبت مخالطتهم، واتقوا كل شيء، حتى اتقوا الماء، فلما نزلت " وإن تخالطوهم فإخوانكم "، قال: فخالطوهم.4186 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " ويسألونك عن اليتامى " الآية كلها، قال: كان الله أنزل قبل ذلك في " سورة بني إسرائيل " (6) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في مأكل ولا في غيره، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة فقال: " وإن تخالطوهم فإخوانكم " .4187 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، اعتزل الناس اليتامى فلم يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال، قال: فشق ذلك على الناس، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: " ويسألونك عن اليتامى قُل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " .4188 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم " الآية، قال: فذكر لنا والله أعلمُ أنه أنزل في" بني إسرائيل ": (7) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة فقال: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم "، يقول: مخالطتهم في ركوب الدابة وشرب اللبن وخدمة الخادم. يقول: الوليّ الذي يلي أمرهم، فلا بأس عليه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن أو يخدمه الخادم.* * *وقال آخرون في ذلك بما:-4189 - حدثني عمرو بن علي قال، حدثنا عمران بن عيينة قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ الآية، قال: كان يكون في حِجْر الرجل اليتيمُ فيعزل طعامه وشرابه وآنيته، فشقّ ذلك على المسلمين، فأنزل الله: " وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح "، فأحل خُلطتهم. (8)4190 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي قال: لما نزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ، قال: فاجتنب الناس الأيتامَ، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه، وماله من ماله، وشرابه من شرابه. قال: فاشتد ذلك على الناس، فنزلت: " وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ". قال الشعبي: فمن خالط يتيما فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل من ماله فلا يفعل.4191 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: قوله: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير "، وذلك أن الله لما أنزل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ، كره المسلمون أن يضمُّوا اليتامى، وتحرَّجوا أن يخالطوهم في شيء، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله: " قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " .4192 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم "، قال: لما نزلت " سورة النساء "، عزل الناس طعامهم فلم يخالطوهم. قال: ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا يشقُّ علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معنا! فنزلت: " وإن تخالطوهم فإخوانكم " = قال ابن جريج، وقال مجاهد: عزلوا طعامهم عن طعامهم وألبانهم عن ألبانهم وأدْمهم عن أدْمِهم، (9) فشقّ ذلك عليهم، فنزلت: " وإن تخالطوهم فإخوانكم "، قال: مخالطة اليتيم في المراعي والأدْم = قال ابن جريج، وقال ابن عباس: الألبان وخِدمة الخادم وركوب الدابة = قال ابن جريج: وفي المساكن، قال: والمساكن يومئذ عزيزةٌ.4193 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال، أخبرنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ، قال: اجتنب الناس مالَ اليتيم وطعامه، حتى كان يفسُد، إنْ كان لحمًا أو غيره. فشقّ ذلك على الناس، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير " (10)4194 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس بن سعد، شك أبو عاصم - عن مجاهد: " وإن تخالطوهم فإخوانكم "، قال: مخالطة اليتيم في الرِّعْي والأدْم. (11)* * *وقال آخرون: بل كان اتقاء مال اليتيم واجتنابه من أخلاق العرب، فاستفتوا في ذلك لمشقته عليهم، فأفتوا بما بيَّنه الله في كتابه.* ذكر من قال ذلك:4195 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح "، قال: كانت العرب يشددون في اليتيم حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة، ولا يركبوا له بعيرًا، ولا يستخدموا له خادمًا، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه، فقال: " قل إصلاح لهم خيرٌ"، يصلح له ماله وأمره له خيرٌ، وإن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ويرْكب راحلته ويحمله ويستخدم خادمه ويخدمه، فهو أجودُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ .4196 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ" إلى إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، وإن الناس كانوا إذا كان في حِجْر أحدهم اليتيمُ جعل طعامه على ناحية، ولبنه على ناحية، مخافة الوِزر، وإنه أصاب المؤمنين الجَهْد، فلم يكن عندهم ما يجعلون خدمًا لليتامى، فقال الله: " قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم " إلى آخر الآية.4197 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " ويسألونك عن اليتامى "، كانوا في الجاهلية يعظِّمون شأنَ اليتيم، فلا يمسُّون من أموالهم شيئًا، ولا يركبون لهم دابة، ولا يطعمون لهم طعامًا. فأصابهم في الإسلام جَهْدٌ شديد، حتى احتاجوا إلى أموال اليتامى، فسألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن شأنِ اليتامَى وعن مخالطتهم، فأنزل الله: " وإن تخالطوهم فإخوانكم "، يعني" بالمخالطة ": ركوب الدابة، وخدمة الخادم، وشربَ اللبن.* * *قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ويسألك يا محمد أصحابك عن مال اليتامى، وخلطهم أموالهم به في النفقة والمطاعمة والمشاربة والمساكنة والخدمة، فقل لهم: تفضُّلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم - من غير مَرْزِئة شيء من أموالهم، (12) وغير أخذ عوض من أموالهم على إصلاحكم ذلك لهم - خيرُ لكم عند الله وأعظمُ لكم أجرًا، لما لكم في ذلك من الأجر والثواب = وخيرٌ لهم في أموالهم في عاجل دنياهم، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم =" وإنْ تخالطوهم " فتشاركوهم بأموالكم أموالهم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم، فتضمُّوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم وأسبابهم وإصلاح أموالهم، فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويكنُفُ بعضهم بعضًا، (13) فذو المال يعينُ ذا الفاقة، وذو القوة في الجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالى ذكره: فأنتم أيها المؤمنون وأيتامكم كذلك، إن خالطتموهم بأموالكم = فخلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم، وسائر أموالكم بأموالهم، فأصبتم من أموالهم فَضْل مَرْفَق بما كان منكم من قيامكم بأموالهم وولائهم، ومعاناة أسبابهم، على النظر منكم لهم نظرَ الأخ الشفيق لأخيه، العامل فيما بينه وبينه بما أوجب الله عليه وألزمه = فذلك لكم حلالٌ، لأنكم إخوان بعضكم لبعض، كما:-4198 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: " وإن تخالطوهم فإخوانكم "، قال: قد يخالط الرجل أخاه.4199 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي مسكين، عن إبراهيم قال: إني لأكره أن يكون مال اليتيم كالعُرة . (14)4200 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: إنى لأكره أن يكون مالُ اليتم عندي عُرَّةً، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي. (15)* * *قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال: " فإخوانُكم "، فرفع " الإخوان " ؟ وقال في موضع آخر: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا [ سورة البقرة: 239]قيل: لافتراق معنييهما. وذلك أنّ أيتام المؤمنين إخوان المؤمنين، خالطهم المؤمنون بأموالهم أو لم يخالطوهم. فمعنى الكلام: وإن تخالطوهم فهم إخوانكم. و " الإخوان " مرفوعون بالمعنى المتروك ذكره، وهو " هم " لدلالة الكلام عليه = وأنه لم يرد " بالإخوان " الخبر عنهم أنهم كانوا إخوانًا من أجل مخالطة وُلاتهم إياهم. ولو كان ذلك المراد، لكانت القراءة نصبًا، وكان معناه حينئذ: وإن تخالطوهم فخالطوا إخوانكم، ولكنه قرئ رفعًا لما وصفت: من أنهم إخوان للمؤمنين الذين يلونهم، خالطوهم أو لم يخالطوهم.وأما قوله: فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا ، فنصبٌ، لأنهما حالان للفعل، غير دائمين، (16) ولا يصلح معهما " هو " . وذلك أنك لو أظهرت " هو " معهما لاستحال الكلام. ألا ترى أنه لو قال قائل: " إن خفت من عدوك أن تصلي قائمًا فهو راجل أو راكب "، لبطل المعنى المرادُ بالكلام ؟ وذلك أن تأويل الكلام. فإن خفتم أن تصلوا قيامًا من عدوكم، فصلوا رجالا أو ركبانًا . ولذلك نصبه إجراءً على ما قبله من الكلام، كما تقول في نحوه من الكلام: " إن لبست ثيابًا فالبياض " فتنصبه، لأنك تريد: إن لبست ثيابًا فالبس البياض - ولستَ تريد الخبر عن أن جميع ما يلبس من الثياب فهو البياض. ولو أردت الخبر عن ذلك لقلت: " إن لبستَ ثيابًا فالبياضُ" رفعًا، إذ كان مخرج الكلام على وجه الخبر منك عن اللابس، أنّ كل ما يلبس من الثياب فبياضٌ . لأنك تريد حينئذ: إن لبست ثيابًا فهي بياضٌ. (17)فإن قال: فهل يجوز النصب في قوله: " فإخوانكم " .قيل: جائز في العربية . فأما في القراءة، فإنما منعناه لإجماع القرأة على رفعه. وأما في العربية، فإنما أجزناه، لأنه يحسن معه تكريرُ ما يحمل في الذي قبله من الفعل فيهما: وإن تخالطوهم، فإخوانكم تخالطون - فيكون ذلك جائزًا في كلام العرب. (18)* * *(19)القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن ربكم قد أذن لكم في مخالطتكم اليتامى على ما أذن لكم به، (20) فاتقوا الله في أنفسكم أن تخالطوهم وأنتم تريدون أكل أموالهم بالباطل، وتجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقها، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التي لا قِبل لكم بها، فإنه يعلم من خالط منكم يتيمه - فشاركه في مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته في حال مخالطته إياه - ما الذي يقصد بمخالطته إياه : إفسَاد ماله وأكله بالباطل، أم إصلاحه وتثميره؟ لأنه لا يخفى عليه منه شيء، (21) ويعلم أيُّكم المريد إصلاح ماله، من المريد إفسادَه. كما:-4201 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: " والله يعلم المفسد من المصلح " قال: الله يعلم حين تخلط مالك بماله : أتريد أن تصلح ماله، أو تفسده فتأكله بغير حق؟4202 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي: " والله يعلم المفسد من المصلح "، قال الشعبي: فمن خالط يتيمًا فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل ماله فلا يفعلْ. (22)* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْقال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: ولو شاء الله لحرَّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالَهم، فجَهَدكم ذلك وشقّ عليكم، ولم تقدروا على القيام باللازم لكم من حق الله تعالى والواجب عليكم في ذلك من فرضه، ولكنه رخَّص لكم فيه وسهله عليكم، رحمةً بكم ورأفةً.* * *واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " لأعنتكم ". فقال بعضهم بما:-4203 - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد - أو عيسى، عن قيس بن سعد - عن مجاهد = شك أبو عاصم = في قول الله تعالى ذكره: " ولو شاء الله لأعنتكم " لحرم عليكم المرعى والأدْم.قال أبو جعفر: يعني بذلك مجاهد : رعي مواشي والي اليتيم مع مواشي اليتيم ، والأكلَ من إدامه . لأنه كان يتأول في قوله: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ، أنه خُلْطة الوليّ اليتيم بالرِّعْي والأدْم. (23)* * *4204 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " ولو شاء الله لأعنتكم "، يقول: لو شاء الله لأحرجكم فضيَّق عليكم، ولكنه وسَّع ويسَّر فقال: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [ سورة النساء: 6 ]4205 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده: " ولو شاء الله لأعنتكم "، يقول: لجهدكم، فلم تقوموا بحقّ ولم تؤدُّوا فريضة.4206 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع نحوه = إلا أنه قال: فلم تعملوا بحقّ.4207 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ولو شاء الله لأعنتكم "، لشدد عليكم.4208 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: " ولو شاء الله لأعنتكم "، قال: لشقّ عليكم في الأمر. ذلك العنتُ.4209 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قوله: " ولو شاء الله لأعنتكم "، قال: ولو شاء الله لجعل ما أصبتُم من أموال اليتامى مُوبقًا.* * *وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرت عنه، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيها، فإنها متقارباتُ المعاني. لأن من حُرِّم عليه شيء فقد ضُيِّق عليه في ذلك الشيء، ومن ضُيق عليه في شيء فقد أحْرِج فيه، ومن أحرج في شيء أو ضيِّق عليه فيه فقد جُهِد. وكل ذلك عائد إلى المعنى الذي وصفت من أن معناه: الشدة والمشقة.ولذلك قيل: " عَنِت فلانٌ" = إذا شق عليه الأمر، وجهده، = (24) " فهو يعنَتُ عَنَتًا "، كما قال تعالى ذكره: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [ سورة التوبة: 128 ] ، يعني ما شق عليكم وآذاكم وجَهدكم، ومنه قوله تعالى ذكره: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [ سورة النساء: 25]. فهذا إذا عَنِت العانِت. فإن صيَّره غيره كذلك، قيل: " أعنته فلانٌ في كذا " = إذ جهده وألزمه أمرًا جهده القيام به =" يُعْنِته إعناتًا " . فكذلك قوله: " لأعنتكم " معناه: لأوجب لكم العنَت بتحريمه عليكم ما يَجْهدكم ويحرجكم، مما لا تطيقون القيام باجتنابه، وأداء الواجب له عليكم فيه.* * *وقال آخرون: معنى ذلك: لأوبقكم وأهلككم.* ذكر من قال ذلك:4210 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قرأ علينا: " ولو شاء الله لأعنتكم "، قال ابن عباس: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا.4211 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل - وجرير، عن منصور = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور = عن الحكم عن مقسم، عن ابن عباس: " ولو شاء الله لأعنتكم " قال: لجعل ما أصبتم مُوبقًا. (25)* * *القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله " عزيز " في سلطانه، لا يمنعه مانع مما أحل بكم من عقوبة لو أعنتكم بما يجهدكم القيام به من فرائضه فقصرتم في القيام به، ولا يقدرُ دافعٌ أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله، (26) ولكنه بفضل رحمته منَّ عليكم بترك تكليفه إياكم ذلك = وهو " حكيم " في ذلك لو فعله بكم وفي غيره من أحكامه وتدبيره، لا يدخل أفعاله خلل ولا نقصٌ ولا وَهْي ولا عيب، (27) لأنه فِعل ذي الحكمة الذي لا يجهل عواقبَ الأمور فيدخل تدبيره مذمّة عاقبة، كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم بعواقب الأمور، لسوء اختيارهم فيها ابتداءً.----------------------الهوامش :الهوامش:(1) في المطبوعة : "فيما نزلت" ، والأجود ما أثبت .(2) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق الكلام ، واستجزت أن أزيدها بين الأقواس في متن الكتاب ، حتى لا تنقطع على القارئ قراءته ، وكان مكانها في المطبوعات والمخطوطات بياض .(3) الأثر : 4182 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 278 مطولا ، وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي . وكان في المطبوعة . "فإخوانكم ولو شاء لأعنتكم" ، فأتممت الآية على تنزيلها .(4) الأثر : 4183 - أخرجه أبو داود 3 : 155 رقم : 2871 ، والنسائي 6 : 256 .(5) الأثر : 4184 - قوله"عن سعيد قال" يعني قال ابن عباس ، كما هو ظاهر الخبر .(6) "سورة بني إسرائيل" هي"سورة الإسراء" .(7) "سورة بني إسرائيل" هي"سورة الإسراء" .(8) الأثر : 4189- أخرجه النسائي 6 : 256- 257 . وفي المطبوعة : "فأحل لهم خلطم والهصوا من النسائي .(9) الأدم (بضم فسكون) والإدام : ما يؤتدم به ، أي ما يؤكل بالخبر أي شيء كان ، وفي الحديث : "نعم الإدام الخل" .(10) الأثر : 4193- أخرجه النسائي 6 : 256 .(11) الرعي (بكسر الراء وسكون العين) : الكلأ نفسه ، كالمرعى .(12) يقال : "رزأه في ماله رزءًا (بضم فسكون) ومرزئة (بفتح الميم وسكون الراء وكسر الزاي) : أصاب منه خيرًا ما كان ، فنقص من ماله .(13) كنفه يكنفه : حاطه وصانه وكان إلى جنبه وعاونه ، والمكانفة : المعاونة . وأصلها من"الكنف" ، وهو حضن الرجل . ويقال : "هو في كنف الله" ، أي في كلاءته وحفظه وحرزه ورعايته .(14) العرة : القذر وعذرة الناس ، يريد : أن يتجنبه تجنب القذر .(15) الأثر : 4200- في تفسير ابن كثير 1 : 505 ، والدر المنثور 1 : 256 ، ولم أجده في مكان آخر . و"العرة" ، سلف شرحها . وفي تفسير ابن كثير"عندي حدة" ، ولعل صوابها ما في التفسير .(16) في المطبوعة"غير ذاتيين" : ، وهو تصحيف فاحش لا معنى له ، والصواب ما أثبت والحال غير الدائمة ، هي الحال المشتقة المنتقلة ، والدائم هو الجامد والثابت .(17) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا 1 : 141- 142 .(18) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا 1 : 141- 142 .(19) من أول تفسير هذه الآية يبدأ الجزء الرابع من المخطوطة العتيقة التي اعتمدناها . وأولها : بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمربّ أَعِن برَحْمَتِك (20) في المطبوعة والمخطوطة : "إن ربكم وإن أذن لكم . . . " وهو كلام مختل ، وكأن الذي أثبت قريب من الصواب .(21) في المخطوطة"لا نها عليه منه شيء" ، وفيها تصحيف لم أتبينه ، والذي في المطبوعة جيد في سياق المعنى .(22) الأثر : 4202- في المخطوطة والمطبوعة : "حدثني أبو السائب ، قال حدثنا أشعث . . . " ، وهو إسناد ناقص ، أسقط"قال حدثنا حفص بن غياث" ، وقد مضى هذا الإسناد مرارًا ، أقربه : 4190 ، وهذا الأثر مختصره .(23) انظر الأثر السالف رقم : 4194 .(24) في المطبوعة : "عنت فلانًا" وهو خطأ ، والفعل لازم ، كما سيأتي . وفي المخطوطة والمطبوعة : "إذا شق عليه وجهده" ، والصواب زيادة"الأمر" .(25) الأثر : 4211- قد سلف بالإسناد الثاني برقم : 4209 .(26) في المطبوعة : "لو فعله هو لكنه" ، والصواب الجيد من المخطوطة .(27) في المخطوطة : "ولا وهاء ولا عيب" . وقد سلف في هذا الجزء 4 : 18 ، 155 ، والتعليق رقم : 1 ، وما قيل في خطأ ذلك ، واستعمال الفقهاء له .

وقوله : { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ، لأن التفكر مظروف في الدنيا والآخرة ، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله { والآخرة } إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل : قل فيهما نفع وضر لكان بياناً للتفكر في أمور الدنيا خاصة ، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين ، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا ، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب وقد ذم رجل الدنيا عنده فقال له : «الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت ببينها الخ» .ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله : { ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو } .ويجوز أن تكون الإشارة بقوله { كذلك لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف ، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجاً لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة ، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة ، لأن التعليق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور .وقوله : لعلكم تتفكرون } غاية هذا البيان وحكمته ، والقول في لعل تقدم . وقوله { في الدنيا والآخرة } يتعلق بتتفكرون لا بيبين ، لأن البيان واقع في الدنيا فقط . والمعنى ليحصل لكم فكر أي علم في شؤون الدنيا والآخرة ، وما سوى هذا تكلف .{ وَيَسْھَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ }عطف تبيين معاملة اليتامى على تبيين الإنفاق لتعلق الأمرين بحكم تحريم الميسر أو التنزيه عنه فإن الميسر كان باباً واسعاً للإنفاق على المحاويج وعلى اليتامى ، وقد ذكر لبيد إطعام اليتامى بعد ذكر إطعام لحوم جزور الميسر فقال :ويُكَلِّلُون إذَا الرياحُ تَنَاوَحَتْ ... خُلْجاً تَمُدُّ شوَارعا أَيْتَامُهاأي تمد أيدياً كالرماح الشوارع في اليبس أي قلة اللحم على عظام الأيدي فكان تحريم الميسر مما يثير سؤالا عن سد هذا الباب على اليتامى وفيه صلاح عظيم لهم وكان ذلك السؤال مناسبة حسنة للتخلص إلى الوصاية باليتامى وذكر مجمل أحوالهم في جملة إصلاح الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام ، فكان هذا وجه عطف هذه الجملة على التي قبلها بواو العطف لاتصال بعض هذه الأسئلة ببعض كما تقدم في قوله : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } .وقد روي أن السائل عن اليتامى عبد الله بن رواحة ، وأخرج أبو داود عن ابن عباس لما نزل قول الله عز وجل : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الإسراء : 34 ] { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما }[ النساء : 10 ] الآيات انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكر ذلك لرسول الله فأنزل الله { ويسألونك عن اليتامى } الآية مع أن سورة النساء نزلت بعد سورة البقرة ، فلعل ذكر آية النساء وهم من الراوي وإنما أراد أنه لما نزلت الآيات المحذرة من مال اليتيم مثل آية سورة الإسراء ( 34 ) { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ففي تفسير الطبري } بسنده إلى ابن عباس : لما نزلت : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } عزلوا أموال اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله فنزلت { وإن تخالطوهم } أو أن مراد الراوي لما سمع الناس آية سورة النساء تجنبوا النظر في اليتامى فذكروا بآية البقرة إن كان السائل عن آية البقرة غير المتجنب حين نزول آية النساء وأياً ما كان فقد ثبت أن النظر في مصالح الأيتام من أهم مقاصد الشريعة في حفظ النظام فقد كان العرب في الجاهلية كسائر الأمم في حال البساطة يكون المال بيد كبير العائلة فقلما تجد لصغير مالاً ، وكان جمهور أموالهم حاصلاً من اكتسابهم لقلة أهل الثروة فيهم ، فكان جمهور العرب إما زارعاً أو غارساً أو مغيراً أو صائداً ، وكل هذه الأعمال تنقطع بموت مباشريها ، فإذا مات كبير العائلة وترك أبناء صغاراً لم يستطيعوا أن يكتسبوا كما اكتسب آباؤهم إلا أبناء أهل الثروة ، والثروة عندهم هي الأنعام والحوائط إذ لم يكن العرب أهل ذهب وفضة وإن الأنعام لا تصلح إلا بمن يرعاها فإنها عروض زائلة وإن الغروس كذلك ولم يكن في ثروة العرب ملك الأرض إذ الأرض لم تكن مفيدة إلا للعامل فيها ، على أن من يتولى أمر اليتيم يستضعفه ويستحل ماله فينتفع به لنفسه ، وكرم العربي وسرفه وشربه وميسره لا تغادر له مالاً وإن كثر . وتغلُّب ذلك على مِلاك شهوات أصحابه فلا يستطيعون تركه يدفعهم إلى تطلب إرضاء نهمتهم بكل وسيلة فلا جرم أن يصبح اليتيم بينهم فقيراً مدحوراً ، وزد إلى ذلك أن أهل الجاهلية قد تأصل فيهم الكبر على الضعيف وتوقير القوى فلما عدم اليتيم ناصره ومن يذب عند كان بحيث يعرض للمهانة والإضاعة ويتخذ كالعبد لوليه ، من أجل ذلك كله صار وصف اليتيم عندهم ملازماً لمعنى الخصاصة والإهمال والذل ، وبه يظهر معنى امتنان الله تعالى على نبيه أن حفظه في حال اليتم مما ينال اليتامى في قوله : { ألم يجدك يتيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] . فلما جاء الإسلام أمرَهم بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم حتى قيل إن أولياء اليتامى تركوا التصرف في أموالهم واعتزلوا اليتامى ومخالطتهم فنزلت هذه الآية .والإصلاح جعل الشيء صالحاً أي ذا صلاح والصلاح ضد الفساد ، وهو كون شيء بحيث يحصل به منتهى ما يطلب لأجله ، فصلاح الرجل صدور الأفعال والأقوال الحسنة منه ، وصلاح الثمرة كونها بحيث ينتفع بأكلها دون ضر ، وصلاح المال نماؤه المقصود منه ، وصلاح الحال كونها بحيث تترتب عليها الآثار الحسنة .و { إصلاح لهم } مبتدأ ووصفه ، واللام للتعليل أو الاختصاص . ووصف الإصلاح ب { لهم } دون الإضافة إذ لم يقل إصلاحهم لئلا يتوهم قصره على إصلاح ذواتهم لأن أصل إضافة المصدر أن تكون لذات الفاعل أو ذات المفعول فلا تكون على معنى الحرف ، ولأن الإضافة لما كانت من طرق التعريف كانت ظاهرة في عهد المضاف فعدل عنها لئلا يتوهم أن المراد إصلاح معين كما عدل عنها في قوله : { ايتوني بأخ لكم من أبيكم } [ يوسف : 59 ] ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخاً معهوداً عنده ، والمقصود هنا جميع الإصلاح لا خصوص إصلاح ذواتهم فيشمل إصلاح ذواتهم وهو في الدرجة الأولى ويتضمن ذلك إصلاح عقائدهم وأخلاقهم بالتعليم الصحيح والآداب الإسلامية ومعرفة أحوال العالم ، ويتضمن إصلاح أمزجتهم بالمحافظة عليهم من المهلكات والأخطار والأمراض وبمداواتهم ، ودفع الأضرار عنهم بكفاية مؤنهم من الطعام واللباس والمسكن بحسب معتاد أمثالهم دون تقتير ولا سرف ، ويشمل إصلاح أموالهم بتنميتها وتعهدها وحفظها . ولقد أبدع هذا التعبير ، فإنه لو قيل إصلاحهم لتوهم قصره على ذواتهم فيحتاج في دلالة الآية على إصلاح الأموال إلى القياس ولو قيل قل تدبيرهم خير لتبادر إلى تدبير المال فاحتيج في دلالتها على إصلاح ذواتهم إلى فحوى الخطاب .و { خير في الآية يحتمل أن يكون أفعل تفضيل إن كان خطاباً للذين حملهم الخوف من أكل أموال اليتامى على اعتزال أمورهم وترك التصرف في أموالهم بعلة الخوف من سوء التصرف فيها كما يقال :إن السلامة من سلمى وجارتها ... أن لا تحل على حاللٍ بواديهافالمعنى إصلاح أمورهم خير من إهمالهم أي أفضل ثواباً وأبعد عن العقاب ، أي خير في حصول غرضكم المقصود من إهمالهم فإنه ينجر منه إثم الإضاعة ولا يحصل فيه ثواب السعي والنصيحة ، ويحتمل أن يكون صفة مقابل الشر إن كان خطاباً لتغيير الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام ، فالمعنى إصلاحهم في أموالهم وأبدانهم وترك إضاعتهم في الأمرين كما تقدم خير ، وهو تعريض بأن ما كانوا عليه في معاملتهم ليس بخير بل هو شر ، فيكون مراداً من الآية على هذا : التشريع والتعريض إذ التعريض يجامع المعنى الأصلي ، لأنه من باب الكناية والكناية تقع مع إرادة المعنى الأصلي .وجملة وإن تخالطوهم فإخوانكم } عطف على جملة { إصلاح لهم خير } والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو جمع الأشياء جمعاً يتعذر معه تمييز بعضها عن بعض فيما تراد له ، فمنه خلط الماء بالماء والقمح والشعير وخلط الناس ومنه اختلط الحابل بالنابل ، وهو هنا مجاز في شدة الملابسة والمصاحبة والمراد بذلك ما زاد على إصلاح المال والتربية عن بعد فيشمل المصاحبة والمشاركة والكفالة والمصاهرة إذ الكل من أنواع المخالطة .وقوله { فإخوانكم } جواب الشرط ولذلك قرن بالفاء لأن الجملة الاسمية غير صالحة لمباشرة أداة الشرط ولذلك ف ( إخوانكم ) خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم إخوانكم ، وهو على معنى التشبيه البليغ ، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام التي تقتضي المشاورة والرفق والنصح . ونقل الفخر عن الفراء «لو نصبته كان صواباً بتقدير فإخوانكم تخالطون» وهو تقدير سمج ، ووجود الفاء في الجواب ينادي على أن الجواب جملة اسمية محضة ، وبعد فمحمل كلام الفراء على إرادة جواز تركيب مثله في الكلام العربي لا على أن يقرأ به ، ولعل الفراء كان جريئاً على إساغة قراءة القرآن بما يسوغ في الكلام العربي دون اشتراط صحة الرواية .والمقصود من هذه الجملة الحث على مخالطتهم لأنه لما جعلهم إخواناً كان من المتأكد مخالطتهم والوصاية بهم في هاته المخالطة ، لأنهم لما كانوا إخواناً وجب بذل النصح لهم كما يبذل للأخ وفي الحديث " حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ويتضمن ذلك التعريض بإبطال ما كانوا عليه من احتقار اليتامى والترفع عن مخالطتهم ومصاهرتهم . قال تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] أي عن أن تنكحوهن لأن الأخوة تتضمن معنى المساواة فيبطل الترفع .وقوله : { والله يعلم المفسد من المصلح } وعد ووعيد ، لأن المقصود من الأخبار بعلم الله الإخبار بترتب آثار العلم عليه ، وفي هذا إشارة إلى أن ما فعله بعض المسلمين من تجنب التصرف في أموال اليتامى تنزه لا طائل تحته لأن الله يعلم المتصرف بصلاح والمتصرف بغير صلاح وفيه أيضاً ترضية لولاة الأيتام فيما ينالهم من كراهية بعض محاجيرهم وضربهم على أيديهم في التصرف المالي وما يلاقون في ذلك من الخصاصة ، فإن المقصد الأعظم هو إرضاء الله تعالى لا إرضاء المخلوقات ، وكان المسلمون يومئذٍ لا يهتمون إلاّ بمرضاة الله تعالى وكانوا يحاسبون أنفسهم على مقاصدهم ، وفي هذه إشارة إلى أنه ليس من المصلحة أن يعرض الناس عن النظر في أموال اليتامى اتقاء لألسنة السوء ، وتهمة الظن بالإثم فلو تمالأ الناس على ذلك وقاية لأعراضهم لضاعت اليتامى ، وليس هذا من شأن المسلمين فإن على الصلاح والفساد دلائل ووراء المتصرفين عدالة القضاة وولاة الأمور يجازون المصلح بالثناء والحمد العلن ويجازون المفسد بالبعد بينه وبين اليتامى وبالتغريم بما أفاته بدون نظر .و ( مِن ) في قوله : { من المصلح } تفيد معنى الفصل والتمييز وهو معنى أثبته لها ابن مالك في «التسهيل» قائلاً «وللفصْل» وقال في «الشرح» : «وأشرت بذكر الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادين نحو { والله يعلم المفسد من المصلح } و { حتى يميز الخبيث من الطيب } [ آل عمران : 179 ] اه وهو معنى رشيق لا غنى عن إثباته وقد أشار إليه في «الكشاف» عند قوله تعالى : { أتأتون الذكران من العالمين } في سورة الشعراء وجعله وجهاً ثانياً فقال : «أو أتأتون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران يعني أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة» اه فجعل معنى ( مِن ) معنى من بين ، وهو لا يتقوم إلاّ على إثبات معنى الفصل ، وهو معنى متوسط بين معنى من الابتلاء ومعنى البدلية حين لا يصلح متعلق المجرور لمعنى الابتدائية المحض ولا لمعنى البدلية المحض فحدث معنى وسط ، وبحث فيه ابن هشام في «مغني اللبيب» أن الفصل حاصل من فعل { يميز } ومن فعل { يعلم } واستظهر أن من للابتداء أو بمعنى عن .وقوله : { ولو شاء الله لأعنتكم } تذييل لما دل عليه قوله : { قل إصلاح لهم خير } على ما تقدم . والعنت : المشقة والصعوبة الشديدة أي ولو شاء الله لكلفكم ما فيه العنت وهو أن يحرم عليكم مخالطة اليتامى فتجدوا ذلك شاقاً عليكم وعنتاً ، لأن تجنب المرء مخالطة أقاربه من إخوة وأبناء عم ورؤيته إياهم مضيعة أمورهم لا يحفل بهم أحد يشق على الناس في الجبلة وهم وإن فعلوا ذلك حذراً وتنزهاً فليس كل ما يبتدىء المرء فعله يستطيع الدوام عليه .وحذف مفعول المشيئة لإغناء ما بعده عنه ، وهذا حذف شائع في مفعول المشيئة فلا يكادون يذكرونه . وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى : { ولو شاء الله بذهب بسمعهم } [ البقرة : 20 ] .وقوله : { أن الله عزيز حكيم } تذييل لما اقتضاه شرط ( لو ) من الإمكان وامتناع الوقوع أي إن الله عزيز غالب قادر فلو شاء لكلفكم العنت ، لكنه حكيم يضع الأشياء مواضعها فلذا لم يلكفكموه . وفي جمع الصفتين إشارة إلى أن تصرفات الله تعالى تجري على ما تقتضيه صفاته كلها وبذلك تندفع إشكالات عظيمة فيما يعبَّر عنه بالقضاء والقدر .
الآية 220 - سورة البقرة: (في الدنيا والآخرة ۗ ويسألونك عن اليتامى ۖ قل إصلاح لهم خير ۖ وإن تخالطوهم فإخوانكم ۚ والله يعلم المفسد...)