سورة البقرة: الآية 188 - ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل...

تفسير الآية 188, سورة البقرة

وَلَا تَأْكُلُوٓا۟ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ وَتُدْلُوا۟ بِهَآ إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا۟ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ

الترجمة الإنجليزية

Wala takuloo amwalakum baynakum bialbatili watudloo biha ila alhukkami litakuloo fareeqan min amwali alnnasi bialithmi waantum taAAlamoona

تفسير الآية 188

ولا يأكل بعضكم مال بعض بسبب باطل كاليمين الكاذبة، والغصب، والسرقة، والرشوة، والربا ونحو ذلك، ولا تلقوا بالحجج الباطلة إلى الحكام؛ لتأكلوا عن طريق التخاصم أموال طائفة من الناس بالباطل، وأنتم تعلمون تحريم ذلك عليكم.

«ولا تأكلوا أموالكم بينكم» أي يأكل بعضكم مال بعض «بالباطل» الحرام شرعا كالسرقة والغصب «و» لا «تُدلوا» تلقوا «بها» أي بحكومتها أو بالأموال رشوة «إلى الحكام لتأكلوا» بالتحاكم «فريقا» طائفة «من أموال الناس» متلبسين «بالإثم وأنتم تعلمون» أنكم مبطلون.

أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم, لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه, ويحترم ماله كما يحترم ماله؛ ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة. ولما كان أكلها نوعين: نوعا بحق, ونوعا بباطل, وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل, قيده تعالى بذلك، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية, أو نحو ذلك، ويدخل فيه أيضا, أخذها على وجه المعاوضة, بمعاوضة محرمة, كعقود الربا, والقمار كلها, فإنها من أكل المال بالباطل, لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة, ونحوها، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات, والأوقاف، والوصايا, لمن ليس له حق منها, أو فوق حقه. فكل هذا ونحوه, من أكل المال بالباطل, فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع, وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة, غلبت حجة المحق, وحكم له الحاكم بذلك، فإن حكم الحاكم, لا يبيح محرما, ولا يحلل حراما, إنما يحكم على نحو مما يسمع, وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة, ولا شبهة, ولا استراحة. فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة, وحكم له بذلك, فإنه لا يحل له, ويكون آكلا لمال غيره, بالباطل والإثم, وهو عالم بذلك. فيكون أبلغ في عقوبته, وأشد في نكاله. وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه, لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى: وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا

قال علي ابن أبي طلحة ، وعن ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل حرام .وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم . وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إنما أنا بشر ، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من نار ، فليحملها ، أو ليذرها " . فدلت هذه الآية الكريمة ، وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حرام ، ولا يحرم حلالا هو حلال ، وإنما هو يلزم في الظاهر ، فإن طابق في نفس الأمر فذاك ، وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره ; ولهذا قال تعالى : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا ) [ أي : طائفة ] ( من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) أي : تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجون في كلامكم .قال قتادة : اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما ، ولا يحق لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود ، والقاضي بشر يخطئ ويصيب ، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا .وقال أبو حنيفة : حكم الحاكم بطلاق الزوجة إذا شهد عنده شاهدا زور في نفس الأمر ، ولكنهما عدلان عنده يحلها للأزواج حتى للشاهدين ويحرمها على زوجها الذي حكم بطلاقها منه ، وقالوا : هذا كلعان المرأة ، إنه يبينها من زوجها ويحرمها عليه ، وإن كانت كاذبة في نفس الأمر ، ولو علم الحاكم بكذبها لحدها ولما حرمها وهذا أولى .مسألة : قال القرطبي : أجمع أهل السنة على أن من أكل مالا حراما ولو ما يصدق عليه اسم المال أنه يفسق ، وقال بشر بن المعتمر في طائفة من المعتزلة : لا يفسق إلا بأكل مائتي درهم فما زاد ، ولا يفسق بما دون ذلك ، وقال الجبائي : يفسق بأكل درهم فما فوقه إلا بما دونه .

الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة في كل زمان ومكان .والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق ، وعبر عنه بالأكل ، لأن الأكل أهم وسائل الحياة ، وفيه تصرف الأموال غالباً .والباطل في اللغة : الزائل الذاهب ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا . أي ذهب ضياً وخسراً . وجمع الباطل أباطيل . ويقال : بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو .والمراد هنا : كل ما لم يبح الشرع فأخذه من المال وإن طابت به النفس ، كالربا والميسر وثمن الخمر ، والرشوة ، وشهاد الزور ، والسرقة ، والغصب ، ونحو ذلك مما حرمه الله - تعالى - .والباء للسببية ، والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله ، وكذلك قوله : ( بَيْنَكُمْ ) .والمعنى : لا يأخذ بعضكم مال بعض ، ويستولي عليه بغير حق ، متعذر بالأسباب الباطلة ، والحيل الزائفة ، وما إلى ذلك من وجوه التعدي والظلم .وفي قوله - تعالى - : ( أَمْوَالَكُمْ ) - مع أن أكل المال يتناول مال الإِنسان ومال غيره - في هذا القول إشعار بوحدة الأمة وتكافلها ، وتنبيه إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لما لك أنت ، ففيه هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي ، وبيان لحكمة الحكم ، إذا استحلال الإِنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإِنسان المتعدي ، وإذا فشا هذا السلوك في أمة من الأمم أدى بها إلى الضعف والتعادي والتباغض .فيما أحكم هذا التعبير ، وما أجمل هذا التصوير .وقوله : ( وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام ) معطوف على ( وَلاَ تأكلوا ) .والإِدلاء في الأصل : إرسال الدول في البئر للاستقاء . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه أدلى فلان بحجته ، أي : أرسلها ليصل إلى مراده .والمراد بالإِدلاء هنا : الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين .والحكام : جمع حاكم ، وهو الذي يتصدى للفصل بين الناس في خصوماتهم وقضاياهم .والفرق : القطعة المعزولة من جملة الشيء ، ومنه قيل للقطعة من الغنم تشذ عن معظمها فريق .والإِثم : الفعل الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب . وجمعه آثام .والمعنى : لا يأخذ بعضكم أموال بعض - أيها المسلمون - ولا يستولي عليها بغير حق ، ولا تدلوا بها الحكام ، أي ولا تلقوا أمرها والتحاكم فيها إلى القضاة ، لا من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما من أجل أن تأخذوا عن طريق التحاكم قطعة من أموال غيركم متلبسين بالإِثم الذي يؤدي إلى عقابكم ، حال كونكم تعلمون أنكم على باطل ، ولا شك أن إتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به .فعل هذا الوجه يكون المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام طرحها أمامهم ليقضوا فيها ، وليتوسل بعض الخصوم عن طريق هذا القضاء إلى أكل الأموال بالباطل حين عجزوا عن أكلها بالمغالبة .وهناك وجه آخر تحتمله الآية احتمالا قريباً ، وبه قال كثير من العلماء وهو أن المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام ، إلقاءؤها إليهم على سبيل الرشوة ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يحكموا لصالحهم بالباطل ، وعليه يكون المعنى .لا يأخذ بعضكم أموال بعض أيها المسلمون ، ولا تلقوا ببعضها إلى حكام السوء على سبيل الرشوة ، لتتوصلوا بأحكامهم الجائرة إلى أكل فريق من أموال الناس بغير حق . ولا غربة في أن يعني القرآن في سياسته الرشيدة بالتحذير من جريمة الرشوة ، فإنها المعول الذي يهدم صرح العدل من أساسه وبها تفقد مجالس القضاء حرمتها وكرامتها ، وتصير تلك المجالس موطنا للظلم لا للعدل .وخص القرآن الكريم هذه الصورة بالنهي - وهي صورة الإِدلاء بالأموال إلى الحكام - مع أنه قد ذكر ما يشملها بقوله : ( وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل ) لأنها على وجهي تفسيرها شديدة الشناعة ، جامعة لمنكرات كثيرة ، كالظلم ، والتباغض والرشوة ، والغصب وغير ذلك . والحق ، أن هذه الآية الكريمة أصل من الأصول التي يقوم عليها إصلاح المعاملات ، وقد أخذ العلماء منها حرمة أكل أموال الناس بالباطل ، وحرمة إرشاء الحكام ليقضي لراشي بمال غيره وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الجميع في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي والمرتشي والراءش " وهو الواسطة الذي يمشي بينهما .كما أخذوا منها أن حكم الحاكم على ما يقتضيه الظاهر من أمر القضية لا يحل في الواقع حراماً ، ولا يحرم حلالاً ، والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومه بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " إنما أنا بشر وإنه ليأتيني الخصم . فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه قد صدق ، فأقضى له بذلك . فمن قضيت له بحق بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " .قال الإِمام ابن كثير : فدلت هذه الآية الكريمة هذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يحل في نفس الأمر حراماً ولا يحرم حلالا ، وإنم اهو ملزم في الظاهرة فإن طبق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره . ولهذا قال - تعالى - في آخر الآية ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) . أي تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم .وبذلك تكون الآية الكريمة قد رسمت طريق الحق لمن يريد أن يسير فيه ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن الأهلة لما لها من صلة بالصيام وبالقتال في الأشهر الحرام وبمواقيت الحج فقال - تعالى - :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر . . . )

قوله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) قيل نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عايش الكندي ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا أنه غلبني عليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي : ألك بينة ) قال لا قال ( فلك يمينه ) فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض ) فأنزل الله هذه الآية ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل أي من غير الوجه الذي أباحه الله وأصل الباطل الشيء الذاهب والأكل بالباطل أنواع قد يكون بطريق الغصب والنهب وقد يكون بطريق اللهو كالقمار وأجرة المغني ، ونحوهما وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة ( وتدلوا بها إلى الحكام ) أي تلقوا أمور تلك الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام وأصل الإدلاء إرسال الدلو وإلقاؤه في البئر يقال أدلى دلوه إذا أرسله ودلاه يدلوه إذا أخرجه ، قال ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة فيجحد المال ويخاصم فيه إلى الحاكم وهو يعرف أن الحق عليه وإنه أثم بمنعه قال مجاهد في هذه الآية لا تخاصم وأنت ظالم قال الكلبي : هو أن يقيم شهادة الزور وقوله ( وتدلوا ) في محل الجزم بتكرير حرف النهي معناه ولا تدلوا بها إلى الحكام وقيل معناه ولا تأكلوا بالباطل وتنسبونه إلى الحكام قال قتادة : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حراما وكان شريح القاضي يقول إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالما ولكن لا يسعني إلا أن أقضي بما يحضرني من البينة وإن قضائي لا يحل لك حراماأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار " .قوله تعالى : ( لتأكلوا فريقا ) طائفة ( من أموال الناس بالإثم ) بالظلم وقال ابن عباس : باليمين الكاذبة يقطع بها مال أخيه ( وأنتم تعلمون ) أنكم مبطلون

قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمونفيه ثمان مسائل :الأولى : قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم قيل : إنه نزل في عبدان بن أشوع الحضرمي ، ادعى مالا على امرئ القيس الكندي واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكر امرؤ القيس وأراد أن يحلف فنزلت هذه الآية ، فكف عن اليمين وحكم عبدان في أرضه ولم يخاصمه .الثانية : الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق ، فيدخل في هذا : القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق ، وما لا تطيب به نفس مالكه ، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه ، كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك ، ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لأن الغبن كأنه هبة ، على ما يأتي بيانه في سورة " النساء " ، وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه ، كما قال : ولا تقتلوا أنفسكم . وقال قوم : المراد بالآية ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة ، فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين .الثالثة : من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل ، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل ، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي ; لأنه إنما يقضي بالظاهر ، وهذا إجماع في الأموال ، وإن كان عند أبي حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا ، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال فهو في الفروج أولى . وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار - في رواية - فليحملها أو يذرها ، وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء ، وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن ، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج ، إلا ما حكي عن أبي حنيفة في الفروج ، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما لعدالتهما عنده فإن فرجها يحل لمتزوجها - ممن يعلم أن القضية باطل - بعد العدة ، وكذلك لو تزوجها أحد الشاهدين جاز عنده ; لأنه لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره سواء ; لأن قضاء القاضي قطع عصمتها ، وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعا ، ولولا ذلك ما حلت للأزواج ، واحتج بحكم اللعان وقال : معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب ، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما ، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه السلام : فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه . . . الحديث .الرابعة : وهذه الآية متمسك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز ، فيستدل عليه بقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، فجوابه أن يقال له : لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل ، وحينئذ يدخل في هذا العموم ، فهي دليل على أن الباطل في المعاملات لا يجوز ، وليس فيها تعيين الباطل .الخامسة : قوله تعالى : بالباطل الباطل في اللغة : الذاهب الزائل ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا ، وجمع الباطل بواطل ، والأباطيل جمع البطولة . وتبطل أي اتبع اللهو ، وأبطل فلان إذا جاء بالباطل ، وقوله تعالى : لا يأتيه الباطل قال قتادة : هو إبليس ، لا يزيد في القرآن ولا ينقص ، وقوله : ويمح الله الباطل يعني الشرك ، والبطلة : السحرة .السادسة : قوله تعالى : وتدلوا بها إلى الحكام الآية . قيل : يعني الوديعة وما لا تقوم فيه بينة ، عن ابن عباس والحسن . وقيل : هو مال اليتيم الذي هو في أيدي الأوصياء ، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقتطع بعضه وتقوم له في الظاهر حجة ، وقال الزجاج : تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق . يقال : أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به ، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر ، يقال : أدلى دلوه : أرسلها ، ودلاها : أخرجها ، وجمع الدلو والدلاء : أدل ودلاء ودلي ، والمعنى في الآية : لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة ، وهو كقوله : ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق . وهو من قبيل قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وقيل : المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها ، فالباء إلزاق مجرد . قال ابن عطية : وهذا القول يترجح ; لأن الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل ، وأيضا فإن اللفظين متناسبان : تدلوا من إرسال الدلو ، والرشوة من الرشاء ، كأنه يمد بها ليقضي الحاجة .قلت : ويقوي هذا قوله : وتدلوا بها تدلوا في موضع جزم عطفا على تأكلوا كما ذكرنا ، وفي مصحف أبي " ولا تدلوا " بتكرار حرف النهي ، وهذه القراءة تؤيد جزم تدلوا في قراءة الجماعة ، وقيل : تدلوا في موضع نصب على الظرف ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه " أن " مضمرة ، والهاء في قوله بها ترجع إلى الأموال ، وعلى القول الأول إلى الحجة ولم يجر لها ذكر ، فقوي القول الثاني لذكر الأموال ، والله أعلم . في الصحاح . " والرشوة معروفة ، والرشوة بالضم مثله ، والجمع رشى ورشى ، وقد رشاه يرشوه ، وارتشى : أخذ الرشوة ، واسترشى في حكمه : طلب الرشوة عليه " .قلت : فالحكام اليوم عين الرشا لا مظنته ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ! .السابعة : قوله تعالى : لتأكلوا نصب بلام كي . فريقا أي قطعة وجزءا ، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض ، والفريق : القطعة من الغنم تشذ عن معظمها ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس . بالإثم معناه بالظلم والتعدي ، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم يتعلق بفاعله . وأنتم تعلمون أي بطلان ذلك وإثمه ، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية .الثامنة : اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك ، وأنه محرم عليه أخذه . خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا : إن المكلف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك ، وخلافا لابن الجبائي حيث قال : إنه يفسق بأخذ عشرة دراهم ولا يفسق بدونها ، وخلافا لابن الهذيل حيث قال : يفسق بأخذ خمسة دراهم ، وخلافا لبعض قدرية البصرة حيث قال : يفسق بأخذ درهم فما فوق ، ولا يفسق بما دون ذلك ، وهذا كله مردود بالقرآن والسنة وباتفاق علماء الأمة ، قال صلى الله عليه وسلم : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام الحديث ، متفق على صحته .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضُكم مالَ بعض بالباطل. فجعل تعالى ذكره بذلك آكلَ مال أخيه بالباطل، كالآكل مالَ نَفسه بالباطل.ونَظيرُ ذلك قولهُ تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة الحجرات: 11] وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة النساء: 29] بمعنى: لا يلمزْ بعضكم بعضا، ولا يقتُلْ بعضكم بعضا (83) لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه، ولامزُه كلامز نفسه، وكذلك تفعل العرب تكني عن نفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها، فتقول: " أخي وأخوك أيُّنا أبطش ". يعني: أنا وأنت نصْطرع، فننظر أيُّنا أشدّ (84) - فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه، لأن أخا الرجل عندها كنفسه، ومن ذلك قول الشاعر: (85)أخِي وَأَخُوكَ بِبَطْنِ النُّسَيْرِلَيْسَ بِهِ مِنْ مَعَدٍّ عَرِيبْ (86)* * *فتأويل الكلام: ولا يأكلْ بعضكم أموال بعضٍ فيما بينكم بالباطل." وأكله بالباطل ": أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.* * *وأما قوله: " وتُدلوا بها إلى الحكام " فإنه يعني: وتخاصموا بها - يعني: بأموالكم - إلى الحكام " لتأكلوا فريقا " = طائفة = (87) من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون.ويعني بقوله: " بالإثم " بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم (88) " وأنتم تعلمون "، أي: وأنتم تتعمَّدون أكل ذلك بالإثم، على قصد منكم إلى ما حَرّم الله عليكم منه، ومعرفةٍ بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم . (89) . كما:3059 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام " فهذا في الرجل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بيِّنة، فيجحد المال، فيخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف أنّ الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم: آكلٌ حراما.3060 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " وتُدلوا بها إلى الحكام " قال: لا تخاصم وأنت ظالم.3061 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.3062 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام " وكان يقال: من مشى مع خصمه وهو له ظالم، فهو آثم حتى يرجع إلى الحق. واعلم يَا ابن آدم أن قَضاء القاضي لا يُحلّ لك حراما ولا يُحقّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرَى ويشهدُ به الشهود، والقاضي بَشر يخطئ ويصيب. واعلموا أنه من قد قُضي له بالباطل، فإن خصومته لم تنقض حتّى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبُطل للمحق، بأجود مما قُضي به للمبطل على المحقّ في الدنيا (90) .3063 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " وتدلوا بها إلى الحكام " قال: لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم وأنتَ تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يُحلّ لك شيئا كان حراما عليك.3064 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون " أما " الباطل " يقول: يظلم الرجل منكم صاحبَه، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم، فذلك قوله: " وتدلوا بها إلى الحكام ".3065- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني خالد الواسطي، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة قوله: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " قال: هو الرجل يشتري السِّلعة فيردُّها ويردُّ معها دَرَاهم.3066 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " ولا تأكلوا أموالكم بَينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام " يقول: يكون أجدل منه وأعرَف بالحجة، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل. وقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [سورة النساء: 29] قال: هذا القِمار الذي كان يَعمل به أهل الجاهلية.* * *وأصل " الإدلاء ": إرسال الرجل الدلو في سَبب متعلقا به في البئر. (91) فقيل للمحتج لدعواه: " أدلَى بحجة كيت وكيت " إذا كان حجته التي يحتج بها سببا له، هو به متعلقٌ في خصومته، كتعلق المستقي من بئر بدَلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة، يقال فيهما جميعا - أعني من الاحتجاج، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب: " أدلى فلان بحجته، فهو يُدلي بها إدلاء = وأدلى دلوه في البئر، فهو يدليها إدلاء ".* * *فأما قوله: " وتدلوا بها إلى الحكام "، فإن فيه وَجهين من الإعراب:أحدهما: أن يكون قوله: " وتُدْلوا " جزما عطفا على قوله: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " أي: ولا تدلوا بها إلى الحكام، وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة أُبَيٍّ بتكرير حرف النهي: " وَلا تدلوا بها إلى الحكام ".والآخر منهما: النصب على الصرْف، (92) فيكون معناه حينئذ: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام، كما قال الشاعر:لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُعَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (93)يعني: لا تنه عن خلق وأنتَ تأتي مثله.وهو أنْ يكون في موضع جزم - على ما ذُكر في قراءة أبيّ - أحسن منه أن يكون نَصبا.--------------الهوامش :(83) انظر ما سلف مثل ذلك في 2 : 300 ، ثم الآية : 85 من سورة البقرة 2 : 303 لم يذكر فيها شيئا من ذلك . ولم يبين هذا البيان فيما سلف . وهذا دليل على أنه كان أحيانا يختصر الكلام اختصارا ، اعتمادا على ما مضى من كلامه ، أو ما يستقبل منه . كما قلت في مقدمة التفسير .(84) انظر تأويل مشكل القرآن : 114 ، هذا بنصه .(85) هو ثعلبة بن عمرو (حزن) العبدي ، ابن أم حزنة . ويقال هو من بني شيبان حليف في عبد القيس . وكان من الفرسان (الاشتقاق لابن دريد : 197) . وانظر التعليق التالي .(86) المفضليات : 513 ، وتأويل مشكل القرآن : 114 ، معجم ما استعجم : 1038 . وفي المطبوعة : "ليس لنا" ، وأثبت ما في المراجع ، وكأنها الصواب . ويقال : ليس بالدار عريب ، أي ليس بها أحدا . و"النسير" ، تصغير"النسر" ، وهو مكان بديار بني سليم . بيد أن ياقوت نقل عن الحازمي أنه بناحية نهاوند ، واستشهد بهذا البيت . فإن يكن ذلك فابن أم حزنة هذا إسلامي : قال ياقوت ، قال سيف : "سار المسلمون من مرج القلعة نحو نهاوند ، حتى انتهوا إلى قلعة فيها قوم ، ففتحوها ، وخلفوا عليها النسير بن ثور في عجل وحنيفة . وفتحها بعد فتح نهاوند ، ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي ، لأنهم أقاموا مع النسير على القلعة ، فسميت به" (انظر تاريخ الطبري 4 : 243 ، 251) .فإن صح أن ابن أم حزنة كان في بعث المسلمين ، كان هذا البيت مؤيدا لهذا القول . فإنه يقول له : أنا وأنت ببطن النسير ، ليس معنا فيه من أبناء معد (وهم العرب) أحد . وأما عن الحازمي إذا كان الموضع ببلاد العرب ، فهو يقول : ليس به أحد ، وقوله"من معد" فضول من القول . وقد ترجح عندي أنه شاعر إسلامي ، من بعض شعره في المفضليات رقم 74 ، وفي الوحشيات رقم : 217 ، (وانظر من نسب إلى أمه رقم : 22 ، 32) ، وله شعر في حماسة البحتري : 97 ، 103 .وإن صحت رواية الطبري : "ليس لنا من معد عريب" . فعريب ، في هذا البيت ، هو صاحبه الذي ذكره في أول الشعر فقال :إِنَّ عَرِبيًا وَإِنْ سَاءَنيأَحَبُّ حَبِيبٍ وَأَدْنَى قَرِيبْفيكون قوله : "معد" مصدر"عد يعد" . يقول : أنا وأنت ببطن النسير وحدنا ، لا يعد معنا أحد ، يعني أنهما خاليين بالمكان ، ليس لك من ينصرك ولا لي من ينصرني ، فهناك يظهر صاحب للبأس منهما ، وقال بعد البيت :فأقْسَم بِاللّهِ لاَ يَأتَلِيوأقْسَمْتُ إِنْ نلتُهُ لاَ يَؤُوبْفَأَقْبَلَ نَحْوِي عَلَى قُدْرةٍفَلَمَّا دَنَا صَدَقَتْه الكَذُوبْ(87) انظر ما سلف في تفسير"فريق" 2 : 224 ، 402 .(88) انظر ما سلف في تفسير"الإثم" من هذا الجزء 3 : 399-408 .(89) في المطبوعة : "معصية الله" ، خطأ .(90) في المطبوعة : "ويأخذ مما قضي به . . " ، والصواب ما أثبت من تفسير ابن كثير 1 : 430 .(91) السبب : الحبل .(92) في المطبوعة : "على الظرف" ، وهو محض خطأ . وقد مضى تفسير معنى"الصرف" في 1 : 569-570 ، واالتعليق : 1 .(93) سلف تخريج هذا البيت في 1 : 569 ، إلا أني سهوت فلم أذكر أنه آت في هذا الموضع من التفسير ، وفي 9 : 146 (بولاق) ، فقيده . وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1 : 115 .

عطف جملة على جملة ، والمناسبة أن قوله : { تلك حدود الله فلا تقربوها } [ البقرة : 187 ] تحذير من الجُرأَة على مخالفة حكم الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب من الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل ، والمشاكلة زادت المناسبةَ قوة ، وهذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية ، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام .كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن الميسِر ، ومن غصب القوي مال الضعيف ، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى ، ومن الغرر والمقامرة ، ومن المراباة ونحو ذلك ، وكل ذلك من الباطل الذي ليس عن طيب نفس .والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا استعارة للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع؛ لأن ذلك الأخذ يشبه الأَكل من جميع جهاته ، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل ، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل كما لا يخفى .والأموال جمع مال ونُعرِّفه بأنه «ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيَّات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلاً بكدح» ، فلا يعد الهواء مالاً ، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالاً ، ولا التراب مالاً ، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالاً ، ويعد الماء المحتفر بالآبار مالاً ، وتراب المقاطع مالاً ، والحشيش والحطب مالاً ، وما ينحته المرء لنفسه في جبللٍ مالاً .والمالُ ثلاثة أنواع : النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب ، والثمار ، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده ولركوبه قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين } [ النحل : 80 ] وقال : { لتركبوا منها ومنها تأكلون } [ غافر : 79 ] وقد سمت العرب الإبل مالاً قال زهير :صَحِيحَاتتِ مَاللٍ طَالِعَاتتٍ بمَخْرَم ... وقال عمر : " لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حَمَيْتُ عليهم من بلادهم شبراً " وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها ، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين ، فصاحبه ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه ، وفي الحديث «يقول ابن آدَمَ مَالِي مَالِي وإنما مالك ما أكلت فأَمريت أو أَعطيتَ فأغنيت» فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي .النوع الثاني : ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها ، والنار للطبخ والإذابة ، والماء لسقي الأشجار ، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك ، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق .النوع الثالث : ما تحصل الإقامةُ بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضاً لما يراد تحصيله من الأشياء ، وهذا هو المعبَّر عنه بالنَّقد أو بالعُمْلة ، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والوَدَع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه ، وهذا لا يتم اعتباره إلاّ في أزمنة السلم والأَمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد ، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات .وقولي في التعريف : حاصلاً بكدح ، أردت به أن شأنه أن يكون حاصلاً بسعي فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسباً والاكتساب له ثلاثة طرق :الطريق الأول : طريق التناول من الأرض قال تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] وقال : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } [ الملك : 15 ] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل ، وهذا قدْ يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجبال والتقاط الكمأة .الطريق الثاني : الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب ، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح .الطريق الثالث : التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما بتعامل بأن يعطيَ المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذَ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو ، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قُدِّر بمقداره كدينار ودرهم في شيء مقوَّم بهما ، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه .والباطل اسم فاعل من بطل إذا ذهب ضياعاً وخسراً أي بدون وجه ، ولا شك أن الوجه هو ما يرضي صاحب المال أعني العِوض في البيوعات وحب المحمدة في التبرعات .والضمائر في مثل : { ولا تأكلوا أموالكم } إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين ، وفعل : { ولا تأكلوا } وقع في حَيز النهي فهو عام ، فأفاد ذلك نهياً لِجميع المسلمين عن كُل أَكل وفي جميع الأَمْوال ، قلنا هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة ، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فردٍ من أفراد الجمع بكل فردٍ من أفراد الجمع الآخَر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى :{ وخذوا حذركم } [ النساء : 102 ] { قوا أنفسكم } [ التحريم : 6 ] ، واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله : { ولا تلمزوا أنفسكم } [ الحجرات : 11 ] وقوله { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] ، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله : { وقِهم السيئات } [ غافر : 9 ] ، والتعويل في ذلك على القرائن .وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل؛ بقرينة قوله : { بينكم } ؛ لأن بين تقتضي توسطاً خلال طرفين ، فعُلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما ، فلزم أن يكون الآكل غيرَ المأكول وإلاّ لما كانت فائدة لقوله : { بينكم } .ومعنى أكلها بالباطل أكلُها بدون وجه ، وهذا الأكل مراتب :المرتبة الأولى : ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلاً كالغصب والسرقة والحيلة .المرتبة الثانية : ما ألحقه الشرع بالباطل فبيَّن أنه من الباطل وقد كان خفياً عنهم وهذا مثل الربا؛ فإنهم قالوا : { إنَّما البيع مثل الربا } [ البقرة : 275 ] ، ومثل رشوة الحكام ، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ ففي الحديث : " أرَأَيْتَ إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه " والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي : هي خمسون حديثاً .المرتبة الثالثة : ما استنبطه العلماء من ذلك ، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل ، والعلماءُ فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب مِن المالكية وتفصيله في الفقه .وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في قضية عبدان الحضرمي وامرىء القيس الكِنْدي اختصما لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فنزلت هذه الآية والقصة مذكورة في «صحيح مسلم» ولم يذكر فيها أن هذه الآية نزلت فيهما وإنما ذكر ذلك ابن أبي حاتم .وقوله تعالى : { وتدلوا بها إلى الحكام } عطف على { تأكلوا } أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل . وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أَكل الأموال بالباطل؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة ، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل مالاً بل آكلَ غيره ، وجُوز أن تكون الواو للمعية و { تدلوا } منصوباً بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مُدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي عن هذا النوع من أكل الأموال بالباطل .والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع .فالمعنى على الاحتمال الأول ، لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بها فريقاً من أموال الناس بالإثم؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاء الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره فهي تحريم للرشوة وللقضاء بغير الحق ، ولأَكل المقضي له مالاً بالباطل بسبب القضاء بالباطل .والمعنى على الاحتمال الثاني لا تأكلوا أموالكم بالباطل في حال انتشاب الخصومات بالأموال لدى الحكام لتتوسلوا بقضاء الحكام ، إلى أكل الأموال بالباطل حين لا تستطيعون أكلها بالغَلب ، وكأنَّ الذي دعاهم إلى فرض هذا الاحتمال هو مراعاة القصة التي ذكرت في سبب النزول ، ولا يخفى أن التقيد بتلك القصة لا وجه له في تفسير الآية ، لأنه لو صح سندها لكان حمل الآية على تحريم الرشوة لأجل أكل المال دليلاً على تحريم أكل المال بدون رشوة بدلالة تنقيح المناط .وعلى ما اخترناه فالآية دلت على تحريم أكل الأموال بالباطل ، وعلى تحريم إرشاء الحكام لأكل الأموال بالباطل ، وعلى أن قضاء القاضي لاَ يغير صفة أكل المال بالباطل ، وعلى تحريم الجور في الحكم بالباطل ولو بدون إرشاء ، لأن تحريم الرشوة إنما كان لما فيه من تغيير الحق ، ولا جَرم أن هاته الأشياء من أهم ما تصدَّى الإسلام لتأسيسه تغييراً لما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يستحلون أموال الذين لم يستطيعوا منع أموالهم من الأكل فكانوا يأكلون أموال الضعفاء قال صَنَّان اليَشْكُري :لَوْ كَانَ حَوْضَ حِمَارٍ ما شَرِبْتَ به ... إِلاَّ بإذن حِمارٍ آخِرَ الأَبَدِلكِنَّه حَوْضُ مَنْ أوْدَى بإخوته ... ريبُ المَنُوننِ فأمسى بَيْضَةَ البَلَدِوأما إرشاء الحكام فقد كان أهل الجاهلية يبذلون الرُّشا للحكام ، ولمَّا تنافر عامر بن الطفيل وعَلْقَمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري بذل كل واحد منهما مائة من الإبل إن حكم له بالتفضيل على الآخر فلم يقض لواحد منهما بل قضى بينهما بأنهما كركبتي البعير الأَدْرَم الفَحْل تستويان في الوقوع على الأرض فقال الأعشى في ذلك من أبيات :حَكَّمتُموه فقضى بينَكُم ... أَزْهَرُ مثلُ القَمر البَاهِرِلاَ يَقْبَل الرَّشْوَةَ في حُكمه ... ولاَ يُبالِي غَبن الخاسرويقال إن أول من ارتشى من حكام الجاهلية هو ضَمرة بن ضمرة النَهْشلي بمائة من الإبل دفعها إليه عباد بن أنف الكلب في منافرة بينه وبين معبد بن نضلة الفقعسي لينفِّره عليه ففعل ، ويقال إن أول من ارتشى في الإسلام يَرَفَأُ غلامُ عمر بن الخطاب رشاه المغيرة بن شعبة ليقدمه في الإذن بالدخول إلى عمر؛ لأن يرفأ لما كان هو الواسطة في الإذن للناس وكان الحق في التقديم في الإذن للأسبق ، إذ لم يكن مضطراً غيرُه إلى التقديم كان تقديم غير الأسبق اعتداء على حق الأسبق فكان جوراً وكان بذل المال لأجل تحصيله إرشاءً ولا أحسب هذا إلاّ من أكاذيب أصحاب الأهواء للغض من عدالة بعض الصحابة فإنْ صح ولا إِخاله : فالمغيرة لم ير في ذلك بأساً؛ لأن الضر اللاحق بالغير غير معتد به ، أو لعله رآه إحساناً ولم يقصد التقديم ففعله يرفأ إكراماً له لأجل نواله ، أمَّا يرفأ فلعله لم يهتد إلى دقيق هذا الحكم .فالرشوة حرمها الله تعالى بنص هاته الآية؛ لأنها إن كانت للقضاء بالجور فهي لأَكل مال بالباطل وليست هي أكل مال بالباطل فلذلك عطف على النهي الأول؛ لأن الحاكم موكِّلٌ المال لا آكل ، وإن كانت للقضاء بالحق فهي أكل مال بالباطل؛ لأن القضاء بالحق واجب ، ومثلها كل مال يأخذه الحاكم على القضاء من الخصوم إلاّ إذا لم يجعل له شيء من بيت المال ولم يكن له مال فقد أباحوا له أخذ شيء معيَّن على القضاء سواء فيه كلا الخصمين .ودلالة هذه الآية على أن قضاء القاضي لا يؤثرُ في تغيير حرمة أكل المال من قوله : { وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم } فجعل المال الذي يأكله أحد بواسطة الحكم إثماً وهو صريح في أن القضاء لا يُحل حراماً ولا ينفذُ إلاّ ظاهراً ، وهذا مما لا شبهة فيه لولا خلاف وقع في المسألة ، فإن أبا حنيفة خالف جمهور الفقهاء فقال بأن قضاء القاضي يُحِل الحرام وينفذ باطناً وظاهراً إذا كان بحل أو حِرمة وادَّعاه المحكوم له بسبب معين أي كان القضاء بعقد أو فسخ وكان مستنداً لشهادة شهود وكان المقضي به مما يصح أن يبتدأ ، هذا الذي حكاه عنه غالب فقهاء مذهبه وبعضهم يخصه بالنكاح .واحتج على ذلك بما روي أن رجلاً خطب امرأة هُودونها فأبت إجابته فادعى عليها ، عند عليّ أنه تزوجها وأقام شاهدين زوراً فقضى عليٌّ بشهادتهما فقالت المرأة لما قضى عليها ، إن كان ولا بد فزوجني منه فقال لها عليٌّ شاهداك زوجاك ، وهذا الدليل بعد تسليم صحة سنده لا يزيد على كونه مذهب صحابي وهو لا يعارض الأحوال الشرعية ولا الأحاديث المروية نحو حديث « فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخُذْه فإنما أقتطع له قِطعة من نار » على أن تأويله ظاهر وهو أن علياً اتهمها بأنها تريد بإحداث العقد بعد الحكم إظهار الوهن في الحكم والإعلانَ بتكذيب المحكوم له ولعلها إذا طلب منها العقد أن تمتنع فيصبح الحكم معلقاً .والظاهر أن مراد أبي حنيفة أن القضاء فيما يقع صحيحاً وفاسداً شرعاً من كل ما ليس فيه حق العبد أن قضاء القاضي بصحته يتنزل منزلة استكمال شروطه توسعة على الناس ، فلا يخفى ضعف هذا ولذلك لم يتابعه عليه أحد من أصحابه .وقوله : { وأنتم تعلمون } حال مؤكدة لأن المدلي بالأموال للحكام ليأكل أموال الناس عالم لا محالة بصنعه ، فالمراد من هذه الحال تشنيع الأمر وتفظيعه إعلاناً بأن أكل المال بهذه الكيفية هو من الذين أكلوا أموال الناس عن عِلم وعمد فجرمه أشد .
الآية 188 - سورة البقرة: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون...)