سورة البقرة: الآية 159 - إن الذين يكتمون ما أنزلنا...

تفسير الآية 159, سورة البقرة

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلْهُدَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِى ٱلْكِتَٰبِ ۙ أُو۟لَٰٓئِكَ يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ

الترجمة الإنجليزية

Inna allatheena yaktumoona ma anzalna mina albayyinati waalhuda min baAAdi ma bayyannahu lilnnasi fee alkitabi olaika yalAAanuhumu Allahu wayalAAanuhumu allaAAinoona

تفسير الآية 159

إن الذين يُخْفون ما أنزلنا من الآيات الواضحات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهم أحبار اليهود وعلماء النصارى وغيرهم ممن يكتم ما أنزل الله من بعد ما أظهرناه للناس في التوراة والإنجيل، أولئك يطردهم الله من رحمته، ويدعو عليهم باللعنة جميع الخليقة.

ونزل في اليهود: «إن الذين يكتمون» الناس «ما أنزلنا من البينات والهدى» كآية الرجم ونعت محمد «من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب» التوراة «أولئك يلعنهم الله» يبعدهم من رحمته «ويلعنهم اللاعنون» الملائكة والمؤمنون أو كل شيء بالدعاء عليهم باللعنة.

هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب, وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته, فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله مِنَ الْبَيِّنَاتِ الدالات على الحق المظهرات له، وَالْهُدَى وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم, ويتبين به طريق أهل النعيم, من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم, بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين, كتم ما أنزل الله, والغش لعباد الله، فأولئك يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته. وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ وهم جميع الخليقة, فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة, لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم, وإبعادهم من رحمة الله, فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير, يصلي الله عليه وملائكته, حتى الحوت في جوف الماء, لسعيه في مصلحة الخلق, وإصلاح أديانهم, وقربهم من رحمة الله, فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله, مضاد لأمر الله, مشاق لله, يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.

هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب ، من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه ، التي أنزلها على رسله .قال أبو العالية : نزلت في أهل الكتاب ، كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك ، فكما أن العالم يستغفر له كل شيء ، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء ، فهؤلاء بخلاف العلماء [ الذين يكتمون ] فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون . وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضا ، عن أبي هريرة ، وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سئل عن علم فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار " . والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال : لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ) الآية .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عمار بن محمد ، عن ليث بن أبي سليم ،عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان أبي عمر عن البراء بن عازب ، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فقال : " إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه ، فيسمع كل دابة غير الثقلين ، فتلعنه كل دابة سمعت صوته ، فذلك قول الله تعالى : ( أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) يعني : دواب الأرض " .[ ورواه ابن ماجه عن محمد بن الصباح عن عمار بن محمد به ] .وقال عطاء بن أبي رباح : كل دابة والجن والإنس . وقال مجاهد : إذا أجدبت الأرض قالت البهائم : هذا من أجل عصاة بني آدم ، لعن الله عصاة بني آدم .وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ( ويلعنهم اللاعنون ) يعني تلعنهم ملائكة الله ، والمؤمنون .[ وقد جاء في الحديث ، أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان ، وجاء في هذه الآية : أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون ، واللاعنون أيضا ، وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال ، أو الحال ، أو لو كان له عقل ، أو يوم القيامة ، والله أعلم ] .

قال الآلوسى: أخرج جماعة عن ابن عباس قال: سأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجه بن زيد نفرا من أحبار يهود عما في التوراة من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بعض الأحكام فكتموا، فأنزل الله- تعالى- فيهم هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ... إلخ .والكتم والكتمان: إخفاء الشيء قصدا مع مسيس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره.وكتم ما أنزل الله يتناول إخفاء ما أنزله، وعدم ذكره للناس وإزالته عن موضعه ووضع شيء آخر موضعه، كما يتناول تحريفه بالتأويل الفاسد عن معناه الصحيح جريا مع الأهواء، وقد فعل أهل الكتاب ولا سيما اليهود- كل ذلك. فقد كانوا يعرفون مما بين أيديهم من آيات أن رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم حق، ولكنهم كتموا هذه المعرفة حسدا له على ما آتاه الله من فضله، كما أنهم حرفوا كلام الله وأولوه تأويلا فاسدا تبعا لأهوائهم.والمراد «بما أنزلنا» ما اشتملت عليه الكتب السماوية السابقة على القرآن من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن هداية وأحكام.والمراد بالكتاب جنس الكتب، فيصح حمله على جميع الكتب التي أنزلت على الرسل- عليهم السلام-. وقيل: المراد به التوراة.والْبَيِّناتِ جمع بينة، والمراد بها الآيات الدالة على المقاصد الصحيحة بوضوح، وهي ما نزل على الأنبياء من طريق الوحى.والمراد «بالهدى» ما يهدى إلى الرشد مطلقا فهو أعم من البينات، إذ يشمل المعاني المستمدة من الآيات البينات عن طريق الاستنباط، والاجتهاد القائم على الأصول المحكمة.و «اللعن» الطرد والإبعاد من الرحمة. يقال: لعنه، أى: طرده وأبعده ساخطا عليه، فهو لعين وملعون.والمعنى: إن الذين يخفون عن قصد وتعمد وسوء نية ما أنزل الله على رسله من آيات واضحة دالة على الحق، ومن علم نافع يهدى إلى الرشد، من بعد ما شرحناه وأظهرناه للناس في كتاب يتلى، أولئك الذين فعلوا ذلك يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ بأن يبعدهم عن رحمته وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أى ويلعنهم كل من تتأتى منه اللعنة- كالملائكة والمؤمنين- بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله لكتمانهم لما أمر الله بإظهاره.وجملة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ... إلخ، مستأنفة لبيان سوء عاقبة الكاتمين لما أمر الله بإظهاره، وأكدت «بإن» للاهتمام بهذا الخبر الذي ألقى على مسامع الناس.وعبر في يَكْتُمُونَ بالفعل المضارع، للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المقصود به قوم مضوا، مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين.وقوله: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ متعلق بيكتمون، وقد دلت هذه الجملة الكريمة على أن معصيتهم بالكتمان في أحط الدركات وأقبحها، لأنهم عمدوا إلى ما أنزل الله من هدى، وجعله بينا للناس في كتاب يقرأ، فكتموه قصدا مع تحقق المقتضى لإظهاره، وإنما يفعل ذلك من بلغ الغاية في سفاهة الرأى، وخبث الطوية.واللام في قوله: لِلنَّاسِ للتعليل، أى: بيناه في الكتاب لأجل أن ينتفع به الناس، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من كتمان، لأن فعلهم هذا مع أنه كتمان للحق، فهو في الوقت نفسه اعتداء على مستحقه الذي هو في أشد الحاجة إليه.وقوله: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ يفيد نهاية الغضب عليهم، حتى لكأنهم تحولوا إلى ملعنة ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها من كل من يستطيع اللعن ويؤديه.والآية الكريمة وإن كانت نزلت في أهل الكتاب بسبب كتمانهم للحق، إلا أن وعيدها يتناول كل من كتم علما نافعا، أو غير ذلك من الأمور التي يقضى الدين بإظهارها، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومن شواهد هذا العموم ما جاء في صحيح البخاري عن أبى هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ثم تلا قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ إلى قوله: الرَّحِيمُ .قال ابن كثير: وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضا عن أبى هريرة وغيره، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيام بلجام من نار» .هذا، وينبغي أن يعلم أن الإسلام وإن كان ينهى نهيا قاطعا عن كتم العلم الذي فيه منفعة للناس، إلا أنه يوجب على أتباعه- وخصوصا العلماء- أن يحسنوا ما ينشرونه على الناس من علم، ففي الحديث الشريف: حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله.كما أنه يوجب عليهم أن يضعوا العلم في موضعه المناسب لمقتضى حال المخاطبين، فليس كل ما يعلم يقال، بل أحيانا يكون إخفاء بعض الأحكام مناسبا لأن إظهاره قد يستعمله الطغاة والسفهاء فيما يؤذى الناس، وفي صحيح البخاري أن الحجاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل، حيث قطع النبي صلّى الله عليه وسلّم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا. فلما بلغ الحسن البصري ذلك قال: وددت أنه لم يحدثه؟؟ انهم يتلقفون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه ذريعة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم.ومما يشهد بفقه بعض العلماء وحسن إدراكهم، ووضعهم العلم في موضعه المناسب: ما جاء في بعض الكتب أن سلطان قرطبة سأل يحيى بن يحيى الليثي عن حكم يوم أفطره في رمضان عامدا لأن شهوته غلبته على وطء بعض جواريه، فأفتاه بأن من الواجب عليه أن يصوم ستين يوما، وكان بعض الفقهاء جالسا فلم يجترئ على مخالفة يحيى. فلما انفض المجلس قيل له: لم خصصت الحكم بأحد المخيرات وكتمت العتق والإطعام؟ فقال- رحمه الله- لو فتحنا هذا الباب لوطئ كل يوم وأعتق أو أطعم، فحملته على الأصعب لئلا يعود.فالإمام يحيى عند ما كتم عن السلطان الكفارتين الأخريين- وهما الإعتاق والإطعام- لا يعتبر مسيئا، لأنه قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حرمة فريضة الصوم .وهكذا نرى أن إظهار العلم عند تحقق المقتضى لإظهاره، ووضعه في موضعه اللائق به بدون خشية أو تحريف يدل على قوة الإيمان، وحسن الصلة بالله- تعالى-: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ.

قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب نزلت في علماء اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغيرهما من الأحكام التي كانت في التوراة.أولئك يلعنهم الله وأصل اللعن الطرد والبعد.ويلعنهم اللاعنون أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهم العنهم.واختلفوا في هؤلاء اللاعنين، قال ابن عباس: "جميع الخلائق إلا الجن والإنس"، وقال قتادة: "هم الملائكة". وقال عطاء: "الجن والإنس"، وقال الحسن: "جميع عباد الله".قال ابن مسعود: "ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت تلك اللعنة على اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته".وقال مجاهد: "اللاعنون البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وقالت هذا من شؤم ذنوب بني آدم".ثم استثنى:

قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنونوفيه سبع مسائل :الأولى : أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون . واختلفوا من المراد بذلك ، فقيل : أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كتم اليهود أمر الرجم . وقيل : المراد كل من كتم الحق ، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه ، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم : من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار . رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص أخرجه ابن ماجه . ويعارضه قول عبد الله بن مسعود : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة . وقال عليه السلام : حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله . وهذا محمول على بعض العلوم ، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام ، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه ، وينزل كل إنسان منزلته ، والله تعالى أعلم .الثانية : هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله : لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا . وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق ، وتبيان العلم على الجملة ، دون أخذ الأجرة عليه ، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله ، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام ، وقد مضى القول في هذا .وتحقيق الآية هو : أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى ، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره . وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث . أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم ، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله ، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية ، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ونحو ذلك . يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير ، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله . وقد قال سحنون : إن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة . قال ابن العربي : والصحيح خلافه ; لأن في الحديث ( من سئل عن علم ) ولم يقل عن شهادة ، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله ، والله أعلم .الثالثة : قوله تعالى : من البينات والهدى يعم المنصوص عليه والمستنبط ، لشمول اسم الهدى للجميع . وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد ; لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، وقال : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فحكم بوقوع البيان بخبرهم .فإن قيل : إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر . قلنا : هذا غلط ; لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم ، والله تعالى أعلم .الرابعة : لما قال : من البينات والهدى دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه ، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان . وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم . أخرجه البخاري . قال أبو عبد الله : البلعوم مجرى الطعام . قال علماؤنا : وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين ، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى ، والله تعالى أعلم .الخامسة : قوله تعالى : من بعد ما بيناه الكناية في بيناه ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى . والكتاب : اسم جنس ، فالمراد جميع الكتب المنزلة .السادسة : قوله تعالى : أولئك يلعنهم الله أي يتبرأ منهم ويبعدهم من ثوابه ويقول لهم : عليكم لعنتي ، كما قال للعين : وإن عليك لعنتي . وأصل اللعن في اللغة الإبعاد والطرد ، وقد تقدم .السابعة : قوله تعالى : ويلعنهم اللاعنون قال قتادة والربيع : المراد ب اللاعنون الملائكة والمؤمنون . قال ابن عطية : وهذا واضح جار على مقتضى الكلام . وقال مجاهد وعكرمة : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم . قال الزجاج : والصواب قول من قال : اللاعنون الملائكة والمؤمنون ، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا .قلت : قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون قال : ( دواب الأرض ) . أخرجه ابن ماجه عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المنهال عن زاذان عن البراء إسناد حسن .فإن قيل : كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل ؟ قيل : لأنه أسند إليهم فعل من يعقل ، كما قال : رأيتهم لي ساجدين ولم يقل ساجدات ، وقد قال : لم شهدتم علينا ، وقال : وتراهم ينظرون إليك ، ومثله كثير ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . وقال البراء بن عازب وابن عباس : اللاعنون كل المخلوقات ما عدا الثقلين : الجن والإنس ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع . وقال ابن مسعود والسدي : ( هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك ، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلا فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى ، فهو قوله : ويلعنهم اللاعنون فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود ) .

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِقال أبو جعفر: يعني بقوله: (58) " إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا منَ البينات ", علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى, لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم, وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.* * *و " البينات " التي أنزلها الله: (59) ما بيّن من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أنّ أهلهما يجدون صفته فيهما.* * *ويعني تعالى ذكره ب " الهدى " ما أوضح لَهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم, فقال تعالى ذكره: إنّ الذين يكتمون الناسَ الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقِّيَّتها، فلا يخبرونهم به، ولا يعلنون من تبييني ذلك للناس وإيضاحِيه لهم، (60) في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا الآية. كما:-2370- حدثنا أبو كريب قال، وحدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير, أو عكرمة, عن ابن عباس قال: سألَ مُعاذ بن جبل أخو بنى سَلِمة، وسعد بن مُعاذ أخو بني عبد الأشهل، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج, نفرًا من أحبار يَهود - قال أبو كريب: عما في التوراة, وقال ابن حميد: عن بَعض مَا في التوراة - فكتموهم إياه, وأبوْا أن يُخبروهم عنه, فأنزل الله تعالى ذكره فيهم: " إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم الله وَيَلعنهم اللاعنون ". (61)2371- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: " إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنزلنا من البينات والهدى " قال، هم أهل الكتاب.2372- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.2373- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه عن الربيع في قوله: " إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " قال، كتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم, فكتموه حسدًا وبغيًا.2374- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب "، أولئكَ أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله, وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم, وهم يَجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.2374م- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " إنّ الذين يَكتمونَ ما أنزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب "، زعموا أن رجلا من اليهود كان له صديقٌ من الأنصار يُقال له ثَعلبة بن غَنَمة، (62) قال له: هل تجدون محمدًا عندكم؟ قال: لا! = قال: مُحمد: " البينات ". (63)* * *القول في تأويل قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ[قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " من بعد ما بيناه للناس "]، (64) بعضَ الناس، لأن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومَبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم, وإياهم عَنى تعالى ذكره بقوله: " للناس في الكتاب "، ويعني بذلك: التوراة والإنجيل.* * *وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاصٍّ من الناس, فإنها معنيٌّ بها كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس.وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال2375- من سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه, ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار." (65)* * *وكان أبو هريرة يقول ما:-2376- حدثنا به نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حاتم بن وردان قال، حدثنا أيوب السختياني, عن أبي هريرة قال، لولا آيةٌ من كتاب الله ما حدَّثتكم! وتلا " إنّ الذين يكتمونَ مَا أنزلنا من البينات والهدى من بَعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون "، (66)2377- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وَهْب الله بن راشد، عن يونس قال، قال ابن شهاب, قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدَّثت شيئًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ إلى آخر الآية، والآية الأخرى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ إلى آخر الآية [سورة آل عمران: 187]. (67)* * *القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " أولئك يَلعنهم الله "، هؤلاء الذين يكتمون ما أنزلهُ الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفَته وأمر دينه، أنه الحق -من بعد ما بيَّنه الله لهم في كتبهم- يلعنهم بكتمانهم ذلك، وتركهم تَبيينه للناس.* * *و " اللعنة "" الفَعْلة ", من " لعنه الله " بمعنى أقصاه وأبعده وأسْحَقه. وأصل " اللعن ": الطرْد، (68) كما قال الشماخ بن ضرار, وذكر ماءً ورَد عليه:ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُمَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ الَّلعِينِ (69)يعني: مقامَ الذئب الطريد. و " اللعين " من نعت " الذئب ", وإنما أراد: مقام الذئب الطريد واللعين كالرَّجل. (70)* * *فمعنى الآية إذًا: أولئك يُبعدهم الله منه ومن رحمته, ويسألُ ربَّهم اللاعنون أنْ يلعنهم، لأن لعنةَ بني آدم وسائر خَلق الله مَا لَعنوا أن يقولوا: " اللهم العنه " إذْ كان معنى " اللعن " هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد.وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا: من مسألتهم رَبَّهم أن يَلعَنهم, وقولهم: " لعنه الله " أو " عليه لعنة الله "، لأن:-2378- محمد بن خالد بن خِداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا حدثنا إسماعيل بن علية, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون "، البهائم, قال: إذا أسنَتَتِ السَّنة، (71) قالت البهائم: هذا من أجل عُصَاة بني آدم, لعنَ الله عُصَاة بني آدم!* * *ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره ب " اللاعنين ". فقال بعضهم: عنى بذلك دوابَّ الأرض وهَوامَّها.* ذكر من قال ذلك:2379- حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد قال: تلعنهم دوابُّ الأرض، وما شاءَ الله من الخنافس والعقارب تقول: نُمْنَعَ القطرَ بذنوبهم.2380- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: " أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون " قال، دواب الأرض، العقاربُ والخنافس، يقولون: مُنِعنا القطرَ بخطايا بني آدم.2381- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عمرو، عن منصور, عن مجاهد: " ويلعنهم اللاعنون " قال، تلعنهم الهوامّ ودواب الأرض، تقول: أمسك القطرُ عنا بخطايا بني آدم.2382- حدثنا مُشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن خصيف, عن عكرمة في قوله: " أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون " قال، يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقاربُ، يقولون: مُنعنا القطرَ بذنوب بني آدم. (72)2383- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " ويلعنهم اللاعنون " قال، اللاعنون: البهائم.2383م- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " ويلعنهم اللاعنون "، البهائمُ، تلعن عُصاةَ بَني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر، فتخرج البهائم فتلعنهم.2384- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " أولئك يَلعنهم الله &;ويَلعنهم اللاعنون "، البهائم: الإبل والبقرُ والغنم, فتلعن عُصاةَ بني آدم إذا أجدبت الأرض.* * *فإن قال لنا قائل: ومَا وَجْهُ الذين وجَّهوا تأويلَ قوله: " ويلعنهم اللاعنون "، إلى أن اللاعنين هم الخنافسُ والعقارب ونحو ذلك من هَوامِّ الأرض, وقد علمتَ أنّها إذا جَمعتْ مَا كان من نَوع البهائم وغير بني آدم، (73) فإنما تجمعه بغير " الياء والنون " وغير " الواو والنون ", وإنما تجمعه ب " التاء ", وما خالفَ ما ذكرنا, فتقول: " اللاعنات " ونحو ذلك؟قيل: الأمر وإن كان كذلك, فإنّ من شأن العرَب إذا وصفت شيئًا من البهائم أو غيرها - مما حُكم جَمعه أن يكون ب " التاء " وبغير صورة جمع ذُكْرَانِ بني آدم - بما هُو منْ صفة الآدميين، أن يجمعوه جمع ذكورهم, كما قال تعالى ذكره: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [سورة فصلت: 21]، فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم، إذ كلَّمتهم وكلَّموها, وكما قال: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [سورة النمل: 18]، وكما قال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف: 4].* * *وقال آخرون: عنى الله تعالى ذكره بقوله: " ويَلعنهم اللاعنون "، الملائكة والمؤمنين.* ذكر من قال ذلك:2385- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " ويَلعنهم اللاعنون "، قال، يَقول: اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين. (74)2386- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " ويلعنهم اللاعنون "، الملائكة.2387- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال: " اللاعنون "، من ملائكة الله والمؤمنين.* * *وقال آخرون: يعني ب " اللاعنين "، كل ما عدا بني آدم والجنّ.* ذكر من قال ذلك:2388- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " ويلعنهم اللاعنون " قال، قال البراء بن عازب: إنّ الكافر إذا وُضع في قبره أتته دَابة كأن عينيها قِدْران من نُحاس، معها عمود من حديد, فتضربه ضربة بين كتفيه، فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه, ولا يبقى شَيء إلا سمع صوته, إلا الثقلين الجن والإنس.2389- حدثنا المثنى قال, حدثنا إسحاق قال, حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: " أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " قال، الكافر إذا وضع في حفرته، ضُرب ضربة بمطرق (75) فيصيح صيحةً، يسمع صَوْته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، فلا يسمع صيحته شَيء إلا لعنه.* * *قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: " اللاعنون "، الملائكةُ والمؤمنون. لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين, فقال تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، (76) فكذلك اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حَالَّة بالفريق الآخر: الذين يكتمونَ ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس، (77) هي لعنة الله، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالّة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، (78) وهم " اللاعنون ", لأن الفريقين جميعًا أهلُ كفر.* * *وأما قول من قال إن " اللاعنين " هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهَوامِّها، (79) فإنه قول لا تدرك حَقيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تَقوم به الحجة, ولا خبرَ بذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم, فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك.وإذْ كان ذلك كذلك, فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال: إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجودٌ بخلاف [قول] أهل التأويل، (80) وهو ما وصفنا. فإنْ كان جائزًا أن تكون البهائم وسائرُ خلق الله، تَلعن الذين يَكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوّته, بعد علمهم به, وتلعن معهم جميع الظَّلمة - فغير جائز قطعُ الشهادة في أن الله عنى ب " اللاعنين " البهائمَ والهوامَّ ودَبيب الأرض, إلا بخبر للعذر قاطع. ولا خبرَ بذلك، وظاهر كتابا لله الذي ذكرناه دالٌّ على خلافه. (81)-------------الهوامش :(58) في المطبوعة : يقول : "إن الذين يكتمون . . . " ، وهو خطأ ناسخ ، صوابه ما أثبت .(59) في المطبوعة : "من البينات" ، كأنه متصل بالكلام قبله ، وهو لا يستقيم ، وكأن الصواب ما أثبت .(60) كان في المطبوعة"ولا يعلمون من تبييني ذلك للناس وإيضاحي لهم" ، وهي عبارة لا تستقيم وسياق معنى الآية يقتضي ما أثبت ، من جعل"يعلمون""يعلنونه" ، وزيادة"بعد" ، وجعل"إيضاحي""إيضاحيه" .(61) الأثر رقم : 2370- في سيرة ابن هشام 2 : 200 كما في رواية ابن حميد .(62) في سيرة ابن هشام ، وغيرها بالغين المعجمة غير مضبوط باللفظ ، ولكن ابن حجر ضبطه في الإصابة ، وقال : "بفتح المهملة والنون" ، ولم يذكر شكًا ولا اختلافًا في ضبطه بالغين المعجمة .(63) قوله : "قال : محمد البينات" من تفسير السدي ، ليس من الخطاب بين ثعلبة بن غنمة واليهودي . ويعني أن البينات التي يكتمونها هي محمد صلى الله عليه وسلم ، أي صفته ونعته في كتابهم .(64) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، وقد استظهرتها من نهج أبي جعفر في جميع تفسيره . وهذا سقط من الناسخ بلا ريب .(65) الحديث : 2375- هذا حديث صحيح . ذكره الطبري هنا معلقًا دون إسناد . وقد رواه أحمد في المسند : 7561 ، من حديث أبي هريرة . وخرجناه في شرح المسند ، وفي صحيح ابن حبان بتحقيقنا ، رقم : 95 .(66) الحديث : 2376- نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي : ثقة ، من شيوخ أصحاب الكتب الستة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/106 ، وابن أبي حاتم 4/1/471 .حاتم بن وردان السعدي : ثقة ، روى له الشيخان . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/72 ، وابن أبي حاتم 1/2/260 .أيوب السختياني : مضى في : 2039 . ولكن روايته هنا عن أبي هريرة منقطعة ، فإنه ولد سنة 66 ، وأبو هريرة مات سنة 59 أو نحوها . ومعنى الحديث صحيح ثابت عن أبي هريرة ، بروايات أخر متصلة ، كما سنذكر في الحديث بعده .(67) الحديث : 2377- محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : الإمام الحافظ المصري ، فقيه عصره ، قال ابن خزيمة : "ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين - منه" . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/2/300-301 ، وتذكرة الحفاظ 2 : 115-116 .أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري ، مؤذن الفسطاط : ثقة ، قال أبو حاتم : "محله الصدق" . ترجمه ابن أبي حاتم 4/2/27 ، وقال : "روى عنه عبد الرحمن ، ومحمد ، وسعد ، بنو عبد الله بن عبد الحكم" . وترجم أيضًا في لسان الميزان 6 : 235 ، ونقل عن ابن يونس ، أنه مات في ربيع الأول سنة 211"وكانت القضاة تقبله" ، وروى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم . في فتوح مصر مرارًا ، منها في ص : 182 س 3-4 : "حدثنا وهب الله بن راشد ، أخبرنا يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب . . . " . وهذا الإسناد ثابت في تاريخ ولاة مصر للكندي ، ص 33 ، عن علي بن قديد ، عن عبد الرحمن : "حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد" . وذكره الدولابي في الكنى والأسماء 1 : 182 ، وروى : "حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، والربيع بن سليمان الجيزى ، قالا : حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، إلخ" . ورواية الربيع الجيزى عنه ، ثابتة في كتاب الولاة ، ص 313 ، أيضًا .وهذا الاسم"وهب الله" : من نادر الأسماء ، لم أره -فيما رأيت- إلا لهذا الشيخ ، ولم يذكره أصحاب المشتبه ، بل لم يذكره الزبيدي في شرح القاموس ، على سعة اطلاعه . واشتبه أمره على ناسخي الطبري أو طابعيه ، فثبت في المطبوعة هكذا : "ثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد"؛ فحرفوا"وهب الله" إلى"وعبد الله" - فجعلوه راويين!يونس : هو ابن يزيد الأيلي ، وهو ثقة ، عرف بالراوية عن الزهري وملازمته . قال أحمد بن صالح : "نحن لا نقدم في الزهري أحدًا على يونس" ، وقال : "كان الزهري إذا قدم أيلة نزل على يونس ، وإذا سار إلى المدينة زامله يونس" . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/406 ، وابن أبي حاتم 4/2/247-249 ، وابن سعد 7/2/206 .وهذا الحديث جزء من حديث مطول ، رواه مسلم 2 : 261-262 ، من طريق ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب -فذكر حديثًا عن عائشة- ثم : "قال ابن شهاب : وقال ابن المسيب : إن أبا هريرة قال . . . " .ورواه عبد الرزاق في تفسيره ، ص 14-15 ، عن معمر ، عن الزهري ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، بنحوه مطولا . ورواه أحمد في المسند : 7691 ، عن عبد الرزاق .ورواه البخاري 5 : 21 (فتح) ، بنحوه ، من رواية إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن الأعرج . ورواه البخاري أيضًا 1 : 190-191 (فتح) من رواية مالك ، عن الزهري ، عن الأعرج وكذلك رواه ابن سعد 2/2/118 ، وأحمد في المسند : 7274- كلاهما من طريق مالك .وروى الحاكم في المستدرك 2 : 271 ، نحوه مختصرًا ، من طريق أبي أسامة ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة ، وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي .(68) انظر ما سلف 2 : 328 .(69) سلف تخريجه وشرحه في 2 : 328 . وفي التعليق هناك خطأ صوابه"مجاز القرآن : 46" .(70) كان في المطبوعة : "الطريد واللعين" ، والصواب طرح الواو .(71) أسنتت الأرض والسنة : أجدبت ، وعام مسنت مجدب . والسنة : القحط والجدب . وكان في المطبوعة : "أسنت" ، والصواب ما أثبت . وفي الدر المنثور 1 : 162 : "إذا اشتدت السنة" .(72) الخبر : 2382- مشرف بن أبان الحطاب البغدادي : ثبت هنا على الصواب ، كما ظهر في : 1951 . وقد مضى ذلك مغلوطًا"بشر بن أبان" : 1383 .(73) الضمير في قوله : "أنها إذا جمعت" ، للعرب ، وإن لم يجر لها ذكر في الكلام .(74) في المطبوعة : "يزيد بن زريع عن قتادة" بإسقاط"قال حدثنا سعيد" ، والصواب ما أثبته ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه رقم : 2374 .(75) المطرق والمطرقة : وهي أداة الحداد التي يضرب بها الحديد .(76) هي الآية رقم : 161 ، تأتي بعد قليل .(77) في المطبوعة : "من بعد ما بيناه للناس" ، وهو سهو ناسخ .(78) في المطبوعة : "هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة . . . " ، والصواب ما أثبت .(79) كل ماش على وجه الأرض يقال له : دابة ودبيب .(80) ما بين القوسين زيادة ، أخشى أن تكون سقطت من ناسخ .(81) في المطبوعة : "وكتاب الله الذي ذكرناه" ، وهو كلام لا يقال . والصواب ما أثبت . والذي ذكره آنفًا : "إن الدليل من ظاهر كتاب الله . . . " .هذا ، ورد قول هؤلاء القائلين بما قالوه ، مبين لك عن نهج الطبري وتفسيره ، وكاشف لك عن طريقته في رد الأخبار التي رواها عن التابعين ، في كل ما يحتاج إلى خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطع بالبيان عما ذكروه . والطبري قد يذكر مثل هذه الأخبار ، ثم لا يذكر حجته في ردها ، لأنه كره إعادة القول وتريده فيما جعله أصلا في التفسير ، كما بين ذلك في"رسالة التفسير" ، ثم في تفسيره بعد ، ورد أشباهه في مواضع متفرقة منه . أما إذا كان في شيء من ذلك خبر قاطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يدع ذكره ، فإذا لم يذكر -فيما أشبه ذلك- خبرًا عن رسول الله ، فاعلم أنه يدع لقارئ كتابه علم الوجه الذي يرد به هذا القول .

عود بالكلام إلى مهيعه الذي فصل عنه بما اعترض من شرع السعي بين الصفا والمروة كما علمته آنفاً .قال المفسرون إن هاته الآية نزلت في علماء اليهود في كتمهم دلائل صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وصفات دينه الموجودة في التوراة وفي كتمهم آية الرجم ، وهو يقتضي أن اسم الموصول للعهد فإن الموصول يأتي لما يأتي له المعرف باللام وعليه فلا عموم هنا ، وأنا أرى أن يكون اسم الموصول هنا للجنس فهو كالمعرف بلام الاستغراق فيعم ويكون من العام الوارد على سبب خاص ولا يخصص بسببه ولكنه يتناول أفراد سببه تناولاً أولياً أقوى من دلالته على بقية الأفراد الصالح هو للدلالة عليها لأن دلالة العام على صورة السبب قطعية ودلالته على غيرها مما يشمله مفهوم العام دلالة ظنية ، فمناسبة وقع هاته الآية بعد التي قبلها أن ما قبلها كان من الأفانين القرآنية المتفننة على ذكر ما قابل به اليهود دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتشبيههم فيها بحال سلفهم في مقابلة دعوة أنبيائهم من قبل إلى مبلغ قوله تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } [ البقرة : 75 ] إلى قوله : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } [ البقرة : 101 ] الآية وما قابل به أشباههم من النصارى ومن المشركين الدعوة الإسلامية ، ثم أفضى ذلك إلى الإنحاء على المشركين قلة وفائهم بوصايا إبراهيم الذي يفتخرون بأنهم من ذريته وأنهم سدنة بيته فقال : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [ البقرة : 114 ] الآيات ، فنوه بإبراهيم وبالكعبة واستقبالها وشعائرها وتخلل ذلك رد ما صدر عن اليهود من إنكار استقبال الكعبة إلى قوله : { وإن فريقاً منهم ايكتمون الحق وهم يعلمون } [ البقرة : 146 ] ( يريد علماءهم ) ثم عقب ذلك بتكملة فضائل الكعبة وشعائرها ، فلما تم جميع ذلك عطف الكلام إلى تفصيل ما رماهم به إجمالاً في قوله تعالى : { إن فريقاً منهم } فقال : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا } الخ ، وهذه طريقة في الخطابة هي إيفاء الغرض المقصود حقه وتقصير الاستطراد والاعتراض الواقعين في أثنائه ثم الرجوع إلى ما يهم الرجوع إليه من تفصيل استطراد أو اعتراض تخلل الغرض المقصود .فجملة : { إن الذين يكتمون } الخ استئنافُ كلام يعرف منه السامع تفصيل ما تقدم له إجماله ، والتوكيد بإنَّ لمجرد الاهتمام بهذا الخبر .والكتم والكتمان عدم الإخبار بما من شأنه أن يُخْبَر به من حادثثٍ مسموع أو مرئي ومنه كتم السر وهو الخبر الذي تخبر به غيرك وتأمره بأن يكتمه فلا يخبره غيره .وعبر في : { يكتمون } بالفعل المضارع للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى ، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المعني به قوم مضوا مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين .ويعلم حكم الماضين والآتين بدلالة لحن الخطاب لمساواتهم في ذلك .والمراد بما أنزلنا ما اشتملت عليه التوراة من الدلائل والإرشاد ، والمراد بالكتاب التوراة .والبينات جمع بينة وهي الحجة وشمل ذلك ما هو من أصول الشريعة مما يكون دليلاً على أحكام كثيرة ، ويشمل الأدلة المرشدة إلى الصفات الإلهية وأحوال الرسل وأخذ العهد عليهم في اتباع كل رسول جاء بدلائل صدق لا سيما الرسول المبعوث في إخوة إسرائيل وهم العرب الذين ظهرت بعثته بينهم وانتشرت منهم ، والهدى هو ما به الهدى أي الإرشاد إلى طريق الخير فيشمل آيات الأحكام التي بها صلاح الناس في أنفسهم وصلاحهم في مجتمعهم .والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم ، ويكون بإزالته من الكتاب أصلاً وهو ظاهره قال تعالى : { وتخفون كثيراً } [ الأنعام : 91 ] ، يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له ، وحذف متعلق { يكتمون } الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته .وقوله : { من بعد } متعلق ب ( يكتمون ) وذكر هذا الظرف لزيادة التفظيع لحال الكتمان وذلك أنهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر في ذلك لأنهم لو كتموا ما لم يبين لهم لكان لهم بعض العذر أن يقولوا كتمناه لعدم اتضاح معناه فكيف وهو قد بين ووضح في التوراة .واللام في قوله : { للناس } لام التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته أي جعلناه بيناً ، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من الكتمان وهو أنه مع كونه كتماناً للحق وحرماناً منه هو اعتداء على مستحقه الذي جعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم .والتعريف في ( الناس ) للاستغراق لأن الله أنزل الشرائع لهدي الناس كلهم وهو استغراق عرفي أي الناس المشرع لهم .وقوله : { أولئك } إشارة إلى { الذين يكتمون } وسط اسم الإشارة بين اسم { إنَّ } وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافهم ، فمن أجل ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالاً في كلامهم .وقد اجتمع في الآية إيماآن إلى وجه ترتب اللعن على الكتمان وهما الإيماء بالموصول إلى وجه بناء الخبر أي علته وسببه ، والإيماء باسم الإشارة للتنبيه على أحرويتهم بذلك ، فكان تأكيد الإيماء إلى التعليل قائماً مقام التنصيص على العلة .واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب ، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم ، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور ، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضاً فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل . وكذلك القول في قوله : { ويلعنهم اللاعنون } ، وكرر فعل { يلعنهم } مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في { إن الله وملائكته يصلون } [ الأحزاب : 56 ] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن .والتعريف في : { اللاعنون } للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن ، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابَه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة . 6 ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [ آل عمران : 187 ] .وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في ( حوريب ) حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين ، والعهد الذي أخذه عليهم في ( مؤاب ) وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه : «أنتم واقفون اليوم جميعكم أما الرب إلهكم . . . لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب . . . فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه . . . حينئذٍ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة هذا . . . لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة» . وفي الإصحاح الثلاثين : «ومتى أتت عليك هذه الأمور البركة واللعنة جعلتهما قدامك» وفيه : «أشهد عليكم اليوم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت ، البركة واللعنة» .فقوله تعالى : { ويلعنهم اللاعنون } تذكير لهم باللعنة المسطورة في التوراة فإن التوراة متلوة دائماً بينهم فكلما قرأ القارئون هذا الكلام تجددت لعنة المقصودين به ، والذين كتموا ما أنزل من البينات والهدى هم أيضاً يقرأون التوراة فإذا قرأوا لعنة الكاتمين فقد لعنوا أنفسهم بألسنتهم فأما الذين يلعنون المجرمين والظالمين غير الكاتمين ما أنزل من البينات والهدى فهم غير مشمولين في هذا العموم وبذلك كان الاستغراق المستفاد من تعريف اللاعنون باللام استغراقاً عرفياً .واعلم أن لام الاستغراق العرفي واسطة بين لام الحقيقة ولام الاستغراق الحقيقي . وإنما عدل إلى التعريف مع أنه كالنكرة مبالغة في تحققه حتى كأنه صار معروفاً لأن المنكَّر مجهول ، أو يكون التعريف للعهد أي يلعنهم الذين لعنوهم من الأنبياء الذين أوصوا بإعلان العهد وأن لا يكتموه .ولما كان في صلة { الذين يكتمون } إيماء كما قدمناه فكل من يفعل فعلاً من قبيل مضمون الصلة من غير أولئك يكون حقيقاً بما تضمنه اسم الإشارة وخبره فإن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر ، وعن ابن عباس أن كل ما ذمّ الله أهلَ الكتاب عليه فالمسلمون محذَّرون من مثله ، ولذا قال أبو هريرة لما قال الناسُ أكثر أبو هريرة من الرواية عن رسول الله فقال : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } الآية وساق الحديث .فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هُدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيراً للمسلمين ، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومىء إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يُلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حدثوا الناس بما يفْهمون أتحبُّون أنْ يكذَّب اللَّهُ ورسولهُ " وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعَه . وفي «صحيح البخاري» أن الحجَّاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا ، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال وددت أنه لم يحدثه ، أو يتلفقون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم ، قال ابن عرفة في «التفسير» : لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلاً أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في «الإحياء» من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة ، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضرراً فادحاً في الناس . وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامداً غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يوماً والفقهاء حاضرون ما اجترأوا على مخالفة يحيى فلما خرجوا سألوه لِمَ خصصته بأحد المخيرات فقال لو فتحنا له هذا الباب لوطىء كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود اه .قلت فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حُرمة فريضة الصوم .فالعالم إذا عين بشخصه لأن يبلغ علماً أو يبين شرعاً وجب عليه بيانه مثل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم ، وإن لم يكن معيناً بشخصه فهو لا يخلو إما أن يكون ما يعلمه قد احتاجت الأمة إلى معرفته منه خاصة بحيث يتفرد بعلمه في صقع أو بلد حتى يتعذر على أناس طلب ذلك من غيره أو يتعسر بحيث إن لم يعلمها إياه ضلت مثل التوحيد وأصول الاعتقاد ، فهذا يجب عليه بيانه وجوباً متعيناً عليه إن انفرد به في عصر أو بلد ، أو كان هو أتقن للعلم فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم يتفهمون أو يتعلمون فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيراً» . وإن شاركه فيه غيره من أمثاله كان وجوبه على جميع الذين يعلمون ذلك على الكفاية ، وإما أن يكون ما يعلمه من تفاصيل الأحكام وفوائدها التي تنفع الناس أو طائفة منهم ، فإنما يجب عليه عيناً أو كفاية على الوجهين المتقدمين أن يبين ما دعت الحاجة إلى بيانه ، ومما يعد قد دعت الحاجة إلى بيانه أن تعين له طائفة من الناس ليعلمهم فحينئذٍ يجب عليه أن يعلمهم ما يرى أن في علمهم به منفعة لهم وقدرة على فهمه وحسن وضعه ، ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه ، فظهر بهذا أن الكتمان مراتب كثيرة وأن أعلاها ما تضمنته هذه الآية ، وبقية المراتب تؤخذ بالمقايسة ، وهذا يجيء أيضاً في جواب العالم عما يلقى إليه من المسائل فإن كان قد انفرد بذلك أو كان قد عين للجواب مثل من يعين للفتوى في بعض الأقطار فعليه بيانه إذا علم احتياج السائل ويجيء في انفراده بالعلم أو تعيينه للجواب وفي عدم انفراده الوجهان السابقان في الوجوب العيني والوجوب الكفائي . وفي غير هذا فهو في خيرة أو يجيب أو يترك . وبهذا يكون تأويل الحديث الذي رواه أصحاب «السنن الأربعة» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " فخصص عمومه في الأشخاص والأحوال بتخصيصات دلت عليها الأدلة قد أشرنا إلى جماعها .وذكر القرطبي عن سحنون أن الحديث وارد في كتمان الشاهد بحق شهادته .والعهدة في وضع العالم نفسه في المنزلة اللائقة به من هذه المنازل المذكورة على ما يأنسه من نفسه في ذلك وما يستبرىء به لدينه وعرضه .والعهدة في معرفة أحوال الطالبين والسائلين عليه ليجريها على ما يتعين إجراؤها عليه من الصور على ما يتوسمه من أحوالهم والأحوال المحيطة بهم ، فإن أشكل عليه الأمر في حال نفسه أو حال سائله فليستشر أهل العلم والرأي في الدين .ويجب أن لا يغفل عن حكمة العطف في قوله تعالى : { والهدى } حتى يكون ذلك ضابطاً لما يفضي إليه كتمان ما يكتم .
الآية 159 - سورة البقرة: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ۙ أولئك يلعنهم الله ويلعنهم...)