سورة البقرة: الآية 144 - قد نرى تقلب وجهك في...

تفسير الآية 144, سورة البقرة

قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى ٱلسَّمَآءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَىٰهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ ۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ

الترجمة الإنجليزية

Qad nara taqalluba wajhika fee alssamai falanuwalliyannaka qiblatan tardaha fawalli wajhaka shatra almasjidi alharami wahaythu ma kuntum fawalloo wujoohakum shatrahu wainna allatheena ootoo alkitaba layaAAlamoona annahu alhaqqu min rabbihim wama Allahu bighafilin AAamma yaAAmaloona

تفسير الآية 144

قد نرى تحوُّل وجهك -أيها الرسول- في جهة السماء، مرة بعد مرة؛ انتظارًا لنزول الوحي إليك في شأن القبلة، فلنصرفنك عن "بيت المقدس" إلى قبلة تحبها وترضاها، وهي وجهة المسجد الحرام بـ "مكة"، فولِّ وجهك إليها. وفي أي مكان كنتم -أيها المسلمون- وأردتم الصلاة فتوجهوا نحو المسجد الحرام. وإن الذين أعطاهم الله علم الكتاب من اليهود والنصارى لَيعلمون أن تحويلك إلى الكعبة هو الحق الثابت في كتبهم. وما الله بغافل عما يعمل هؤلاء المعترضون المشككون، وسيجازيهم على ذلك.

«قد» للتحقيق «نرى تقلُّب» تصرف «وجهك في» جهة «السماء» متطلعا إلى الوحي ومتشوقا للأمر باستقبال الكعبة وكان يود ذلك لأنها قبلة إبراهيم ولأنه دعى إلى إسلام العرب «فلنولينك» نحولنك «قبلة ترضاها» تحبها «فولِّ وجهك» استقبل في الصلاة «شطر» نحو «المسجد الحرام» أي الكعبة «وحيثما كنتم» خطاب للأمة «فولُّوا وجوهكم» في الصلاة «شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه» أي التولي إلى الكعبة «الحق» الثابت «من ربهم» لما في كتبهم من نعت النبي من أنه يتحول إليها «وما الله بغافل عما تعملون» بالتاء أيها المؤمنون من امتثال أمره وبالياء أي اليهود من إنكار أمر القبلة.

يقول الله لنبيه: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ أي: كثرة تردده في جميع جهاته, شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة، وقال: وَجْهِكَ ولم يقل: " بصرك " لزيادة اهتمامه, ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ أي: نوجهك لولايتنا إياك، قِبْلَةً تَرْضَاهَا أي: تحبها, وهي الكعبة، وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم, حيث إن الله تعالى يسارع في رضاه, ثم صرح له باستقبالها فقال: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والوجه: ما أقبل من بدن الإنسان، وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ أي: من بر وبحر, وشرق وغرب, جنوب وشمال. فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي: جهته. ففيها اشتراط استقبال الكعبة, للصلوات كلها, فرضها, ونفلها, وأنه إن أمكن استقبال عينها, وإلا فيكفي شطرها وجهتها، وأن الالتفات بالبدن, مبطل للصلاة, لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولما ذكر تعالى فيما تقدم, المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم، وذكر جوابهم, ذكر هنا, أن أهل الكتاب والعلم منهم, يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر، لما يجدونه في كتبهم, فيعترضون عنادا وبغيا، فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك، فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه, إذا كان الأمر مشتبها, وكان ممكنا أن يكون معه صواب. فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه, وأن المعترض معاند, عارف ببطلان قوله, فإنه لا محل للمبالاة, بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية, فلهذا قال تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها، وفيها وعيد للمعترضين, وتسلية للمؤمنين.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود ، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) إلى قوله : ( فولوا وجوهكم شطره ) فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب [ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ] ) وقال : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) [ البقرة : 115 ] وقال الله تعالى : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه )وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري ، عن عمه عبيد الله بن عمر ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء فأنزل الله : ( فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) إلى الكعبة إلى الميزاب ، يؤم به جبرائيل عليه السلام .وروى الحاكم ، في مستدركه ، من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة قال : رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام ، بإزاء الميزاب ، فتلا هذه الآية : ( فلنولينك قبلة ترضاها ) قال : نحو ميزاب الكعبة .ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن عرفة ، عن هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، به .وهكذا قال غيره ، وهو أحد قولي الشافعي ، رحمه الله : إن الغرض إصابة عين القبلة . والقول الآخر وعليه الأكثرون : أن المراد المواجهة كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق ، عن عمير بن زياد الكندي ، عن علي ، رضي الله عنه ، ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) قال : شطره : قبله . ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .وهذا قول أبي العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وغيرهم . وكما تقدم في الحديث الآخر : ما بين المشرق والمغرب قبلة .[ وقال القرطبي : روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي " ] .وقال أبو نعيم الفضل بن دكين :حدثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صلى صلاة العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان يصلي معه ، فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت .وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء [ قال ] لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة ، فنزلت : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء [ فلنولينك قبلة ترضاها ] ) فصرف إلى الكعبة .وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنمر على المسجد فنصلي فيه ، فمررنا يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت : لقد حدث أمر ، فجلست ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ) حتى فرغ من الآية . فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى ، فتوارينا فصليناهما . ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ .وكذا روى ابن مردويه ، عن ابن عمر : أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة الظهر ، وأنها الصلاة الوسطى . والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر .وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا رجاء بن محمد السقطي ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا إبراهيم بن جعفر ، حدثني أبي ، عن جدته أم أبيه نويلة بنت مسلم ، قالت : صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام ، فتحول النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ، ونحن مستقبلون البيت الحرام . فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أولئك رجال يؤمنون بالغيب " .وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا قيس ، عن زياد بن علاقة ، عن عمارة بن أوس قال : بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ، ونحن ركوع ، إذ أتى مناد بالباب : أن القبلة قد حولت إلى الكعبة . قال : فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو والرجال والصبيان ، وهم ركوع ، نحو الكعبة .وقوله : ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، ولا يستثنى من هذا شيء ، سوى النافلة في حال السفر ، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه ، وقلبه نحو الكعبة . وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال ، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده ، وإن كان مخطئا في نفس الأمر ، لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها .مسألة : وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، قال المالكية لقوله : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام . وقال بعضهم : ينظر المصلي في قيامه إلى صدره . وقال شريك القاضي : ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة ، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث ، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه ، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره .وقوله : ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) أي : واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها ، بما في كتبهم عن أنبيائهم ، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة ، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا ; ولهذا يهددهم تعالى بقوله : ( وما الله بغافل عما يعملون ) .

ثم خاطب الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم ووعده بأن القبلة التي سيؤمر بالتوجه إليها هي التي يحرص عليها ويرغب فيها.قال الإمام ابن كثير: قال على بن أبى طلحة قال ابن عباس: كان أول ما نسخ في القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضعة عشر شهرا، وكان يحب قبلة أبيه إبراهيم، فكان يدعو الله، وينظر إلى السماء، فأنزل الله- تعالى- قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .والمعنى: قد شاهدنا- يا محمد- وعلمنا تردد وجهك، وتسريح نظرك إلى السماء تطلعا إلى نزول الوحى عليك، وتوقعا لما ألقى في روعك من تحويل القبلة إلى الكعبة سعيا منك وراء استمالة العرب إلى الدخول في أحضان الإسلام، ومخالفة اليهود الذين كانوا يقولون: إنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، وها نحن قد أجبناك إلى ما طلبت وأعطيناك ما سألت، ووجهناك إلى قبلة تحبها وتميل إليها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.أى: فاصرف وجهك وحوله نحو المسجد الحرام وجهته.ثم عمم القرآن الكريم هذا التشريع على الأمة الإسلامية جميعها. فقال تعالى:وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.أى: وحيثما كنتم وأينما وجدتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم تلقاء المسجد الحرام ونحوه.وقد جاءت هذه الجملة موجهة إلى الأمة قاطبة لدفع توهم أن يكون الخطاب في الأول خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطره، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك آكد وأبلغ.فالآية الكريمة فيها أمر لكل مسلّم أن يجعل الكعبة قبلة له، فيتوجه بصدره إلى ناحيتها وجهتها حال تأديته الصلاة لربه، سواء أكان المصلّى بالمدينة أم بمكة أو بغيرهما.وفي ذكر المسجد الحرام دون الكعبة، ما يؤذن بكفالة مراعاة جهتها ولذلك لم يقع خلاف بين العلماء في أن الكعبة قبلة كل أفق. وأن من عاينها فرض عليه استقبالها ومن غاب عنها فعليه أن يستقبل جهتها. فإن خفيت عليه تحرى جهتها ما استطاع.وقد سقنا في مطلع هذا البحث بعض الأحاديث الصحيحة التي صرحت بأن الصحابة عند ما بلغهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بالتحويل إلى الكعبة استداروا إليها وهم في صلاتهم فجعلوها قبلتهم.ومما يشهد بقوة إيمانهم وعظيم امتثالهم لشرع الله ما جاء عن نويلة بنت مسلّم أنها قالت.«صلينا الظهر- أو العصر- في مسجد بنى حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء- أى بيت المقدس- فصلينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال. والرجال مكان النساء. فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام. فحدثني رجل من بنى حارثة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أولئك رجال يؤمنون بالغيب» .ثم بينت الآية الكريمة أن أهل الكتاب يعلمون أن التحويل إلى الكعبة هو الحق الذي لا ريب فيه فقال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.أى: وإن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة، وانصرافكم عن بيت المقدس، ليعلمون أن استقبالكم الكعبة حق لأن الذي أخبر به قد قامت الآيات البينات عندهم على أنه رسول من عند الله، أو أنه يصلّى إلى القبلتين، وما وقفوا من تحويل القبلة هذا الموقف إلا لعنادهم،وما الله بغافل عن أعمالهم بل هو محيط بها وسيحاسبهم عليها يوم القيامة حسابا عسيرا» .- ثم أخبر الله- تعالى- عن كفر اليهود وعنادهم، وأنهم لن يتبعوا الحق ولو جاءهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بكل آية. فقال تعالى:

قوله تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في المعنى فإنها رأس القصة، وأمر القبلة أول ما نسخ من أمور الشرع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة فصلى بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام.وقال مجاهد: "كان يحب ذلك لأجل اليهود لأنهم كانوا يقولون يخالفنا محمد صلى الله عليه وسلم في ديننا ويتبع قبلتنا، فقال لجبريل عليه السلام: وددت لو حولني الله إلى الكعبة فإنها قبلة أبي إبراهيم عليه السلام، فقال جبريل: إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك، فسل أنت ربك فإنك عند الله عز وجل بمكان، فرجع جبريل عليه السلام وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة فأنزل الله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة".قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة فلنحولنك إلى قبلة.ترضاها أي تحبها وتهواها.فول أي حوِّل.وجهك شطر المسجد الحرام أي نحوه وأراد به الكعبة، والحرام المحرم.وحيث ما كنتم من بر أو بحر أو شرق أو غرب.فولوا وجوهكم شطره عند الصلاة.أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا إسحاق بن نصر أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة".أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن خالد أخبرنا زهير أخبرنا أبو إسحاق عن البراء: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد قباء وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل المقدس لأنه قبلة أهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك"، وقال البراء في حديثه هذا: "أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم".وكان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين، قال مجاهد وغيره: "نزلت هذه الآية و رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين".وقيل: كان التحويل خارج الصلاة بين الصلاتين، وأهل قباء وصل إليهم الخبر في صلاة الصبح.أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي السامري أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري عن مالك بن أنس عن عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر قال: "بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت وقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة".فلما تحولت القبلة قالت اليهود: يا محمد إلا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره؟ فأنزل الله وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه يعني أمر الكعبة.الحق من ربهم ثم هددهم فقال:وما الله بغافل عما تعملون قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي بالتاء.قال ابن عباس: "يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم".وقرأ الباقون بالياء يعني ما أنا بغافل عما يفعل اليهود فأجازيهم في الدنيا والآخرة.

قوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملونقال العلماء : هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى : سيقول السفهاء من الناس . ومعنى تقلب وجهك : تحول وجهك إلى السماء ، قاله الطبري . الزجاج : تقلب عينيك في النظر إلى السماء ، والمعنى متقارب . وخص السماء بالذكر إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر والرحمة والوحي . ومعنى ترضاها تحبها . قال السدي : كان إذا صلى نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به ، وكان يحب أن يصلي إلى قبل الكعبة فأنزل الله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء . وروى أبو إسحاق عن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء . وقد تقدم هذا المعنى والقول فيه ، والحمد لله .قوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : فول أمر وجهك شطر أي ناحية المسجد الحرام يعني الكعبة ، ولا خلاف في هذا . قيل : حيال البيت كله ، عن ابن عباس . وقال ابن عمر : حيال الميزاب من الكعبة ، قاله ابن عطية . والميزاب : هو قبلة المدينة وأهل الشام ، وهناك قبلة أهل الأندلس .قلت : قد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي .الثانية : قوله تعالى : شطر المسجد الحرام الشطر له محامل : يكون الناحية والجهة ، كما في هذه الآية ، وهو ظرف مكان ، كما تقول : تلقاءه وجهته . وانتصب الظرف لأنه فضلة بمنزلة المفعول [ به ] ، وأيضا فإن الفعل واقع فيه . وقال داود بن أبي هند : إن في حرف ابن مسعود " فول وجهك تلقاء المسجد الحرام " . وقال الشاعر [ هو أبو زنباع الجذامي ] :أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميموقال آخر :وقد أظلكم من شطر ثغركم هول له ظلم يغشاكم قطعاوقال آخر :ألا من مبلغ عمرا رسولا وما تغني الرسالة شطر عمرووشطر الشيء : نصفه ، ومنه الحديث : الطهور شطر الإيمان . ويكون من الأضداد ، يقال : شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه ، وشطر عن كذا إذا أبعد منه وأعرض عنه . فأما الشاطر من الرجال فلأنه قد أخذ في نحو غير الاستواء ، وهو الذي أعيا أهله خبثا ، وقد شطر وشطر ( بالضم ) شطارة فيهما وسئل بعضهم عن الشاطر ، فقال : هو من أخذ في البعد عما نهى الله عنه .الثالثة : لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها ، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له ، وعليه إعادة كل ما صلى ذكره أبو عمر . وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها ، فإن خفيت عليه فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من النجوم والرياح والجبال وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها . ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة وينظر إليها إيمانا واحتسابا ، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة ، قاله عطاء ومجاهد .الرابعة : واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة ، فمنهم من قال بالأول . قال ابن العربي : وهو ضعيف ; لأنه تكليف لما لا يصل إليه . ومنهم من قال بالجهة ، وهو الصحيح لثلاثة أوجه : الأول : أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف . الثاني : أنه المأمور به في القرآن ، لقوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم يعني من الأرض من شرق أو غرب فولوا وجوهكم شطره . الثالث : أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت .الخامسة : في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن المصلي حكمه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده . وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي . يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده . وقال شريك القاضي : ينظر في القيام إلى موضع السجود ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى حجره . قال ابن العربي : إنما ينظر أمامه فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس وهو أشرف الأعضاء ، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج . وما جعل علينا في الدين من حرج ، أما إن ذلك أفضل لمن قدر عليه .قوله تعالى : وإن الذين أوتوا الكتاب يريد اليهود والنصارى ليعلمون أنه الحق من ربهم يعني تحويل القبلة من بيت المقدس . فإن قيل : كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم ؟ قيل عنه جوابان : أحدهما : أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به . الثاني : أنهم علموا من دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم ، فصاروا عالمين بجواز القبلة .قوله تعالى : وما الله بغافل عما يعملون تقدم معناه . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " تعملون " بالتاء على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ولا يغفل عنها ، وضمنه الوعيد . وقرأ الباقون بالياء من تحت .

القول في تأويل قوله تعالى : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِقال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا محمد نحنُ تقلُّبَ وجهك في السماء.* * *ويعني: ب " التقلب "، التحوُّل والتصرُّف.ويعني بقوله: " في السماء "، نحو السماء وقِبَلها.* * *وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنا- لأنه كان =قَبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة= يرفع بصره إلى السماءِ ينتظر من الله جل ثناؤه أمرَه بالتحويل نحو الكعبة، كما:-2230- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " قدْ نَرى تَقلُّبَ وجهك في السماء " قال، كان صلى الله عليه وسلم يقلّب وجهه في السماء، يحبّ أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرَفه الله إليها.2231- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " قد نَرَى تَقلُّب وجهك في السماء "، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي نحو بيتَ المقدس, يَهوى وَيشتهي القبلةَ نحو البيت الحرام, فوجَّهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها وَيشتهيها.2232- حدثنا المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: " قد نرى تقلُّب وَجهك في السماء "، يقول: نَظرَك في السماء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس, وكان يهوى قبلةَ البيت الحرام, فولاه الله قبلةً كان يهواها.2233- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان الناس يصلون قبَلَ بيت المقدس, فلما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ على رأس ثمانية عشر شهرًا من مُهاجَره, كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء يَنظُر ما يُؤمر, وكان يصلّي قبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبةُ. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحب أن يصلي قبَل الكعبة، فأنزل الله جل ثناؤه: " قد نَرَى تقلب وَجهك في السماء " الآية.* * *ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة.قال بعضهم: كره قبلةَ بيت المقدس, من أجل أن اليهودَ قالوا: يتَّبع قبلتنا ويُخالفنا في ديننا!* ذكر من قال ذلك:2234- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه, ويَستفرض للقبلة، (70) فنزلت: " قد نَرَى تقلُّب وَجهك في السماء فلنولينك قبلة تَرْضَاها فول وجهك شَطرَ المسجد الحَرَام "، -وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا!- في صلاة الظهر، (71) . فجعل الرجالَ مكانَ النساء, والنساءَ مكانَ الرجال.2235- حدثني يونس قال, أخبرنا ابن وهب قال، سمعته -يعني ابن زيد- يقول: قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ . قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قَومُ يهودَ يستقبلون بيتًا من بيوت الله -لبيت المقدس- ولو أنَّا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا, فبلغه أن يهودَ تَقول: والله ما دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! (72) فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, ورفع وجهه إلى السماء, فقال الله جل ثناؤه: " قد نَرَى تقلُّب وجهك في السماء فلنوَلينَّك قبلةً ترضَاها فوَلّ وجهك شَطرَ المسجد الحرام " الآية. (73)* * *وقال آخرون: بل كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلةَ أبيه إبراهيم عليه السلام.* ذكر من قال ذلك:2236- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثرَ أهلها اليهودُ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهودُ. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا، فكان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يُحب قبلةَ إبراهيم, فكان يدعو وينظر إلى السماء, فأنزل الله عز وجل: " قد نرى تقلُّبَ وجهك في السماء " الآية. (74)* * *فأما قوله: " فلنوَلينَّك قبلة تَرْضَاها "، فإنه يعني: فلنصرفنَّك عن بيت المقدس، إلى قبلة " ترضاها ": تَهواها وتُحبها. (75)* * *وأما قوله: " فوَلِّ وجهك "، يعني: اصرف وجهك وَحوِّله.* * *وقوله: " شَطرَ المسجد الحَرَام "، يعني: ب " الشطر "، النحوَ والقصدَ والتّلقاء, كما قال الهذلي: (76)إنَّ العَسِيرَ بهَا دَاء مُخَامِرُهَافَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ (77)يعني بقوله: " شَطْرَها "، نحوها. وكما قال ابن أحمر:تَعْدُو بِنَا شَطْر جَمْعٍ وهْيَ عَاقِدةٌ,قَدْ كَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَادِهَا الحَقَبَا (78)* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:2237- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن داود بن أبي هند, عن أبي العالية: " شَطْرَ المسجد الحَرَام "، يعني: تلقاءه.2238- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " شطر المسجد الحرام "، نحوَه.2239- حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: " فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام "، نَحوَه.2240- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.2241- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: " فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام "، أي تلقاءَ المسجد الحرام.2242- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام " قال، نحو المسجد الحرام.2243- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام "، أي تلقاءَه.2244- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: " شطرَه "، نحوَه.2245- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال، قِبَله.2246- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: " شَطْره "، ناحيته، جانبه. قال: وجوانبه: " شُطوره ". (79)* * *ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يولَّيَ وجهه إليه من المسجد الحرام.فقال بعضهم: القبلةُ التي حُوِّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وعناها الله تعالى ذكره بقوله: " فلنولينَّك قبلة تَرْضاها "، حيالَ ميزاب الكعبة.* ذكر من قال ذلك:2247- حدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا عثمان قال، أخبرنا شعبة, عن يعلى بن عطاء, عن يحيى بن قمطة, عن عبد الله بن عمرو: " فلنولينَّك قبلة ترضاها "، حيالَ ميزاب الكعبة. (80)2248- وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا هشيم, عن يعلى بن عطاء, عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسًا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب, وتلا هذه الآية: " فلنولينك قِبلة ترضاها " قال، هذه القبلة، هي هذه القبلة.2249- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم -بإسناده عن عبد الله بن عمرو، نحوه- إلا أنه قال: استقبل الميزاب فقال: هذه القبلة التي قال الله لنبيه: " فلنولينك قبلة تَرضاها ". (81)* * *وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلةٌ, وقبلةُ البيت الباب.* ذكر من قال ذلك:2250- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: البيت كله قبلةٌ, وهذه قبلةُ البيت - يعني التي فيها الباب. (82)* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه: " فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام "، فالمولِّي وجهه شطرَ المسجد الحرام، هو المصيبُ القبلةَ. وإنما عَلى من توجه إليه النيةُ بقلبه أنه إليه متوجِّه, كما أن على من ائتمِّ بإمام فإنما عليه الائتمام به، وإن لم يكن مُحاذيًا بدنُه بدنَه, وإن كان في طَرَف الصّفّ والإمام في طرف آخر، عن يمينه أو عن يساره, بعد أن يكون من خلفه مُؤتمًّا به، مصليًا إلى الوجه الذي يصلِّي إليه الإمام. فكذلك حكمُ القبلة, وإنْ لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوَجِّه إليها ببدنه، غير أنه متوجِّه إليها. فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلَها، فهو مستقبلها، بعُد ما بينه وَبينها, أو قَرُب، من عن يمينها أو عن يسارها، بعد أن يكون غيرَ مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووَجهه، كما:2251- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عميرة بن زياد الكندي, عن علي: " فول وجهك شطر المسجد الحرام " قال، شطُره، قبله. (83)* * *قال أبو جعفر: وقبلةُ البيت: بابه، كما:-2252- حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصَّبَّاح قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء قال، قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجَ من البيت أقبلَ بوجهه إلى الباب، فقال: هذه القبلةُ, هذه القبلة. (84)2253- حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير, عن عبد الملك بن أبي سليمان, عن عطاء, قال، حدثني أسامة بن زيد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت, فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة, فقال: هذه القبلةُ مرتين. (85)2254- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان, عن عبد الملك, عن عطاء, عن أسامة بن زيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه. (86)2255- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: سمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطَّوَاف ولم تؤمروا بدخوله. قال: قال: لم يكن ينهَى عن دخوله, ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دَعا في نواحيه كلها, ولم يصلِّ حتى خرج, فلما خرج ركع في قِبَل القبلة ركعتين، وقال: هذه القبلة. (87)* * *قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ البيت هو القبلة, وأن قبلة البيت بابه.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُقال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوِّلوا وجُوهكم في صلاتكم نَحو المسجد الحرام وتلقاءَه.و " الهاء " التي في" شطرَه "، عائدة إلى المسجد الحرام.فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين، فرضَ التوجُّه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى.وأدخلت " الفاء " في قوله: " فولوا "، جوابًا للجزاء. وذلك أن قوله: " حيثما كنتم " جزاء, ومعناه: حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْيعني بقوله جل ثناؤه: " وإنّ الذين أوتُوا الكتاب " أحبارَ اليهود وعلماء النصارى.* * *وقد قيل: إنما عنى بذلك اليهودَ خاصةً.* ذكر من قال ذلك:2256- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " وإن الذين أوتوا الكتاب "، أنزل ذلك في اليهود.* * *وقوله: " ليعلمون أنه الحق من ربهم "، يعني هؤلاء الأحبارَ والعلماءَ من أهل الكتاب, يعلمون أن التوجُّهَ نحو المسجد، الحقُّ الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده.* * *ويعني بقوله: " من رَبِّهم " أنه الفرضُ الواجب على عباد الله تعالى ذكره, وهو الحقُّ من عند ربهم، فَرَضَه عليهم.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمرَه، وانتهائكم إلى طاعته، فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صَلاتكم نحو بيت المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطرَ المسجد الحرام, ولا هو ساه عنه، (88) ولكنه جَل ثَناؤه يُحصيه لكم ويدّخره لكم عنده، حتى يجازيَكم به أحسن جزاء, ويثيبكم عليه أفضل ثواب.--------------------الهوامش :(70) في المطبوعة : "يستعرض للقبلة" ، وأثبت ما في الدر المنثور 1 : 147 وقوله : "يستفرض" أي يطلب فرضها عليه وعلى المؤمنين . وهذا ما لم تشبه كتب اللغة ، ولكنه صحيح العربية . أما قوله : "يستعرض للقبلة" ، فليست بشيء .(71) سياق عبارته : "فنزلت . . . في صلاة الظهر" .(72) في المطبوعة : "ما درى محمد صلى الله عليه وسلم" ، ولا تقوله يهود ، فرفعته . وكذلك جاء في رقم : 1838 .(73) الأثر : 2235- مضى برقم : 1838 .(74) الأثر : 2236- مضى برقم : 1833 ، ورقم : 2160 .(75) انظر معاني"ولى" فيما سلف 2 : 162 ، 535 ، وهذا الجزء 3 : 131 .(76) هو قيس بن العيزارة الهذلي . والعيزارة أمه ، واسمه قيس بن خويلد بن كاهل .(77) ديوانه في أشعار الهذليين للسكري : 261 (أوربة) ، ورسالة الشافعي : 35 ، 487 ، وسيرة ابن هشام 2 : 200 ، والكامل 1 : 12 ، 2 : 3 ومجاز القرآن لأبي عبيدة : 60 ، واللسان (شطر) (حسر) ، وغيرها . ورواية الشافعي في الرسالة : "إن العسيب" بالباء في آخره ، ورواية ديوانه وابن هشام : "إن النعوس" . والعسير : التي تعسر بذنبها إذا حملت ، من شراستها . والنعوس : التي تغمض عينيها عند الحلب . والعسيب : جريد النخل إذا كشط عنه خوصه . وأرى أنه لم يرد صفة الناقة بأحد هذه الألفاظ الثلاثة ، وإنما هو اسم ناقته . وكلها صالح أن يكون اسما للناقة . وقد قال ابن هشام : "النعوس : ناقته ، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير ، من قوله : "وهو حسير" . ويروى : "داء يخامرها فنحوها . . . " ، ورواية ديوانه"مخزور" . ومحسور ، هو الحسير : الذي قد أعيى وكل . ومخزور : من قولهم : "خزر بصره" : إذا دانى بين جفنيه ونظر بلحاظه . وهو يصف ناقته ، ويذكر حزنه وحبه لها ، فهو من الداء الذي خامرها مشفق عليها ، يطيل النظر إليها حتى تحسر عيناه ويكل .(78) سيرة ابن هشام 2 : 199 ، والروض الأنف 2 : 38 ، والخزانة 3 : 38 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة : 60 . وفي المطبوعة : "من إنفادها" ، وهو خطأ . وقال : قبله :أَنْشَأتُ أَسْأَلُه عَنْ حَالِ رُفْقَتِهِفقال : حَيَّ, فَإِنَّ الرَّكْبَ قَدْ نَصَبَاحي : اعجل . ونصب : جد في السير : وقوله : "جمع" ، هي مزدلفة ، يريد الحج . وقوله : عاقدة ، أي : قد عطفت ذنبها بين فخذيها . وقوله : كارب ، أي أوشك وكاد وقارب ودنا . وأوفدت الناقة إيفادًا : أسرعت . والحقب : الحزام يشد به الرحل في بطن البعير مما يلي ثيله لئلا يؤذيه التصدير . يقول : قد أسرعوا إسراعًا إلى مزدلفة ، فجعلت تعطف ذنبها تسد به فرجها حتى كاد عقد ذنبها يبلغ الحقب . والناقة تسد فرجها بذنبها في إسراعها ، يقول المخبل السعدي :وإذَ رَفَعْتُ السَّوْطَ, أفْزَعَهَاتَحْتَ الضُّلُوعِ مُرَوِّعٌ شَهْمُوتَسُدُّ حَاذَيْهَا بِذِي خُصَلٍعُقِمَتْ فناعَمَ, نَبْتَهُ العُقْمُويقول المثقب العبدي ، يصف ناقته مسرعة :تَسُدُّ بِدَائِمِ الخَطَرَانِ جَثْلٍخَوايَةَ فَرْجِ مِقْلاَتٍ دَهِينِ(79) الخبر : 2246- هو وما قبله من الأخبار ، في تفسير (شطره) بأنه : قبله ، أو : نحوه . وانظر مؤيدًا ذلك ، ما قاله الشافعي في الرسالة ، بتحقيقنا : 105-111 ، 1378-1381 .(80) الحديث : 2247- عبد الله بن أبي زياد ، شيخ الطبري : نسب إلى جده . وهو"عبد الله بن الحكم بن أبي زياد القطواني" ، واسم"أبي زياد" : "سليمان" . وعبد الله هذا : ثقة ، روى عنه أبو زرعة ، وأبو حاتم ، وابن خزيمة ، وغيرهم . مترجم في التهذيب . وابن أبي حاتم 2/2/38 .وشيخه"عثمان" : ما أدري من هو؟ وأغلب الظن أنه محرف ، وصوابه"عفان" .يحيى بن قمطة : تابعي ثقة ، ترجمه البخاري في الكبير 4/2/229 ، وابن أبي حاتم 4/2/181 ، وذكر أنه حجازي ، ولم يذكرا فيه جرحًا . وذكر البخاري أنه يروي"عن ابن عمر" . وذكر ابن أبي حاتم أنه يروي"عن عبد الله بن عمرو" . وذكره ابن حبان في الثقات ، ص : 371 ، وقال : "يروي عن ابن عمر ، وعبد الله بن عمرو" . روى عنه يعلى بن عطاء .واسم أبيه : "قمطة" بالقاف ثم الميم ثم الطاء المهملة . ولم أجد ما يدل على ضبط هذه الحروف . لكنه ثبت هكذا في الطبري وتفسير عبد الرزاق ومراجع الترجمة . ووقع في ابن كثير والمستدرك"قطة" بدون الميم . وهو خطأ ، لمخالفته ما ذكرنا عن المراجع .والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2 : 269 ، من طريق مسلم بن إبراهيم ، عن شعبة ، بهذا الإسناد ، مطولا بنحو الرواية التي بعد هذه . وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي .(81) الحديثان : 2248 ، 2249- وهذان إسنادان آخران للحديث قبلهما . وأولهما من رواية عبد الرزاق ، عن هشيم ، عن يعلى بن عطاء .وهشيم- بالتصغير : هو ابن بشير ، بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة . وهو أبو معاوية بن أبي خازم ، وهو حافظ ثقة ثبت . مترجم في التهذيب . والكبير 4/2/242 ، وابن سعد 7/2/61 ، 70 . وابن أبي حاتم 4/2/115-116 . وتذكرة الحفاظ 1 : 229-230 .والحديث في تفسير عبد الرزاق ، ص : 13 ، بهذا الإسناد . وليس فيه كلمة"هي" المزادة هنا بعد قوله : "هذه القبلة" . وأخشى أن تكون زيادتها غير جيدة ولا ثابتة .وذكر ابن كثير 1 : 352 ، أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم"عن الحسن بن عرفة ، عن هشيم ، عن يعلى بن عطاء" . ووقع اسم"هشيم" فيه محرفًا ، فيصحح من هذا الموضع .والحديث في الدر المنثور أيضًا 1 : 147 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور ، وأحمد بن منيع في مسنده ، وابن المنذر ، والطبراني في الكبير . وهو في مجمع الزوائد 6 : 316 ، وقال : "رواه الطبراني من طريقين ، ورجال إحداهما ثقات" .(82) الخبر : 2250- نقله السيوطي 1 : 147 ، عن الطبري وحده ، بلفظ : "البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب" .(83) الحديث : 2251- أبو إسحاق : هو السبيعي الهمداني .عميرة -بفتح العين- بن زياد الكندي : تابعي ثقة ، ترجمه ابن سعد في الطبقات 6 : 141 ، وقال : "روى عن عبد الله" . أراد بذلك عبد الله بن مسعود . وترجمه البخاري في الكبير 4/1/69 . وابن أبي حاتم 3/2/24 . ولم يذكرا فيه جرحًا ، ولا رواية عن غير ابن مسعود . وذكرا أن الراوي عنه أبو إسحاق .والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2 : 269 ، من طريق محمد بن كثير ، عن سفيان -وهو الثوري- عن أبي إسحاق بهذا الإسناد . وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي . وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ج 2 ص 3 ، عن الحاكم .وذكره السيوطي 1 : 147 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدينوري في المجالسة .وذكره ابن كثير 1 : 268 ، نقلا عن الحاكم .ولفظه عندهم جميعًا : "قال : شطره قبله" ، كما أثبتنا . ووقع في المطبوعة هنا : "قال : شطره فينا قبلة"!! وهو خطأ سخيف ، من ناسخ أو طابع .ووقع في الإسناد في ابن كثير"محمد بن إسحاق" بدل"أبي إسحاق" . وهو خطأ يخالف ما ثبت هنا ، وما ثبت في سائر المراجع .ووقع فيه في ابن كثير والمستدرك ومختصره للذهبي -المطبوع والمخطوط-"عمير بن زياد" . وهو خطأ أيضًا . وثبت على الصواب في رواية البيهقي عن الحاكم .(84) الحديث : 2252- الفضل بن الصباح البغدادي : ثقة ، وثقه ابن معين . وقال أبو القاسم البغوي : "كان من خيار عباد الله" . مترجم في التهذيب . وابن أبي حاتم 3/2/63 .عبد الملك : هو ابن أبي سليمان العرزمي ، مضى في : 1455 .عطاء : هو ابن أبي رباح ، التابعي الكبير ، الإمام الحجة ، القدوة العلم ، مفتي أهل مكة ومحدثهم . مترجم في التهذيب . وابن أبي حاتم 3/1/330-331 . وتذكرة الحفاظ 1 : 92 : 93 ، وتاريخ الإسلام 4 : 278-280 ، وابن سعد 2/2/133-134 ، و 5 : 344-346 .أسامة بن زيد بن حارثة : هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه .وقد زعم أبو حاتم -فيما حكاه عنه ابنه في المراسيل : ص : 57- أن عطاء لم يسمع من أسامة . ولكن الرواية التالية لهذه ، فيها تصريح عطاء بالسماع منه . ثم المعاصرة كافية في ثبوت الاتصال ، كما هو الراجح عند أهل العلم بالحديث .وعطاء ولد سنة 27 ومات سنة 114 . بل ذكر الذهبي أنه مات عن 90 سنة . وأسامة بن زيد مات سنة 54 . بل أرخ مصعب الزبيري وفاته في آخر خلافة معاوية سنة 58 أو 59 .وهذا الحديث رواه أحمد في المسند (5 : 209) ، عن هشيم ، بهذا الإسناد واللفظ . ثم رواه عقبه ، بالإسناد نفسه مطولا ، بنحوه .(85) الحديث : 2253- ابن حميد : هو محمد بن حميد بن حيان الرازي الحافظ . سبقت رواية الطبري عنه مرارًا كثيرة ، ووثقناه في 2028 . ونزيد هنا أنه وثقه ابن معين وغيره . وأنكروا عليه أحاديث ، وأجاب عنه ابن معين بأن"هذه الأحاديث التي يحدث بها ، ليس هو من قبله ، إنما هو من قبل الشيوخ الذي يحدث به عنهم" . وقال الخليلي : "كان حافظًا عالمًا بهذا الشأن ، رضيه أحمد ويحيى" . وعرض عبد الله بن أحمد على أبيه ما كتبه عنه ، فقال : أما حديثه عن ابن المبارك وجرير ، فصحيح ، وأما حديثه عن أهل الري ، فهو أعلم" . مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/69-70 ، وابن أبي حاتم 3/2/232-233 ، والخطيب 2 : 259-264 ، وتذكرة الحفاظ 2 : 67-69 .جرير : هو ابن عبد الحميد بن قرط الرازي ، وهو ثقة حجة . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 1/2/214 ، وابن سعد 7/2/110 . وابن أبي حاتم 1/1/505-507 ، والخطيب 7 : 253-261 ، وتذكرة الحفاظ 1 : 250 .فهذا إسناد صحيح ، صرح فيه عطاء بالسماع من أسامة بن زيد ، كما أشرفا في الإسناد السابق .والحديث رواه أحمد في المسند (5 : 210 ح) ، ضمن قصة ، عن يحيى -وهو القطان- عن عبد الملك"حدثنا عطاء ، عن أسامة بن زيد" .(86) الحديث : 2254- عبد الرحيم بن سليمان : هو المروزي الأشل ، مضت ترجمته : 2030 . والحديث تكرار لسابقه ، لكن لم يصرح في هذا الإسناد بسماع عطاء من أسامة .(87) الحديث 2255- سعيد بن يحيى بن سعيد ، الأموي : ثقة ثبت ، بل قال علي بن المديني : "جماعة من الأولاد أثبت عندنا من آبائهم . . . وهذا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي : أثبت من أبيه" . وهو من شيوخ البخاري ومسلم وأبي زرعة وأبي حاتم ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/477 ، وابن أبي حاتم 2/1/74 ، والخطيب 9 : 90-91 . أبوه ، يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص : حافظ ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/277 ، وابن سعد 6 : 277-278 ، و 7/2/80-81 . وابن أبي حاتم 4/2/151-152 ، والخطيب 14 : 132-135 ، وتذكرة الحفاظ 1 : 298 .والحديث رواه أحمد في المسند (5 : 208ح) ، عن عبد الرزاق ، وروح - كلاهما عن ابن جريج ، بهذا الإسناد نحوه .رواه قبل ذلك (ص : 201 ح) عن عبد الرزاق وحده ، مختصرًا ، طوى القصة فلم يذكرها .وليس في هذا الحديث ما ينفي أن يكون عطاء سمع الحديث من أسامة بن زيد ، لأنه -هنا- إنما يجيب السائل عن قوا ابن عباس ، وينفي أن يكون ابن عباس ينهى عن دخول البيت . فهو يذكر رواية ابن عباس عن أسامة ، من أجل هذا . ولا يمنع هذا أن يكون الحديث عند عطاء عن أسامة مباشرة .والحديث رواه أيضًا مسلم 1 : 376-377 ، من طريق محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، بهذا الإسناد ، نحو هذه القصة ، أطول منها قليلا .ورواه البخاري 1 : 420- 421 (فتح الباري) ، من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، مختصرًا . لم يذكر القصة ، ولم يذكر أنه عن أسامة ، جعله من حديث ابن عباس . وذكر الحافظ أنه رواه الإسماعيلي وأبو نعيم ، في مستخرجيهما ، من طريق إسحاق بن راهويه ، عن عبد الرزاق ، بإسناد هذا : "فجعله من رواية ابن عباس عن أسامة بن زيد" . قال الحافظ : "وهو الأرجح" .والخلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة أو لم يصل - مذكور في الدواوين . والراجح صلاته فيها . المثبت مقدم على النافي . وانظر نصب الراية 2 : 319-322 .(88) انظر تفسير"غافل" فيما سلف 2 : 243-244 ، 315 ، وهذا الجزء 3 : 127 .

استئناف ابتدائي وإفضاء لِشرع استقبال الكعبة ونَسْخخِ استقبال بيت المقدس فهذا هو المقصود من الكلام المفتتح بقوله : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] بَعْد أن مَهَّد الله بما تقدم من أفانين التهيئة وإعدادِ الناس إلى ترقبه ابتداء من قوله : { ولله المشرق والمغرب ثم قوله : ولن ترضى عنك اليهود } [ البقرة : 120 ] ثم قوله : { وإذا جعلنا البيت } [ البقرة : 125 ] ثم قوله : { سيقول السفهاء } .و ( قد ) في كلام العرب للتحقيق أَلاَ ترى أهلَ المعاني نَظَّروا هل في الاستفهام بقد في الخبر فقالوا من أجل ذلك إن هل لطلب التصديق فحرف قد يفيد تحقيق الفعل فهي مع الفعل بمنزلة إِنَّ مع الأسماء ولذلك قال الخليل إنها جواب لقوم ينتظرون الخبر ولو أخبروهم لا ينتظرونه لم يقل قد فعل كذا اه .ولما كان علم الله بذلك مما لا يَشُك فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يُحتاجَ لتحقيق الخبر به كان الخبر به مع تأكيده مستعملاً في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه وأن يُطَمئِنهَ لأن النبي كان حريصاً على حصوله ويَلزم ذلكَ الوعدُ بحصوله فتحصل كنايتان مترتبان .وجيء بالمضارع مَعَ ( قد ) للدلالة على التجدد والمقصود تجدد لازمه ليكون تأكيداً لذلك اللازم وهو الوعد ، فمن أجْل ذلك غلب على قد الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل . قال عبيد بن الأَبْرَص: ... قد أَتْركُ القِرن مُصْفَرَّا أَنامِلُهكَأَنَّ أَثوابه مُبحَّت بفِرصاد ... وستجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } [ الأنعام : 33 ] في سورة الأنعام .والتقلب مطاوع قَلَّبه إذا حَوَّله وهو مثل قلبهُ بالتخفيف ، فالمراد بتقليب الوجه الالتفات به أي تحويله عن جهته الأصلية فهو هنا ترديده في السماء ، وقد أخذوا من العدول إلى صيغة التفعيل الدلالةَ على معنى التكثير في هذا التحويل ، وفيه نظر إذ قد يكون ذلك لما في هذا التحويل من الترقب والشدة فالتفعيل لقوة الكيفية ، قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقع في رُوعه إلهاماً أن الله سيحوله إلى مكة فكان يردد وجهه في السماء فقيل ينتظر نزول جبريل بذلك ، وعندي أنه إذا كان كذلك لزم أن يكون تقليب وجهه عند تهيؤ نزول الآية وإلاّ لما كان يترقب جبريل فدل ذلك على أنه لم يتكرر منه هذا التقليب .والفاء في { فلنولينك } فاء التعقيب لتأكيد الوعد بالصراحة بعد التمهيد لها بالكناية في قوله : { قد نرى تقلب وجهك } ، والتولية تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] ، فمعنى { فلنولينك قبلة } لنوجهنك إلى قبلة ترضاها . فانتصب { قبلة } على التوسع بمنزلة المفعول الثاني وأصله لنولينك مِن قِبلة وكذلك قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } .والمعنى أن تولية وجهه للكعبة سيحصل عقب هذا الوعد . وهذا وعد اشتمل على أداتي تأكيد وأداةِ تعقيب وذلك غاية اللطف والإحسان .وعبر بترضاها للدلالة على أن ميله إلى الكعبة ميل لقصد الخير بناء على أن الكعبة أجدر بيُوتتِ الله بأن يدل على التوحيد كما تقدم فهو أجدر بالاستقبال من بيت المقدس ، ولأن في استقبالها إيماء إلى استقلال هذا الدين عن دين أهل الكتاب . ولما كان الرضى مشعراً بالمحبة الناشئة عن تعقل اختير في هذا المقام دون تُحبها أو تهواها أو نحوهما فإن مقام النبي صلى الله عليه وسلم يربو عن أن يتعلق ميله بما ليس بمصلحة راجحة بعد انتهاء المصلحة العارضة لمشروعية استقبال بيت المقدس ، ألا ترى أنه لما جاء في جانب قبلتهم بعد أن نسخت جاء بقوله : { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } الآية .وقوله : { فول وجهك } تفريع على الوعد وتعجيل به والمعنى فول وجهك في حالة الصلاة وهو مستفاد من قرينة سياق الكلام على المجادلة مع السفهاء في شأن قبلة الصلاة .والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر متوجه إليه باعتبار ما فيه من إرضاء رغبته ، وسيعقبه بتشريك الأمة معه في الأمر بقوله : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .والشَّطْر بفتح الشين وسكون الطاء الجهة والناحية وفسره قتادة بتلقاء ، وكذلك قرأه أبي بن كعب ، وفَسر الجُبَّائي وعبد الجبار الشطر هنا بأنه وسَط الشيء ، لأن الشطر يطلق على نصف الشيء فلما أضيف إلى المسجد والمسجد مكان اقتضى أن نصفه عبارة عن نصف مقداره ومساحته وذلك وسطه ، وجعَلا شطر المسجد الحرام كناية عن الكعبة لأنها واقعة من المسجد الحرام في نصف مساحته من جميع الجوانب ( أي تقريباً ) قال عبد الجبار ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان أحدهما أن المصلى لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولا يكون متوجهاً إلى الكعبة لا تصح صلاته ، الثاني لو لم نفسر الشطر بما ذكرنا لم يبق لذكر الشطر فائدة إذ يغني أن يقول : { فول وجهك المسجد الحرام } ولكان الواجب التوجه إلى المسجد الحرام لا إلى خصوص الكعبة .فإن قلت ما فائدة قوله : { فلنولينك قبلة ترضاها } قبل قوله : { فول وجهك } وهلا قال : في السماء فول وجهك إلخ ، قلت فائدته إظهار الاهتمام برغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها بحيث يعتنى بها كما دل عليه وصف القبلة بجملة { ترضاها } .ومعنى ( نولينك ) نوجهنك ، وفي التوجيه قرب معنوي لأن ولي المتعدي بنفسه إذا لم يكن بمعنى القرب الحقيقي فهو بمعنى الارتباط به ، ومنه الولاء والولي ، والظاهر أن تعديته إلى مفعول ثان من قبيل الحذف والتقدير ولى وجهه إلى كذا ثم يَعدونه إلى مفعول ثالث بحرف عن فيقولون ولَّى عن كذا وينزلونه منزلة اللازم بالنسبة للمفعولين الآخرين فيقدرون ولى وجهه إلى جهة كذا منصرفاً عن كذا أي الذي كان يليه من قبل ، وباختلاف هاته الاستعمالات تختلف المعاني كما تقدم .فالقبلة هنا اسم للمكان الذي يستقبله المصلى وهو إما مشتق من اسم الهيئة وإما من اسم المفعول كما تقدم .والمسجد الحرام المسجد المعهود عند المسلمين والحرام المجعول وصفاً للمسجد هو الممنوع . أي الممنوع منع تعظيم وحرمة فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه . وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام أي الممنوع عن الجبابرة والظلمة والمعتدين ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : { عند بيتك الحرام } [ إبراهيم : 37 ] ، أي المعظم المحترم وسمي الحرم قال تعالى : { أولم نمكن لهم حرماً أمناً } [ القصص : 57 ] فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علماً على حريم الكعبة المحيط بها وهو محل الطواف والاعتكاف ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل الهجرة وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية .والجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال هذه القبلة ، قال ابن العربي «وَذَكَرَ المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت بما يجاوره أو بما يشتمل عليه» وعن ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب . قال الفخر وهذا قول مالك ، وأقول لا يعرف هذا عن مالك في كتب مذهبه .وانتصب { شطر المسجد } على المفعول الثاني لولّ وليس منصوباً على الظرفية .وقوله : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } تنصيص على تعميم حكم استقبال الكعبة لجميع المسلمين بعموم ضميري { كنتم } و { وجوهكم } لوقوعهما في سياق عموم الشرط بحيثما وحينما لتعميم أقطار الأرض لئلا يظن أن قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم اقتضى الحال تخصيصه بالخطاب به لأنه تفريع على قوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } ليكون تبشيراً له ويعلم أن أمته مثله لأن الأصل في التشريعات الإسلامية أن تعم الرسول وأمته إلاّ إذا دل دليل على تخصيص أحدهما ، ولما خيف إيهام أن يكون هذا الحكم خاصاً به أو أن تجزىء فيه المرة أو بعض الجهات كالمدينة ومكة أريد التعميم في المكلفين وفي جميع البلاد ، ولذلك جيء بالعطف بالواو لكن كان يكفي أن يقول وولوا وجوهكم شطره فزيد عليه ما يدل على تعميم الأمكنة تصريحاً وتأكيداً لدلالة العموم المستفاد من إضافة { شطر } إلى ضمير { المسجد الحرام } لأن شطر نكرة أشبهت الجمع في الدلالة على أفراد كثيرة فكانت إضافتها كإضافة الجموع ، وتأكيداً لدلالة الأمر التشريعي على التكرار تنويهاً بشأن هذا الحكم فكأنه أفيد مرتين بالنسبة للمكلفين وأحوالهم أولاهما إجمالية والثانية تفصيلية .وهذه الآيات دليل على وجوب هذا الاستقبال وهو حكمة عظيمة ، ذلك أن المقصود من الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى وبمقدار استحضار المعبود يقوى الخضوع له فتترتب عليه آثاره الطيبة في إخلاص العبد لربه وإقباله على عبادته وذلك ملاك الامتثال والاجتناب . ولهذا جاء في الحديث الصحيح : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ولما تنزه الله تعالى عن أن يحيط به الحس تعين لمحاول استحضار عظمته أن يجعل له مذكراً به من شيء له انتساب خاص إليه ، قال فخر الدين : ( إن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات ، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام ، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية ، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم لا بد من أن يستقبله بوجهه ويبالغ في الثناء عليه بلسانه وفي الخدمة له ، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك ، والقرآنُ والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة ) اه .فإذا تعذر استحضار الذات المطلوبة بالحس فاستحضارها يكون بشيء له انتساب إليها مباشرة كالديار أو بواسطة كالبرق والنسيم ونحو ذلك أو بالشبه كالغزال عند المحبين ، وقديماً ما استهترت الشعراء بآثار الأحبة كالأطلال في قوله: ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلوأقوالهم في البرق والريح ، وقال مالك بن الرَّيب: ... دَعاني الهَوى من أهل ودي وجيرتيبذِي الطَّيِّسَيْننِ فالتفتُّ وَرائيا ... والله تعالى منزه عن أن يحيط به الحس فوسيلة استحضار ذاته هي استحضار ما فيه مزيد دلالة عليه تعالى . لا جرم أن أولى المخلوقاتتِ بأن يجعل وسيلة لاستحضار الخالق في نفس عبده هي المخلوقات التي كان وجودها لأجل الدلالة على توحيد الله وتنزيهه ووصفه بصفات الكمال مع تجردها عن كل ما يوهم أنها المقصودة بالعبادة وتلك هي المساجد التي بناها إبراهيم عليه السلام وجردها من أن يضع فيها شيئاً يوهم أنه المقصود بالعبادة ، ولم يسمها باسم غير الله تعالى فبنى الكعبة أول بيت ، وبنى مسجداً في مكان المسجد الأقصى ، وبنى مساجد أخرى ورد ذكرها في التوراة بعنوان مذابح ، فقد بنت الصابئة وأهل الشرك بعد نوح هيَاكل لتمجيد الأوثان وتهويل شأنها في النفوس فأضافوها إلى أسماء أناس مثل ود وسواع ، أو إلى أسماء الكواكب ، وذكر المسعودي في «مروج الذهب» عدة من الهياكل التي أقيمت في الأمم الماضية لهذا الشأن ومنها هيكل سندوساب ببلاد الهند وهيكل مصلينا في جهة الرقة بناه الصابئة قبل إبراهيم وكان آزر أبو إبراهيم من سدنته ، وقيل إن عاداً بنوا هياكل منها جلق هيكل بلاد الشام .فإذا استقبل المؤمن بالله شيئاً من البيوت التي أقيمت لمناقضة أهل الشرك وللدلالة على توحيد الله وتمجيده كان من استحضار الخالق بما هو أشدُّ إضافةً إليه ، بيد أن هذه البيوت على كثرتها لا تتفاضل إلاّ بإخلاص النية من إقامتها ، وبكون إقامتها لذلك وبأسبقية بعضها على بعض في هذا الغرض ، وإن شئت جعلت كل هذه المعاني ثلاثةً في معنى واحد وهو الأسبقية لأن السابق منها قد امتاز على اللاَّحق بكونه هو الذي دل مؤسسَ ذلك اللاحق على تأسيسه قال تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } [ التوبة : 108 ] ، وقال في ذكر مسجد الضرار : { لا تقم فيه أبداً } ، أي لأنه أسس بنية التفريق بين المؤمنين ، وقال : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين } [ آل عمران : 96 ] فجعله هدى للناس لأنه أول بيت فالبيوت التي أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهتداء اهتداه بانُوها بالبيت الأول .وقد قال بعض العلماء إن الكعبة أول هيكل أقيم للعبادة وفيه نظر سيأتي عند قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة في سورة آل عمران ، ولا شك أن أول هيكل أقيم لتوحيد الله وتنزيهه وإعلان ذلك وإبطال الإشراك هو الكعبة التي بناها إبراهيم أول من حاج الوثنيين بالأدلة وأول من قاوم الوثنية بقوة يده فجعل الأوثان جذاذاً ، ثم أقام لتخليد ذكر الله وتوحيده ذلك الهيكل العظيم ليعلم كل أحد يأتي أن سبب بنائه إبطال عبادة الأوثان ، وقد مضت على هذا البيت العصور فصارت رؤيته مذكرة بالله تعالى ، ففيه مزية الأولية ، ثم فيه مزية مباشرة إبراهيم عليه السلام بناءه بيده ويد ابنه إسماعيل دون معونة أحد ، فهو لهذا المعنى أعرق في الدلالة على التوحيد وعلى الرسالة معاً وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره .ثم سَن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى ولتعميمها في الأمم الأخرى ، فلا جرم أن يكون أولى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة وما بنيت بيوت الله مثل المسجد الأقصى إلاّ بعده بقرون طويلة ، فكان هو قبلة المسلمين .قدمنا آنفاً أن شرط استقبال جهة معينة لم يكن من أحكام الشرائع السالفة وكيف يكون كذلك والمسجد الأقصى بني بعد موسى بما يزيد على أربعمائة سنة وغاية ما كان من استقباله بعد دعوة سليمان أنه استقبال لأجل تحقق قبول الدعاء والصلاة لا لكونه شرطاً ، ثم إن اختيار ذلك الهيكل للاستقبال وإن كان دعوة فهي دعوة نبيء لا تكون إلاّ عن إلهام إلهي فلعل حكمة ذلك حينئذٍ أن الله أراد تعمير البلد المقدس كما وعد إبراهيم ووعد موسى فأراد زيادة تغلغل قلوب الإسرائيليين في التعلق به فبين لهم استقبال الهيكل الإيماني الذي أقامه فيه نبيه سليمان ليكون ذلك المعبد مما يدعو نفوسهم إلى الحرص على بقاء الأقطار بأيديهم .ويجوز أن يكون قد شرع الله لهم الاستقبال بعد ذلك على ألسنة الأنبياء بعد سليمان وفيه بعد لأن أنبياءهم لم يأتوا بزيادة على شريعة موسى وإنما أتوا معززين فتشريعه الله تعالى استقبال المسلمين في صلاتهم لجهة معينة تكميل لمعنى الخشوع في صلاة الإسلام فيكون من التكملات التي ادخرها الله تعالى لهذه الشريعة لتكون تكملة الدين تشريفاً لصاحبها ولأمته إن كان الاحتمال الأول ، فإن كان الثاني فالأمر لنا بالاستقبال لئلا تكون صلاتنا أضعف استحضاراً لجلال الله تعالى من صلاة غيرنا .ولذلك اتفق علماؤنا على أن الاستقبال لجهة معينة كان مقارناً لمشروعية الصلاة في الإسلام فإن كان استقباله جهة الكعبة عن اجتهاد من النبي فعلَّته أنه المسجد الذي عظمه أهل الكتابين والذي لم يداخله إشراك ولا نصبت فيه أصنام فكان ذلك أقرب دليل لاستقبال جهته ممن يريد استحضار وحدانية الله تعالى ، وإن كان استقبال بيت المقدس بوحي من الله تعالى فلعل حكمته تأليف قلوب أهل الكتابين وليظهر بعد ذلك للنبيء وللمسلمين من اتبعهم من أهل الكتاب حقاً ومن اتبعهم نفاقاً لأن الأخيرين قد يتبعون الإسلام ظاهراً ويستقبلون في صلاتهم قبلتهم القديمة فلا يرون حرجاً على أنفسهم في ذلك فإذا تغيرت القبلة خافوا من قصدهم لاستدبارها فأظهروا ما كانوا مستبطينه من الكفر كما أشار له قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول } [ البقرة : 142 ] الآية .ولعل العدول عن الأمر باستقبال الكعبة في صدر الإسلام كان لخضد شوكة مكابرة قريش وطعنهم في الإسلام فإنه لو استقبل مكة لشمخوا بأنوفهم وقالوا هذا بلدنا ونحن أهله واستقباله حنين إليه وندامة على الهجرة منه ، كما قد يكون قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [ البقرة : 114 ] وقوله : { ولله المشرق والمغرب } [ البقرة : 115 ] إيماء إليه كما قدمناه ، وعليه ففي تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ذلك بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال وأن وقعة بدر ستكون الفيصل بين المسلمين وبينهم ، ثم أمر الله بتحويل القبلة إلى البيت الذي هو أولى بذلك وإلى جهته للبعيد عنه .اعتراض بين جملة : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } وجملة { ومن حيث خرجت فول وجهك } [ البقرة : 149 ] الآية . والأظهر أن المراد بالذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وأحبار النصارى كما روى عن السُّدِّي كما يشعر به التعبير عنهم بصلة : { أوتوا الكتاب } دونَ أن يقال وإنَّ أهل الكتاب . ومعنى كونهم يعلمون أنه الحق أن عِلْمهم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم حسب البشارة به في كتبهم يتضمن أن ما جاء به حق . والأظهر أيضاً أن المراد بالذين أوتوا الكتاب هم الذين لم يزالوا على الكفر ليظهر موقع قوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } فإن الإخبار عنهم بأنهم يعلمون أنه الحق مع تأكيده بمؤكِّدَين ، يقتضي أن ظاهر حالهم إذ أنكروا استقبال الكعبة أنهم أنكروه لاعتقادهم بطلانه وأن المسلمين يظنونهم معتقدين ذلك ، وليظهر موقع قوله { وما الله بغافل عما يعلمون } الذي هو تهديد بالوعيد .وقد دل التعريف في قوله : { أنه الحق } على القصر أي يعلمون أن الاستقبال للكعبة هو الحق دون غيره تبعاً للعلم بنسخ شريعتهم بشريعة الإسلام ، وقيل إنهم كانوا يجدون في كتبهم أن قبلتهم ستبطل ولعل هذا مأخوذ من إنذارات أنبيائهم مثل أرميا وأشعيا المنادية بخراب بيت المقدس فإن استقباله يصير استقبال الشيء المعدوم .وقوله : { وما الله بغافل عما يعملون } قرأه الجمهور بياء الغيبة والضميرُ للذين أوتوا الكتاب أي عن عملهم بغير ما علموا فالمراد بما يعملون هذا العملُ ونحوه من المكابرة والعناد والسفه . وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلاّ عدم العلم فلذلك كان وعيداً لهم ووعيدُهم يستلزم في المقام الخطابي وَعْداً للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة ، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يَغفل عن عمل هؤلاء فيجازي كلاً بما يستحق .وقَرأه ابنُ عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورَوْح عن يعقوب بتاء الخطاب فهو كناية عن وعد للمسلمين على الامتثال لاستقبال الكعبة . ويستلزم وعيداً للكافرين على عكس ما تقتضيه القراءة السابقة؛ وعلى القراءتين فهو تذييل إجمالي لِيأخُذ كلٌّ حظهُ منه وهو اعتراض بين جملة : { وإن الذين أوتوا } وجملة : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } [ البقرة : 145 ] الآية .وفي قوله : { ليعلمون } وقوله : { عما يعملون } [ البقرة : 96 ] الجناس التام المُحَرَّف على قراءة الجمهور والجناسُ الناقص المضارع على قراءة ابن عامر ومن وافقه .
الآية 144 - سورة البقرة: (قد نرى تقلب وجهك في السماء ۖ فلنولينك قبلة ترضاها ۚ فول وجهك شطر المسجد الحرام ۚ وحيث ما كنتم...)