سورة الأنفال: الآية 43 - إذ يريكهم الله في منامك...

تفسير الآية 43, سورة الأنفال

إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَٰزَعْتُمْ فِى ٱلْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ

الترجمة الإنجليزية

Ith yureekahumu Allahu fee manamika qaleelan walaw arakahum katheeran lafashiltum walatanazaAAtum fee alamri walakinna Allaha sallama innahu AAaleemun bithati alssudoori

تفسير الآية 43

واذكر -أيها النبي- حينما أراك الله قلة عدد عدوك في منامك، فأخبرت المؤمنين بذلك، فقوِيت قلوبهم، واجترؤوا على حربهم، ولو أراك ربك كثرة عددهم لتردد أصحابك في ملاقاتهم، وجَبُنتم واختلفتم في أمر القتال، ولكن الله سلَّم من الفشل، ونجَّى من عاقبة ذلك. إنه عليم بخفايا القلوب وطبائع النفوس.

اذكر «إذ يريكهُم الله في منامك» أي نومك «قليلا» فأخبرت به أصحابك فسروا «ولو أراكهم كثيرا لفشلتم» جبنتم «ولتنازعتم» اختلفتم «في الأمر» أمر القتال «ولكن الله سلَّمـ» ـكم من الفشل والتنازع «إنه عليم بذات الصدور» بما في القلوب.

وكان اللّه قد أرى رسوله المشركين في الرؤيا عددا قليلا، فبشر بذلك أصحابه، فاطمأنت قلوبهم وتثبتت أفئدتهم‏.‏ ولو أراكهم الله إياهم كَثِيرًا فأخبرت بذلك أصحابك ‏‏لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ‏‏ فمنكم من يرى الإقدام على قتالهم، ومنكم من لا يرى ذلك فوقع من الاختلاف والتنازع ما يوجب الفشل‏.‏ ‏‏وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ‏‏ فلطف بكم ‏‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏‏ أي‏:‏ بما فيها من ثبات وجزع، وصدق وكذب،فعلم اللّه من قلوبكم ما صار سببا للطفه وإحسانه بكم وصدق رؤيا رسوله

قال مجاهد : أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك ، فكان تثبيتا لهم .وكذا قال ابن إسحاق وغير واحد . وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه رآهم بعينه التي ينام بها .وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يوسف بن موسى المدبر ، حدثنا أبو قتيبة ، عن سهل السراج ، عن الحسن في قوله : ( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ) قال : بعينك .وهذا القول غريب ، وقد صرح بالمنام هاهنا ، فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه .وقوله : ( ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ) أي : لجبنتم عنهم واختلفتم فيما بينكم ، ( ولكن الله سلم ) أي : من ذلك : بأن أراكهم قليلا ( إنه عليم بذات الصدور ) أي : بما تجنه الضمائر ، وتنطوي عليه الأحشاء ، فيعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .

ثم يبين- سبحانه- بعض وجوه نعمه على المؤمنين، وتدبيره الخفى لنصرهم وفوزهم فيقول: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.أى: اذكر يا محمد فضل الله عليك وعلى أصحابك، حيث أراك في منامك الكافرين قليلا عددهم، ضئيلا وزنهم فأخبرت بذلك أتباعك فازدادوا ثباتا واطمئنانا وجرأة على عدوهم وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً أى: ولو أراك الأعداء عددا كثيرا لَفَشِلْتُمْ أى: لتهيبتم الإقدام عليهم، لكثرة عددهم، من الفشل وهو ضعف مع جبن وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أى:في أمر الإقدام عليهم والإحجام عنهم. فمنكم من يرى هذا ومنكم من يرى ذلك.وقوله وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ بيان لمحل النعمة. أى: ولكن الله- تعالى- بفضله وإحسانه أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع وتفرق الآراء في شأن القتال: حيث ربط على قلوبكم، ورزقكم الجرأة على أعدائكم وعدم المبالاة بهم بسبب رؤيا نبيكم.وقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تذييل يدل على شمول علمه- سبحانه-.أى: إنه- سبحانه- عليم بكل ما يحصل في القلوب وما يخطر بها من شجاعة وجبن.ومن صبر وجزع ولذلك دير ما دبر.قال الفخر الرازي، قال مجاهد: أرى الله النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش في منامه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه فقالوا: رؤيا النبي حق. القوم قليل، فصار ذلك سببا لجرأتهم وقوة قلوبهم.فإن قيل: رؤية الكثير قليلا غلط، فكيف يجوز من الله- تعالى- أن يفعل ذلك؟قلنا: ذهبنا أنه- تعالى- يفعل ما يشاء ويحكم ما يريده وأيضا لعله- سبحانه- أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون .ونستطيع أن نضيف إلى ما أجاب به الفخر الرازي أنه يجوز أن يكون المراد بالقلة:الضعف وهوان الشأن..أى: أن المشركين وإن كانوا في حقيقتهم يقاربون الألف- أى أكثر من ثلاثة أمثال المؤمنين- إلا أنهم لا قوة لهم ولا وزن، فهم كثير عددهم ولكن قليل غناؤهم، قليل وزنهم في المعركة. لأنهم ينقصهم الإيمان الصحيح الذي يقوى القلوب، ويدفع النفوس إلى الإقدام لنصرة الحق لكي تفوز برضا الله وحسن مثوبته.وإلى هذا المعنى أشار صاحب المنار بقوله: وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قدر عدد المشركين بألف وأخبر أصحابه بذلك، ولكنه أخبرهم مع هذا أنه رآهم في منامه قليلا، لا أنهم قليل في الواقع، فالظاهر أنهم أولوا الرؤيا بأن بلاءهم يكون قليلا، وأن كيدهم يكون ضعيفا، فتجرءوا وقويت قلوبهم .هذا، ونسب الى الحسن أنه ذكر أن هذه الآراء كانت في اليقظة، وأن المراد من المنام العين التي هي موضع النوم. قال الزمخشري. وهذا تفسير فيه تعسف. وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن.وقال الآلوسى: وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين، لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة المنامة لأنها ينام فيها، فلم يكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية، وإليه ذهب البلخي.ولا يخفى ما فيه، لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمى. ففي الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه.. على أن الروايات الجمة برؤيته صلى الله عليه وسلم إياهم مناما، وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر.. ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة، فإنه الفصيح العالم بكلام العرب .

قوله تعالى : ( إذ يريكهم الله ) يريك يا محمد المشركين ، ( في منامك ) أي : نومك . وقال الحسن : في منامك أي في عينك ، لأن العين موضع النوم ، ( قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ) لجبنتم ( ولتنازعتم ) أي : اختلفتم ( في الأمر ) أي : في الإحجام والإقدام ، ( ولكن الله سلم ) أي سلمكم من المخالفة والفشل ، ( إنه عليم بذات الصدور ) قال ابن عباس : علم ما في صدوركم من الحب لله - عز وجل - :

قوله تعالى إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور قال مجاهد : رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه قليلا ، فقص ذلك على أصحابه ، فثبتهم الله بذلك . وقيل : عني بالمنام محل النوم وهو العين ، أي في موضع منامك ، فحذف ، عن الحسن . قال الزجاج : وهذا مذهب حسن ، ولكن الأولى أسوغ في العربية ، لأنه قد جاء وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم فدل بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء ، وأن تلك رؤية النوم . ومعنى لفشلتم لجبنتم عن الحرب .ولتنازعتم في الأمر اختلفتم .ولكن الله سلم أي سلمكم من المخالفة . ابن عباس : من الفشل . ويحتمل منهما . وقيل : سلم أي أتم أمر المسلمين بالظفر .

القول في تأويل قوله : إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن الله، يا محمد، سميع لما يقول أصحابك, عليم بما يضمرونه, إذ يريك الله عدوك وعدوهم " في منامك قليلا "، يقول: يريكهم في نومك قليلا فتخبرهم بذلك, حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم= ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرًا، لفشل أصحابك, فجبنوا وخاموا, (62) ولم يقدروا على حرب القوم, (63) ولتنازعوا في ذلك، (64) ولكن الله سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا, إنه عليم بما تُجنُّه الصدور, (65) لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب. (66)* * *وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " ، أي: في عينك التي تنام بها= فصيّر " المنام "، هو العين, كأنه أراد: إذ يريكهم الله في عينك قليلا. (67)* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:16150 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " إذ يريكهم الله في منامك قليلا "، قال: أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك, فكان تثبيتًا لهم.16151- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.16152- ....وقال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.16153 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " ، الآية، فكان أول ما أراه من ذلك نعمةً من نعمه عليهم, شجعهم بها على عدوهم, وكفَّ بها ما تُخُوِّف عليهم من ضعفهم، (68) لعلمه بما فيهم. (69)* * *واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " ولكن الله سلم ".فقال بعضهم: معناه: ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم، حتى أظهرهم على عدوهم.* ذكر من قال ذلك:16154 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " ولكن الله سلم "، يقول: سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم.* * *وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولكن الله سلم أمره فيهم.* ذكر من قال ذلك:16155 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: " ولكن الله سلم "، قال: سلم أمره فيهم.* * *قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس, وهو أن الله سلم القومَ = بما أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه = من الفشل والتنازع, حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم. وذلك أن قوله: " ولكن الله سلم " عَقِيب قوله: " ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر " ، فالذي هو أولى بالخبر عنه, أنه سلمهم منه جل ثناؤه، ما كان مخوفًا منه لو لم يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه.---------------------الهوامش :(62) في المطبوعة : " فجبنوا وخافوا " ، غير ما في المخطوطة . يقال : " خام في القتال " ، إذا جبن ، فنكل ونكص وتراجع .(63) انظر تفسير " فشل " فيما سلف 7 : 168 ، 289 .(64) انظر تفسير " التنازع " فيما سلف 7 : 289 8 : 504 .(65) في المطبوعة : " بما تخفيه الصدور " ، غير ما في المخطوطة بلا طائل ، وهما بمعنى .(66) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف 7 : 155 ، 325 10 : 94 .(67) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 247 .(68) في المطبوعة : و " كفاهم بها ما تخوف ... " ، وفي المخطوطة : " وكعها عنهم ما تخوف " ، وصل الكلام ، وأثبت نص ابن هشام . وضبطه الخشني بالبناء للمجهول .وفي السيرة ، بعد تمام الكلام ، : " قال ابن هشام : ( تخوف ) ، مبدلة من كلمة ذكرها ابن إسحاق ، ولم أذكرها " . فجاء أبو ذر الخشني في تعليقه على السيرة فقال : " يقال الكلمة : ( تخوف ) ، بفتح التاء والخاء والواو ، وقيل : كانت ( تخوفت ) وأصلح ذلك ابن هشام ، لشناعة اللفظ في حق الله عز وجل " .وهذا لا يقال ، لأن ابن هشام يصرح بأنه نسيها ولم يذكرها ، فأبدل منها غيرها ، فهو لم يغير ذلك إلا علة النسيان .(69) الأثر : 16153 - سيرة ابن هشام 2 : 328 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16149.

{ إذ يريكهم الله } بدل من قوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } [ الأنفال : 42 ] فإنّ هذه الرؤيا ممّا اشتمل عليه زمان كونهم بالعدوة الدنيا لوقوعها في مدّة نزول المسلمين بالعدوة من بدر ، فهو بدل من بدل .والمنام مصدر ميمي بمعنى النوم ، ويطلق على زمن النوم وعلى مكانه .ويتعلق قوله : { في منامك } بفعل { يريكهم } ، فالإراءة إراءة رؤيا ، وأسندت الإراءة إلى الله تعالى؛ لأنّ رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وحي بمدلولها ، كما دلّ عليه قوله تعالى ، حكاية عن إبراهيم وابنه { قال يا بُنَيّ إنّيَ أرى في المنام أنِّي أذْبَحُك فانْظُر ماذا ترى قال يا أبَتتِ افعل ما تؤمر } [ الصافات : 102 ] فإنّ أرواح الأنبياء لا تغلبها الأخلاط ، ولا تجول حواسهم الباطنة في العبث ، فما رؤياهم إلاّ مكاشفات روحانية على عالم الحقائِق .وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا مناممٍ ، جيشَ المشركين قليلاً ، أي قليل العَدد وأخبر برؤياه المسلمين فتشجّعوا للقاء المشركين ، وحملوها على ظاهرها ، وزال عنهم ما كان يخامرهم من تهيّب جيش المشركين . فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر ، وكانت تلك الرؤيا منّة من الله على رسوله والمؤمنين ، وكانت قِلة العدد في الرؤيا رَمزاً وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلّة عددهم .ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم دون الوحي ، لأنّ صور المَرائي المنامية تكَون رموزاً لمعان فلا تُعَدُّ صورتها الظاهرية خلفاً ، بخلاف الوحي بالكلام .وقد حكاها النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين ، فأخذوها على ظاهرها ، لعلمهم أنّ رؤيا النبي وحي ، وقد يكون النبي قد أطلعه الله على تعبيرها الصائِب ، وقد يكون صرفه عن ذلك فظنّ كالمسلمين ظاهرها ، وكلّ ذلك للحكمة . فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لم تخطىء ولكنها أوهمتهم قلّة العَدد ، لأنّ ذلك مرغوبهم والمقصود منه حاصل ، وهو تحقّق النصْر ، ولو أخبروا بعدد المشركين كما هو لجبنُوا عن اللقاء فضعفت أسباب النصر الظاهرة المعتادة التي تكسبهم حسن الأحدوثة . ورؤيا النبي لا تخطىء ، ولكنها قد تكون جارية على الصورة الحاصلة في الخارج ، كما ورد في حديث عائشة في بدء الوحي : أنّه كان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلَق الصبح ، وهذا هو الغالب ، وخاصّة قبل ابتداء نزول المَلك بالوحي ، وقد تكون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم رمزية وكناية كما في حديث رؤياه بَقَراً تُذبح ، ويُقال له : الله خير ، فلم يعْلَم المراد حتّى تبيّن له أنّهم المؤمنون الذين قُتلوا يوم أُحد . فلمّا أراد الله خذل المشركين وهزمهم أرى نبيئه المشركين قليلاً كناية بأحد أسباب الانهزام ، فإنّ الانهزام يجيء من قلّة العدد . وقد يُمسك النبي عليه الصلاة والسلام عن بيان التعبير الصحيح لحكمة ، كما في حديث تعْبير أبي بكر رؤيا الرجل الذي قصّ رؤياه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول النبي له :" أصبتَ بعضاً وأخطأت بعضاً " وأبى أن يبيّن له ما أصاب منها وما أخطأ . ولو أخبر الله رسوله ليُخبر المؤمنين بأنّهم غالبون المشركون لآمنوا بذلك إيماناً عقلياً لا يحصل منه ما يحصل من التصوير بالمحسوس ، ولو لم يخبره ولم يُرِه تلك الرؤيا لكان المسلمون يحسبون للمشركين حساباً كبيراً . لأنّهم معروفون عندهم بأنّهم أقوى من المسلمين بكثير .وهذه الرؤيا قد مضت بالنسبة لزمن نزول الآية ، فالتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالة الرؤيا العجيبة .والقليل هنا قليل العَدد بقرينة قوله : { كثيرا }. أراه إيّاهم قليلي العدد ، وجعل ذلك في المكاشفة النومية كناية عن الوهن والضعف . فإنّ لغة العقول والأرواح أوسع من لغة التخاطب ، لأنّ طريق الاستفادة عندها عقلي مستند إلى محسوس ، فهو واسطة بين الاستدلال العقلي المحض وبين الاستفادة اللغوية .وأخبر ب «قليل» و«كثير» وكلاهما مفرد عن ضمير الجمع لما تقدّم عند قوله تعالى : { معه ربيون كثير } [ آل عمران : 146 ].ومعنى : { ولو أراكهم كثيراً لفشلتم } أنّه لو أراكهم رؤيا مماثلة للحالة التي تبصرها الأعين؛ لدخل قلوبَ المسلمين الفشلُ ، أي إذا حدثهم النبي بما رأى ، فأراد الله إكرام المسلمين بأن لا يدخل نفوسهم هلع ، وإن كان النصر مضموناً لهم .فإن قلت : هذا يقتضي أنّ الإراءة كانت متعيّنة ولِمَ لَمْ يَتْرُك الله إراءتَه جيش العدوّ فلا تكونَ حاجة إلى تمثيلهم بعَدد قليل ، قلتُ : يظهر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجا أن يرى رؤيا تكشف له عن حال العدوّ ، فحقّق الله رجاءه ، وجنّبه ما قد يفضي إلى كدر المسلمين ، أو لعلّ المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعلم ربّه عن حال العدوّ .والفشل : الجبن والوهن . والتنازع : الاختلاف . والمراد بالأمر الخطة التي يجب اتباعها في قتال العدوّ من ثبات أو انجلاء عن القتال .والتعريف في { الأمر } للعهد وهو أمر القتال وما يقتضيه .والاستدراك في قوله : { ولكن الله سلم } راجع إلى ما في جملة : { ولو أراكهم كثيراً } من الإشعار بأنّ العدوّ كثير في نفس الأمر ، وأنّ الرؤيا قد تحاكي الصورة التي في نفس الأمر ، وهو الأكثر في مرائي الأنبياء ، وقد تحاكي المعنى الرمزيَّ وهو الغالب في مرائي غير الأنبياء ، مثل رؤيا مَلِك مصر سبعَ بقرات ، ورؤيا صاحبي يوسف في السِّجْن ، وهو القليل في مرائي الأنبياء مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنّه هَزَّ سيفاً فانكسر في يده ، فمعنى الاستدْراك رفع ما فرض في قوله : { ولو أراكهم كثيراً }. فمفعول { سلم } ومتعلِّقه محذوفان إيجازاً إذ دلّ عليه قوله : { لفشلتم ولتنازعتم } والتقدير : سَلَّمكم من الفَشَل والتنازع بأن سلمكم من سببهما ، وهو إراءتكم واقِع عدد المشركين ، لأنّ الاطّلاع على كثرة العدوّ يلقي في النفوس تهيّباً له وتخوّفاً منه ، وذلك ينقص شجاعة المسلمين الذين أراد الله أن يوفّر لهم منتهى الشجاعة .ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : { ولكن الله سلم } دون أن يقول : ولكنّه سلّم ، لقصد زيادة إسناد ذلك إلى الله ، وأنّه بعنايته ، واهتماماً بهذا الحادث .وجملة : { إنه عليم بذات الصدور } تذييل للمنة ، أي : أوحى إلى رسوله بتلك الرؤيا الرمزية ، لعلمه بما في الصدور البشرية من تأثّر النفوس بالمشاهدات والمحسوسات أكثر ممّا تتأثّر بالاعتقادات ، فعَلِم أنّه لو أخبركم بأنّ المشركين ينهزمون ، واعتقدتم ذلك لصِدْق إيمانكم ، لم يكن ذلك الاعتقاد مثيراً في نفوسكم من الشجاعة والإقدام ما يثيره إعتقادي أنّ عددهم قليل ، لأنّ الاعتقاد بأنّهم ينهزمون لا ينافي توقّع شدّة تَنْزِل بالمسلمين ، من موت وجراح قبل الانتصار ، فأمّا اعتقاد قلّة العدوّ فإنّها تثير في النفوس إقداماً واطمئنان بال ، فلعلمه بذلك أراكهم الله في منامك قليلاً .ومعنى { ذات الصدور } الأحوال المصاحبة لضمائر النفوس ، فالصدور أطلقت على ما حلّ فيها من النوايا والمضمرات ، فكلمة { ذَات } بمعنى صاحبة ، وهي مؤنث ( ذو ) أحدِ الأسماء الخمسة ، فأصل ألفها الواو ووزنها ( ذَوَت ) انقلبت واوها ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، قال في «الكشّاف» في تفسير سورة [ فاطر : 38 ] في قوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } هي تأنيث ذُو ، وذُو موضوع لمعنى الصحبة من قوله: ... لتَغْنِيَ عَنّي ذَا إنائِك أجمَعايعني أنّ ذات الصدور الحالةُ التي قرارتها الصدور فهي صاحبتها وساكنتُها ، فذات الصدور النوايا والخواطر وما يهمّ به المرء وما يدبّره ويكيده .
الآية 43 - سورة الأنفال: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ۖ ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم ۗ إنه عليم...)