سورة الأنعام: الآية 94 - ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم...

تفسير الآية 94, سورة الأنعام

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰٓؤُا۟ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ

الترجمة الإنجليزية

Walaqad jitumoona furada kama khalaqnakum awwala marratin wataraktum ma khawwalnakum waraa thuhoorikum wama nara maAAakum shufaAAaakumu allatheena zaAAamtum annahum feekum shurakao laqad taqattaAAa baynakum wadalla AAankum ma kuntum tazAAumoona

تفسير الآية 94

ولقد جئتمونا للحساب والجزاء فرادى كما أوجدناكم في الدنيا أول مرة حفاة عراة، وتركتم وراء ظهوركم ما مكنَّاكم فيه مما تتباهون به من أموال في الدنيا، وما نرى معكم في الآخرة أوثانكم التي كنتم تعتقدون أنها تشفع لكم، وتَدَّعون أنها شركاء مع الله في العبادة، لقد زال تَواصُلُكم الذي كان بينكم في الدنيا، وذهب عنكم ما كنتم تَدَّعون من أن آلهتكم شركاء لله في العبادة، وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم.

«و» يقال لهم إذا بعثوا «لقد جئتمونا فرادى» منفردين عن الأهل والمال والولد «كما خلقناكم أول مرة» أي حفاة عراة غرلا «وتركتم ما خولناكم» أعطيناكم من الأموال «وراء ظهوركم» في الدنيا بغير اختباركم «و» يقال لهم توبيخا «ما نرى معكم شفعاءكم» الأصنام «الذين زعمتم أنهم فيكم» أي في استحقاق عبادتكم «شركاء» لله «لقد تقطع بينكُمْ» وصلكم أي تشتيت جمعكم وفي قراءة بالنصب ظرف أي وصلكم بينكم «وضل» ذهب «عنكم ما كنتم تزعمون» في الدنيا من شفاعتها.

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ ْ أي: أعطيناكم، وأنعمنا به عليكم وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ْ لا يغنون عنكم شيئا وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ْ فإن المشركين يشركون بالله، ويعبدون معه الملائكة، والأنبياء، والصالحين، وغيرهم، وهم كلهم لله، ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات نصيبا من أنفسهم، وشركة في عبادتهم، وهذا زعم منهم وظلم، فإن الجميع عبيد لله، والله مالكهم، والمستحق لعبادتهم. فشركهم في العبادة، وصرفها لبعض العبيد، تنزيل لهم منزلة الخالق المالك، فيوبخون يوم القيامة ويقال لهم هذه المقالة. وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ْ أي: تقطعت الوصل والأسباب بينكم وبين شركائكم، من الشفاعة وغيرها فلم تنفع ولم تُجْد شيئا. وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ْ من الربح، والأمن والسعادة، والنجاة، التي زينها لكم الشيطان، وحسنها في قلوبكم، فنطقت بها ألسنتكم. واغتررتم بهذا الزعم الباطل، الذي لا حقيقة له، حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون، وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم.

وقوله : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) أي : يقال لهم يوم معادهم هذا ، كما قال ( وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) [ الكهف : 48 ] ، أي : كما بدأناكم أعدناكم ، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه ، فهذا يوم البعث .وقوله : ( وتركتم ما خولناكم ) أي : من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا ( وراء ظهوركم ) وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس "وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج فيقول الله - عز وجل - له أين ما جمعت؟ فيقول يا رب ، جمعته وتركته أوفر ما كان ، فيقول : فأين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا ، وتلا هذه الآية : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) رواه ابن أبي حاتم .وقوله : ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدار الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أن تلك تنفعهم في معاشهم ومعادهم إن كان ثم معاد ، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب ، وانزاح الضلال ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ، ويناديهم الرب ، عز وجل ، على رءوس الخلائق : ( أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ) [ الأنعام : 22 ] وقيل لهم ( أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون ) [ الشعراء : 92 ، 93 ] ; ولهذا قال هاهنا : ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) أي : في العبادة ، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم .ثم قال تعالى : ( لقد تقطع بينكم ) قرئ بالرفع ، أي شملكم ، وقرئ بالنصب ، أي : لقد انقطع ما بينكم من الوصلات والأسباب والوسائل ( وضل عنكم ) أي : وذهب عنكم ( ما كنتم تزعمون ) من رجاء الأصنام ، كما قال : ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) [ البقرة : 166 ، 167 ] ، وقال تعالى : ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) [ المؤمنون : 101 ] ، وقال ( إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) [ العنكبوت : 25 ] ، وقال ( وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) الآية [ القصص : 64 ] ، وقال تعالى : ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا ) إلى قوله : ( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) [ الأنعام : 22 - 24 ] ، والآيات في هذا كثيرة جدا .

ثم صور- سبحانه- حالهم عند ما يعرضون للحساب فقال: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.أى: ولقد جئتمونا للحساب والجزاء منعزلين ومنفردين عن الأموال والأولاد وعن كل ما جمعتموه في الدنيا من متاع، أو منفردين عن الأصنام والأوثان التي زعمتهم أنها شفعاؤكم عند الله.وفرادى قيل هو جمع فرد، وفريد وقيل: هو اسم جمع لأن فردا لا يجمع على فرادى وقول من قال إنه جمع: أراد أنه جمع له في المعنى:وهذه الجملة الكريمة مستأنفة جاءت لبيان ما سيقوله الله لهؤلاء الظالمين يوم القيامة، بعد بيان ما تقوله ملائكة العذاب عند موتهم.وقوله: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأى العين.أى: جئتمونا منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به في الحياة الدنيا، مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم أول مرة حفاة عراة. فالكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف.روى الشيخان عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ .ورويا- أيضا- عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تحشرون حفاه عراة غرلا. قالت:يا رسول الله، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» .وروى الطبراني بسنده عن عائشة أنها قالت قرأت قول الله- تعالى- وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقالت: يا رسول الله وا سوأتاه! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض.قوله: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ أى: تركتم ما أعطيناكم وملكناكم في الدنيا من أموال وأولاد وغيرهما وراء ظهوركم ولم تحملوا منه معكم نقيرا عند ما جئتمونا للحساب.الخول: ما أعطاه الله لعباده من النعم: يقال: خوله الشيء تخويلا، ملكه إياه ومكنه منه.ومنه التخول بمعنى التعهد.والجملة الكريمة تتضمن توبيخهم، لأنهم لم يقدموا منه شيئا في دنياهم ليكون نافعا لهم في أخراهم، بل جمعوه وتركوه لغيرهم دون أن ينتفعوا به في معادهم.وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول ابن آدم: مالي! مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» .وقوله: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ تقريع وتوبيخ لهم على شركهم.أى: ما نرى وما نبصر معكم من زعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله من الأصنام والأوثان التي توهمتم أنهم شركاء لله تعالى في ربوبيتكم واستحقاقه عبادتكم.وقوله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أى: لقد تقطع الاتصال الذي كان بينكم في الدنيا واضمحل.ففاعل تَقَطَّعَ ضمير يعود على الاتصال المدلول عليه بلفظ شُرَكاءُ وبَيْنَكُمْ منصوب على الظرفية.وقرئ بالرفع أى: لقد تقطع شملكم فإن البين مصدر يستعمل في الوصل وفي الفراق بالاشتراك والأصل لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به أى: تقطع ما بينكم من الأسباب والصلات.وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أى: وغلب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء، ورجاء الأنداد والأصنام. كما قال- تعالى- إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ .وهكذا يسوق القرآن مشهد هؤلاء الظالمين بتلك الصورة التي تهز النفوس، وتحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح.وبعد أن ساق- سبحانه- ألوانا من الدلائل على وحدانيته، وعلى صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، شرع- سبحانه- في سرد مظاهر قدرته، وكمال علمه وحكمته عن طريق التأمل في هذا الكون العجيب، وفي بدائع مخلوقاته فقال- تعالى-:

( ولقد جئتمونا فرادى ) هذا خبر من الله أنه يقول للكفار يوم القيامة : ولقد جئتمونا فرادى وحدانا ، لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم ، وفرادى جمع فردان ، مثل سكران وسكارى ، وكسلان وكسالى ، وقرأ الأعرج فردى بغير ألف مثل سكرى ، ( كما خلقناكم أول مرة ) عراة حفاة غرلا ( وتركتم ) خلفتم ( ما خولناكم ) أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم ، ( وراء ظهوركم ) خلف ظهوركم في الدنيا ، ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده ، ( لقد تقطع بينكم ) قرأ أهل المدينة والكسائي وحفص عن عاصم بنصب النون ، أي : لقد تقطع ما بينكم من الوصل ، أو تقطع الأمر بينكم . وقرأ الآخرون " بينكم " برفع النون ، أي : لقد تقطع [ وصلكم ] وذلك مثل قوله : " وتقطعت بهم الأسباب " ( البقرة ، 166 ) ، أي : الوصلات ، والبين من الأضداد يكون وصلا ويكون هجرا ، ( وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) .

قوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمونقوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى هذه عبارة عن الحشر وفرادى في موضع نصب على الحال ، ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث . وقرأ أبو حيوة " فرادا " بالتنوين وهي لغة تميم ، ولا يقولون في موضع الرفع فراد . وحكى أحمد بن يحيى " فراد " بلا تنوين ، قال : مثل ثلاث ورباع . وفرادى جمع فردان كسكارى جمع سكران ، وكسالى جمع كسلان . وقيل : واحده " فرد " بجزم الراء ، و " فرد " بكسرها ، و " فرد " بفتحها ، و " فريد " . والمعنى : جئتمونا واحدا واحدا ، كل واحد منكم منفردا بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا ناصر ممن كان يصاحبكم في الغي ، ولم ينفعكم ما عبدتم من دون الله . وقرأ الأعرج " فردى " مثل سكرى وكسلى بغير ألف .كما خلقناكم أول مرة أي منفردين كما خلقتم . وقيل : عراة كما خرجتم من بطون أمهاتكم حفاة غرلا بهما ليس معهم شيء . وقال العلماء : يحشر العبد غدا وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد ; فمن قطع منه عضو يرد في القيامة عليه . وهذا معنى قوله : " غرلا " أي غير مختونين ، أي يرد عليهم ما قطع منهم عند الختان .قوله تعالى : وتركتم ما خولناكم أي أعطيناكم وملكناكم . والخول : ما أعطاه الله للإنسان من العبيد والنعم .وراء ظهوركم أي خلفكم .وما نرى معكم شفعاءكم أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء يريد الأصنام أي شركائي . وكان المشركون يقولون : الأصنام شركاء الله وشفعاؤنا عنده .لقد تقطع بينكم قرأ نافع والكسائي وحفص بالنصب على الظرف ، على معنى لقد تقطع وصلكم بينكم . ودل على حذف الوصل قوله وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم . فدل هذا على التقاطع والتهاجر بينهم وبين شركائهم : إذ تبرءوا منهم ولم يكونوا معهم . ومقاطعتهم لهم هو تركهم وصلهم لهم ; فحسن إضمار الوصل بعد تقطع لدلالة الكلام عليه . وفي حرف ابن مسعود ما يدل على النصب فيه " لقد تقطع ما بينكم " وهذا لا يجوز فيه إلا النصب ، لأنك ذكرت المتقطع وهو " ما " . كأنه قال : لقد تقطع الوصل بينكم . وقيل : المعنى لقد تقطع الأمر بينكم . والمعنى متقارب . وقرأ الباقون " بينكم " بالرفع على أنه اسم غير ظرف ، فأسند الفعل إليه فرفع . ويقوي جعل " بين " اسما من جهة دخول حرف الجر عليه في قوله تعالى : ومن بيننا وبينك حجاب و هذا فراق بيني وبينك . ويجوز أن تكون قراءة النصب على معنى الرفع ، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفا منصوبا وهو في موضع رفع ، وهو مذهب الأخفش ; فالقراءتان على هذا بمعنى واحد ، فاقرأ بأيهما شئت .وضل عنكم أي ذهب .ما كنتم تزعمون أي تكذبون به في الدنيا . روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث . وروي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة فقالت : يا رسول الله ، واسوءتاه ! إن الرجال والنساء يحشرون جميعا ، ينظر بعضهم إلى سوءة بعض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض . وهذا حديث ثابت في الصحيح أخرجه مسلم بمعناه .

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْقال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والأنداد, يخبر عبادَه أنه يقول لهم عند ورودهم عليه: " لقد جئتمونا فرادى " .ويعني بقوله: " فرادى "، وُحدانًا لا مال معهم، ولا إناث، ولا رقيق، (59) ولا شيء مما كان الله خوّلهم في الدنيا =" كما خلقناكم أوّل مرة "، عُرَاة غُلْفًا غُرْلا حُفاة، كما ولدتهم أمهاتهم, (60) وكما خلقهم جل ثناؤه في بطون أمهاتهم, لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهَوْن به في الدنيا.* * *و " فرادى "، جمع, يقال لواحدها: " فَرِد ", كما قال نابغة بني ذبيان:مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشيٍّ أَكَارِعُهُطَاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ (61)و " فَرَدٌ" و " فريد ", كما يقال: " وَحَد " و " وَحِد " و " وحيد " في واحد " الأوحاد ". وقد يجمع " الفَرَد "" الفُرَاد " كما يجمع " الوَحَد "،" الوُحَاد ", ومنه قول الشاعر: (62)تَرَى النَّعَرَاتِ الزُّرْقَ فَوْقَ لَبَانِهفُرَادَى وَمَثْنًى أَصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ (63)وكان يونس الجرْميّ، (64) فيما ذكر عنه، يقول: " فُراد " جمع " فَرْد ", كما قيل: " تُؤْم " و " تُؤَام " للجميع. ومنه: " الفُرَادى "، و " الرُّدَافى " و " القُرَانى ". (65) يقال: " رجل فرد " و " امرأة فرد ", إذا لم يكن لها أخٌ." وقد فَرد الرجلُ فهو يفرُد فرودًا ", يراد به تفرَّد," فهو فارد ".* * *13570 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، [قال ابن زيد قال] ، أخبرني عمرو: أن ابن أبي هلال حدثه: أنه سمع القرظيّ يقول: قرأت عائشةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الله: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة "، فقالت: واسوأتاه, إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ , لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال, شغل بعضهم عن بعض. (66)* * *وأما قوله: " وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم "، فإنه يقول: خلفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها، خلفكم في الدنيا فلم تحملوه معكم.وهذا تعيير من الله جل ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم.* * *وكل ما ملكته غيرك وأعطيته: " فقد خوّلته ", (67) يقال منه: " خال الرجل يَخَال أشدّ الخِيال " بكسر الخاء =" وهو خائل ", ومنه قول أبي النجم:أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِكَومَ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوِّلِ (68)وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بيت زهير:هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْوَلُوا الْمَالَ يُخوِلُواوَإن يُسْأَلُوا يُعطُوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يُغْلُوا (69)وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك :13571 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " وتركتم ما خوّلناكم "، من المال والخدم =" وراء ظهوركم "، في الدنيا.* * *القول في تأويل قوله : وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة. (70)* * *وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث، لقيله: إنّ اللات والعزى يشفعان لهُ عند الله يوم القيامة.* * *وقيل: إن ذلك كان قول كافة عَبَدة الأوثان.* ذكر من قال ذلك:13572 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء "، فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدُون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنّ هذه الآلهة شركاءُ لله.13573- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: " سوف تشفع لي اللات والعزَّى "! فنزلت هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، إلى قوله: " شركاء ".* * *القول في تأويل قوله : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد: " لقد تقطع بينكم "، يعني تواصلَهم الذي كان بينهم في الدنيا, ذهب ذلك اليوم, فلا تواصل بينهم ولا توادّ ولا تناصر, وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون، فاضمحلّ ذلك كله في الآخرة, فلا أحدَ منهم ينصر صاحبه، ولا يواصله. (71)* * *وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:13574 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " لقد تقطع بينكم "،" البين "، تواصلهم.13575- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " لقد تقطع بينكم "، قال: تواصلهم في الدنيا .13576 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: " لقد تقطع بينكم "، قال: وصلكم.13577- وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " لقد تقطع بينكم "، قال: ما كان بينكم من الوصل.13578 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس: " لقد تقطع بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون "، يعني الأرحام والمنازل.13579 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " لقد تقطع بينكم "، يقول: تقطع ما بينكم.13580 - حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش: " لقد تقطع بينكم "، التواصل في الدنيا. (72)* * *واختلفت القرأة في [قراءة] قوله: " بينكم ".فقرأته عامة قرأة أهل المدينة نصبًا، بمعنى: لقد تقطع ما بينكم.* * *وقرأ ذلك عامة قرأة مكة والعراقَيْن: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) ، رفعًا, بمعنى: لقد تقطع وصلُكم.* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.وذلك أن العرب قد تنصب " بين " في موضع الاسم. ذكر سماعًا منها: " أتاني نحَوك، ودونَك، وسواءَك ", (73) نصبًا في موضع الرفع. وقد ذكر عنها سماعًا الرفع في" بين "، إذا كان الفعل لها، وجعلت اسمًا، وينشد بيت مهلهل:كَأَنَّ رِماحَهُم أَشْطَانُ بِئْرٍبَعِيدٍ بَيْنُ جَالَيْهَا جَرُورِ (74)برفع " بين "، إذ كانت اسمًا، غير أن الأغلب عليهم في كلامهم النصبُ فيها في حال كونها صفة، وفي حال كونها اسمًا.* * *وأما قوله: " وضل عنكم ما كنتم تزعمون "، فإنه يقول: وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم, وأنه لكم شفيع عند ربكم, فلا يشفع لكم اليوم. (75)* * *---------------الهوامش:(59) في المطبوعة: "ولا أثاث ولا رفيق" ، والصواب ما في المخطوطة ، يعني نساءهم وخدمهم ، وانظر الأثر التالي رقم: 13571 ، وانظر تفسير البغوي (بهامش ابن كثير 3: 361) قال: "وحدانا لا مال معكم ، ولا زوج ، ولا ولد ، ولا خدم". فهذا صواب القراءة بحمد الله.(60) "غلف جمع"أغلف" ، وهو الذي لم يختتن. و"الغرل" جمع"أغرل" ، وهو أيضًا الذي لم يختتن ، وهذا حديث مسلم في صحيحه من حديث عائشة: "يحشر الناس يوم القيامة حفة عراة غرلا" (17: 192 ، 193).(61) ديوانه: 26 ، واللسان (فرد) ، وغيرهما كثير. من قصيدته المشهورة التي اعتذر بها إلى النعمان بن المنذر ، يقول قبله في صفة الثور:كأنّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَايَوْمَ الجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأنِسٍ وَحَدِو"وجرة" ، منزل بين مكة والبصرة ، مربة للوحوش والظباء."موشي أكارعه" ، في قوائمه نقط سود."طاوي المصير" ، ضامر البطن ، و"المصير" جمع"مصران". يصف بياض الثور والتماعه. كأنه سيف مصقول جديد الصقل.(62) هو تميم بن أبي بن مقبل.(63) مضى البيت وتخريجه وتفسيره 7: 543 ، بغير هذه الرواية ، فراجعه هناك.(64) مضى في 10: 120 ، تعليق: 1 ، ذكر"يونس [الحرمري]" ، وقد أشكل على أمره ، كما ذكرت هناك ، وصح بهذا أنه"الجرمي" ، ولم أجد في قدماء النحاة من يقال له: "يونس الجرمي" ، وذكرت هناك أن"يونس بن حبيب" ، ضبي لا جرمي ، فعسى أن يهديني من يقرأ هذا إلى الصواب فيه ، متفضلا مشكورا.(65) في المطبوعة: "والغواني" ، وفي المخطوطة: "والعواي" غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت ، يقال: جاءوا قرانى" أي مقترنين ، قال ذو الرمة:قُرَانَى وَأَشْتَاتًا، وَحَادٍ يَسُوقُهَاإلَى المَاءِ مِنْ جَوْزِ التَّنُوفَةِ مُطْلِقُ(66) الأثر: 13570 -"عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري" ، ثقة مضى برقم: 1387 ، 5973 ، 6889 ، 10330. وأما "ابن أبي هلال" ، فهو: "سعيد بن أبي هلال الليثي المصري" ، ثقة. مضى برقم: 1495 ، 5465.وأما "القرظي" ، فقد بينه الحاكم في المستدرك في إسناده وأنه: "عثمان بن عبد الرحمن القرظي" ، ولكنه مع هذا البيان ، لم يزل مجهولا ، فإني لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من الكتب. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "القرطبي" ، وهو خطأ. وهذا الخبر ، أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 565 ، من طريق"عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث" ، ليس فيه"قال ابن زيد" ، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ، وعلق عليه الذهبي فقال: "صحيح ، فيه انقطاع". والذي في إسناد الطبري"قال ابن زيد قال" ، عندي أنه زيادة من الناسخ ، لأن عبد الله بن وهب ، يروي مباشرة عن"عمرو بن الحارث" ، كما يروي عن"عبد الرحمن بن زيد بن أسلم" ، ولما كثر إسناد أبي جعفر"حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب ، قال قال ابن زيد" ، أسرع قلم الناسخ بإثبات"ابن زيد" مقمحًا في هذا الإسناد ، كما دل عليه إسناد الحاكم. وانقطاع هذا الإسناد ، كما بينه الذهبي ، هو فيما أرجح ، أن"عثمان بن عبد الرحمن القرظي" لم يسمع من عائشة.(67) في المطبوعة والمخطوطة: "وكل من ملكته غيرك . . ." ، وهو خطأ محض ، صوابه ما أثبت.(68) لامية أبي النجم في كتاب (الطرائف) ، والمراجع هناك ، وسيأتي في التفسير 23: 127 (بولاق) ، وهو مطلع رجزه ، وقبله:الَحْمُد لِله الوَهُوبِ المُجْزِلُوقوله: "كوم الذرى" ، أي: عظام الأسمنة ، "كوم" جمع"كوماء" ، وهي الناقة العظيمة السنام. و"المخول" بكسر الواو ، الله الرَّزَّاق ذو القوة المتين. وانظر تعليقي على البيت في طبقات فحول الشعراء: 576 ، تعليق: 4.(69) ديوانه" 112 ، واللسان (خبل) (خول) ، وسيأتي في التفسير 23: 127 (بولاق) ، وغيرها كثير. من قصيدته المشهورة في هرم بن سنان بن أبي حارثة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري ، يذكر قومهما بالكرم في زمن الجدب ، وقبله:إذَا السَّنَةُ الشَّهْبَاءِ بِالنَّاسِ أجْحَفَتْوَنَالَ كِرَامَ المَالِ فِي السَّنَةِ الأَكْلُرَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْقَطِينًا لَهُمْ، حَتَّى إذَا أَنْبَتَ البَقْلُهُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْوَلوا . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .ورواية غير أبي عمرو بن العلاء: "إن يستخبلوا المال يخبلوا" ، يقال: "استخبل الرجل ناقة فأخبله" ، إذا استعاره ناقة لينتفع بألبانها وأوبارها فأعاره. و"الاستخوال" مثله. وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قال: "ولو أنشدتها لأنشدتها: إن يستخولوا المال يخولوا" ، وقال: "الاختبال: المنيحة ، ولا أعرف الاستخبال ، وأراه: يستخولوا. والاستخوال أن يملكوهم إياه".وقوله: "ييسروا" ، من"الميسر" الذي تقسم فيه الجزر. وقوله: "يغلوا" ، أي: يختاروا سمان الجزر للنحر ، فهم لا ينحرون إلا غالية.(70) انظر تفسير"الشفيع" فيما سلف ص: 446 ، تعليق: 5 ، والمراجع هناك.(71) انظر تفسير"البين" فيما سلف 8: 319.(72) الأثر: 13580 - هذا إسناد منقطع كما أشرت إليه فيما سلف رقم: 1246 ، 2150 و"أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي" ، ثقة معروف ، مضى برقم: 1246 ، 2150 ، 3000 ، 5725 ، 8098.(73) في المطبوعة: "إيابي نحوك . . ." وهو خطأ محض ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، والصواب في معاني القرآن للفراء 1: 345.(74) أمالي القالي 2: 132 ، واللسان (بين) ، وغيرهما ، من قصيدته المشهورة التي قالها لما أدرك بثأر أخيه كليب وائل. وقبله:فِدًى لِبَنِي الشَّقِيقَةِ يَوْمَ جَاءواكَأُسْدِ الغَابِ لَجَّتْ فِي زَئِيرِو"الأشطان" الحبال الشديدة الفتل ، التي يستقي بها ، واحدها"شطن". (بفتحتين) و"الجال" و"الجول" (بضم الجيم): ناحية البئر وجانبها وما يحبس الماء منها. و"جرور" صفة البئر البعيدة القعر ، لأن دلوها يجر على شفرها ، لبعد قعرها. يصف طول رماحهم ، وحركة أيديهم في الضرب بها ، ثم نزعها من بدن من أصابته.(75) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل).

إن كان القول المقدّر في جملة { أخرجوا أنفسكم } [ الأنعام : 93 ] قولاً من قِبَل الله تعالى كان قوله { ولقد جئتمونا فرادى } عطفاً على جملة { أخرجوا أنفسكم } [ الأنعام : 93 ] ، أي يقال لهم حين دفعهم الملائكة إلى العذاب : أخرجوا أنفسكم ، ويقال لهم : لقد جئتمونا فرادى . فالجملة في محلّ النّصب بالقول المحذوف . وعلى احتمال أن يكون { غمرات الموت } [ الأنعام : 93 ] حَقيقة ، أي في حين النّزع يكون فعل { جئتمونا } من التّعبير بالماضي عن المستقبل القريب ، مثل : قد قامت الصّلاة ، فإنّهم حينئذٍ قاربوا أن يرجعوا إلى مَحض تصرّف الله فيهم .وإن كان القول المقدّر قولَ الملائكة فجملة : { ولقد جئتمونا فُرادى } عطف على جملة : { ولو ترى إذ الظّالمون } [ الأنعام : 93 ] فانتقل الكلام من خطاب المعتبِرين بحال الظّالمين إلى خطاب الظّالمين أنفسهم بوعيدهم بما سيقول لهم يومئذٍ .فعلى الوجه الأوّل يكون { جئتمونا } حقيقة في الماضي لأنّهم حينما يقال لهم هذا القول قد حصل منهم المجيء بين يدي الله . و ( قد ) للتّحقيق .وعلى الوجه الثّاني يكون الماضي معبّراً به عن المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه ، وتكون ( قد ) ترشيحاً للاستعارة .وإخبارهم بأنّهم جاءوا ليس المراد به ظاهر الإخبار لأنّ مجيئهم معلوم لهم ولكنّه مستعمل في تخطئتهم وتوقيفهم على صدق ما كانوا يُنذرون به على لسان الرّسول فينكرونه وهو الرّجوع إلى الحياة بعد الموت للحساب بين يدي الله . وقد يقصد مع هذا المعنى معنى الحصول في المِكنة والمصير إلى ما كانوا يحسبون أنّهم لا يصيرون إليه ، على نحو قوله تعالى : { ووجد الله عنده } [ النور : 39 ] ، وقول الرّاجز: ... قد يُصبح الله إمام السّاريوالضّمير المنصوب في { جئتمونا } ضمير الجلالة وليس ضمير الملائكة بدليل قوله : { كما خلقناكم }.و { فُرادى } حال من الضّمير المرفوع في { جئتمونا } أي منعزلين عن كلّ ما كنتم تعتزّون به في الحياة الأولى من مال وولد وأنصار ، والأظهر أنّ ( فُرادى ) جمع فَرْدَان مثل سُكارى لسَكران . وليس فُرادى المقصورُ مرادفاً لفُرادَ المعدوللِ لأنّ فُرادَ المعدول يدلّ على معنى فَرْداً فَرْداً ، مثل ثُلاث ورُباع من أسماء العدد المعدولة . وأمّا فرادى المقصور فهو جمع فردان بمعنى المنفرد . ووجه جمعه هنا أنّ كلّ واحد منهم جاء منفرداً عن ماله .وقوله : { كما خلقناكم أوّل مرّة } تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الّذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأي العين ، فالكاف لتشبيه الخلق الجديد بالخلق الأوّل فهو في موضع المفعول المطلق . و ( ما ) المجرورة بالكاف مصدريّة . فالتّقدير : كخلْقِنا إيّاكم ، أي جئتمونا مُعَادَيْن مخلوقين كما خلقناكم أوّل مرّة ، فهذا كقوله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ].والتّخويل : التفضّل بالعطاء . قيل : أصله إعطاء الخَوَل بفتحتين وهو الخدم ، أي إعطاء العبيد . ثمّ استعمل مجازاً في إعطاء مطلق ما ينفع ، أي تركتم ما أنعمنا به عليكم من مال وغيره .و ( ما ) موصولة ومعنى تركهم إيّاه وراء ظهورهم بعدُهم عنه تمثيلاً لحال البعيد عن الشّيء بمن بارحه سائراً ، فهو يترك من يبارحه وراءه حين مبارحته لأنّه لو سار وهو بين يديه لبلغ إليه ولذلك يمثّل القاصد للشّيء بأنّه بين يديه ، ويقال للأمر الّذي يهيّئه المرءُ لنفسه : قد قدّمه .{ وتَركتم } عطف على { جئتمونا } وهو يبيّن معنى { فرادى } إلاّ أنّ في الجملة الثّانية زيادة بيان لمعنى الانفراد بذكر كيفية هذا الانفراد لأنّ كلا الخبرين مستعمل في التّخطئة والتّنديم ، إذ جاءوا إلى القيامة وكانوا ينْفون ذلك المجيء وتركوا ما كانوا فيه في الدّنيا وكان حالهم حال من ينوي الخلود . فبهذا الاعتبار عطفت الجملة ولم تفصل . وأبو البقاء جعل الجملة حالاً من الواو في { جئتمونا } فيصير ترك ما خوّلوه هو محلّ التّنكيل .وكذلك القول في جملة { وما نَرى معكم شفعاءكم } أنّها معطوفة على { جئتمونا وتركتم } لأنّ هذا الخبر أيضاً مراد به التّخطئة والتَّلهيف ، فالمشركون كانوا إذا اضطربت قلوبهم في أمر الإسلام علّلوا أنفسهم بأنّ آلهتهم تشفع لهم عند الله . وقد روى بعضهم : أنّ النّضر بن الحارث قال ذلك ، ولعلّه قاله استسخاراً أو جهلاً ، وأنّ الآية نزلت ردّاً عليه ، أي أن في الآية ما هو ردّ عليه لا أنّها نزلت لإبطال قوله لأنّ هذه الآيات متّصل بعضها ببعض ، وفي قوله : { وما نرى معكم شفعاءكم } بيان أيضاً وتقرير لقوله : { فرادى }.وقوله : { وما نرى معكم شفعاءكم } تهكّم بهم لأنّهم لا شفعاء لهم فسيق الخطاب إليهم مساق كلام من يترقّب ، أي يرى شيئاً فلم يره على نحو قوله في الآية الأخرى { ويقول أين شركائي الّذين كنتم تُشَاقُّوننِ فيهم } [ النحل : 27 ] ، بناء على أنّ نفي الوصف عن شيء يدلّ غالباً على وجود ذلك الشّيء ، فكان في هذا القول إيهام أنّ شفعاءهم موجودون سوى أنّهم لم يحضروا ، ولذلك جيء بالفعل المنفي بصيغة المضارع الدالّ على الحال دون الماضي ليشير إلى أنّ انتفاء رؤية الشّفعاء حاصل إلى الآن ، ففيه إيهام أنّ رؤيتهم محتملة الحصول بعد في المستقبل ، وذلك زيادة في التهكّم .وأضيف الشّفعاء إلى ضمير المخاطبين لأنّه أريد شفعاء معهودون ، وهم الآلهة الّتي عبدوها وقالوا : { ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ]. وقد زيد تقرير هذا المعنى بوصفهم بقوله : { الّذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء }.والزّعم : القول الباطل سواء كان عن تعمّد للباطل كما في قوله تعالى : { ألم تر إلى الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك } [ النساء : 60 ] أم كان عن سوء اعتقاد كما هنا ، وقوله : { ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للّذين أشركوا أين شركاؤكم الّذين كنتم تزعمون } [ الأنعام : 22 ] ، وقد تقدّم ذلك في هاتين الآيتين في سورة النساء وفي هذه السورة .وتقديم المجرور في قوله : { فيكم شركاء } للاهتمام الّذي وجهُه التَعجيب من هذا المزعوم إذ جعلوا الأصنام شركاء لله في أنفسهم وقد علموا أنّ الخالق هو الله تعالى فهو المستحقّ للعبادة وحده فمن أين كانت شركة الأصنام لله في استحقاق العبادة ، يعني لو ادّعوا للأصنام شيئاً مغيباً لا يُعرف أصل تكوينه لكان العجب أقلّ ، لكن العجب كلّ العجب من ادّعائهم لهم الشركة في أنفسهم ، لأنّهم لمّا عبدوا الأصنام وكانت العبادة حقّاً لأجل الخالقيّة ، كان قد لزمهم من العبادة أن يزعموا أنّ الأصنام شركاء لله في أنْفُس خلقه ، أي في خلقهم ، فلذلك عُلِّقت النّفوس بالوصف الدالّ على الشركة .وتقدّم معنى الشّفاعة عند قوله تعالى : { ولا يُقبل منها شفاعة } في سورة [ البقرة : 48 ].وجملة : لقد تقطّع بينَكم } استئناف بياني لجملة : { وما نرى معكم شفعاءكم } لأنّ المشركين حين يسمعون قوله : { ما نَرى معكم شفعاءكم } يعتادهم الطّمع في لقاء شفعائهم فيتشوّفون لأن يعلموا سبيلهم ، فقيل لهم : لقدْ تقطَّع بينكم تأييساً لهم بعد الإطماع التهكمي ، والضّمير المضاف إليه عائد إلى المخاطبين وشفعائهم .وقرأ نافع ، والكسائي ، وحفص عن عاصم بفتح نون { بينَكم }.ف ( بينَ ) على هذه القراءة ظرف مكان دالّ على مكان الاجتماع والاتّصال فيما يضاف هُو إليه . وقرأ البقيّة بضمّ نون { بينكم } على إخراج ( بين ) عن الظّرفية فصار اسماً متصرّفاً وأسند إليه التقطّع على طريقة المجاز العقلي .وحذف فاعل تقطّع على قراءة الفتح لأنّ المقصود حصول التقطّع ، ففاعله اسم مُبهم ممّا يصلح للتقطّع وهو الاتّصال . فيقدّر : لقد تقطّع الحَبْل أو نحوُه . قال تعالى : { وتقطَّعت بهم الأسباب } [ البقرة : 166 ]. وقد صار هذا التّركيب كالمثَل بهذا الإيجاز . وقد شاع في كلام العرب ذكر التقطّع مستعاراً للبعد وبطلان الاتّصال تبعاً لاستعارة الحبل للاتّصال ، كما قال امرؤ القيستَقَطَّعَ أسبابُ اللُّبانةِ والهوى ... عَشِيَّة جاوزنا حَمَاةَ وشَيْزَرافمن ثمّ حسن حذف الفاعل في الآية على هذه القراءة لدلالة المقام عليه فصَار كالمثل . وقدّر الزمخشري المصدر المأخوذ من { تقطّع } فاعلاً ، أي على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التّأويل ، أي وقع التقطّع بينَكم . وقال التفتزاني : «الأوْلى أنّه أسند إلى ضمير الأمْر لتقرّره في النّفوس ، أي تقطّع الأمْر بينكم» .وقريب من هذا ما يقال : إنّ { بينكم } صفة أقيمت مقام الموصوف الّذي هو المسند إليه ، أي أمر بينكم ، وعلى هذا يكون الاستعمال من قبيل الضّمير الّذي لم يذكر مَعاده لكونه معلوماً من الفعل كقوله : { حتّى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] ، لكن هذا لا يعهد في الضّمير المستتر لأنّ الضّمير المستتر ليس بموجود في الكلام وإنّما دعا إلى تقديره وجود مَعاده الدّال عليه . فأمّا والكلام خليّ عن معاد وعن لفظ الضّمير فالمتعيّن أن نجعله من حذف الفاعل كما قرّرته لك ابتداء ، ولا يقال : إنّ { توارت بالحجاب } ليس فيه لفظ ضمير إذ التّاء علامة لإسناد الفعل إلى مؤنّث لأنَّا نقول : التّحقيق أنّ التّاء في الفعل المسند إلى الضّمير هي الفاعل .وعلى قراءة الرّفع جعل { بينكم } فاعلاً ، أي أخرج عن الظّرفية وجعل اسماً للمكان الّذي يجتمع فيه ماصْدق الضمير المضاف إليه اسم المكان ، أي انفصل المكان الّذي كان محلّ اتّصالكم فيكون كناية عن انفصال أصحاب المكان الّذي كان محلّ اجتماع . والمكانية هنا مجازيّة مثل { لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله } [ الحجرات : 1 ]وقوله : { وضلّ عنكم } عطف على { تقطّع بينكم } وهو من تمام التهكّم والتأييس . ومعنى ضلّ : ضدّ اهتدى ، أي جهل شفعاؤكم مكانكم لمّا تقطّع بينكم فلم يهتدوا إليكم ليشفعوا لكم . و ( ما ) موصولة ماصْدقها الشفعاء لاتّحاد صلتها وصلة { الّذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء } ، أي الّذين كنتم تزعمونهم شركاء ، فحذف مفعولا الزّعم لدلالة نظيره عليهما في قوله : { زعمتم أنّهم فيكم شركاء } ، وعُبّر عن الآلهة ب ( ما ) الغالبة في غير العاقل لظهور عدم جدواها ، وفسّر ابن عطيّة وغيره ضَلّ بمعنى غاب وتلف وذهب ، وجعلوا ( ما ) مصدريّة ، أي ذهب زعمكم أنّها تشفع لكم . وما ذكرناه في تفسير الآية أبلغ وأوقع .
الآية 94 - سورة الأنعام: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ۖ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم...)