سورة الأنعام: الآية 92 - وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق...

تفسير الآية 92, سورة الأنعام

وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْءَاخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِۦ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ

الترجمة الإنجليزية

Wahatha kitabun anzalnahu mubarakun musaddiqu allathee bayna yadayhi walitunthira omma alqura waman hawlaha waallatheena yuminoona bialakhirati yuminoona bihi wahum AAala salatihim yuhafithoona

تفسير الآية 92

وهذا القرآن كتاب أنزلناه إليك -أيها الرسول- عظيم النفع، مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية، أنزلناه لنخوِّف به من عذاب الله وبأسه أهل "مكة" ومن حولها من أهل أقطار الأرض كلها. والذين يصدقون بالحياة الآخرة، يصدقون بأن القرآن كلام الله، ويحافظون على إقام الصلاة في أوقاتها.

«وهذا» القرآن «كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه» قبله من الكتب «ولتنذر» بالتاء والياء عطف على معنى ما قبله أي أنزلناه للبركة والتصديق ولتنذر به «أم القرى ومن حولها» أي أهل مكة وسائر الناس «والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون» خوفا من عقابها.

أي: وَهَذَا ْ القرآن الذي أَنْزَلْنَاهُ ْ إليك مُبَارَكٌ ْ أي: وَصْفُه البركة، وذلك لكثرة خيراته، وسعة مبراته. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ْ أي: موافق للكتب السابقة، وشاهد لها بالصدق. وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ْ أي: وأنزلناه أيضا لتنذر أم القرى، وهي: مكة المكرمة، ومن حولها، من ديار العرب، بل، ومن سائر البلدان. فتحذر الناس عقوبة الله، وأخذه الأمم، وتحذرهم مما يوجب ذلك. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ْ لأن الخوف إذا كان في القلب عمرت أركانه، وانقاد لمراضي الله. وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ْ أي: يداومون عليها، ويحفظون أركانها وحدودها وشروطها وآدابها، ومكملاتها. جعلنا الله منهم.

وقوله : ( وهذا كتاب ) يعني : القرآن ( أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ) يعني : مكة ( ومن حولها ) من أحياء العرب ، ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم ، كما قال في الآية الأخرى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) [ الأعراف : 158 ] ، وقال ( لأنذركم به ومن بلغ ) [ الأنعام : 19 ] ، وقال ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) [ هود : 17 ] ، وقال ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) [ الفرقان : 1 ] ، وقال ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) [ آل عمران : 20 ] ، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي " وذكر منهن : " وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة " ; ولهذا قال : ( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ) أي : كل من آمن بالله واليوم الآخر آمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن ، ( وهم على صلاتهم يحافظون ) أي : يقومون بما افترض عليهم ، من أداء الصلوات في أوقاتها .

وتوجيه الخطاب إلى اليهود لا يتنافى مع كونها مكية، لأنه ليس بلازم أن يكون كل قرآن مكي خطابا لغير اليهود.وبعد أن أبطل- سبحانه- بالدليل قول من قال «ما أنزل الله على بشر من شيء» أتبعه ببيان أن هذا القرآن من عند الله وأنه مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها فقال- تعالى-:وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.والمعنى: وهذا القرآن كتاب أنزلناه على قلبك يا محمد وهذا الكتاب من صفاته أنه مبارك أى: كثير الفوائد لاشتماله على منافع الدين والدنيا.والمبارك اسم مفعول من باركه وبارك فيه، إذا جعل له البركة، ومعناها كثرة الخير ونماؤه.وقدم هنا وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله «وهذا ذكر مبارك أنزلناه» لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال، إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شيء بخلافه هناك.ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية لأن الإنزال يتجدد وقتا فوقتا، والثانية اسمية لأن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار وهو مقصود هنا أى: أن بركته ثابتة مستقرة.قال الإمام الرازي: العلوم إما نظرية وإما عملية، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، ولا ترى في هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح، وإما أعمال القلب، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس، ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب، ثم قد جرت سنة الله بأن الباحث فيه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة» .وقوله مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أى أن هذا القرآن موافق ومؤيد للكتب التي قبله في إثبات التوحيد ونفى الشرك، وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.وقوله: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أى: ولتنذر بهذا الكتاب أم القرى أى مكة، ومن حولها من أطراف الأرض شرقا وغربا لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم قال- تعالى- وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقال- تعالى- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، وسميت مكة بأم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل، وفي ذكرها بهذا الاسم المنبئ عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة.ووجه الاقتصار على مكة ومن حولها في هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام والجدال معهم في قوله- تعالى- قبل ذلك وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ.قال الآلوسى: ويمكن أن يقال خصهم بالذكر لأنهم الأحق بإنذاره صلى الله عليه وسلم فهو كقوله- تعالى-:وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه» .وقال صاحب المنار «وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا، واستدلوا به على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بقومه العرب.والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور، فإن إرساله إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم، وقد ثبت عموم بعثته صلى الله عليه وسلم من آيات أخرى كقوله- تعالى- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً .وقوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ.أى: والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يؤمنون بهذا الكتاب الذي أنزله الله هداية ورحمة لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة، وحرص على العمل الصالح الذي ينفعه.ثم ختمت الآية بهذا الثناء الجميل عليهم فقالت وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أى يؤدونها في أوقاتها مقيمين لأركانها وآدابها في خشوع واطمئنان، وخصت الصلاة بالذكر لكونها أشرف العبادات وأعظمها خطرا بعد الإيمان.قال الإمام الرازي: «ويكفيها شرفا أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا عليها كما في قوله- تعالى- وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أى صلاتكم، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة، ففي الحديث الشريف «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام» .

( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) أي : القرآن كتاب مبارك أنزلناه ( مصدق الذي بين يديه ولتنذر ) يا محمد ، قرأ أبو بكر عن عاصم " ولينذر " بالياء أي : ولينذر الكتاب ، ( أم القرى ) يعني : مكة سميت أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها ، فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل النسل ، وأراد أهل أم القرى ( ومن حولها ) أي : أهل الأرض كلها شرقا وغربا ( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ) بالكتاب ، ( وهم على صلاتهم ) يعني : الصلوات الخمس ، ( يحافظون ) يداومون ، يعني : المؤمنين .

قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظونقوله تعالى وهذا كتاب يعني القرآن" أنزلناه " صفة" مبارك " أي بورك فيه ، والبركة الزيادة . ويجوز نصبه في غير القرآن على الحال .وكذا " مصدق الذي بين يديه " أي من الكتب المنزلة قبله ، فإنه يوافقها في نفي الشرك وإثبات التوحيد .ولتنذر أم القرى ومن حولها يريد مكة والمراد أهلها ، فحذف المضاف ; أي أنزلناه للبركة والإنذار . " ومن حولها " يعني جميع الآفاق .والذين يؤمنون بالآخرة يريد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ; بدليل قوله : وهم على صلاتهم يحافظون .وإيمان من آمن بالآخرة ولم يؤمن بالنبي عليه السلام ولا بكتابه غير معتد به .

القول في تأويل قوله : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَاقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا القرآن، يا محمد =" كتاب " .* * *وهو اسم من أسماء القرآن، قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبلُ بما أغنى عن إعادته، ومعناه مكتوب, فوضع " الكتاب " مكان " المكتوب ". (24)* * *=" أنزلناه "، يقول: أوحيناه إليك =" مبارك "، وهو " مفاعل " من " البركة " (25) =" مصدّق الذي بين يديه "، يقول: صدّق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه قبلك, لم يخالفها [دلالة ومعنى] (26) نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ , يقول: هو الذي أنزل إليك، يا محمد، هذا الكتاب مباركًا، مصدقًا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله. ولكنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عنه, إذ كان قد تقدم [من] الخبر عن ذلك ما يدل على أنه [له] مواصل, (27) فقال: " وهذا كتاب أنزلناه إليك مبارك ", ومعناه: وكذلك أنزلت إليك كتابي هذا مباركًا, كالذي أنزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورًا.* * *وأما قوله: " ولتنذر أمَّ القرى ومن حولها "، فإنه يقول: أنزلنا إليك، يا محمد، هذا الكتاب مصدِّقًا ما قبله من الكتب, ولتنذِر به عذابَ الله وبأسَه مَنْ في أم القرى، وهي مكة =" ومن حولها "، شرقًا وغربًا، من العادلين بربّهم غيره من الآلهة والأنداد, والجاحدين برسله، وغيرهم من أصناف الكفار.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:13550 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " ولتنذر أم القرى ومن حولها "، يعنى ب " أم القرى "، مكة =" ومن حولها "، من القرى إلى المشرق والمغرب.13551- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " ولتنذر أم القرى ومن حولها "، و " أم القرى "، مكة =" ومن حولها "، الأرض كلها.13552 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: " ولتنذر أم القرى "، قال: هي مكة = وبه عن معمر, عن قتادة قال: بلغني أن الأرض دُحِيَتْ من مكة.13553- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " ولتنذر أم القرى ومن حولها "، كنا نُحَدّث أن أم القرى، مكة = وكنا نحدَّث أن منها دُحيت الأرض.13554 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: " ولتنذر أم القرى ومن حولها "، أما " أم القرى " فهي مكة، وإنما سميت " أم القرى ", لأنها أول بيت وضع بها.* * *وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة " أم القرى "، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (28)* * *القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعادِ في الآخرة إلى الله، ويصدِّق بالثواب والعقاب, فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك، يا محمد، ويصدق به، ويقرّ بأن الله أنزله, ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمرَه الله بإقامتها، (29) لأنه منذرُ من بلغه وعيدَ الله على الكفر به وعلى معاصيه, وإنما يجحد به وبما فيه ويكذِّب، أهل التكذيب بالمعاد، والجحود لقيام الساعة, لأنه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابًا, ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابًا.* * *------------------------الهوامش :(23) في المطبوعة: "وتهديد لهم" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض ، ولكن الناشر غيره في جميع المواضع السالفة ، فجعله"تهديد" ، ولا أدري لم؟(24) انظر تفسير"كتاب" فيما سلف 1: 97 ، 99.(25) انظر تفسير"مبارك" فيما سلف 7: 25.(26) في المطبوعة: "لم يخالفها ولا ينبأ وهو معنى نورًا وهدى" ، وهو كلام لا يستقيم.وفي المخطوطة: "لم يخالفها ولا ينبأ ومعنى نورًا وهدى" ، وهو غير منقوط ، وهو أيضًا مضطرب ، فرجحت ما كتبته بين القوسين استظهارًا لسياق المعنى.(27) في المطبوعة: "ما يدل على أنه به متصل" ، وفي المخطوطة: "ما يدل على أنه من أصل" ، فرجحت ما أثبت ، وزدت"من" و"له" بين القوسين ، فإن هذا هو حق المعنى إن شاء الله.(28) انظر تفسير"أم القرى" فيما سلف 1: 108 ، وانظر أيضًا الأثر رقم: 6589.(29) انظر تفسير"المحافظة على الصلوات" فيما سلف 5: 167 ، 168.

{ وهذا كتاب } عطف على جملة { قل الله } [ الأنعام : 91 ] ، أي وقل لهم الله أنزل الكتاب على موسى وهذا كتاب أنزلناه . والإشارة إلى القرآن لأنّ المحاولة في شأنه من ادّعائهم نفي نزوله من عند الله ، ومن تبكيتهم بإنزال التّوراة ، يجعل القرآن كالحاضر المشاهد ، فأتي باسم الإشارة لزيادة تمييزه تقوية لحضوره في الأذهان .وافتتاح الكلام باسم الإشارة المفيد تمييز الكتاب أكمل تمييز ، وبناءُ فعل { أنزلنا } على خبر اسم الإشارة ، وهو { كتاب } الّذي هو عينه في المعنى ، لإفادة التّقوية ، كأنّه قيل : وهَذا أنزلناه .وجَعْل { كتاب } الّذي حقّه أن يكون مفعول { أنزلنا } مسنداً إليه ، ونصب فعل { أنزلنا } لضميره ، لإفادة تحقيق إنزاله بالتّعبير عنه مرّتين ، وذلك كلّه للتّنويه بشأن هذا الكتاب .وجملة : { أنزلناه } يجوز أن تكون حالاً من اسم الإشارة ، أو معترضة بينه وبين خبره . و { مبارك } خبر ثان . والمبارك اسم مفعول من بَاركه ، وبارك عليه ، وبارك فيه ، وبارك له ، إذا جعل له البركة . والبركة كثرة الخير ونماؤه يقال : باركه . قال تعالى : { أن بُورك من في النّار ومن حولها } [ النمل : 8 ] ، ويقال : بارك فيه ، قال تعالى : { وبارك فيها } [ فصلت : 10 ].ولعلّ قولهم ( بارك فيه ) إنّما يتعلّق به ما كانت البركة حاصلة للغير في زمنه أو مكانه ، وأمّا ( باركه ) فيتعلّق به ما كانت البركة صفة له ، و ( بَارك عليه ) جعل البركة متمكّنة منه ، ( وبارك له ) جعل أشياء مباركة لأجله ، أي بارك فيما له .والقرآن مبارَك لأنّه يدلّ على الخير العظيم ، فالبركة كائنة به ، فكأنّ البركة جعلت في ألفاظه ، ولأنّ الله تعالى قد أودع فيه بركة لقارئه المشتغل به بركة في الدّنيا وفي الآخرة ، ولأنّه مشتمل على ما في العمل به كمال النّفس وطهارتها بالمعارف النّظريّة ثمّ العمليّة . فكانت البركة ملازمة لقراءته وفهمه . قال فخر الدّين «قد جرت سنّة الله تعالى بأنّ الباحث عنه ( أي عن هذا الكتاب ) المتمسّك به يحصل له عزّ الدّنيا وسعادة الآخرة . وأنا قد نقلت أنواعاً من العلوم النّقليّة والعقليّة فلم يَحْصُل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السّعادات في الدّنيا مثلُ ما حصل لي بسبب خدمة هذا العلم ( يعني التّفسير ).و { مصدّق } خبر عن { كتاب } بدون عطف . والمُصدّق تقدّم عند قوله تعالى : { مُصدّقاً لما بين يَديه } في سورة [ البقرة : 97 ] ، وقوله { ومصدّقاً لما بين يدي } وفي سورة [ آل عمران : 50 ]. والّذي } من قوله : { الّذي بين يديه } اسم موصول مراد به معنى جَمع . وإذ قد كان جمع الّذي وهو لا يستعمل في كلام العرب إلاّ إذا أريد به العَاقل وشِبهه ، نحو { إنّ الّذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم } [ الأعراف : 194 ] لتنزيل الأصنام منزلة العاقل في استعمال الكلام عرفاً . فلا يستعمل في جمع غير العاقل إلاّ الّذي المفرد ، نحو قوله تعالى :{ والّذي جاء بالصّدق وصدّق به أولئك هم المتّقون } [ الزمر : 33 ].والمراد ب { الّذي بين يديه } ما تقدّمه من كتب الأنبياء ، وأخصّها التّوراة والإنجيل والزّبور ، لأنّها آخر ما تداوله النّاس من الكتب المنزّلة على الأنبياء ، وهو مصدّق الكتب النّازلة قبل هذه الثّلاثة وهي صحف إبراهيم وموسى .ومعنى كون القرآن مصدّقها من وجهين ، أحدهما : أنّ في هذه الكتب الوعد بمجيء الرّسول المقفّى على نبوءة أصحاب تلك الكتب ، فمجيء القرآن قد أظهر صدق ما وعدت به تلك الكتب ودلّ على أنّها من عند الله .وثانيهما : أنّ القرآن مصدّق أنبيائها وصدّقها وذكر نورها وهداها ، وجاء بما جاءت به من أصول الدّين والشّريعة . ثم إنّ ما جاء به من الأحكام الّتي لم تكن ثابتة فيها لا يخالفها . وأمّا ما جاء به من الأحكام المخالفة للأحكام المذكورة فيها من فروع الشّريعة فذلك قد يبيّن فيه أنّه لأجل اختلاف المصالح ، أو لأنّ الله أراد التّيسير بهذه الأمّة .ومعنى : { بين يديه } ما سبقه ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { فإنّه نزّله على قلبك بإذن الله مصدّقاً لما بين يديه } في سورة [ البقرة : 97 ] ، وعند قوله : { ومصّدقاً لما بين يديّ من التّوراة } في سورة [ آل عمران : 50 ].وأمّا جملة ولتنذر أمّ القرى } فوجود واو العطف في أوّلها مانع من تعليق { لتنذر } بفعل { أنزلناه } ، ومِن جعْل المجرور خبراً عن { كتاب } خلافاً للتفتزاني ، إذ الخبر إذا كان مجروراً لا يقترن بواو العطف ولا نظير لذاك في الاستعمال ، فوجود لام التّعليل مع الواو مانع من جعلها خبراً آخر ل { كتاب } ، فلا محيص عند توجيه انتظامها مع ما قبلها من تقدير محذوف أو تأويل بعض ألفاظها ، والوجه عندي أنّه معطوف على مقدّر ينبىء عنه السّياق . والتّقدير : ليُؤمن أهل الكتاب بتصديقه ولتنذر المشركين . ومثل هذا التّقدير يطّرد في نظائر هذه الآية بحسب ما يناسب أن يقدّر . وهذا من أفانين الاستعمال الفصيح . ونظيره قوله تعالى : { هذا بلاغ للنّاس ولِينْذروا به وليعلموا أنّما هو إله واحد وليذّكّر أولوا الألباب } في سورة [ إبراهيم : 52 ].ووقع في الكشاف } أنّ { ولتنذر } معطوف على ما دلّت عليه صفة الكتاب ، كأنّه قيل : أنزلناه للبركات وتصديققِ ما تقدّمَه والإنذارِ اه . وهذا وإن استتبّ في هذه الآية فهو لا يحسن في آية سورة إبراهيم ، لأنّ لفظ «بلاغ» اسم ليس فيه ما يشعر بالتّعليل ، و«للنّاس» متعلّق به واللاّم فيه للتّبليغ لا للتّعليل ، فتعيّن تقدير شيء بعده نحو لينتبهوا أو لئلاّ يؤخذوا على غفلة وليُنْذَروا به .والإنذار : الإخبار بما فيه توقّع ضرّ ، وضدّه البشارة . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً } في سورة [ البقرة : 119 ]. واقتُصر عليه لأنّ المقصود تخويف المشركين إذ قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ].وأمّ القرى : مَكّة ، وأمّ الشيء استعارة شائعة في الأمر الّذي يُرجع إليه ويلتفّ حوله ، وحقيقة الأمّ الأنثى الّتي تلد الطفل فيرجع الولد إليها ويلازمها ، وشاعت استعارة الأمّ للأصل والمرجع حتّى صارت حقيقة ، ومنه سمّيت الراية أمّاً ، وسُمّي أعلى الرأس أمّ الرأس ، والفاتحة أمّ القرآن .وقد تقدّم ذلك في تسمية الفاتحة . وإنّما سمّيت مكّة أمّ القرى لأنّها أقدم القرى وأشهرها وما تقرّت القرى في بلاد العرب إلاّ بعدها ، فسمّاها العرب أمّ القرى ، وكان عرب الحجاز قبلها سكّان خيام .وإنذار أمّ القرى بإنذار أهلِها ، وهذا من مجاز الحذف كقوله تعالى : { واسألْ القرية } [ يوسف : 82 ] ، وقد دلّ عليه قوله { ومن حولها } ، أي القبائل القاطنة حول مكّة مثل خُزاعة ، وسعد بن بَكْر ، وهوازن ، وثقيف ، وكنانة .ووجه الاقتصار على أهل مكّة ومن حولها في هذه الآية أنّهم الّذين جرى الكلام والجدال معهم من قوله : { وكذّب به قومك وهو الحقّ } [ الأنعام : 66 ] ، إذ السّورة مكّية وليس في التّعليل ما يقتضي حصر الإنذار بالقرآن فيهم حتّى نتكلّف الادّعاء أنّ { من حولها } مراد به جميع أهل الأرض .وقرأ الجمهور { ولتنذر أمّ القرى } بالخطاب ، وقرأه أبو بكر وحده عن عاصم { ولينذر } بياء الغائب على أن يكون الضّمير عائداً إلى { كتاب }.وقوله : { والّذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } احتراس من شمول الإنذار للمؤمنين الّذين هم يومئذٍ بمكّة وحولها المعروفون بهذه الصّلة دون غيرهم من أهل مكّة ، ولذلك عبّر عنهم بهذا الموصول لكونه كاللّقب لهم ، وهو مميّزهم عن أهل الشّرك لأنّ أهل الشّرك أنكروا الآخرة . وليس في هذا الموصول إيذان بالتّعليل ، فإنّ اليهود والنّصارى يؤمنون بالآخرة ولم يؤمنوا بالقرآن ولكنّهم لم يكونوا من أهل مكّة يومئذٍ .وأخبر عن المؤمنين بأنّهم يؤمنون بالقرآن تعريضاً بأنّهم غير مقصودين بالإنذار فيعلم أنّهم أحقّاء بضدّه وهو البشارة .وزادهم ثناء بقوله : { وهم على صلاتهم يحافظون } إيذاناً بكمال إيمانهم وصدقه ، إذ كانت الصّلاة هي العمل المختصّ بالمسلمين ، فإنّ الحجّ كان يفعله المسلمون والمشركون ، وهذا كقوله : { هدى للمتّقين الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة } [ البقرة : 2 ، 3 ] ولم يكن الححّ مشروعاً للمسلمين في مدّة نزول هذه السّورة .
الآية 92 - سورة الأنعام: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها ۚ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ۖ...)