سورة الأنعام: الآية 50 - قل لا أقول لكم عندي...

تفسير الآية 50, سورة الأنعام

قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَىَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلْأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ

الترجمة الإنجليزية

Qul la aqoolu lakum AAindee khazainu Allahi wala aAAlamu alghayba wala aqoolu lakum innee malakun in attabiAAu illa ma yooha ilayya qul hal yastawee alaAAma waalbaseeru afala tatafakkaroona

تفسير الآية 50

قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إني لا أدَّعي أني أملك خزائن السموات والأرض، فأتصرف فيها، ولا أدَّعي أني أعلم الغيب، ولا أدَّعي أني ملك، وإنما أنا رسول من عند الله، أتبع ما يوحى إليَّ، وأبلِّغ وحيه إلى الناس، قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: هل يستوي الكافر الذي عَمِي عن آيات الله تعالى فلم يؤمن بها والمؤمن الذي أبصر آيات الله فآمن بها؟ أفلا تتفكرون في آيات الله؛ لتبصروا الحق فتؤمنوا به؟

«قل» لهم «لا أقول لكم عندي خزائن الله» التي منها يرزق «ولا» إني «أعلم الغيب» ما غاب عني ولم يوح إلي «ولا أقول لكم إني ملك» من الملائكة «إن» ما «أتبع إلا ما يوحى إليَّ قل هل يستوي الأعمى» الكافر «والبصير» المؤمن؟ لا «أفلا تتفكرون» في ذلك فتؤمنون.

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ المقترحين عليه الآيات، أو القائلين له: إنما تدعونا لنتخذك إلها مع الله. وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ أي: مفاتيح رزقه ورحمته. وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وإنما ذلك كله عند الله فهو الذي ما يفتح للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو وحده عالم الغيب والشهادة. فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول. وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ فأكون نافذ التصرف قويا، فلست أدعي فوق منزلتي، التي أنزلني الله بها. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أي: هذا غايتي ومنتهى أمري وأعلاه، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، فأعمل به في نفسي، وأدعو الخلق كلهم إلى ذلك. فإذا عرفت منزلتي، فلأي شيء يبحث الباحث معي، أو يطلب مني أمرا لست أدعيه، وهل يلزم الإنسان، بغير ما هو بصدده؟. ولأي شيء إذا دعوتكم، بما أوحي إلي أن تلزموني أني أدعي لنفسي غير مرتبتي. وهل هذا إلا ظلم منكم، وعناد، وتمرد؟ قل لهم في بيان الفرق، بين من قبل دعوتي، وانقاد لما أوحي إلي، وبين من لم يكن كذلك قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ فتنزلون الأشياء منازلها، وتختارون ما هو أولى بالاختيار والإيثار؟

يقول تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ) أي : لست أملكها ولا أتصرف فيها ( ولا أعلم الغيب ) أي : ولا أقول : إني أعلم الغيب إنما ذاك من علم الله ، عز وجل ، لا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه ( ولا أقول لكم إني ملك ) أي : ولا أدعي أني ملك ، إنما أنا بشر من البشر ، يوحى إلي من الله ، عز وجل ، شرفني بذلك ، وأنعم علي به ; ولهذا قال : ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) أي : لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه .( قل هل يستوي الأعمى والبصير ) أي : هل يستوي من اتبع الحق وهدي إليه ، ومن ضل عنه ولم ينقد له؟ ( أفلا تتفكرون ) وهذه كقوله تعالى : ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب ) [ الرعد : 19 ] .

والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يقترحون عليك المقترحات الباطلة قل لهم:ليس عندي خزائن الرزق فأعطيكم منها ما تريدون، وإنما ذلك لله- تعالى- فهو الذي له خزائن السموات والأرض، وقد كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت رسولا من الله فاطلب منه أن يوسع عيشنا ويغنى فقرنا، وقل لهم كذلك إنى لا أعلم الغيب فأخبركم بما مضى وبما سيقع في المستقبل، وإنما علم ذلك عند الله، وقد كانوا يقولون له أخبرنا بما ينفعنا ويضرنا في المستقبل. حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار، وقل لهم: إنى لست ملكا فأطلع على ما لا يطلع عليه الناس وأقدر على مالا يقدرون عليه. وقد كانوا يقولون: ما لهذا الرسول يأكل طعاما ويمشى في الأسواق ثم يتزوج النساء.ثم بين لهم وظيفته فقال: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أى إن وظيفتي اتباع ما يوحى إلى من ربي. فأنا عبده وممتثل لأمره، وحاشاى أن أدعى شيئا من تلك الأشياء التي اقترحتموها على.فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لإظهار تبريه عما يقترحونه عليه.ثم بين لهم- سبحانه- الفرق بين المهتدى والضال فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ.أى: قل لهم: هل يستوي أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم الذي دعوتكم إليه، وذو البصيرة المنيرة التي اهتدت إلى الحق فآمنت به واتبعته؟فالمراد بالأعمى الكافر الذي لم يستجب للحق، وبالبصير المؤمن الذي انقاد له.والاستفهام للإنكار ونفى الوقوع، أى: كما أنه لا يتساوى أعمى العينين وبصيرهما، فكذلك لا يتساوى المهتدى والضال والرشيد والسفيه، بل إن الفرق بين المهتدى والضال أقوى وأظهر، لأنه كم من أعمى العينين وبصير القلب هو من أعلم العلماء وأهدى الفضلاء وكم من بصير العينين أعمى القلب هو أضل من الأنعام، ولذا قرعهم الله- تعالى- بقوله: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ؟ أى: أفلا تتفكرون في ذلك فتميزوا بين ضلالة الشرك وهداية الإسلام، وبين صفات الرب وصفات الإنسان. والاستفهام هنا للتحريض على التفكر والتدبر.

( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ) نزل حين اقترحوا الآيات فأمره أن يقول لهم : ( لا أقول لكم عندي خزائن الله ) أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون ، ( ولا أعلم الغيب ) فأخبركم بما غاب مما مضى ومما سيكون ، ( ولا أقول لكم إني ملك ) قال ذلك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي ، يريد لا أقول لكم شيئا من ذلك فتنكرون قولي وتجحدون أمري ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) أي : ما آتيكم به فمن وحي الله تعالى ، وذلك غير مستحيل في العقل مع قيام الدليل والحجج البالغة ، ( قل هل يستوي الأعمى والبصير ) ؟ قال قتادة : الكافر والمؤمن ، وقال مجاهد : الضال والمهتدي ، وقيل : الجاهل والعالم ، ( أفلا تتفكرون ) أي : أنهما لا يستويان .

قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون .قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله هذا جواب لقولهم : لولا نزل عليه آية من ربه ، فالمعنى ليس عندي خزائن قدرته فأنزل ما اقترحتموه من الآيات ، ولا أعلم الغيب فأخبركم به . والخزانة ما يخزن فيه الشيء ; ومنه الحديث فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته . وخزائن الله مقدوراته ; أي : لا أملك أن أفعل كل ما أريد مما تقترحون ولا أعلم الغيب أيضا ولا أقول لكم إني ملك وكان القوم يتوهمون أن الملائكة أفضل ، أي : لست بملك فأشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر . واستدل بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الأنبياء . وقد مضى في " البقرة " القول فيه فتأمله هناك .قوله تعالى : إن أتبع إلا ما يوحى إلي ظاهره أنه لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي . والصحيح أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد ، والقياس على المنصوص ، والقياس أحد أدلة الشرع . وسيأتي بيان هذا في " الأعراف " وجواز اجتهاد الأنبياء في ( الأنبياء ) إن شاء الله تعالى .قوله تعالى : قل هل يستوي الأعمى والبصير أي الكافر والمؤمن ; عن مجاهد وغيره . وقيل : الجاهل والعالم . أفلا تتفكرون أنهما لا يستويان .

القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المنكرين نبوّتك: لستُ أقول لكم إنّي الرب الذي له خزائنُ السماوات والأرض، وأعلم غيوب الأشياء الخفية التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء, (20) فتكذبوني فيما أقول من ذلك، لأنه لا ينبغي أن يكون ربًّا إلا من له ملك كل شيء، وبيده كل شيء، ومن لا يخفى عليه خافية, وذلك هو الله الذي لا إله غيره =" ولا أقول لكم إني ملك "، لأنه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهرًا بصورته لأبصار البشر في الدنيا, فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك (21) =" إن أتبع إلا ما يوحى إليّ"، يقول: قل لهم: ما أتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه، إلا وحي الله الذي يوحيه إليّ، وتنزيله الذي ينزله عليّ, (22) فأمضي لوحيه وأئتمر لأمره, (23) وقد أتيتكم بالحجج القاطعة من الله عذركم على صحة قولي في ذلك, وليس الذي أقول من ذلك بمنكر في عقولكم ولا مستحيل كونه، بل ذلك مع وجود البرهان على حقيقته هو الحكمة البالغة, فما وجه إنكاركم ذلك؟وذلك تنبيه من الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم على موضع حُجته على منكري نبوّته من مشركي قومه.=" قل هل يستوي الأعمى والبصير " ، يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهم: هل يستوي الأعمى عن الحق، والبصير به =" والأعمى "، هو الكافر الذي قد عَمى عن حجج الله فلا يتبيَّنها فيتبعها =" والبصير "، المؤمن الذي قد أبصرَ آيات الله وحججه، فاقتدى بها واستضاء بضيائها (24) =" أفلا تتفكرون "، يقول لهؤلاء الذين كذبوا بآيات الله: أفلا تتفكرون فيما أحتجّ عليكم به، أيها القوم، من هذه الحجج, فتعلموا صحة ما أقول وأدعوكم إليه، من فساد ما أنتم عليه مقيمون من إشراك الأوثان والأنداد بالله ربّكم، وتكذيبكم إياي مع ظهور حجج صدقي لأعينكم, فتدعوا ما أنتم عليه من الكفر مقيمون، إلى ما أدعوكم إليه من الإيمان الذي به تفوزون؟ (25)* * *وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال جماعة من أهل التأويل .* ذكر من قال ذلك:13252 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : " قل هل يستوي الأعمى والبصير " ، قال: الضال والمهتدي.13253-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.13254 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: " قل هل يستوي الأعمى والبصير " ، الآية، قال: " الأعمى "، الكافر الذي قد عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه = و " البصير "، العبد المؤمن الذي أبصر بصرًا نافعًا, فوحّد الله وحده, وعمل بطاعة ربه, وانتفع بما آتاه الله.------------------------الهوامش :(20) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف: 238 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.(21) انظر تفسير"ملك" فيما سلف 1: 444 - 447/4 : 262 ، 263.(22) انظر تفسير"الوحي" فيما سلف: 290 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.(23) في المطبوعة: "وأمر لأمره" ، والصواب من المخطوطة ، ولم يحسن قراءتها.(24) انظر تفسير"الأعمى" و"البصير" فيما سلف من فهارس اللغة (عمى) ، و (بصر).(25) في المخطوطة: "تعودون" ، والجيد ما في المطبوعة.

لمّا تقضّت المجادلة مع المشركين في إبطال شركهم ودحْض تعاليل إنكارهم نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم بأنَّهم لا يؤمنون بنبوءته إلاّ إذا جاء بآية على وفق هواهم ، وأبطلت شبهتهم بقوله : { وما نرسل المرسلين إلاّ مبشِّرين ومنذرين } [ الأنعام : 48 ] وكان محمد صلى الله عليه وسلم ممَّن شمله لفظ المرسلين ، نقل الكلام إلى إبطال معاذيرهم فأعلمهم الله حقيقة الرسالة واقترانها بالآيات فبيّن لهم أنّ الرسول هو الذي يتحدّى الأمّة لأنّه خليفة عن الله في تبليغ مراده من خلقه ، وليست الأمّة هي التي تتحدّى الرسول ، فآية صدق الرسول تجيء على وفق دعواه الرسالة ، فلو أدّعى أنّه مَلك أو أنّه بُعث لإنقاذ الناس من أرزاء الدنيا ولإدناء خيراتها إليهم لكان من عذرهم أن يسألوه آيات تؤيِّد ذلك ، فأمّا والرسول مبعوث للهدى فآيته أن يكون ما جاء به هو الهدى وأن تكون معجزته هو ما قارن دعوته ممّا يعجز البشر عن الإتيان بمثله في زمنهم .فقوله { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من غرض إلى غرض . وافتتاح الكلام بالأمر بالقول للاهتمام بإبلاغه ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ].وقد تكرّر الأمر بالقول من هنا إلى قوله { لكلّ نبأ مستقرّ } [ الأنعام : 67 ] اثنتي عشرة مرة .والاقتصار على نفي ادّعاء هذه الثلاثة المذكورة في الآية ناظر إلى ما تقدّم ذكره من الآيات التي سألوها من قوله تعالى : { وقالوا لولا أنز ل عليه ملَك } [ الأنعام : 8 ] وقوله : { ولو نَزّلنا عليك كتاباً في قرطاس } [ الأنعام : 7 ] وقوله : { فإن استطعتَ أن تَبْتَغِي نَفَقاً في الأرض } [ الأنعام : 35 ] الآية .وافتتح الكلام بنفي القول ليدلّ على أنّ هذا القول لم يقترن بدعوى الرسالة فلا وجه لاقتراح تلك الأمور المنفي قولها على الرسول لأنّ المعجزة من شأنها أن تجيء على وفق دعوى الرسالة .واللام في { لكم } لام التبليغ ، وهي مفيدة تقوية فعل القول عندما لا تكون حاجة لذكر المواجَه بالقول كما هنا لظهور أنّ المواجَه بالقول هم المكذّبون ، ولذلك ورد قوله تعالى : { ولا أقول إنِّي ملَك } [ هود : 31 ] مجرّداً عن لام التبليغ . فإذا كان الغرض ذكر المواجَه بالقول فاللام حينئذٍ تسمَّى لام تعدَّية فعل القول فالذي اقتضى اجتلابَ هذه اللام هنا هو هذا القول بحيث لو قاله قائل لكان جديراً بلام التبليغ .والخزائن جمع خِزانة بكسر الخاء وهي البيت أو الصندوق الذي يحتوي ما تتوق إليه النفوس وما ينفع عند الشدّة والحاجة . والمعنى أنّى ليس لي تصرّف مع الله ولا أدّعي أني خازن معلومات الله وأرزاقه .و { خزائن الله } مستعارة لتعلّق قدرة الله بالإنعام وإعطاء الخيرات النافعة للناس في الدنيا .شبّهت تلك التعلّقات الصّلُوحية والتنجيزية في حَجْبها عن عيون الناس وتناولهم مع نفعها إيّاهم ، بخزائن أهل اليسار والثروة التي تجمع الأموال والأحبية والخلع والطعام ، كما أطلق عليها ذلك في قوله تعالى : { ولله خزائن السماوات والأرض } [ المنافقون : 7 ] ، أي ما هو مودع في العوالم العليا والسفلى ممّا ينفع الناس ، وكذلك قوله : { وإنْ من شيء إلاّ عندنا خَزائنه } [ الحجر : 21 ].وتقديم المسند وهو قوله { عندي } للاهتمام به لما فيه من الغرابة والبشارة للمخبرين به لو كان يقوله .وقوله : { ولا أعلم الغيب } عطف على { عندي خزائن الله } فهو في حيَّز القول المنفي . وأعيد حرف النفي على طريقة عطف المنفيات بعضها على بعض فإنّ الغالب أن يعاد معها حرف النفي للتنصيص على أنّ تلك المتعاطفات جميعها مقصودة بالنفي بآحادها لئلاّ يتوهّم أنّ المنفي مجموع الأمرين . والمعنى لا أقول أعلم الغيب ، أي علماً مستمراً ملازماً لصفة الرسالة . فأمّا إخباره عن بعض المغيّبات فذلك عند إرادة الله إطلاعه عليه بوحي خاصّ ، كما قال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ، 27 ] وهو داخل تحت قوله { إنْ أتّبع إلاّ ما يوحي إلي }.وعطف : { ولا أقول لكم إنِّي ملك } على { لا أقول لكم عندي خزائن الله } بإظهار فعل القول فيه ، خلافاً لقوله : { ولا أعلم الغيب } لعلَّه لدفع ثقل التقاء حرفين : ( لا ) وحرف ( إنّ ) الذي اقتضاه مقام التأكيد ، لأنّ إدّعاء مثله من شأنه أن يؤكّد ، أي لم أدّع أنِّي من الملائكة فتقولوا : { لولا أنزل عليه ملك } [ الأنعام : 8 ] ، فنفي كونه ملكاً جواب عن مقترحهم أن ينزَل عليهم ملك أو أن يكون معه ملك نذيراً . والمقصود نفي أن يكون الرسول من جنس الملائكة حتى يكون مقارناً لمَلك آخر مقارنة تلازم كشأن أفراد الجنس الواحد . وكانوا يتوهَّمون أنّ الرسالة تقتضي أن يكون الرسول من غير جنس البشر فلذلك قالوا : { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ]. فالمعنى نفي ماهية المَلَكية عنه لأنّ لجنس الملك خصائص أخرى مغايرة لخصائص البشر . وهذا كما يقول القائل لمن يكلِّفه عنتاً : إنِّي لست من حديد .ومن تلفيق الاستدلال أن يستدلّ الجُبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء مع بُعد ذلك عن مهيع الآية . وقد تابعه الزمخشري ، وكذلك دأبه كثيراً ما يُرْغِم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزو عصبيته وتَنْزوي عبقريته ، وهذه مسألة سنتكلَّم عليها في مظنَّتها .وجملة { إنْ أتَّبع إلاّ ما يُوحي إليّ } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّه لمَّا نفي أن يقول هذه المقالات كان المقامُ مثيراً سؤال سائل يقول : فماذا تدّعي بالرسالة وما هو حاصلها لأنّ الجهلة يتوهَّمون أنّ معنى النبوءة هو تلك الأشياء المتبرّأ منها في قوله : { قل لا أقول لكم عندي خزائن } الخ ، فيجاب بقوله : { إن أتَّبع إلاّ ما يوحي إليّ } ، أي ليست الرسالة إلاّ التبليغ عن الله تعالى بواسطة الوحي .فمعنى { أتَّبع } مجاز مرسل في الاقتصار على الشيء وملازمته دون غيره . لأنّ ذلك من لوازم معنى الاتِّباع الحقيقي وهو المشي خلف المتّبَع بفتح الموحّدة ، أي لا أحيد عن تبليغ ما يوحى إليّ إلى إجابة المقترحات من إظهار الخوارق أو لإضافة الأرزاق أوْ إخبار بالغيب ، فالتَّلقِّي والتبليغ هو معنى الاتِّباع ، وهو كنه الرسالة عن الله تعالى . فالقصر المستفاد هنا إضافي ، أي دون الاشتغال بإظهار ما تقترحونه من الخوارق للعادة . والغرض من القصر قلب اعتقادهم أنّ الرسول لا يكون رسولاً حتَّى يأتيهم بالعجائب المسؤولة . وقد حصل بذلك بيان حقيقة الرسالة تلك الحقيقة التي ضلّ عن إدراكها المعاندون . وهذا معنى قوله تعالى : { وما نرسل المرسلين إلاّ مبشِّرين ومنذرين } [ الأنعام : 48 ].وإذ قد كان القصر إضافياً كان لا محالة ناظراً إلى قلب اعتقادهم بالنسبة لمطالبهم باتِّباع مقترحاتهم ، أي لا أتَّبع في التبليغ إليكم إلاّ ما يوحى إليّ . فليس في هذا الكلام ما يقتضي قصر تصرّف الرسول عليه الصلاة والسلام على العمل بالوحي حتَّى يحتجّ بها من ينفي من علمائنا جواز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم في أمور الدين لأنّ تلك مسألة مستقلّة لها أدلَّة للجانبين ، ولا مساس لها بهذا القصر . ومن توهّمه فقد أساء التأويل .{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ }.هذا ختام للمجادلة معهم وتذييل للكلام المفتتح بقوله { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } ، أي قل لهم هذا التذييل عقب ذلك الاستدلال .وشبّهت حالة من لا يفقه الأدلّة ولا يفكِّك بين المعاني المتشابهة بحالة الأعمى الذي لا يعرف أين يقصد ولا أين يضع قدمه . وشبِّهت حالة من يُميِّز الحقائق ولا يلتبس عليه بعضها ببعض بحالة القويّ البصر حيث لا تختلط عليه الأشباح . وهذا تمثيل لحال المشركين في فساد الوضع لأدلَّتهم وعُقم أقيستهم ، ولحال المؤمنين الذين اهتدوا ووضعوا الأشياء مواضعها ، أو تمثيل لحال المشركين التي هم متلبّسون بها والحال المطلوبة منهم التي نفروا منها ليعلموا أيّ الحالين أولى بالتخلّق .وقوله { أفلا تتفكّرون } استفهام إنكار . وهو معطوف بالفاء على الاستفهام الأول ، لأنّه مترتِّب عليه لأنّ عدم استواء الأعمى والبصير بديهي لا يسعهم إلاّ الاعتراف بعدم استوائهما فلا جرم أن يتفرّع عليه إنكار عدم تفكّرهم في أنَّهم بأيّهما أشبه . والكلام على الأمر بالقول مثل ما تقدّم عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ].والتفكّر : جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح .
الآية 50 - سورة الأنعام: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ۖ إن أتبع إلا ما...)