سورة الأنعام: الآية 110 - ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم...

تفسير الآية 110, سورة الأنعام

وَنُقَلِّبُ أَفْـِٔدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا۟ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ

الترجمة الإنجليزية

Wanuqallibu afidatahum waabsarahum kama lam yuminoo bihi awwala marratin wanatharuhum fee tughyanihim yaAAmahoona

تفسير الآية 110

ونقلب أفئدتهم وأبصارهم، فنحول بينها وبين الانتفاع بآيات الله، فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بآيات القرآن عند نزولها أول مرة، ونتركهم في تمرُّدهم على الله متحيِّرين، لا يهتدون إلى الحق والصواب.

«ونقلَّب أفئدتهم» نحول قلوبهم عن الحق فلا يفهمونه «وأبصارهم» عنه فلا يبصرونه فلا يؤمنون «كما لم يؤمنوا به» أي بما أنزل من الآيات «أوَّل مرّةِ ونذرهم» نتركهم «في طغيانهم» ضلالهم «يعمهون» يترددون متحيرين.

تفسير الآيتين 110 و111 : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي: ونعاقبهم، إذا لم يؤمنوا أول مرة يأتيهم فيها الداعي، وتقوم عليهم الحجة، بتقليب القلوب، والحيلولة بينهم وبين الإيمان، وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم. وهذا من عدل الله، وحكمته بعباده، فإنهم الذين جنوا على أنفسهم، وفتح لهم الباب فلم يدخلوا، وبين لهم الطريق فلم يسلكوا، فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق، كان مناسبا لأحوالهم. وكذلك تعليقهم الإيمان بإرادتهم، ومشيئتهم وحدهم، وعدم الاعتماد على الله من أكبر الغلط، فإنهم لو جاءتهم الآيات العظيمة، من تنزيل الملائكة إليهم، يشهدون للرسول بالرسالة، وتكليم الموتى وبعثهم بعد موتهم، وحشر كل شيء إليهم حتى يكلمهم قُبُلًا ومشاهدة، ومباشرة، بصدق ما جاء به الرسول ما حصل منهم الإيمان، إذا لم يشأ الله إيمانهم، ولكن أكثرهم يجهلون. فلذلك رتبوا إيمانهم، على مجرد إتيان الآيات، وإنما العقل والعلم، أن يكون العبد مقصوده اتباع الحق، ويطلبه بالطرق التي بينها الله، ويعمل بذلك، ويستعين ربه في اتباعه، ولا يتكل على نفسه وحوله وقوته، ولا يطلب من الآيات الاقتراحية ما لا فائدة فيه.

وقوله تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر .وقال مجاهد : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية ، فلا يؤمنون ، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة .وكذا قال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .وقال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه . قال : ( ولا ينبئك مثل خبير ) [ فاطر : 14 ] ، وقال :( أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ) [ الزمر : 56 - 58 ] فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى ، وقال : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) [ الأنعام : 28 ] ، وقال ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) قال : لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى ، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا .وقوله : ( ونذرهم ) أي : نتركهم ( في طغيانهم ) قال ابن عباس والسدي : في كفرهم . وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة : في ضلالهم .( يعمهون ) قال الأعمش : يلعبون . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والربيع ، وأبو مالك ، وغيره : في كفرهم يترددون .

وقوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ معطوف على لا يُؤْمِنُونَ وداخل معه في حكم وَما يُشْعِرُكُمْ مقيد بما قيد به.أى: وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه، كشأنهم في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من آيات. وهدايات على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقترحوا عليه تلك المقترحات الباطلة.إنكم أيها المؤمنون لا تدرون ذلك ولا تشعرون به لأن علمه عند الله وحده.قال الآلوسى: وهذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له، بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية، ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم في الكفر، وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه- تعالى- مشاعرهم بطريق الإجبار» .وقوله وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ معطوف على لا يُؤْمِنُونَ.والعمه: التردد في الأمر مع الحيرة فيه، يقال: عمه- كفرح ومنع- عمها إذا تردد وتحير.أى: ونتركهم في تجاوزهم الحد في العصيان يترددون متحيرين، لا يعرفون لهم طريقا، ولا يهتدون إلى سبيل.ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون في أيمانهم الفاجرة، فقال- تعالى-:

ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) قال ابن عباس : يعني ونحول بينهم وبين الإيمان ، فلو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها كما لم يؤمنوا به أول مرة أي : كما لم يؤمنوا بما قبلها من الآيات من انشقاق القمر وغيره ، وقيل : كما لم يؤمنوا به أول مرة ، يعني معجزات موسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام ، كقوله تعالى ( أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ) ، ( القصص ، 48 ) ، وفي الآية محذوف تقديره فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : المرة الأولى دار الدنيا ، يعني لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان كما لم يؤمنوا في الدنيا قبل مماتهم ، كما قال : " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " ( الأنعام ، 28 ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) قال عطاء : نخذلهم وندعهم في ضلالتهم يتمادون .

قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهونهذه آية مشكلة ، ولا سيما وفيها ونذرهم في طغيانهم يعمهون . قيل : المعنى ونقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر ; كما لم يؤمنوا في الدنيا . ونذرهم في الدنيا ، أي نمهلهم ولا نعاقبهم ; فبعض الآية في الآخرة ، وبعضها في الدنيا . ونظيرها وجوه يومئذ خاشعة فهذا في الآخرة . عاملة ناصبة في الدنيا . وقيل : ونقلب في الدنيا ; أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية ، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة ; لما دعوتهم وأظهرت المعجزة . وفي التنزيل : واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه . والمعنى : كان ينبغي أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فرأوها بأبصارهم وعرفوها بقلوبهم ; فإذا لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم .كما لم يؤمنوا به أول مرة ودخلت الكاف على محذوف ، أي فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة ; أي أول مرة أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره . وقيل : ونقلب أفئدة هؤلاء كي لا يؤمنوا ; كما لم تؤمن كفار الأمم السالفة لما رأوا ما اقترحوا من الآيات . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ; أي أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا أول مرة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم .ونذرهم في طغيانهم يعمهون يتحيرون . وقد مضى في " البقرة " .

القول في تأويل قوله تعالى : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.فقال بعضهم: معنى ذلك: لو أنَّا جئناهم بآية كما سألوا، ما آمنوا، كما لم يؤمنوا بما قبلَها أول مرة, لأن الله حال بينهم وبين ذلك :* ذكر من قال ذلك:13751- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) الآية, قال: لما جحد المشركون ما أنزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء، ورُدَّتْ عن كل أمر .13752- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم)، قال: نمنعهم من ذلك، كما فعلنا بهم أول مرة . وقرأ: (كما لم يؤمنوا به أول مرة) .13753- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم)، قال: نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون, كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة .* * *وقال آخرون: معنى ذلك: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لو رُدُّوا من الآخرة إلى الدنيا فلا يؤمنون، كما فعلنا بهم ذلك, فلم يؤمنوا في الدنيا . قالوا: وذلك نظير قوله وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ، [سورة الأنعام: 28] .* ذكر من قال قال ذلك:13754- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه ما العبادُ قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه. قال: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ : أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، [سورة الزمر: 56-58]، يقول: من المهتدين . فأخبر الله سبحانه أنهم لو رُدُّوا [إلى الدنيا، لما استقاموا] على الهدى، و[قال]: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ , (68) وقال: " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " ، قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى, كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا .* * *قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه، أخبر عن هؤلاء الذين أقسموا بالله جهدَ أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها: أنَّه يقلب أفئدتهم وأبصارهم ويصرِّفها كيف شاء, وأنّ ذلك بيده يقيمه إذا شاء، ويزيغه إذا أراد= وأنّ قوله: (كما لم يؤمنوا به أول مرة)، دليل على محذوف من الكلام= وأنّ قوله: " كما " تشبيه ما بعده بشيء قبله .وإذْ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون معنى الكلام: ونقلب أفئدتَهم، فنزيغها عن الإيمان, وأبصارَهم عن رؤية الحق ومعرفة موضع الحجة, وإن جاءتهم الآية التي سألوها، فلا يؤمنوا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، كما لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبلَ مجيئها مرَّة قبل ذلك .* * *وإذا كان ذلك تأويله، كانت " الهاء " من قوله: (كما لم يؤمنوا به)، كناية ذكر " التقليب " .* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونذر هؤلاء المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها عند مجيئها (69) = في تمرُّدهم على الله واعتدائهم في حدوده, (70) يتردَّدون، لا يهتدون لحق، ولا يبصرون صوابًا, (71) قد غلب عليهم الخِذْلان، واستحوذ عليهم الشيطانُ .-------------------------الهوامش :(68) في المطبوعة : (( فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ... )) حذف بعض ما في المخطوطة . وفي المخطوطة : (( فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا على الهدى وقال : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ... )) فأثبت نص المخطوطة ، وزدت ما زدته بين القوسين حتى ستقيم الكلام .(69) انظر تفسير (( يذر )) فيما سلف 11 : 529 ، تعليق : 2 والمراجع هناك .(70) انظر تفسير (( الطغيان )) فيما سلف 10 : 475 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .(71) انظر تفسير (( العمه )) فيما سلف 1 : 309 - 311 .

يجوز أن يكون عطفاً على جملة { أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] فتكون بياناً لقوله { لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] ، أي بأن نعطِّل أبصارَهم عن تلك الآية وعقولهم عن الاهتداء بها فلا يبصُرون ما تحتوي عليه الآية من الدّلائل ولا تفقه قلوبهم وجه الدّلالة فيتعطَّل تصديقهم بها ، وذلك بأن يحرمهم الله من إصلاح إدراكهم ، وذلك أنّهم قد خُلقت عقولهم نابية عن العلم الصّحيح بما هيّأ لها ذلك من انسلالها من أصول المشركين ، ومن نشأتها بين أهل الضّلال وتلقّي ضلالتهم ، كما بيّنتُه آنفاً . فعبّر عن ذلك الحال المخالف للفطرة السّليمة بأنّه تقليب لعقولهم وأبصارهم ، ولأنّها كانت مقلوبة عن المعروف عند أهل العقول السّليمة ، وليس داعي الشّرك فيها تقليباً عن حالة كانت صالحة لأنّها لم تكن كذلك حيناً ، ولكنّه تقليب لأنّها جاءت على خلاف ما الشّأن أن تجيء عليه .وضمير { به } عائد إلى القرآن المفهوم من قوله : { لئن جاءتهم آية } [ الأنعام : 109 ] فإنّهم عَنوا آية غير القرآن .والكاف في قوله : { كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة } لتشبيه حالة انتفاء إيمانهم بعد أن تجيئهم آية ممّا اقترحوا . والمعنى ونقلِّب أيديهم وأبصارهم فلا يؤمنون بالآية الّتي تجيئهم مثلَما لم يؤمنوا بالقرآن من قبلُ ، فتقليب أفئدتهم وأبصارهم على هذا المعنى يحصل في الدّنيا ، وهو الخذلان .ويجوز أن تكون جملة { ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم } مستأنفة والواو للاستئناف ، أو أن تكون معطوفة على جملة { لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ]. والمعنى : ونحن نقلّب أفئدتهم وأبصارهم ، أي في نار جهنّم ، كناية عن تقليب أجسادهم كلّها . وخصّ من أجسادهم أفئدتُهم وأبصارهُم لأنّها سبب إعراضهم عن العبرة بالآيات ، كقوله تعالى : { سحروا أعْيُن النّاس } [ الأعراف : 116 ] ، أي سحروا النّاسَ بما تُخيِّلُه لهم أعينهم .والكاف في قوله : { كما لم يؤمنوا به } على هذا الوجه للتّعليل كَقوله : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ].وأقول : هذا الوجه يناكده قوله { أوّل مرّة } إذ ليس ثمّة مرّتان على هذا الوجه الثّاني ، فيتعيّن تأويل { أوّل مرّة } بأنّها الحياة الأولى في الدّنيا .والتّقليب مصدر قلّب الدالّ على شدّة قلب الشّيء عن حاله الأصليّة . والقلب يكون بمعنى جعل المقابل للنظر من الشيء غير مقابل ، كقوله تعالى : { فأصبح يُقلِّب كفَّيْه على ما أنفق فيها } [ الكهف : 42 ] ، وقولهم : قَلَب ظَهْر المِجَن ، وقريب منه قوله : { قد نرى تقلّب وجهك في السّماء } [ البقرة : 144 ] ؛ ويكون بمعنى تغيير حالة الشيء إلى ضدّها لأنّه يشبه قلب ذات الشّيء .والكاف في قوله : { كما لم يؤمنوا به } الظّاهر أنّها للتّشبيه في محلّ حال من ضمير { لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] ، و«ما» مصدريّة . والمعنى : لا يؤمنون مثل انتفاء إيمانهم أوّل مرّة . والضّمير المجرور بالباء عائد إلى القرآن لأنّه معلوم من السّياق كما في قوله : { وكذّب به قومك } [ الأنعام : 66 ] ، أي أنّ المكابرة سجيّتهم فكما لم يؤمنوا في الماضي بآية القرآن وفيه أعظم دليل على صدق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام لا يؤمنون في المستقبل بآيةٍ أخرى إذا جاءتهم .وعلى هذا الوجه يكون قوله : { ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم } معترضاً بالعطف بين الحال وصاحبها . ويجوز أن يجعل التّشبيه للتقليب فيكون حالاً من الضّمير في { نقلّب } ، أي نقلّب أفئدتهم وأبصارهم عن فطرة الأفئدة والأبصار كما قلّبناها فلم يؤمنوا به أوّل مرّة إذ جمحوا عن الإيمان أوّلَ ما دعاهم الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، ويصير هذا التّشبيه في قوّة البيان للتّقليب المجعول حالاً من انتفاء إيمانهم بأنّ سبب صدورهم عن الإيمان لا يزال قائماً لأنّ الله حرمهم إصلاح قلوبهم .وجوّز بعض المفسّرين أن تكون الكاف للتّعليل على القول بأنّه من معانيها ، وخُرّج عليه قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ]. فالمعنى : نقلّب أفئدتهم لأنّهم عصوا وكابروا فلم يؤمنوا بالقرآن أوّلَ ما تحدّاهم ، فنجعلُ أفئدتهم وأبصارهم مستمرّة الانقلاب عن شأن العقول والأبصار ، فهو جزاء لهم على عدم الاهتمام بالنّظر في أمر الله تعالى وبعثة رسوله ، واستخفافهم بالمبادرة إلى التّكذيب قبل التّأمّل الصّادق .وتقديم الأفئدة على الأبصار لأنّ الأفئدة بمعنى العقول ، وهي محلّ الدّواعي والصّوارف ، فإذا لاح للقلب بارق الاستدلال وجّه الحواس إلى الأشياء وتأمّل منها . والظّاهر أنّ وجه الجمع بين الأفئدة والأبصار وعدم الاستغناء بالأفئدة عن الأبصار لأنّ الأفئدة تختصّ بإدراك الآيات العقليّة المحضة ، مثل آية الأمِّية وآيةِ الإعجاز . ولمّا لم تكفهم الآيات العقليّة ولم ينتفعوا بأفئدتهم لأنّها مقلَّبة عن الفطرة وسألوا آيات مرئيّة مبصَرة ، كأنْ يرقى في السّماء وينزلَ عليهم كتاباً في قرطاس ، أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنّهم لو جاءتهم آية مبصرة لَمَا آمنوا لأنّ أبصارهم مقلّبة أيضاً مثل تقليب عقولهم .وذُكِّر { أوّل } مع أنّه مضاف إلى { مرّة } إضافة الصفة إلى الموصوف لأنّ أصل «أوّل» اسمُ تفضيل . واسم التّفضيل إذا أضيف إلى النّكرة تعيّن فيه الإفراد والتّذكير ، كما تقول : خَديجَةُ أوّل النّساء إيماناً ولا تقول أولى النّساء .والمراد بالمرّة مرّة من مَرّتَيْ مجيء الآيات ، فالمرّة الأولى هي مَجيء القرآن ، والمرّة الثّانية هي مجيء الآية المقترحة ، وهي مرّة مفروضة .{ ونَذَرُهم } عطف على { نُقلّب }.فحُقِّق أنّ معنى { نقلّب أفئدتهم } نتركها على انقلابها الّذي خلقت عليه ، فكانت مملوءة طغياناً ومكابرة للحقّ ، وكانت تصرف أبصارهم عن النّظر والاستدلال ، ولذلك أضاف الطّغيان إلى ضميرهم للدّلالة على تأصّله فيهم ونشأتهم عليه وأنّهم حرموا لين الأفئدة الّذي تنشأ عنه الخشيةُ والذّكرى .والطّغيان والعَمَه تقدّماً عند قوله تعالى : { ويمُدّهم في طغيانهم يعمهون } في سورة [ البقرة : 15 ].والظّرفيّة من قوله : في طغيانهم } مجازية للدّلالة على إحاطة الطّغيان بهم ، أي بقلوبهم . وجملة : { ونذرهم } معطوفة على { نقلّب }.وجملة { يعمهون } حال من الضّمير المنصوب في قوله : { ونذرهم }.وفيه تنبيه على أنّ العمَه ناشيء عن الطّغيان .
الآية 110 - سورة الأنعام: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون...)