سورة الأنعام: الآية 108 - ولا تسبوا الذين يدعون من...

تفسير الآية 108, سورة الأنعام

وَلَا تَسُبُّوا۟ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّوا۟ ٱللَّهَ عَدْوًۢا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ

الترجمة الإنجليزية

Wala tasubboo allatheena yadAAoona min dooni Allahi fayasubboo Allaha AAadwan bighayri AAilmin kathalika zayyanna likulli ommatin AAamalahum thumma ila rabbihim marjiAAuhum fayunabbiohum bima kanoo yaAAmaloona

تفسير الآية 108

ولا تسبوا -أيها المسلمون- الأوثان التي يعبدها المشركون -سدًّا للذريعة- حتى لا يتسبب ذلك في سبهم الله جهلا واعتداءً: بغير علم. وكما حسَّنَّا لهؤلاء عملهم السيئ عقوبة لهم على سوء اختيارهم، حسَّنَّا لكل أمة أعمالها، ثم إلى ربهم معادهم جميعًا فيخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا، ثم يجازيهم بها.

«ولا تسبوا الذين يدعونـ» ـهم «من دون الله» أي الأصنام «فيسبوا الله عدْوا» اعتداء وظلما «بغير علم» أي جهلا منهم بالله «كذلك» كما زيَّنا لهؤلاء ما هم عليه «زيَّنا لكل أمة عملهم» من الخير والشر فأتوه «ثم إلى ربهم مرجعهم» في الآخرة «فينبِّئهم بما كانوا يعلمون» فيجازيهم به.

ينهى الله المؤمنين عن أمر كان جائزا، بل مشروعا في الأصل، وهو سب آلهة المشركين، التي اتخذت أوثانا وآلهة مع الله، التي يتقرب إلى الله بإهانتها وسبها. ولكن لما كان هذا السب طريقا إلى سب المشركين لرب العالمين، الذي يجب تنزيه جنابه العظيم عن كل عيب، وآفة، وسب، وقدح -نهى الله عن سب آلهة المشركين، لأنهم يحمون لدينهم، ويتعصبون له. لأن كل أمة، زين الله لهم عملهم، فرأوه حسنا، وذبوا عنه، ودافعوا بكل طريق، حتى إنهم، ليسبون الله رب العالمين، الذي رسخت عظمته في قلوب الأبرار والفجار، إذا سب المسلمون آلهتهم. ولكن الخلق كلهم، مرجعهم ومآلهم، إلى الله يوم القيامة، يعرضون عليه، وتعرض أعمالهم، فينبئهم بما كانوا يعملون، من خير وشر. وفي هذه الآية الكريمة، دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل المحرم، ولو كانت جائزة تكون محرمة، إذا كانت تفضي إلى الشر.

يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين ، وإن كان فيه مصلحة ، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها ، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين ، وهو الله لا إله إلا هو .كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : قالوا : يا محمد ، لتنتهين عن سبك آلهتنا ، أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم ، ( فيسبوا الله عدوا بغير علم ) .وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فيسب الكفار الله عدوا بغير علم ، فأنزل الله : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ) .وروى ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن السدي أنه قال في تفسير هذه الآية : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل ، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه ، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعهم فلما مات قتلوه . فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية ، وأبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البختري وبعثوا رجلا منهم يقال له : " المطلب " ، قالوا : استأذن لنا على أبي طالب ، فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ، فأذن لهم عليه ، فدخلوا عليه فقالوا : يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندعه وإلهه . فدعاه ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تريدون؟ " قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ، ولندعك وإلهك . قال له أبو طالب : قد أنصفك قومك ، فاقبل منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيتم إن أعطيتكم هذا ، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ، ودانت لكم بها العجم ، وأدت لكم الخراج ؟ " قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قال : فما هي؟ قال : " قولوا لا إله إلا الله " فأبوا واشمأزوا . قال أبو طالب : يا ابن أخي ، قل غيرها ، فإن قومك قد فزعوا منها . قال : " يا عم ، ما أنا بالذي أقول غيرها ، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها " إرادة أن يؤيسهم ، فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا ، أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك ، فذلك قوله : ( فيسبوا الله عدوا بغير علم ) .ومن هذا القبيل - وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها - ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ملعون من سب والديه " قالوا : يا رسول الله ، وكيف يسب الرجل والديه؟ قال : " يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " أو كما قال عليه السلام .وقوله تعالى : ( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) أي : وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم والمحاماة لها والانتصار ، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال - عملهم الذي كانوا فيه ، ولله الحجة البالغة ، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره . ( ثم إلى ربهم مرجعهم ) أي : معادهم ومصيرهم ، ( فينبئهم بما كانوا يعملون ) أي : يجازيهم بأعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

ثم أرشد الله المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، فنهاهم عن سب آلهة المشركين حتى لا يقابلهم المشركون بالمثل فقال- تعالى-: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.السب: الشتم الوضيع وذكر مساوئ الغير لمجرد التحقير والإهانة.وعدوا: مصدر بمعنى العدوان والظلم والتجاوز من الحق إلى الباطل وهو مفعول مطلق «لتسبوا» . من معناه، لأن السب عدوان، وقيل هو حال من ضمير فَيَسُبُّوا مؤكدة لمضمون الجملة وكذلك قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ.والمعنى: ولا تسبوا ايها المؤمنون آلهة المشركين الباطلة فيترتب على ذلك أن يسب المشركون معبودكم الحق جهلا منهم وضلالا.قال الآلوسى: ومعنى سبهم لله- تعالى- إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلى الله عليه وسلم ولمن يأمره وقد فسر بِغَيْرِ عِلْمٍ بذلك أى: فيسبوا الله- تعالى- بغير علم أنهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله- تعالى- وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده- سبحانه- فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له- عز وجل- صراحة ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك، ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر! ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام رأى بعض الرافضة يسب الشيخين- أبا بكر وعمر- فغاظه ذلك جدا فسب عليا- كرم الله وجهه- فسئل عن ذلك فقال: ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئا يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم» .وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه معمر عن قتادة قال. كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيسب الكفار الله عدوا بغير علم فنزلت» .قال صاحب الكشاف: فإن قلت: سب الآلهة الباطلة حق وطاعة فكيف صح النهى عنه وإنما يصح النهى عن المعاصي؟ قلت رب طاعة علم أنها تؤدى إلى مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة فيجب النهى عنها لأنها معصية لا لأنها طاعة. كالنهى عن المنكر هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدى إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية ووجب النهى عن ذلك كما يجب النهى عن المنكر» .وقال الشيخ القاسمى: قال ابن الفارس في الآية: إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم أن يسبوا الله أو رسوله أو القرآن لم يجز أن يسبوا آلهتهم ولا دينهم، وهذا أصل في سد الذرائع» .وقال السيوطي: «وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى وكذا كل مفعول مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه» .وقال الحاكم: نهوا عن سب الأصنام لوجهين:أحدهما: أنها جماد لا ذنب لها.والثاني: أن ذلك يؤدى إلى المعصية بسب الله- تعالى-. والذي يجب علينا إنما هو بيان بغضها وأنه لا تجوز عبادتها، وأنها لا تضر ولا تنفع، وأنها لا تستحق العبادة، وهذا ليس بسب. ولهذا قال أمير المؤمنين على- يوم صفين- «لا تسبوهم ولكن اذكروا قبيح أفعالهم» .وقال بعض العلماء: ووجه النهى عن سب أصنامهم هو أن السب لا تترتب عليه مصلحة دينية، لأن المقصود من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله- تعالى- فذلك الذي يتميز به المحق من المبطل، فأما السب فإنه مقدور للمحق وللمبطل فيظهر بمظهر التساوي بينهما، وربما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحق، فيلوح للناس أنه تغلب على المحق. على أن سب آلهتهم لما كان يحمى غيظهم ويزيد تصلبهم صار منافيا لمراد الله من الدعوة فقد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وأصبح هذا السب متمحضا للمفسدة وليس مشوبا بمصلحة، وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة، لأن تغيير المنكر مصلحة بالذات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعرض. وذلك مجال تتردد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوة وضعفا وتحققا واحتمالا، وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلها .وهذه الآية الكريمة ليست منسوخة بآية السيف- كما قيل- وإنما هي محكمة ولذا قال القرطبي: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الله- تعالى- فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدى إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية» .وقوله كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ.التزيين تفعيل من الزين وهو الحسن.والمعنى: مثل ذلك التزيين الذي حمل المشركين على الدفاع عن عقائدهم الباطلة جهلا منهم وعدوانا، زينا لكل أمة من الأمم عملهم، من الخير والشر والإيمان والكفر، فقد مضت سننا في أخلاق البشر أن يستحسنوا ما تعودوه، وأن يتعلقوا بما ألفوه.وقيل: المراد بكل أمة أمم الفكر لأن الكلام فيهم. والمراد بعملهم. شرورهم ومفاسدهم.والمشبه به تزيين سب الله- تعالى- لهم.أى: كما زينا لهؤلاء المشركين سوء أعمالهم زينا لكل أمة من الأمم الماضية على الضلال عملهم السيئ.قال الآلوسى: «وقد استدل بالآية على أنه- تعالى- هو الذي زين للكافر كفره كما زين للمؤمن إيمانه. وأنكر ذلك المعتزلة فتأولوا الآية بما لا يخفى ضعفه» .وقال صاحب المنار: فظهر بهذا التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه وليس المراد به أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر، وفي قلوب بعضها الآخر تزيينا للإيمان والخير خلقا ابتدائيا من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك، إذ لو كان الأمر كما ذكر لكان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائب الخلقية التي تعد الدعوة إليها والترغيب فيها وما يقابلهما من النهى والترهيب عنها من العبث الذي يتنزه الله عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله. وقد غفلت المعتزلة عن هذا التحقيق فأول بعضهم الآية بأنها خاصة بالمؤمنين الذين زين الله في قلوبهم الإيمان، وبعضهم بغير ذلك» .ثم ختم الله- تعالى- الآية بقوله: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أى:ثم إلى ربهم أمورهم ورجوعهم ومصيرهم بعد البعث، فيخبرهم من غير تسويف أو تأخير بما كانوا يعملونه في الدنيا، ويجازيهم على ذلك بما يستحقونه. وفي هذه الجملة الكريمة تهديد وتوبيخ لأولئك المشركين الذين تجاسروا على مقام الله، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا.

قوله عز وجل : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ) الآية قال ابن عباس : لما نزلت " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " ( الأنبياء ، 98 ) قال المشركون : يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم .وقال قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك ، لئلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة .وقال السدي : لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه . فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة [ بن أبي معيط وعمرو بن العاص ، والأسود بن ] البختري إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندعنه وإلهه ، فدعاه فقال : هؤلاء قومك يقولون نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك ، فقد أنصفك قومك فاقبل منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟ " قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها ، فما هي؟ قال : " قولوا لا إله إلا الله " فأبوا ونفروا ، فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي ، فقال : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ، فقالوا : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك ، فأنزل الله عز وجل : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ) يعني الأوثان ، ( فيسبوا الله عدوا ) أي : اعتداء وظلما ، ( بغير علم )وقرأ يعقوب " عدوا " بضم العين والدال وتشديد الواو ، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " لا تسبوا ربكم " ، فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم .فظاهر الآية ، وإن كان نهيا عن سب الأصنام ، فحقيقته النهي عن سب الله ، لأنه سبب لذلك .( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) [ أي : كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان ، كذلك زينا لكل أمة عملهم ] من الخير والشر والطاعة والمعصية ، ( ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم ) ويجازيهم ، ( بما كانوا يعملون ) .

قوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملونفيه خمس مسائل ، الأولى قوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله نهي .فيسبوا الله جواب النهي . فنهى سبحانه المؤمنين أن يسبوا أوثانهم ; لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا . قال ابن عباس : قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه ; فنزلت الآية .الثانية : قال العلماء : حكمها باق في هذه الأمة على كل حال ; فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه السلام أو الله عز وجل ، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم ، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك ; لأنه بمنزلة البعث على المعصية . وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب " الذين " على معتقد الكفرة فيها .الثالثة : في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة ، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع ; حسب ما تقدم في " البقرة " . وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين . ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة . قال ابن العربي : إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول .الرابعة : قوله تعالى عدوا بغير علم أي جهلا واعتداء . وروي عن أهل مكة أنهم قرءوا " عدوا " بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة ، وهي راجعة إلى القراءة الأولى ، وهما جميعا بمعنى الظلم . وقرأ أهل مكة أيضا " عدوا " بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو . وهو واحد يؤدي عن جمع ; كما قال : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين . وقال تعالى : هم العدو وهو منصوب على المصدر أو على المفعول من أجله .الخامسة : قوله تعالى كذلك زينا لكل أمة عملهم أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم . قال ابن عباس . زينا لأهل الطاعة الطاعة ، ولأهل الكفر الكفر ; وهو كقوله : كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء . وفي هذا رد على القدرية .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: ولا تسبُّوا الذين يدعو المشركون من دون الله من الآلهة والأنداد, فيسبَّ المشركون اللهَ جهلا منهم بربهم، واعتداءً بغير علم ، كما:-13738- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم)، قال: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبِّ آلهتنا، أو لنهجوَنَّ ربك ! فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوًا بغير علم .13739- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم)، كان المسلمون يسبون أوثان الكفار, فيردّون ذلك عليهم, فنهاهم الله أن يستسِبُّوا لربهم, (41) فإنهم قومٌ جهلة لا علم لهم بالله .13740- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم)، قال: لما حضر أبا طالب الموتُ, قالت قريش: انطلقوا بنا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه, فإنا نستحي أن نقتله بعد موته, فتقول العرب: " كان يمنعه فلما مات قتلوه " ! فانطلق أبو سفيان, وأبو جهل, والنضر بن الحارث, وأمية وأبيّ ابنا خلف, وعقبة بن أبي معيط, وعمرو بن العاص, والأسود بن البختري, وبعثوا رجلا منهم يقال له: " المطلب ", قالوا: استأذن على أبي طالب ! فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخولَ عليك ! فأذن لهم, فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب, أنت كبيرنا وسيدنا, وإنّ محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا, فنحبّ أن تدعوه فتنهاهُ عن ذكر آلهتنا, ولندَعْه وإلهه ! فدعاه, فجاء نبي الله صلى الله عليه وسلم, فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك ! قال له أبو طالب: قد أنصفك قومك, فاقبل منهم ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب, ودانت لكم بها العجم، وأدَّت لكم الخراج؟" (42) قال أبو جهل: نعم وأبيك، لنعطينكها وعشرَ أمثالها, فما هي؟ قال: قولوا: " لا إله إلا الله "! فأبوا واشمأزُّوا . قال أبو طالب: يا ابن أخي، قل غيرها, فإن قومك قد فزعوا منها ! قال: يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوني بالشمس فيضعوها في يديّ, (43) ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يديّ ما قلت غيرها! إرادةَ أن يُؤْيسهم ، فغضبوا وقالوا: لتكفّنَّ عن شتمك آلهتنا, أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك . فذلك قوله (فيسبوا الله عدوًا بغير علم) .13741- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله عدوًا بغير علم, فأنزل الله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم) .13742- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فيسبوا الله عدوًا بغير علم) قال: إذا سببت إلهه سبَّ إلهك, فلا تسبوا آلهتهم .* * *قال أبو جعفر: وأجمعت الحجة من قرأة الأمصار على قراءة ذلك: (44) ( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ )، بفتح العين، وتسكين الدال, وتخفيف الواو من قوله: (عدوًا)، على أنه مصدر من قول القائل: " عدا فلان على فلان "، إذا ظلمه واعتدى عليه," يعدو عَدْوًا وعُدُوًّا وعُدْوانًا ". و " الاعتداء "، إنما هو: " افتعال "، من ذلك . (45)* * *روى عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: " عُدُوًّا " مشددة الواو .13743- حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون, عن عثمان بن سعد: ( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عُدُوًّا )، مضمومة العين، مثقّلة . (46)* * *وقد ذكر عن بعض البصريين أنه قرأ ذلك: (47) " فَيَسُبُّوا الَله عَدُوًّا "، يوجِّه تأويله إلى أنهم جماعة, كما قال جل ثناؤه: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، [سورة الشعراء: 77] , وكما قال: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ، [سورة الممتحنة: 1] ويجعل نصب " العدوّ" حينئذ على الحال من ذكر " المشركين " في قوله: (فيسبوا) ، = فيكون تأويل الكلام: ولا تسبوا أيها المؤمنون الذين يدعو المشركون من دون الله, فيسب المشركون الله، أعداءَ الله، بغير علم . وإذا كان التأويل هكذا، كان " العدوّ"، من صفة " المشركين " ونعتهم, كأنه قيل: فيسب المشركون أعداء الله، بغير علم= ولكن " العدوّ" لما خرج مخرج النكرة وهو نعت للمعرفة، نصب على الحال .* * *قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك، قراءةُ من قرأ بفتح العين وتخفيف الواو، لإجماع الحجة من القرأة على قراءة ذلك كذلك, وغير جائز خلافُها فيما جاءت به مجمعة عليه . (48)* * *القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)يقول تعالى ذكره: كما زيّنا لهؤلاء العادلين بربهم الأوثَانَ والأصنام، عبادةَ الأوثان وطاعةَ الشيطان بخذلاننا إيّاهم عن طاعة الرحمن, (49) كذلك زيَّنا لكل جماعةٍ اجتمعت على عملٍ من الأعمال من طاعة الله ومعصيته، عملَهم الذي هم عليه مجتمعون, (50) ثم مرجعهم بعد ذلك ومصيرهم إلى ربهم (51) =" فينبئهم بما كانوا يعملون ". يقول: فيُوقفهم ويخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملون بها في الدنيا, (52) ثم يجازيهم بها، إن كان خيرًا فخيرًا، وإن كان شرًّا فشرًّا, أو يعفو بفضله، ما لم يكن شركًا أو كفرًا .-------------------الهوامش :(41) (( استسب له )) ، عرضه للسب وجره إليه . وفي حديث أبي هريرة : ( لا تمشِيَنَّ أَمَامَ أَبِيكَ ، ولا تجلِسْ قَبْلَهُ ، ولا تَدْعُه باسْمه ، ولا تَسْتَسِبَّ لهُ ) ، أي : لا تعرضه للسب وتجره إليه ، بأن تسب أبا غيرك ، فيسب أباك مجازاة لك = وهذا أدب يفتقده الناس يومًا بعد يوم .(42) في المطبوعة : (( ودانت لكم بها العجم بالخراج )) ، وفي المطبوعة : (( ودانت لكم بها العجم الحراح )) غير منقوطة ، وفي تفسير ابن كثير 3 : 374 ، ما أثبته ، وهو الصواب إن شاء الله .(43) في المطبوعة : (( حتى يأتوا بالشمس )) ، وأثبت ما في المخطوطة .(44) في المطبوعة : (( وأجمعت الأمة من قراء الأمصار )) ، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة .(45) انظر تفسير (( عدا )) فيما سلف 10 : 522 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .(46) الأثر : 13743 - (( عثمان بن سعد التميمي )) ، أبو بكر الكاتب المعلم . روى عن أنس ، والحسن والبصري ، وابن سيرين ، وعكرمة ، والمجاهد . تكلموا فيه . مترجم في التهذيب .(47) نسبها ابن خالويه في شواذ القراءات : 40 ، إلى بعض المكيين ، ولم يبينه . وقال أبو حيان في تفسيره 4 : 200 (( وقال ابن عطية : وقرأ بعض المكيين ، وعينه الزمخشري فقال : عن ابن كثير )) .(48) في المطبوعة أسقط (( به )) ، وهي ثابتة في المخطوطة .(49) انظر تفسير (( زين )) فيما سلف 11 : 357(50) انظر تفسير (( أمة )) فيما سلف 11 : 354 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .(51) انظر تفسير (( المرجع )) فيما سلف 11 : 407 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .(52) انظر تفسير (( أنبأ )) فيما سلف 11 : 434 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

عطف على قوله : { وأعرض عن المشركين } [ الأنعام : 106 ] يزيد معنى الإعراض المأمور به بياناً ، ويحقّق ما قلناه أن ليس المقصود من الإعراض ترك الدّعوة بل المقصود الإغضاء عن سبابهم وبذيء أقوالهم مع الدّوام على متابعة الدّعوة بالقرآن ، فإنّ النّهي عن سبّ أصنامهم يؤذن بالاسترسال على دعوتهم وإبطال معتقداتهم مع تجنّب المسلمين سبّ ما يدعونهم من دون الله .والسبّ : كلام يدلّ على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرّة ، بالباطل أو بالحقّ ، وهو مرادف الشّتم . وليس من السبّ النسبةُ إلى خطإ في الرّأي أو العمللِ ، ولا النّسبة إلى ضلال في الدّين إن كان صدر من مخالف في الدّين .والمخاطب بهذا النّهي المسلمون لا الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنّ الرّسول لم يكن فحّاشاً ولا سبّاباً لأنّ خُلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك ، ولأنّه يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن فإذا شاء الله تركه من وحيه الّذي ينزله ، وإنّما كان المسلمون لغيرتهم على الإسلام ربّما تجاوزوا الحدّ ففرطت منهم فرطات سبّوا فيها أصنام المشركين .روى الطّبري عن قتادة قال «كان المسلمون يسبّون أوثان الكفّار فيردّون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستَسبّوا لربّهم» . وهذا أصحّ ما روي في سبب نزول هذه الآية وأوفَقُه بنظم الآية . وأمّا ما روى الطّبري عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزل قوله تعالى : { إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم } [ الأنبياء : 98 ] قال المشركون : لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا وشتمها لنهجُوَنّ إلهك ، فنزلت هذه الآية في ذلك ، فهو ضعيف لأنّ عليّ بن أبي طلحة ضعيف وله منكرات ولم يلق ابن عبّاس . ومن البعيد أن يكون ذلك المراد من النّهي في هذه الآية ، لأنّ ذلك واقع في القرآن فلا يناسب أن ينهى عنه بلفظ { ولا تسُبّوا } وكان أن يقال : ولا تجهروا بسبّ الّذين يَدْعون من دون الله مثلاً . كما قال في الآية الأخرى { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } [ الإسراء : 110 ]. وكذا ما رواه عن السديّ أنّه لمّا قربت وفاة أبي طالب قالت قريش : ندخل عليه ونطلب منه أن ينهى ابنَ أخيه عنّا فإنّا نستحيي أن نقتله بعد موته ، فانطلق نفر من سادتهم إلى أبي طالب وقالوا : أنت سيّدنا ، وخاطبوه بما راموا ، فدعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال له : هؤلاء قومك وبنو عمّك يريدون أن تدَعهم وآلهتَهم ويدَعوك وإلَهَك ، وقالوا : لتكُفّن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنّك ولنشتمنّ من يأمُرك . ولم يقل السدّي أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية ولكنّه جعله تفسيراً للآية ، ويرد عليه ما أوردناه على ما روي عن عليّ بن أبي طلحة .قال الفخر : ههنا إشكالان هما : أنّ النّاس اتَّفقوا على أنّ سورة الأنعام نزلت دفعة واحدة فكيف يصحّ أن يقال : إنّ سبب نزول هذه الآية كذا ، وأنّ الكفّار كانوا مقرّين بالله تعالى وكانوا يقولون : عبدنا الأصنام لتكون شفعاء لنا عند الله فكيف يعقل إقدامُ الكفّار على شتم الله تعالى اه .وأقول : يدفع الإشكال الأوّل أنّ سبب النّزول ليس يلزم أن يكون مقارناً للنّزول فإنّ السّبب قد يتقدّم زمانه ثمّ يشار إليه في الآية النّازلة فتكون الآية جواباً عن أقوالهم . وقد أجاب الفخر بمثل هذا عند قوله تعالى : { ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة } [ الأنعام : 111 ] الآية . ويدفع الإشكال الثّاني أنّ المشركين قالوا لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا لنهجونّ إلهك ، ومعناه أنّهم ينكرون أنّ الله هو إلهه ولذلك أنكروا الرّحمان { وإذا قيل لهم اسجدوا للرّحمان قالوا وما الرّحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } [ الفرقان : 60 ]. فهم ينكرون أنّ الله أمره بذمّ آلهتهم لأنّهم يزعمون أنّ آلهتهم مقرّبون عند الله ، وإنّما يزعمون أنّ شيطاناً يأمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بسبّ الأصنام ، ألا ترى إلى قول امرأة منهم لمّا فتَر الوحي في ابتداء البعثة : ما أرى شيطانه إلاّ ودّعه ، وكان ذلك سبب نزول سورة الضّحى .وجواب الفخر عنه { بأنّ بعضهم كان لا يثبت وجود الله وهم الدهريون ، أو أنّ المراد أنّهم يشتمون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام فأجرى الله شتم الرّسول مجرى شتم الله كما في قوله تعالى : { إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] اه . فإنّ في هذا التّأويل بُعداً لا داعي إليه .والوجه في تفسير الآية أنّه ليس المراد بالسبّ المنهي عنه فيها ما جاء في القرآن من إثبات نقائص آلهتهم ممّا يدلّ على انتفاء إلهيتها ، كقوله تعالى : { أولئك كالأنعام بل هم أضلّ } في سورة الأعراف ( 179 ). وأمّا ما عداه من نحو قوله تعالى : ألهم أرجل يمشون بها } [ الأعراف : 195 ] فليس من الشّتم ولا من السبّ لأنّ ذلك من طريق الاحتجاج وليس تصدّياً للشّتم ، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذمّ والتّعبير لآلهة المشركين ، كما روي في «السيرة» أنّ عُروة بن مسعود الثّقفي جاء رسولاً من أهل مكّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الحديبيّة فكان من جملة ما قاله : " وأيم الله لكأنّي بهؤلاء ( يعني المسلمين ) قد انكشفوا عنك " ، وكان أبو بكر الصدّيق حاضراً ، فقال له أبو بكر «امصُصْ بَظْر اللاّت» إلى آخر الخبر .ووجه النّهي عن سبّ أصنامهم هو أنّ السبّ لا تترتَّب عليه مصلحة دينيّة لأنّ المقصود من الدّعوة هو الاستدلال على إبطال الشّرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى ، فذلك هو الّذي يتميّز به الحقّ عن الباطل ، وينهض به المحقُّ ولا يستطيعه المبطل ، فأمّا السبّ فإنّه مقدور للمحقّ وللمبطل فيظهر بمظهر التّساوي بينهما .وربّما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحقّ ، فيلوح للنّاس أنّه تغلّب على المحقّ . على أنّ سبّ آلهتهم لمّا كان يُحمي غيظهم ويزيد تصلّبهم قد عادَ مُنافياً لمراد الله من الدّعوة ، فقد قال لرسوله عليه الصّلاة والسّلام " وجادلهم بالّتي هي أحسن " ، وقال لموسى وهارون عليهما السّلام «فقولا له قولاً ليّناً» ، فصار السبّ عائقاً من المقصود من البعثة ، فتمحّض هذا السبّ للمفسدة ولم يكن مشوباً بمصلحة . وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة لأنّ تغيير المنكر مصلحة بالذّات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعَرض . وذلك مَجال تتردّد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوّة وضعفاً ، وتحقّقاً واحتمالاً . وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلّها .وحكم هذه الآية محكم غير منسوخ . قال القرطبي : قال العلماء : حكمها باق في هذه الأمّة على كلّ حال ، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أنّه إنْ سبّ المسلمون أصنامه أو أمور شريعَته أن يَسُبّ هو الإسلام أو النّبيء عليه الصّلاة والسّلام أو اللّهَ عزّ وجلّ لم يحلّ للمسلم أن يسبّ صُلبانهم ولا كنائسهم لأنّه بمنزلة البعث على المعصيّة اه ، أي على زيادة الكفر . وليس من السبّ إبطال ما يخالف الإسلام من عقائدهم في مقام المجادلة ولكنّ السبّ أن نباشرهم في غير مقام المناظرة بذلك ، ونظير هذا ما قاله علماؤنا فيما يصدر من أهل الذّمة من سبّ الله تعالى أو سبّ النّبيء صلى الله عليه وسلم بأنّهم إن صدر منهم ما هو من أصول كفرهم فلا يعدّ سَبّاً وإن تجاوزوا ذلك عدّ سبّاً ، ويعبّر عنها الفقهاء بقولهم : «مَا به كَفر وغير ما به كفر» .وقد احتجّ علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصل من أصول الفقه عند المالكيّة ، وهو الملقّب بمسألة سَدّ الذّرائع . قال ابن العربي : «منع الله في كتابه أحداً أن يفعل فعلاً جائزاً يؤدّي إلى محظور ولأجل هذا تعلّق علماؤنا بهذه الآية في سدّ الذّرائع وهو كلّ عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصّل به إلى محظور» . وقال في تفسير سورة الأعراف ( 163 ) عند قوله تعالى : { واسْألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر إذْ يعدون في السّبت } قال علماؤنا : هذه الآية أصل من أصول إثبات الذّرائع الّتي انفرد بها مالك رضي الله عنه وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته وخفيت على الشّافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما مع تبحّرهما في الشّريعة ، وهو كلّ عمل ظاهر الجواز يتوصّل به إلى محظور اه . وفَسَّر المازري في باب بيوع الآجال من شرحه للتّلقين } سَدّ الذّريعة بأنّه منع ما يجوز لئلاّ يتَطرّق به إلى ما لا يجوز اه . والمراد : سدّ ذرائع الفساد ، كما أفصح عنه القرافي في «تنقيح الفصول» وفي «الفرق الثّامن والخمسين» فقال : الذّريعة : الوسيلة إلى الشّيء .ومعنى سدّ الذّرائع حسم مادّة وسائل الفساد .وأجمعت الأمّة على أنّ الذّرائع ثلاثة أقسام : أحدها : معتبر إجماعاً كحفر الآبار في طرق المسلمين وإلقاءِ السمّ في أطعمتهم وسبّ الأصنام عند من يُعلم من حاله أنّه يسبّ الله تعالى حينئذٍ . وثانيها : مُلغًى إجماعاً كزراعة العنب فإنّها لا تمنع لخشيَة الخمر ، وكالشركة في سكنى الدّور خشية الزّنا . وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال ، فاعتبر مالك رضي الله عنه الذّريعة فيها وخالفه غيره اه . وعَنَى بالمخالف الشّافعي وأبا حنيفة رضي الله عنهما .وهذه القاعدة تندرج تحت قاعدة الوسائل والمقاصد ، فهذه القاعدة شعبة من قاعدة إعطاء الوسيلة حكم المقصد خاصّة بوسائل حصول المفسدة . ولا يختلف الفقهاء في اعتبار معنى سدّ الذّرائع في القسم الّذي حكى القرافي الإجماع على اعتبار سدّ الذّريعة فيه . وليس لهذه القاعدة عنوان في أصول الحنفيّة والشّافعيّة ، ولا تعرّضوا لها بإثبات ولا نفي ، ولم يذكرها الغزالي في «المستصفى» في عداد الأصول الموهومة في خاتمة القطب الثّاني في أدلّة الأحكام .و { عَدْواً } بفتح العين وسكون الدّال وتخفيف الواو في قراءة الجمهور ، وهو مصدر بمعنى العدوان والظلم ، وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة ل«يسبّوا» لأنّ العدو هنا صفة للسبّ ، فصحّ أن يحلّ محلّه في المفعوليّة المطلقة بياناً لنوعه . وقرأ يعقوب { عُدُوّاً } بضمّ العين والدّال وتشديد الواو وهو مصدر كالعَدْو .ووصفُ سبِّهم بأنّه عَدْو تعريض بأنّ سبّ المسلمين أصنامَ المشركين ليس من الاعتداء ، وجعل ذلك السبّ عدواً سواء كان مراداً به الله أم كان مراداً به من يأمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بما جاء به لأنّ الّذي أمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بما جاء به هو في نفس الأمر اللّهُ تعالى فصادفوا الاعتداء على جلاله .وقوله : { بغير علم } حال من ضمير { يسبّوا } ، أي عن جهالة ، فهم لجهلهم بالله لا يزعهم وازع عن سبّه ، ويسبّونه غير عالمين بأنّهم يسبّون الله لأنّهم يسبّون مَن أمر محمّداً صلى الله عليه وسلم بما جاء به فيصادف سبّهم سبّ الله تعالى لأنّه الّذي أمره بما جاء به .ويجوز أن يكون { بغير علم } صفة ل { عَدْواً } كاشفة ، لأنّ ذلك العدو لا يكون إلاّ عن غير علم بعظم الجرم الّذي اقترفوه ، أو عن علم بذلك لكن حالة إقدامهم عليه تشبه حالة عدم العلم بوخامة عاقبته .وقوله : { كذلك زيّنّا لكلّ أمّة عمَلهم } معناه كتزييننا لهؤلاء سُوءِ عملهم زَيَّنَّا لكلّ أمّة عملهم ، فالمشار إليه هو ما حكاه الله عنهم بقوله : { وجعلوا لله شركاء الجنّ إلى قوله فيسبّوا الله عدواً بغير علم } [ الأنعام : 100 108 ]. فإنّ اجتراءهم على هذه الجرائم وعماهم عن النّظر في سوء عواقبها نشأ عن تزيينها في نفوسهم وحسبانهم أنّها طرائق نفع لهم ونجاة وفوز في الدّنيا بعناية أصنامهم .فعلى هذه السنّة وبمماثل هذا التّزيين زيّن الله أعمال الأمم الخالية مع الرّسل الّذين بُعثوا فيهم فكانوا يُشاكسونهم ويعصون نصحهم ويجترئون على ربّهم الّذي بعثهم إليهم ، فلمّا شبّه بالمشار إليه تزيينا عَلِم السّامع أنّ ما وقعت إليه الإشارة هو من قبيل التّزيين . وقد جرى اسم الإشارة هنا على غير الطّريقة الّتي في قوله : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطا } [ البقرة : 143 ] ونظائره ، لأنّ ما بعده يتعلّق بأحوال غير المتحدّث عنهم بل بأحوال أعمّ من أحوالهم . وفي هذا الكلام تعريض بالتوعّد بأن سيحلّ بمشركي العرب من العذاب مثلُ ما حلّ بأولئك في الدّنيا .وحقيقة تزيين الله لهم ذلك أنّه خلَقهم بعقول يَحْسُن لديها مثلُ ذلك الفعل ، على نحو ما تقدّم في قوله تعالى : { ولو شاء الله ما أشركوا } [ الأنعام : 108 ]. وذلك هو القانون في نظائره .والتّزيين تفعيل من الزّيْن ، وهو الحُسن؛ أو من الزّينة ، وهي ما يتحسّن به الشّيء . فالتّزيين جعل الشّيء ذا زينة أو إظهاره زيْناً أو نسبته إلى الزّين . وهو هنا بمعنى إظهاره في صورة الزّين وإن لم يكن كذلك ، فالتّفعيل فيه للنّسبة مثل التّفسيق . وفي قوله : { ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان وَزَيَّنه في قلوبكم } [ الحجرات : 7 ] بمعنى جعله زيناً ، فالتّفعيل للجعل لأنّه حَسَن في ذاته .ولما في قوله : { كذلك زيّنّا لكلّ أمّة عملهم } من التّعريض بالوعيد بعذاب الأمم عقّب الكلام ب { ثُمّ } المفيدة التّرتيب الرتبي في قوله : { ثمّ إلى ربّهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون } ، لأنّ ما تضمّنته الجملة المعطوفة ب { ثُمّ } أعظم ممّا تضمّنته المعطوفُ عليها ، لأنّ الوعيد الّذي عُطفت جملته ب { ثمّ } أشدّ وأنكى فإنّ عذاب الدّنيا زائل غير مؤيّد . والمعنى أعظم من ذلك أنّهم إلى الله مرجعهم فيحاسبهم . والعدول عن اسم الجلالة إلى لفظ { ربّهم } لقصد تهويل الوعيد وتعليل استحقاقه بأنّهم يرجعون إلى مالكهم الذي خلقهم فكفروا نعمه وأشركوا به فكانوا كالعبيد الآبقين يطوِّفون ما يطوفوّن ثمّ يقعون في يد مالكهم .والإنباء : الإعلام ، وهو توقيفهم على سوء أعمالهم . وقد استعمل هنا في لازم معناه ، وهو التّوبيخ والعقاب ، لأنّ العقاب هو العاقبة المقصودة من إعلام المجرم بجرمه . والفاء للتّفريع عن المَرْجِع مؤذنة بسرعة العقاب إثر الرّجوع إليه .
الآية 108 - سورة الأنعام: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ۗ كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى...)