سورة آل عمران: الآية 19 - إن الدين عند الله الإسلام...

تفسير الآية 19, سورة آل عمران

إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَٰمُ ۗ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ

الترجمة الإنجليزية

Inna alddeena AAinda Allahi alislamu wama ikhtalafa allatheena ootoo alkitaba illa min baAAdi ma jaahumu alAAilmu baghyan baynahum waman yakfur biayati Allahi fainna Allaha sareeAAu alhisabi

تفسير الآية 19

إن الدين الذي ارتضاه الله لخلقه وأرسل به رسله، ولا يَقْبَل غيره هو الإسلام، وهو الانقياد لله وحده بالطاعة والاستسلام له بالعبودية، واتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا يقبل الله مِن أحد بعد بعثته دينًا سوى الإسلام الذي أُرسل به. وما وقع الخلاف بين أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فتفرقوا شيعًا وأحزابًا إلا من بعد ما قامت الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب؛ بغيًا وحسدًا طلبًا للدنيا. ومن يجحد آيات الله المنزلة وآياته الدالة على ربوبيته وألوهيته، فإن الله سريع الحساب، وسيجزيهم بما كانوا يعملون.

«إن الدين» المرضي «عند الله» هو «الإسلام» أي الشرع المبعوث به الرسل المبنى على التوحيد وفي قراءة بفتح أن بدل من أنه الخ بدل اشتمال «وما اختلف الذين أوتوا الكتاب» اليهود والنصارى في الدين بأن وحَّد بعضٌ وكفر بعضٌ «إلا من بعد ما جاءهم العلم» بالتوحيد «بغيا» من الكافرين «بينهم ومن يكفر بآيات الله» «فإن الله سريع الحساب» أي المجازاة له.

ولما قرر أنه الإله الحق المعبود، بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له، وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله، وحثت عليها كتبه، وهو الذي لا يقبل من أحد دين سواه، وهو متضمن للإخلاص له في الحب والخوف والرجاء والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك، وهذا هو دين الرسل كلهم، وكل من تابعهم فهو على طريقهم، وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله، بغيا بينهم، وظلما وعدوانا من أنفسهم، وإلا فقد جاءهم السبب الأكبر الموجب أن يتبعوا الحق ويتركوا الاختلاف، وهذا من كفرهم، فلهذا قال تعالى وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فيجازي كل عامل بعمله، وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته، فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الأليم،

وقوله : ( إن الدين عند الله الإسلام ) إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين ، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله بعد بعثته محمدا صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته ، فليس بمتقبل . كما قال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ وهو في الآخرة من الخاسرين ] ) [ آل عمران : 85 ] وقال في هذه الآية مخبرا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام : ( إن الدين عند الله الإسلام )وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام ) بكسر " إنه " وفتح ( إن الدين عند الله الإسلام ) أي : شهد هو وملائكته وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام . والجمهور قرءوها بالكسر على الخبر ، وكلا المعنيين صحيح . ولكن هذا على قول الجمهور أظهر والله أعلم .ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم ، فقال : ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) أي : بغى بعضهم على بعض ، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم ، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله ، وإن كانت حقا ، ثم قال : ( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) أي : من جحد بما أنزل الله في كتابه فإن الله سيجازيه على ذلك ، ويحاسبه على تكذيبه ، ويعاقبه على مخالفته كتابه

وقوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى. وأصل الدين في اللغة الجزاء والحساب. يقال دنته بما صنع أى جازيته على صنيعه، ومنه قولهم: كما تدين تدان أى، كما تفعل تجازى، وفي الحديث «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» والمراد به هنا ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه من عقائد وتكاليف وتشريعات، فيكون بمعنى الملة والشرع.أى: إن الشريعة المرضية عند الله- تعالى- هي الإسلام، والإسلام في اللغة هو الاستسلام والانقياد يقال: أسلم أى انقاد واستسلم. وأسلم أمره الله سلمه إليه والمراد به هنا- كما قال ابن جرير: «شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله الذي شرعه لنفسه وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره ولا يجزى بالإحسان إلا به» وهو الدين الحنيف الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم.وقال ابن كثير: وقوله- تعالى- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ إخبار منه تعالى- بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فمن لقى الله تعالى- بعد بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال- تعالى- وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ الآية. وقال في هذه الآية مخبرا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وقوله: عِنْدَ اللَّهِ ظرف العامل فيه لفظ الدين لما تضمنه من معنى الفعل، أى الذي شرع عند الله الإسلام. ويصح أن يكون صفة للدين فيكون متعلقا بمحذوف أى الكائن أو الثابت عند الله الإسلام. وفي إضافة الدين إلى الله- تعالى- بقوله عِنْدَ اللَّهِ وباعتبار الإسلام وحده، هو دين الله، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين، إشعار بفضل الإسلام، لأن له ذلك الشرف الإضافى إلى خالق هذا الكون ومربيه، فهو دين الله الذي شرعه لخلقه.ثم بين- سبحانه- أن اختلاف أهل الكتاب في شأن الدين الحق لم يكن عن جهل منهم بالحقائق وإنما كان سببه البغي والحسد وطلب الدنيا فقال- تعالى- وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.أى: وما كان خلاف الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى فيما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلا من بعد أن علموا بأن ما جاءهم به هو الحق الذي لا باطل معه، فخلافهم لم يكن عن جهل منهم بأن ما جاءهم به هو الحق وإنما كان سببه البغي والحسد والظلم فيما بينهم.وفي التعبير عنهم بأنهم أُوتُوا الْكِتابَ زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وأفحش، إذ الكتاب ما نزل إلا لهدايتهم، وسعادتهم فإذا تركوا بشاراته وتوجيهاته واتبعوا أهواءهم كان فعلهم هذا أشد قبحا وفحشا.وقوله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ زيادة أخرى في تقبيح أفعالهم، فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القبح والعناد.والاستثناء من أعم الأحوال أو الأوقات، أى وما اختلفوا في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا الحق، والعلم بالحق وحده لا يكفى في الإيمان به، ولكنه يحتاج إلى جانب ذلك إلى قلب مخلص متفتح لطلبه، وكم من أناس يعرفون الحق معرفة تامة ولكنهم يحاربونه ويحاربون أهله، لأنهم يرون أن هذا الحق يتعارض مع أهوائهم وشهواتهم وصدق الله إذ يقول. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .فهم قد اختلفوا في الحق مع علمهم بأنه حق، لأن العلم كالمطر، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية، والقلوب الواعية، والأفئدة المستقيمة.وقوله بَغْياً بَيْنَهُمْ مفعول لأجله، والعامل فيه اختلف أى وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره قال القرطبي: «وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم».ثم ختم- سبحانه- الآية بهذا التهديد الشديد فقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. أى: ومن يكفر بآيات الله الدالة على وحدانيته- سبحانه- فإن الله محص عليه أعماله في الدنيا وسيعاقبه بما يستحقه في الآخرة.فقوله فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قائم مقام جواب الشرط وعلة له، أى: ومن يكفر بآيات الله فإنه- سبحانه- محاسبة ومعاقبه والله سريع الحساب.وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل والقدرة التامة فهو- سبحانه- لا يحتاج إلى فحص وبحث، لأنه لا تخفى عليه خافية.

( إن الدين عند الله الإسلام ) يعني الدين المرضي الصحيح ، كما قال تعالى : " ورضيت لكم الإسلام دينا " ( 3 - المائدة ) وقال " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه " ( 85 - آل عمران ) وفتح الكسائي الألف من : أن الدين ردا على أن الأولى تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو وشهد أن الدين عند الله الإسلام ، أو شهد الله أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو ، وكسر الباقون الألف على الابتداء ، والإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة ، يقال : أسلم أي دخل في السلم واستسلم ، قال قتادة في قوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه [ ولا يقبل غيره ولا يجزي إلا به ] .أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عمرو الفراتي ، أنا أبو موسى عمران بن موسى ، أنا الحسن بن سفيان ، أنا عمار بن عمر بن المختار ، حدثني أبي عن غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش وكنت أختلف إليه فلما كانت ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة ، فإذا الأعمش قائم من الليل يتهجد ، فمر بهذه الآية ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ( إن الدين عند الله الإسلام ) قالها مرارا قلت لقد سمع فيها شيئا ، فصليت معه وودعته ، ثم قلت : إني سمعتك تقرأ آية ترددها فما بلغك فيها؟ [ قال لي : أوما بلغك ما فيها؟ قلت : أنا عندك منذ سنتين لم تحدثني ] قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة ، فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة ، فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة قال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : إن لعبدي هذا عندي عهدا ، وأنا أحق من وفى بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة " .قوله تعالى : ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ) قال الكلبي : نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام أي وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما جاءهم العلم ، يعني بيان نعته في كتبهم ، وقال الربيع : إن موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة واستخلف يوشع بن نون ، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين حتى أهرقوا بينهم الدماء ، ووقع الشر والاختلاف ، وذلك من بعد ما جاءهم العلم يعني بيان ما في التوراة ( بغيا بينهم ) أي طلبا للملك والرياسة ، فسلط الله عليهم الجبابرة وقال محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت في نصارى نجران ومعناها ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ) يعني الإنجيل في أمر عيسى عليه السلام وفرقوا القول فيه إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله واحد وأن عيسى عبده ورسوله ( بغيا بينهم ) أي للمعاداة والمخالفة ( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) .

قوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحسابقوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام الدين في هذه الآية الطاعة والملة ، والإسلام بمعنى الإيمان والطاعات ; قاله أبو العالية ، وعليه جمهور المتكلمين . والأصل في مسمى الإيمان والإسلام التغاير ; لحديث جبريل . وقد يكون بمعنى المرادفة . فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر ; كما في حديث وفد عبد القيس وأنه أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال : ( هل تدرون ما الإيمان ) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم ) الحديث . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله ) أخرجه الترمذي . وزاد مسلم ( والحياء شعبة من الإيمان ) . ويكون أيضا بمعنى التداخل وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمى الآخر ، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال ; ومنه قوله عليه السلام : الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان . أخرجه ابن ماجه ، وقد تقدم والحقيقة هو الأول وضعا وشرعا وما عداه من باب التوسع ، والله أعلم .قوله تعالى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب الآية أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا . قاله ابن عمر وغيره . وفي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم ; قاله الأخفش . قال محمد بن جعفر بن الزبير : المراد بهذه الآية النصارى ، وهي توبيخ لنصارى نجران . وقال الربيع بن أنس : المراد بها اليهود . ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعم اليهود والنصارى ; أي وما اختلف الذين أوتوا الكتاب يعني في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا من بعد ما جاءهم العلم يعني بيان صفته ونبوته في كتبهم . وقيل : أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل في أمر عيسى وفرقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد ، وأن عيسى عبد الله ورسوله . بغيا نصب على المفعول من أجله ، أو على الحال من الذين ، والله تعالى أعلم .

القول في تأويل قوله : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُقال أبو جعفر: ومعنى " الدين "، في هذا الموضع: الطاعة والذّلة، من قول الشاعر: (28)وَيَوْمُ الحَزْنِ إِذْ حُشِدَتْ مَعَدٌّوَكَانَ النَّاسُ, إِلا نَحْنُ دِينَا (29)يعني بذلك: مطيعين على وجه الذل، ومنه قول القطامي:كانَتْ نَوَارُ تَدِينُك الأدْيانا (30)يعني: تُذلك، وقول الأعشى ميمون بن قيس:هُوَ دَانَ الرِّبَابَ إذْ كَرِهُوا الدِّينَ دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ (31)يعني بقوله: " دان " ذلل = وبقوله: " كرهوا الدين "، الطاعة.* * *وكذلك " الإسلام "، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع، والفعل منه: " أسلم " بمعنى: دخل في السلم، كما يقال: " أقحط القوم "، إذا دخلوا في القحط،" وأربعوا "، إذا دخلوا في الربيع = فكذلك " أسلموا "، إذا دخلوا في السلم، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة. (32)* * *فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله: " إنّ الدّين عند الله الإسلام ": إنَّ الطاعةَ التي هي الطاعة عنده، الطاعةُ له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذّلة، وانقيادُها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذلُّلها له بذلك، من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة. (33)* * *وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.ذكر من قال ذلك:6763 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " إنّ الدين عندَ الله الإسلام "، والإسلام: شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، (34) وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به.6764 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثنا أبو العالية في قوله: " إن الدين عند الله الإسلام "، قال: " الإسلام "، الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزكاة، وسائرُ الفرائض لهذا تَبعٌ.6765 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: أَسْلَمْنَا [سورة الحجرات: 14]، قال: دخلنا في السِّلم، وتركنا الحرب. (35)6766 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " إنّ الدين عند الله الإسلام "، أي: ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ، والتصديق للرسل. (36)* * *القول في تأويل قوله : وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْقال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل - وهو " الكتاب " الذي ذكره الله في هذه الآية - في أمر عيسى، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم، وتشتّتت بها كلمتهم، وباين بها بعضهم بعضًا؛ حتى استحلّ بها بعضُهم دماءَ بعض =" إلا من بعد ما جَاءهم العلم بغيًا بينهم "، يعني: إلا من بعد ما علموا الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمره، وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفِرْية مبطلون. (37) فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل، وقالوا من القول الذي هو كفر بالله، على علم منهم بخطأ ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلا منهم بخطئه، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلافَ الذي هم عليه، تعدِّيًا من بعضهم على بعض، وطلبَ الرياسات والملك والسلطان، كما:-6767 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم "، قال: قال أبو العالية، إلا من بعد ما جاءهم الكتابُ والعلم =" بغيًا بينهم "، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا، من بعد ما كانوا علماءَ الناس.6768 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية: " إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم "، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها. مِنْ قِبَلها والله أتِينا! ما كان علينا مَنْ يكون علينا، (38) بعد أن يأخذ فينا كتابَ الله وسنة نبيه، ولكنا أتِينا من قبلها.6769 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: إن موسى لما حضره الموتُ دعا سبعين حَبرا من أحبار بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليه، كلّ حبر جُزءًا منه، (39) واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث، وقعت الفرقة بينهم - وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى أهَرقوا بينهم الدماء، ووقع الشرّ والاختلاف. وكان ذلك كله من قبل الذين أتوا العلم، بغيًا بينهم على الدنيا، طلبًا لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها، فسلَّط الله عليهم جبابرتهم، فقال الله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ إلى قوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ .* * *فقولُ الربيع بن أنس هَذا، (40) يدلّ على أنه كان عنده أنه معنيٌّ بقوله: " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب "، اليهودُ من بني إسرائيل، دون النَّصارى منهم، وغيرهم. (41)* * *وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعنىّ به النصارى الذين أوتوا الإنجيل.ذكر من قال ذلك:6770 - حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم "، الذي جاءك، أي أنّ اللهَ الواحدُ الذي ليس له شريك =" بغيًا بينهم "، يعني بذلك النصارى. (42)* * *القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)قال أبو جعفر: يعني بذلك: ومن يجحدُ حجج الله وأعلامه التي نصَبها ذكرَى لمن عقل، وأدلةً لمن اعتبر وتذكر، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فمجازيه بها في الآخرة، فإنه جل ثناؤه " سريع الحساب "، يعني: سريع الإحصاء. وإنما معنى ذلك أنه حافظ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفِّهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم، بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيرُه من الحساب. (43)* * *وبنحو الذي قلنا في معنى " سريع الحساب "، كان مجاهد يقول:6771 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب "، قال: إحصاؤه عليهم.6772 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب "، إحصاؤه.----------------------------------الهوامش :(28) لم أعرف قائله بعد.(29) سيأتي في التفسير 26: 115 (بولاق) ومعه بيت سنذكره. والشطر الثاني من البيت الأول في اللسان (دين) ، وفي غيره من كتب اللغة. وأنا في شك من صحة هذا البيت ، ولم أعرف"يوم الحزن" ، ما أراد به. وأظن"حشدت" ، "حشرت" من"الحشر" ، والبيت الذي يليه:عَصَيْنَا عَزْمَةَ الجَبَّارِ, حتَّىصَبَحْنَا الجُرْفَ ألفًا مُعْلِمِينَاهكذا صححته هنا من معاني القرآن للفراء ، تفسير سورة (ق) مخطوطة ، وهو في المطبوعة من التفسير (26: 115)"صحبنا الخوف أكفًا" وهو كلام لا معنى له. وقد قال الطبري بعد هذا البيت هناك"ويروى: الحوف. وقال: أراد بالجبار: المنذر ، لولايته" وصوابه"الجرف" فإذا كان ذلك كذلك ، فأكبر ظني أنه كما أثبته"الجرف" (بضم الجيم وسكون الراء): وهو موضع بالحيرة كانت به منازل المنذر.وفي الطبري هناك"صحبنا" وهو خطأ. و"صبحنا" ، من قولهم: "صبح القوم شرًا" أي جاءهم به ، و"صبحتهم الخيل" ، جاءتهم صبحًا. و"ألفًا" يعني: ألف فرس عليها فرسانها. و"المعلم": الفارس يجعل لنفسه علامة الشجعان ، أو جعل على فرسه علامة ، فهو فرس معلم. يريد: غزونا معقل المنذر الجبار ومنازله ، وصبحناه فدمرنا عليه منازله. وفي الطبري"حرمة الجبار" ، والتصحيح من معاني القرآن للفراء ، كما أسلفت.(30) ديوانه: 15 ، من أبيات جياد وصف فيها صاحبته"أميمة" ، وسماها"جنوب" في البيت الذي رواه الطبري ، وسماها"نوار" ، ويروى: "ظلوم" ، فكان مما قال:رَمَتِ المَقَاتِلَ مِنْ فُؤَادِكَ, بَعْدَ ماكانَتْ جَنُوبُ تَدِينُكَ الأدْيانَا""أي": تفعل بك الأفاعيل. ويقال: تستعبدك ، أو: أنها كانت تعذبك. أو تدينك: تجزيك".وَأَرَى الغَوَانِي إنّمَا هِيَ جِنَّةٌشَبَهُ الرِّيَاحِ تَلَوَّنُ الأَلْوَانَافَإذَا دَعَوْنَكَ عَمَّهُنّ, فَلاَ تُجِبْفَهُنَاكَ لاَ يَجِدُ الصَّفَاءُ مَكَانَانَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنّ حَقَارَةًوعَلَى ذَوَاتِ شَبَابِهِنّ هَوَانَاوَإذَا وَعَدْنَ, فَهُنَّ أكثَرُ واعِدٍخُلْفًا, وَأمْلَحُ حانِثٍ أيْمَانَاوَإذَا رَأَيْنَ مِنَ الشّبَابِ لدُونَةً,فَعَسَتْ حِبَالُكَ أَنْ تَكونَ مِتَانَا!وهذا شعر بارع مقدم.(31) مضى بيان هذا البيت فيما سلف 3: 571.(32) انظر تفسير"الإسلام" و"السلم" فيما سلف 2: 510 ، 511 / ثم 3: 73 ، 74 ، 92 ، 94 ، 110 / ثم 4: 251-255.(33) في المطبوعة: "في العبودية والألوهية" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وقد مضى استعماله العبودة فيما سلف ص: 271 ، تعليق: 1. و"الألوهة ، والإلاهة ، والألوهية": العبادة ، وانظر ما سلف 1: 124 وما قبلها.(34) قوله: "بما جاء به" ، الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" ، ولا تتم شهادة إلا به ، بأبي هو وأمي. وهكذا ذكره السيوطي بنصه في الدر المنثور 2: 12 ، ونسبه إلى عبد بن حميد أيضًا بهذا اللفظ.(35) الأثر: 6765- سيأتي في تفسير"سورة الحجرات" (26- 90 بولاق) ، بغير هذا اللفظ مطولا: "وأسلمنا: استسلمنا ، دخلنا في السلم ، وتركنا المحاربة والقتال". وإسناده هو هو.(36) الأثر: 6766 - رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227 ، وأسقط"من" من قوله: "من التوحيد". وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6761.(37) انظر تفسير"البغي" فيما سلف 2: 342 / ثم تفسير مثل هذه الآية فيما سلف 4: 281 ، 282.(38) في المطبوعة: "ما كان علينا من يكون بعد أن يأخذ فينا..." حذف"علينا" الثانية فاختلط الكلام اختلاطًا ، والصواب من المخطوطة. ومعناه: ما كان يضيرنا أن يكون علينا واليًا كائنًا من كان ، بعد أن يقيم فينا كتاب الله وسنة رسوله؟(39) هكذا جاء نص هذه العبارة في المخطوطة أيضًا ، وفي الدر المنثور 2: 13 ، كأنه قال: استودع كل حبر جزءًا منه. وهي عبارة فيها ما فيها.(40) في المطبوعة والمخطوطة: "يقول الربيع بن أنس هذا يدل..." ، وهو فاسد جدًا. فإن هذا قول الطبري وتعليقه على خبر الربيع. والصواب ما أثبت ، كما هو ظاهر.(41) قوله: "دون النصارى منهم" معناه: دون النصارى من الذين أوتوا العلم. أما قوله: "وغيرهم" ، أي: ودون غير النصارى من الذين أوتوا العلم ، إشارة إلى ما جاء في خبر ابن عمر السالف رقم 6768. وكان في المطبوعة: "دون النصارى منهم ومن غيرهم" ، وهي جملة لا يستقيم معناها ، فحذفت"من" لذلك.(42) الأثر: 6770- رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227 ، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6766 ، وقوله: "يعني بذلك النصارى" ، ليس في ابن هشام ، وكأنه من تفسير الطبري للخبر.(43) انظر معنى"الكفر" و"الآيات" فيما سلف من فهارس اللغة (كفر) ، و (أبى). وتفسير"سريع الحساب" فيما سلف 4: 207 ، وأيضًا: 274 ، 275 / ثم: هذا: 101 ، 102.

قرأ جمهور القرّاء إنّ الدينإِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } بكسر همزة إنّ فهو استئناف ابتدائي لبيان فضيلة هذا الدين بِأجمَع عبارة وأوجزَها .وهذا شروع في أول غرض أنزلت فيه هذه السورة : غرض محاجّة نصارى نجران ، فهذا الاستئناف من مناسبات افتتاح السورة بذكر تنزيل القرآن والتوراة والإنجيل ، ثم بتخصيص القرآن بالذكر وتفضيله بأنّ هديه يفوق هدي ما قبله من الكتب ، إذ هو الفرقان ، فإنّ ذلك أسّ الدين القويم ، ولما كان الكلام المتقدم مشتملاً على تعريض باليهود والنصارى الذين كذبوا بالقرآن ، وإبطاللٍ لقول وفد نجران لما طلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام «أسْلَمْنَا قبلَك» فقال لهم : «كَذَبْتُم» روى الواحدي ، ومحمد بن إسحاق : أنّ وفد نجران لما دخلوا المسجد النبوي تكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله : " أسْلِمَا " قالا : «قد أسلمنا قبلك» قال : " كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للَّهِ ولدا ، وعبادتُكما الصليب " ، ناسب أن ينوّه بعد ذلك بالإسلام الذي جاء به القرآن ، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم .واعلم أنّ جمل الكلام البليغ لا يخلو انتظامها عن المناسبة ، وإن كان بعضها استئنافاً ، وإنّما لا تطلب المناسبة في المحادثات والاقتضابات .وتوكيد الكلام بأنّ } تحقيق لما تضمنَّه من حصر حقيقة الدين عند الله في الإسلام : أي الدين الكامل .وقرأ الكسائي { أنّ الدين } بفتح همزة أنّ على أنّه بدل من { أنَّه لا إله إلاّ هو } [ آل عمران : 18 ] أي شهد الله بأنّ الدين عند الله الإسلام .والدين : حقيقته في الأصل الجزاء ، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على : مجموع عقائد ، وأعمال يلقّنها رسولٌ من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب . ثم أطلق على ما يشْبِه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتَلتزمه طائفة من الناس . وسمّي الدين ديناً لأنّه يترقب منه مُتَّبِعُهُ الجزاءَ عاجلاً أو آجلاً ، فما من أهل دين إلاّ وهم يترقّبون جزاء من رب ذلك الدين ، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاهم عنهم ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقال أبو سفيان يوم أحُد : أعْلُ هُبَلْ . وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس : أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله : «لقد علمتُ أنْ لو كان معه إله غَيرُه لقد أغنى عَنّي شيئاً» . وأهل الأديان الإلهيَّة يترقّبون الجزاء الأوْفَى في الدنيا والآخرة ، فأول دين إلهي كان حقاً وبه كان اهتداء الإنسان ، ثم طرأت الأديان المكذوبة ، وتشبّهت بالأديان الصحيحة ، قال الله تعالى تعليماً لرسوله { لكم دينكم ولي ديني }[ الكافرون : 6 ] وقال : { ما كان ليأخذ أخاه فِي دِين الملك } [ يوسف : 76 ] .وقد عرّف العلماء الدين الصحيح بأنّه «وضعٌ إلهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخيْر باطناً وظاهراً» .والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدِّين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما أُطلق على ذلك الإيمان أيضاً ، ولذلك لقب أَتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين ، وهو الإطلاق المراد هنا ، وهو تسمية بمصدر أَسْلَم إذا أذْعَن ولم يعاند إذعاناً عن اعتراف بحق لا عن عجز ، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان؛ لأنّ الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق ، واطّراح كل حائل يحول دون ذلك ، بخلاف الإيمان فإنّه اعتقاد قلبي ، ولذلك قال الله تعالى : { هو سمَّاكم المسلمين } [ الحج : 78 ] وقال : { فقل أسلمتُ وجهي للَّه ومن اتّبعني } [ آل عمران : 20 ] ولأنّ الإسلام لا يكون إلاّ عن اعتقاد لأنّ الفعل أثر الإدراك ، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة .وربما أطلق الإسلام على خصوص الأعمال؛ والإيمان على الاعتقاد ، وهو إطلاق مناسب لحالتي التفكيك بين الأمرين في الواقع ، كما في قوله تعالى ، خطاباً لقوم أسلموا متردّدين { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] ، أو التفكيك في تصوير الماهية عند التعليم لحقائق المعاني الشرعية أو اللغوية كما وقع في حديث جبريل : من ذكر معنى الإيمان ، والإسلام ، والإحسان .والتعريف في الدين تعريف الجنس؛ إذ لا يستقيم معنى العهد الخارجي هنا وتعريف الإسلام تعريف العلم بالغلبة : لأنّ الإسلام صار علماً بالغَلَبة على الدين المحمّدي .فقوله : { إن الدين عند الله الإسلام } صيغة حصر ، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه ، وهو الدين ، في المسند ، وهو الإسلام ، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة ، أي لا دين إلا الإسلام ، وقد أكّد هذا الانحصار بحرف التوكيد .وقولُه : { عند الإسلام } وصف للدين ، والعندية عندية الاعتبار والاعتناءِ وليست عندية علم : فأفاد ، أنّ الدين الصحيح هو الإسلام ، فيكون قصراً للمسند ، إليه باعتبار قيد فيه ، لا في جميع اعتباراته : نظير قول الخنساء: ... إذا قَبُحَ البُكاءُ على قتيلرأيتُ بكاءَكَ الحَسَن الجَميلا ... فحصرت الحَسَن في بكائه بقاعدة أنّ المقصور هو الحسن لأنّه هو المعرف باللاّم ، وهذا الحصر باعتبار التقييد بوقتتِ حُجْ البكاء على القتلى وهو قصر حُسْن بكائها على ذلك الوقت ، ليكون لبكائها على صخر مزية زائدة على بكاء القتلى المتعارف وإن أبى اعتبار القصر في البيت أصلاً صَاحب المطوّل .وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول : إمّا باعتبار أنّ الدين الصحيح عند الله ، حينَ الإخبار ، وهو الإسلام ، لأنّ الخبر ينظر فيه إلى وقت الإخبار؛ إذ الأخبار كلّها حقائق في الحال ، ولا شك أنّ وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلهية ، من خلط الفاسد بالصحيح ، ما أختل لأجله مجموع الدين ، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور؛ إذ لا أكمل من هذا الدين ، وما تقدّمه من الأديان لم يكن بالغاً غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم ، بل كان كل دين مضى مقتصراً على مقدار الحاجة من أمة معيّنة في زمن معيّن ، وهذا المعنى أولي محملي الآية ، لأنّ مُفاده أعم ، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام تُجاه بقية الأديان الإلهية أتم .ذلك أنّ مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل ، ليس مجرّد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوّق لدَقائق تراكيبه ، بل مراد الله تعالى ممّا شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه ، ولما كان المراد من ذلك هو العمل ، جعل الله الشرائع مناسبة لقابليات المخاطبين بها ، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم ، ليتمكّنوا من العمل بها بدواممٍ وانتظام ، فلذلك كان المقصود من التدّين أن يكون ذلك التعليم الديني دأباً وعادة لمنتحليه ، وحيثُ النفوسُ لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتّفق مع مدركاتها ، لا جرم تعيّن مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان . ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة .وقد كانت أحوال الجماعات البشرية ، في أول عهود الحضارة ، حالاتتِ عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة ، ائتلفت رُويدَا رويدَا على حسب دواعي الحاجات ، وما تلك الدواعي ، التي تسبّبت في ائتلاف تلك العوائد ، إلاّ دواع غير منتشرة؛ لأنّها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته ، ودفع الآلام عنه ، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتّصال به ، وتحسيننِ حاله ، فبذلك ائتلف نظام الفرد ، ثم نظام العائلة ، ثم نظام العشيرة ، وهاته النُظُم المتقابسة هي نُظم متساوية الأشكال؛ إذ كلّها لا يعدو حفظ الحياة ، بالغذاء والدفاععِ عن النفس ، ودفعَ الآلام بالكساء والمسكن والزواج ، والانتصار للعائلة وللقبيلة؛ لأنّ بها الاعتزاز ، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك ، بإعداد المعدّات : وهو التعاوض والتعامل ، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة ، وبذلك لم يكن لإحدى الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى ، فضلاً عن التفكير في اقتباس إحداها مما يجري لدى غيرها ، وتلك حالة قناعة العيش ، وقصور الهمة ، وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عدّ الناس أنفسهم في منتهى السعادة .وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصُل ، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب ، حائلاً عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض ، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين : عدم الداعي ، وانسداد وسائل الصدفة ، اللهم إلاّ ما يعرض من وفادة وافد ، أو اختلاط في نجعة أو موسم ، على أنّ ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان ، فيصبح في خبر كان .فكيف يرجى من أقوام ، هذه حالهم ، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم ، ومتقارب تصوّر عقولهم ، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر ، فأحسّ من سوء الطاعة حرق الجمر ، لذلك لم تتعلّق حكمة الله تعالى ، في قديم العصور ، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر ، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معيّنين؛ وفي حديث مسلم ، في صفة عرض الأمم للحساب أنّ رسول الله قال : « فيجيء النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد » وفي رواية البخاري : « فجعل النبي والنّبيئان يمرّون معهم الرهط » الحديث . وبقي الحق في خلال ذلك مشاعاً بين الأمم ، ففي كلّ أمة تجد سداداً وأفناً ، وبعض الحق لم يزل مخبوءاً لم يسفر عنه البيان .ثم أخذ البشر يتعارفون بسبب الفتوح والهجرة ، وتقاتلت الأمم المتقاربة المنازل ، فحصل للأمم حظ من الحضارة ، وتقاربت العوائد ، وتوسّعت معلوماتهم ، وحضارتهم ، فكانت من الشرائع الإلهية : شريعة إبراهيم عليه السلام ، ومن غيرها شريعة ( حمورابي ) في العراق ، وشريعة البراهمة ، وشريعة المصريين التي ذكرها الله تعالى في قوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دِين الملك } [ يوسف : 76 ] .ثم أعقبتها شريعة إلهية كبرى وهي شريعة موسى عليه السلام التي اختلط أهلها بأمم كثيرة في مسيرهم في التيه وما بعده ، وجاورتها أو أعقبتها شرائع مثل شريعة ( زرادشت ) في الفرس ، وشريعة ( كنفشيوس ) في الصين ، وشريعة ( سولون ) في اليونان .وفي هذه العصور كلّها لم تكن إحدى الشرائع عامة الدعوة ، وهذه أكبر الشرائع وهي الموسوية لم تدْعُ غير بين إسرائيل ولم تدع الأممَ الأخرى التي مرّت عليها ، وامتزجت بها ، وصاهرتها ، وكذلك جاءت المسيحية مقصورة على دعوة بني إسرائيل حتى دعا الناسَ إليها القدّيس بُولس بعد المسيح بنحو ثلاثين سنة .إلى أن كان في القرن الرابع بعد المسيح حصول تقابس وتمازج بين أصناف البشر في الأخلاق والعوائد ، بسببين : اضطراري ، واختياري . أمّا الاضطراري فذلك أنّه قد ترامت الأمم بعضها على بعض ، واتّجه أهل الشرق إلى الغرب ، وأهل الغرب إلى الشرق ، بالفتوح العظيمة الواقعة بين الفرس والروم ، وهما يومئذ قطبا العالم ، بما يتبع كل واحدة من أمم تنتمي إلى سلطانها ، فكانت الحرب سجالاً بين الفريقين ، وتوالت أزماناً طويلة .وأمّا الاختياري فهو ما أبْقاه ذلك التمازج من مشاهدة أخلاق وعوائد ، حسنت في أعين رائيها ، فاقتبسوها ، وأشياء قبحت في أعينهم ، فحذِروها ، وفي كلتا الحالتين نشأت يقظة جديدة ، وتأسّست مدنيات متفنّنة ، وتهيّأت الأفكار إلى قبول التغييرات القوية ، فتهيّأت جميع الأمم إلى قبول التعاليم الغريبة عن عوائدها وأحوالها ، وتساوت الأمم وتقاربت في هذا المقدار ، وإن تفاوتت في الحضارة والعلوم تفاوتاً ربما كان منه ما زاد بعضَها تهيّئوا لقبول التعاليم الصحيحة ، وقهقر بعضاً عن ذلك بما داخلها من الإعجاب بمبلغ علمها ، أو العكوف والإلف على حضارتها .فبلغ الأجل المراد والمعيّن لمجيء الشريعة الحق الخاتمة العامة .فأظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره ، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبِق لها سابقةُ سلطان ، ولا كانت ذات سيادة يومئذ على شيء من جهات الأرض ، ولكنّها أمة سلّمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية ، لتكون أقرب إلى قبول الحق ، وأظهر هذا الدينَ بواسطة رجل منها ، لم يكن من أهل العلم . ولا من أهل الدولة ، ولا من ذرية ملوك ، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة ، ليكون ظهور هذا تحت الصريح ، والعلم الصحيح ، مِن مثله آيةً على أنّ ذلك وحي من الله نفحَ به عباده .ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم ، حتى الأمة التي ظهر بينها ، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها ، وكانت أصوله مَبنية على الفطرة بمعنى ألاّ تكون ناظرة إلاّ إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم ، غير ماسور للعوائد ولا للمذاهب ، قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لِخلق الله ذلك الدين القيّم { ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون } [ الروم : 30 ] ، قال الشيخ أبو علي ابن سينا : «الفطرة أن يتوهّم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل ، لم يسمع رأياً ، ولم يعتقد مذهباً ، ولم يعاشر أمة ، لكنّه شاهد المحسوسات ، ثم يعرِض على ذهنه الأشياء شيئاً فشيئاً فإن أمكنه الشك في شيء فالفطرة لا تشهد به ، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه ، وليس كلّ ما توجبه الفطرة بصادق ، بل الصادق منه ما تشهد به فطرة القوة التي تسمّى عقلاً ، قبل أن يعترضه الوهْم» .ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر ، وارتاضت نفوسهم بها ، إذا كانت تفيدهم كمالاً ، ولا تفضي إلى فساد ، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاصة . فبهذا الأصل : أصللِ الفطرة كان الإسلام ديناً صالحاً لجميع الأمم في جميع الأعصر .ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمةٍ له ومهيّئةٍ جميع الناس لقبوله .المظهر الأول : إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقادٍ لا يشوبه تردّد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات ، ثم بِكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم ، وعلى الاعتراف باتّصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختيارياً ، ثم لتصيرَ تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلّق بها ثم بحمل جميع الناس على تطْهير عقائدهم حتى يتّحد مبدأ التخلّق فيهم { قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سَواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه } [ آل عمران : 64 ] .وكان إصلاح الاعتقاد أهمّ ما ابتدأ به الإسلام ، وأكثرَ ما تعرّض له؛ وذلك لأنّ إصلاح الفكرة هو مبدأ كلّ إصلاح؛ ولأنّه لا يرجى صح لقوم تلطَّخت عقولهم بالعقائد الضالّة ، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة : خوفاً من لا شَيء ، وطمعاً في غير شيء ، وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي؛ لأنّ المرء إنسان بروحه لا بجسمه .ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي : عزّة النفس ، وأصلة الرأي ، وحرية العقل ، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل .وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثاراً لا يشبهه فيه دين آخر؛ بل إنّك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة ، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلاّ قليلاً .المظهر الثاني : جمعه بين إصلاح النفوس ، بالتزكية ، وبين إصلاح نظام الحياة ، بالتشريع ، في حين كان معظم الأديان لا يتطرّق إلى نظام الحياة بشيء ، وبعضها وإن تطرّق إليه إلاّ أنّه لم يوفه حقه ، بل كان معظم اهتمامها منصرفاً إلى المواعظ والعبادات ، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية قال تعالى : { من عَمِل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينَّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] .المظهر الثالث : اختصاصه بإقامة الحجة ، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات وتعليل أحكامه ، بالترغيب وبالترهيب ، وذلك رعي لمراتب نفوس المخاطبين ، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلاّ بالحجة والدليل ، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلاّ بالجدل والخطابة ، ومنهم المترهّب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله ، ومنهم المكابر المعاند ، الذي لا يقلعه عن شغبه إلاّ القوارع والزواجر .المظهر الرابع : أنّه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر ، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط ، وفي القرآن : { قل يأيها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً } [ الأعراف : 158 ] ، وفي الحديث الصحيح : « أعْطِيتُ خمساً لم يُعْطَهُنّ أحَدٌ قبلي فذكر وكانَ الرسول يُبعث إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة » وقد ذكر الله تعالى الرسل كلّهم فذكر أنّه أرسلهم إلى أقوامهم .والاختلاف في كون نوح رسولاً إلى جميع أهل الارض ، إنّما هو مبْني : على أنّه بعد الطوفان انحصر أهل الارض في أتباع نوح ، عند القائلين بعموم الطوفان سائرالارض ، ألاَ ترى قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ الأعراف : 59 ] وأيَّاماً كان احتمال كون سكّان الارض في عصر نوح هم من ضمّهم وطن نوح ، فإن عموم دعوتة حاصل غير مقصود .المظهر الرابع : الدوام ولم يَدّععِ رسول من الرسل أنّ شريعته دائمة ، بل ما من رسول ، ولا كتاب ، إلاّ تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده .المظهر الخامس : الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويُترك التفريع لاستنباط المجتهدين وقد بيّن ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى : { ما فرّطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 38 ] لتكون الأحكام صالحة لكلّ زمان .المظهر السادس : أنّ المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها ، وفي أصول الأخلاق أنّ التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها وبين خواطر الشرور؛ لأنّ الشرور ، إذا تَسرَّبت إلى النفوس ، تعذّر أو عسر اقتلاعها منها ، وكانت الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة ، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين : طريقة مباشرة ، وطريقة سدّ الذرائع الموصلة إلى الفساد ، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنّها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث :« إن الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس » .المظهر السابع : الرأفة بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على موضع المصلحة ، مع تطلب إبراز ذلك التشريع في صورة ليّنة ، وفي القرآن { يريد اللَّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] وفي الحديث : « بُعثت بالحنيفية السَّمْحَة ولن يشادّ هذا الدين أحد إلاّ غلبه » وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدّة ، فلذلك لم تكن صالحة للبقاء؛ لأنّها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة ، ولم تكن بالتي يُناسبها ما قُدِّر مصيرُ البشر إليه من رقّة الطباع وارتقاء الأفهام .المظهر الثامن : امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام ، وذلك من خصائصه؛ إذ لا معنى للتشريع إلاّ تأسيس قانون للأمة ، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة . وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة ، واتّحاد الأمة في العمل والنظام .المظهر التاسع : صراحة أصول الدين ، بحيث يتكرّر في القرآن ما تُستَقْرَى منه قواطعُ الشريعة ، حتى تكونَ الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة ، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة ، ويزداد هذا بياناً عند تفسير قوله تعالى : { فقل أسلمت وجهي للَّه ومن اتّبعني } [ آل عمران : 20 ] .{ ه4س3ش19ن6/ن26-->وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .عُطِفَ { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } على قوله : { إن الذين عند الله الإسلام } للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقّيهم لدين الإسلام ، ومن سوء فهمهم في دينهم .وجيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال؛ إذ قد جيء بصيغة الحصر : لبيان سبب اختلافهم ، وكأنّ اختلافَهم أمر معلوم للسامع . وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخباراً يتضمّن بيان سببه ، وإبطال ما يَتراءى من الأسباب غير ذلك ، مع إظهار المقابلة بين حال الدِّيننِ الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف ، وبين سلامة الإسلام من ذلك .وذلك أنّ قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } قد آذَن بأنّ غيره من الأدين لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم ، والدوام ، قبل التغيير ، بلَه ما طرأ عليها من التغيير ، وسوء التأويل ، إلى يومَ مجيء الإسلام ، ليعلم السامعون أنّ ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنّه وقع فيه التغيير والاختلاف ، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعدما جاءهم العلم ، مع التنبيه على أنّ سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم ، ومن جملة ما بدّلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه تنبيه على أنّ الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف ، كما تقدّم في المظهر التاسع ، ومن ثم ذمّ علماؤنا التأويلات البعيدة ، والتي لم يَدْعُ إليها داععٍ صريح .وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معانٍ : منها التحذير من الاختلاف في الدين ، أي في أصوله ، ووجوب تطلّب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين ، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف .ومنها التنبيه على أنّ اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق ، فهو تعريض بأنّهم أساءوا فهم الدين .ومنها الإشارة إلى أنّ الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان : أحدهما اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب } [ البقرة : 113 ] ، وثانيهما اختلاف كل أمة منهما فيما بينها وافتراقها فرقاً متباينةَ المنازع . كما جاء في الحديث : " اختلفت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة " يُحَذِّر المسلمين ممّا صنعوا .ومنها أنّ اختلافهم ناشيء عن بغي بعضهم على بعض .ومنها أنّهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراضضِ عنه بغياً منهم وحسداً ، مع ظهور أحقّيته عند علمائهم وأحبارهم كما قال تعالى : { الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين } [ البقرة : 146 ، 147 ] ، وقال تعالى : { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق } [ البقرة : 109 ] أي أعرضوا عن الإسلام ، وصمّموا على البقاء على دينهم ، وودّوا لو يردّونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم حسداً على ما جاءكم من الهُدى بعد أن تبيّن لهم أنّه الحق .ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني ، حُذِف متعلِّق الاختلاف في قوله : { اختلف الذين أوتوا الكتاب } ليشمل كلّ اختلاف منهم : من مخالفة بعضهم بعضاً في الدين الواحد ، ومخالفة أهل كلّ دين لأهل الدين الآخر ، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحّة الدين .وحُذف متعلّق العلم في قوله : { من بعد ما جاءهم العلم } لذلك .وجُعل «بغيا» عقب قوله : «من بعد ما جاءهم العلم» ليتنازعه كلُّ من فعل ( اختلف ) ومن لفظ ( العِلم ) .وأُخِّر بينَهم عن جميع ما يصلح للتعليق به : ليتنازعه كلّ من فعل ( اختلف ) وفِعل ( جاءَهم ) ولفظِ ( العِلم ) ولفظ ( بَغيا ) .وبذلك تعلم أنّ معنى هذه الآية أوسع معانيَ من معاني قوله تعالى : { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم للبينات بغيا بينهم }في سورة ا [ لبقرة : 213 ] وقوله : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة } في سورة [ البيّنة : 4 ] كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين .فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم : أي اختلاف أهل كل ملّة في أمور دينها ، وهذا هو الذي تشعر بها صيغة اختلف كاختلاف اليهود بعد موسى غيرَ مرة ، واختلافِهم بعد سليمانَ إلى مملكتين : مملكة إسرائيل ، ومملكة يَهُوذا ، وكيف صار لكلّ مملكة من المملكتين تديُّنٌ يخالف تديُّنَ الأخرى ، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح ، وفي رسوم الدين ، ويكون قوله : بينهم حالاً لبغيا : أي بغيا متفشيّا بينهم ، بأن بغَى كلّ فريق على الآخر .ويشمل أيضاً الاختلاف بيْنهم في أمر الإسلام؛ إذ قال قائل منهم : هو حق ، وقال فريق : هو مرسل إلى الأميّين ، وكفر فريق ، ونافق فريق . وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام } ، ويكون قوله : { بينهم } على هذا وصفا لبغيا : أي بغياً واقعاً بينهم .ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤُهم ، لأنّ كلمة جاء مؤذنه بعلم متلقّى من الله تعالى ، يعني أنّ العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدّهم عن الاختلاف في المراد ، إلاّ أنّهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى .وانتصب { بغيا } على أنّه مفعول لأجله ، وعامل المفعول لأجله : هو الفعل الذي تفرّغ للعمل فيما بعدَ حرف الاستثناء ، فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة والتقديرُ : ما اختلفوا إلاّ في زمن بعدما جاءهم العلم وما كان إلاّ بغياً بينهم . ولك أن تجعل بغياً منصوباً على الحال من الذين أوتوا الكتاب ، وهو وإن كان العامل فيه فعلاً منفياً في اللفظ إلاّ أن الاستثناء المفرّغ جعله في قوه المثبت ، فجاء الحال منه عقب ذلك ، أي حال كون المختلفين باغين ، فالمصدر مؤوّل بالمشتق . ويجوز أن تجعله مفعولاً لأجله من ( اختلف ) باعتبار كونه صار مثبتاً كما قرّرنا .وقد لمّحت الآية إلى أنّ هذا الاختلاف ، والبغي كُفْر ، لأنّه أفضى بهم إلى نقض قواعد أديانهم ، وإلى نكران دين الإسلام ، ولذلك ذيّله بقوله : { ومن يكفر بآيات الله } إلخ .وقولُه : { فإن الله سريع الحساب } تعريض بالتهديد ، لأنّ سريع الحساب إنّما يبتدىء بحساب من يكفر بآياته ، والحساب هنا كناية عن الجزاء كقوله : { إنْ حسابهم إلاّ على ربي } [ الشعراء : 113 ] .وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك ، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلاّ اختلافاً علمياً فرعياً ، ولم يختلفوا اختلافاً ينقض أصول دينهم بل غاية الكلّ الوصول إلى الحق من الدين ، وخدمة مقاصد الشريعة ، فبَنُو إسرائيل عبدوا العجل والرسولُ بين ظهرانيْهم ، وعبدوا آلهة الأمم غيرَ مرة ، والنصارى عبدوا مريم والمسيح ، ونقضوا أصول التوحيد ، وادّعوا حلول الخالق في المخلوق . فأما المسلمون لما قال أحدُ أهل التصوّف منهم كلامَاً يوهم الحُلول حكم علماؤهم بقتله .
الآية 19 - سورة آل عمران: (إن الدين عند الله الإسلام ۗ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ۗ...)