سورة آل عمران (3): مكتوبة كاملة مع التفسير التحميل

تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة آل عمران بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة آل عمران مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.

معلومات عن سورة آل عمران

سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ
الصفحة 56 (آيات من 46 إلى 52)

وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـَٔايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّىٓ أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْـَٔةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًۢا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأَبْرَصَ وَأُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِـَٔايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ ۞ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِىٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
56

الاستماع إلى سورة آل عمران

تفسير سورة آل عمران (تفسير الوسيط لطنطاوي: محمد سيد طنطاوي)

الترجمة الإنجليزية

Wayukallimu alnnasa fee almahdi wakahlan wamina alssaliheena

وأما الصفة الثالثة من صفات عيسى- عليه السّلام- فهي قوله- تعالى- وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وهذه الجملة معطوفة على قوله وَجِيهاً وعطف الفعل على الاسم لتأويله به جائز والتقدير وجيها ومكلما، والمهد اسم لمضجع الطفل أى المكان الذي يهيأ له وهو في الرضاعة. والكهل: هو الشخص الذي اجتمعت قوته وكمل شبابه. وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوى وتم.والمراد أن عيسى- عليه السّلام- يكلم الناس في حال كونه صغيرا قبل أوان الكلام، كما يكلمهم في حال كهولته واكتمال شبابه، فهو- عليه السّلام- يكلمهم بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالتي الطفولة والكهولة، وذلك إحدى معجزاته- عليه السّلام- وقد حكى القرآن في سورة مريم ما تكلم به عيسى- عليه السّلام- وهو طفل صغير فقال- تعالى-: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.أما الصفة الرابعة من صفاته- عليه السّلام- فهي قوله- تعالى- وَمِنَ الصَّالِحِينَ أى عباد الله الصالحين لحمل رسالته وتبليغها للناس. أو من الذين يصلحون ولا يفسدون ويطيعون الله- تعالى- ولا يعصونه، قالوا: ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحا لأنه لا يكون كذلك إلا إذا كان في جميع الأفعال والتروك مواظبا على المنهج الأصلح، وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا، في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح، ولذا قال سليمان- عليه السّلام- بعد النبوة رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ فلما عدد- سبحانه- صفات عيسى أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات» .تلك هي البشارات التي بشرت بها الملائكة مريم، وتلك هي بعض صفات مولودها فماذا كان موقفها من ذلك؟لقد حكى القرآن أن موقفها كان يدل على بالغ عجبها، وشدة تأثرها فقال- تعالى-

الترجمة الإنجليزية

Qalat rabbi anna yakoonu lee waladun walam yamsasnee basharun qala kathaliki Allahu yakhluqu ma yashao itha qada amran fainnama yaqoolu lahu kun fayakoonu

قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ.أى: قالت مريم على سبيل التعجب والاستغراب: يا رب كيف يكون لي ولد والحال أنى لم يمسسني بشر، أى لست بذات زوج، ولم يحصل منى قط ما يكون بين الرجل والمرأة مما يسبب عنه وجود الولد.والجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا كان منها بعد أن قالت لها الملائكة ذلك؟ فكان الجواب: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ.. ألخ.وصدرت إجابتها بالنداء الله- تعالى- للإشعار بكمال تسليمها للقدرة الإلهية وأن استغرابها وتعجبها إنما هو من الكيفية لا إنكارا لقدرة الله- تعالى- وجملة وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ حالية محققة لما مر ومقوية له.والمسيس يحتمل أن يكون كناية عن المباشرة التي تقع بين الرجل والمرأة والتي يترتب عليها وجود النسل إذا شاء الله ذلك، ويحتمل أن يكون المراد به حقيقته وهو أنها لم يلمسها رجل، لأنها كانت معتكفة في بيت الله ومنصرفة لعبادته، ولم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط.وبذلك ينتفى بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس، فموضع عجبها واستنكارها إنما هو وجود ولد منها مع أنها لم يمسسها بشر.وهنا يحكى القرآن أن الله- تعالى- قد أزال عجبها واستنكارها بقوله: قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ.أى قال الله- تعالى- لها بلا واسطة أو بواسطة ملائكة: كهذا الخلق الذي تجدينه، بأن يكون لك ولد من غير أن يمسسك بشر وهو إبداع، يخلق الله- تعالى- ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه.وبعضهم يجعل الوقوف على «كذلك» فتكون خبرا لمبتدأ محذوف أى قال- سبحانه- في إجابته على مريم: الأمر كذلك أى يأتى الولد منك على الحالة التي أنت عليها لأن الله- تعالى- يخلق ما يشاء أن يخلقه بدون احتياج إلى وجود الأسباب والمسببات لأنه هو خالقه وخالق كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.وصرح هاهنا بقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ ولم يقل «يفعل» كما في قصة زكريا، لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ كبير، فكان الخلق المنبئ عن الاختراع أنسب بهذا المقام عن مطلق الفعل.ثم أكد- سبحانه عظيم قدرته ونفاذ إرادته بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.وقضى هنا بمعنى أراد، أى إذا أراد- سبحانه- شيئا، فإنما يقول لهذا الشيء كن فيكون من غير تأخر ومن غير وجود أسباب، فهو كقوله- تعالى- وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أى إنما نأمره مرة واحدة لا تثنية فيها فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر.قال الآلوسى: وقوله إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، فالمثل الشيء المكون بسرعة من غير عمل وآلة، والمثل به أمر الآمر المطاع- المأمور المطيع على الفور، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه.وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة، بأن يراد تعلق الكلام النفسي بالشيء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه.وعلى كلا التقديرين فالمراد من هذا الجواب بيان أن الله- تعالى- لا يعجزه أن يخلق ولدا من غير أب، لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الإرادة والقدرة .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حكت لنا بعض البشارات التي بشرت بها الملائكة مريم وبعض الصفات التي وصف الله- تعالى- بها عيسى، وبينت جانبا من مظاهر قدرة الله- تعالى- ونفاذ إرادته، وفي ذلك ما فيه من العظات والعبر لأولى الألباب.ثم واصل القرآن حديثه عن صفات عيسى- عليه السّلام- وعن معجزاته فقال- تعالى:فأنت ترى في هذه الآيات الكريمة بيانا حكيما عن طبيعة رسالة عيسى- عليه السّلام- وعن معجزاته التي أكرمه الله- تعالى- بها.

الترجمة الإنجليزية

WayuAAallimuhu alkitaba waalhikmata waalttawrata waalinjeela

وقوله- تعالى-: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ معطوف على يُبَشِّرُكِ أى: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه.. وإن الله يعلم ذلك المولود- المعبر عنه بالكلمة- الكتاب، وقرأ بعضهم ونعلمه الكتاب.. وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة معمولة لقول محذوف من كلام الملائكة أى ويقول الله- تعالى- ونعلمه.. وتكون في المعنى معطوفة على الحال وهي قوله «وجيها» فكأنه قال: وجيها ومعلما.وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون الجملة مستأنفة سيقت تطييبا لقلب مريم، وإراحة لما أهمها من خوف الملامة حين علمت أنها تلد من غير أن يمسها بشر.ولقد حكى القرآن عنها في سورة مريم قولها بتحسر وألم عند ما جاءها المخاض يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا.والمراد بالكتاب الكتابة والخط. فإن عيسى- عليه السّلام- قد بعثه الله- تعالى- في أمة ارتقت فيها ألوان العلم والمعرفة فأكرمه الله بأن جعله يفوق غيره في هذه النواحي. وقيل المراد بالكتاب جنس الكتب الإلهية.قال الفخر الرازي: «والأقرب عندي أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة. ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومجموعهما هو المسمى بالحكمة، ثم بعد أن صار علما بالخط والكتابة ومحيطا بالعلوم العقلية والشرعية يعلمه التوراة. وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة، لأن التوراة كتاب إلهى فيه أسرار عظيمة والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث عن أسرار الكتب الإلهية. ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل. وإنما أخر ذكر الإنجيل عن التوراة لأن من تعلم الخط، ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي نزل على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله عليه بعد ذلك كتابا آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية» .

الترجمة الإنجليزية

Warasoolan ila banee israeela annee qad jitukum biayatin min rabbikum annee akhluqu lakum mina altteeni kahayati alttayri faanfukhu feehi fayakoonu tayran biithni Allahi waobrio alakmaha waalabrasa waohyee almawta biithni Allahi waonabbiokum bima takuloona wama taddakhiroona fee buyootikum inna fee thalika laayatan lakum in kuntum mumineena

وبعد أن أشار- سبحانه- إلى علم الرسالة التي هيأ لها عيسى- عليه السّلام- عقب ذلك ببيان القوم الذين أرسل إليهم فقال- تعالى- وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أى أن الله- تعالى- سيجعل عيسى- عليه السّلام- رسولا إلى بنى إسرائيل لكي يهديهم إلى الصراط المستقيم، ولكي يبشرهم برسول يأتى من بعده هو خاتم الأنبياء والمرسلين، ألا وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.وخص بنى إسرائيل بالذكر مع أن رسالة عيسى كانت إليهم وإلى من علمها من الرومان:لأن بنى إسرائيل خرج عيسى من بينهم فهو منهم، ولأنهم هم الذين كانوا يدعون أنهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية، وكانت دعوته بينهم وانبعثت منهم إلى غيرهم، فكان تخصيصهم بالذكر فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وفيه توبيخ لهم، لأنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء ومع ذلك فقد كفر كثير منهم بعيسى وبغيره من رسل الله، بل لم يكتفوا بالكفر وإنما آذوا أولئك الرسل الكرام وقتلوا فريقا منهم.وقوله وَرَسُولًا منصوب بمضمر يقود إليه المعنى، معطوف على وَيُعَلِّمُهُ أى يعلمه ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل.وقوله أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ معمول لقوله رَسُولًا لما فيه من معنى النطق. كأنه قيل: ورسولا ناطقا بأنى قد جئتكم يا بنى إسرائيل بآية من ربكم.والباء للملابسة وهي مع مدخولها في محل الحال وقوله مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف صفة لآية. والمراد بالآية هنا المعجزات التي أكرمه الله بها.أى: أن الله- تعالى- قد علم عيسى- عليه السّلام- الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعله رسولا إلى بنى إسرائيل مخبرا إياهم بأنى رسول الله إليكم حال كوني ملتبسا مجيئي بالمعجزات الدالة على صدقى، وهذه المعجزات ليست من عندي وإنما هي من عند ربكم.ثم ذكر- سبحانه- خمسة أنواع من معجزات عيسى- عليه السّلام- أما المعجزة الأولى فعبر عنها بقوله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ.قال الآلوسى: «وقوله أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ.. ألخ.. بدل من قوله أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أو من بِآيَةٍ أو منصوب على المفعولية لمحذوف أى أعنى أنى أخلق لكم.. أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أى أنى قد جئتكم بآية من ربكم هي أنى أخلق لكم. وقرأ نافع بكسر الهمزة على الاستئناف، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإيجاد من العدم» .والمعنى أن عيسى- عليه السّلام- قد حكى الله- عنه أنه قال لبنى إسرائيل: لقد أرسلنى الله إليكم لأبلغكم دعوته، ولآمركم بإخلاص العبادة له، وقد أعطانى- سبحانه- من المعجزات ما يقنعكم بصدقى فيما أبلغه عن ربي، ومن بين هذه المعجزات أنى أقدر على أن أصور لكم من الطين شيئا صورته مثل صورة الطير، فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فيكون طيرا حقيقيا ذا حياة بإذن الله أى بأمره وإرادته.فأنت ترى أن الجملة الكريمة قد اشتملت على ثلاثة أعمال: ثنتان منهما لعيسى وهما تصوير الطين كهيئة الطير ثم النفخ فيه. أما الثالث فهو من صنع الله- تعالى- وحده ألا وهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى ونفخ فيها. وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس في عيسى ألوهية ولا أى معنى من معانيها. ولذا حكى الله- تعالى- عنه أنه قال: بِإِذْنِ اللَّهِ.أى أنى ما فعلت الذي فعلته إلا بإذن الله وأمره وإرادته وتيسيره، واللام في قوله لَكُمْ للتعليل أى أصور لأجل هدايتكم وتصديقكم بي.والكاف في قوله كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بمعنى مثل وهي نعت لمفعول محذوف أى أخلق شيئا مثل هيئة الطير، والهيئة هي الصورة والكيفية.والضمير في قوله فَأَنْفُخُ فِيهِ يعود إلى هذا المفعول المحذوف.وقوله بِإِذْنِ اللَّهِ متعلق بيكون، وجيء به لإظهار العبودية، ونفى توهم أن يكون عيسى أو غيره شريكا الله في خلق الكائنات.وأما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات فقد حكاه القرآن في قوله- تعالى- وَأُبْرِئُ أى أشفي يقال: برأ المريض يبرأ أو يبرؤ برءا وبروءا إذا شفى من مرضه.والأكمه: هو الذي يولد أعمى. يقال كمه كمها إذا ولد أعمى، فهو أكمه وامرأة كمهاء.والأبرص: هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة وهو مرض من الأمراض المنفرة التي عجز الأطباء عن شفائها.والمعنى: أن عيسى- عليه السّلام- قال لقومه: والمعجزات التي تدل على صدقى أن أشفى وأعيد الإبصار إلى من ولد أعمى، وأعيد الشفاء إلى من أصيب بمرض البرص، وأعيد الحياة إلى من مات. ولا أفعل كل ذلك بقدرتي وعلمي وإنما أفعله بإذن الله وبإرادته وأمره.وخص إبراء الأكمه والأبرص بالذكر لأنهما مرضان عضالان لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منهما فإذا أجرى الله- تعالى- على يد عيسى الشفاء منهما كان ذلك دليلا على أن من وراء الأسباب والمسببات خالقا مختارا لا يعجزه شيء وعلى أن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها في الإيجاد أو الإعدام وإنما المؤثر هو الله- تعالى- وقوله وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ فيه تدرج من الصعب إلى الأصعب، لأن مما لا شك فيه أن إحياء الموتى خارق عظيم، يدل دلال قاطعة على أن الأسباب العادية ليست هي المؤثرة وإنما الخالق المكون هو المؤثر وأن الأشياء لم تخلق بالعلية- كما يقول الماديون- وإنما خلقت بالإرادة المختارة والقدرة المبدعة المنشئة المكونة، وهي إرادة خالق الكون وقدرته سبحانه.وقيد ما يقوم به من إبراء وإحياء بأنه بإذن الله: للتنبيه على أن ما يفعله من خوارق إنما هو بأمر الله وتيسيره وإرادته.وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمة والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء، وكان دعاؤه يا حي يا قيوم، وذكروا من بين من أحياهم سام بن نوح .قال ابن كثير: بعث الله كل نبي بمعجزة تناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحّار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام. وأما عيسى فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص؟ وكذلك محمد صلّى الله عليه وسلّم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاويد الشعراء فأتاهم بكتاب من الله لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله ما استطاعوا أبدا، وما ذاك إلا أن كلام الرب لا يشبه كلام الخلق» .وأما المعجزة الخامسة فقد حكاها القرآن في قوله- تعالى- وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ.وقوله- تعالى- وَأُنَبِّئُكُمْ من الإنباء وهو الإخبار بالخبر العظيم الشأن.وقوله تَدَّخِرُونَ من الادخار وهو إعداد الشيء لوقت الحاجة إليه. يقال: دخرته وادخرته، إذ أعدته للعقبى. وأصله «تذتخرون» بالذال المعجمة- من اذتخر الشيء- بوزن افتعل- فأبدلت التاء دالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت.والمعنى: أن عيسى- عليه السّلام- قد قال لقومه بنى إسرائيل: وإن من معجزاتي التي تدل على صدقى فيما أبلغه عن ربي أنى أخبركم بالشيء الذي تأكلونه وبالشيء الذي تخبئونه في بيوتكم لوقت حاجتكم إليه.قال القرطبي: وذلك أنه لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد، فأخبرهم فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا فذلك قوله وَأُنَبِّئُكُمْ .و «ما» في الموضعين موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى بما تأكلونه وتدخرونه.ولا شك أن إخبار عيسى- عليه السّلام- لقومه بالشيء الذي يأكلونه وبالشيء الذي يدخرونه يدل على صدقه، لأن هذا الإخبار الغيبى بما لم يعاينه دليل على أن الله- تعالى- قد أعطاه علم ما أخبر به.ثم ختم الله- تعالى- هذه الآية بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.أى إن في ذلك المذكور من المعجزات التي أجراها الله- تعالى- على يد عيسى- عليه السلام- لدلالة واضحة وعلامة بينة تشهد بصدقه فيما يبلغه عن ربه، إن كنتم يا بنى إسرائيل ممن يصدق بآيات الله ويذعن لها.فاسم الإشارة «ذلك» يعود إلى ما سبق ذكره من معجزات عيسى- عليه السّلام- وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيات وأذعنتم للحق الذي جئتكم به من عند الله.

الترجمة الإنجليزية

Wamusaddiqan lima bayna yadayya mina alttawrati waliohilla lakum baAAda allathee hurrima AAalaykum wajitukum biayatin min rabbikum faittaqoo Allaha waateeAAooni

وبعد أن حكى القرآن المعجزات الباهرة التي أيد الله بها عيسى- عليه السّلام- عقب ذلك بالإشارة إلى طبيعة رسالته فقال- تعالى- وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.وقوله- تعالى وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ عطف على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى بِآيَةٍ أى قد جئتكم محتجا أو ملتبسا بآية من ربكم، ومصدقا لما بين يدي.. وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه «قد جئتكم» .. أى وجئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة، ومعنى تصديقه- عليه السّلام- للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب، وأن كتابه يدعو إلى الإيمان بها.والمعنى: أن عيسى- عليه السّلام- قال لبنى إسرائيل: إن الله- تعالى- قد أرسلنى إليكم لهدايتكم وقد جئتكم بالمعجزات التي تثبت صدقى. وجئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة.أى مقررا لها ومؤمنا بها.ومعنى ما بين يدي ما تقدم قبلي: لأن المتقدم السابق يمشى بين يدي الجائى فهو هنا تمثيل لحالة السبق، وإن كان بين عيسى- عليه السّلام- وبين نزول التوراة أزمنة طويلة لأنها لما اتصل العمل بها إلى مجيئه فكأنها لم تسبقه بزمن طويل ويستعمل بين يدي كذا في معنى الحاضر المشاهد كما في قوله- تعالى- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ.وقوله وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ معمول لمقدر بعد الواو، أى: وجئتكم لأحل لكم بعض الأشياء التي كانت محرمة عليكم في شريعة موسى- عليه السّلام- فهو من عطف الجملة على الجملة.أى أن شريعة عيسى جاءت متممة لشريعة موسى وناسخة لبعض أحكامها، فلقد حرم الله- تعالى- على بنى إسرائيل بعض الطيبات بسبب ظلمهم وبغيهم كما جاء في قوله- تعالى- فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فجاءت شريعة عيسى- عليه السلام- لتحل لهم بعض ما حرمه الله عليهم بسبب ظلمهم وفجورهم.قال ابن كثير: فيه دلالة على أن عيسى- عليه السلام- نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين. ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئا، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطأوا فكشف لهم عن خطئهم كما قال في الآية وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ .قالوا. ومن الأطعمة التي أحلها عيسى لبنى إسرائيل بعد أن كانت محرمة عليهم في شريعة موسى: لحوم الإبل والشحوم وبعض الأسماك والطيوروقوله وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ تحريض لهم على الاستجابة لما يدعوهم إليه.قال الفخر الرازي «وإنما أعاد قوله- تعالى- وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر، فأعاد ذكر المعجزات ليكون كلامه ناجعا في قلوبهم ومؤثرا في طباعهم. ثم خوفهم فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله فبين أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم عن ربي» .

الترجمة الإنجليزية

Inna Allaha rabbee warabbukum faoAAbudoohu hatha siratun mustaqeemun

ثم حكى القرآن أن عيسى- عليه السلام- قد قرر أن هذه المعجزات الباهرة لن تخرجه عن أن يكون عبدا الله مخلوقا له، وأن من الواجب على الناس أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أى قال عيسى- عليه السلام- داعيا قومه إلى عبادة الله- تعالى- هو الذي خلقني وخلقكم وهو الذي رباني ورباكم، ومادام الأمر كذلك فأخلصوا له العبادة فإن عبادته- سبحانه- وطاعته هي الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التباس.وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت لنا بعض المعجزات التي أكرم الله بها عيسى- عليه السلام- كما حكت لنا بعض التوجيهات القويمة، والإرشادات الحكيمة التي نصح بها قومه لكي يسعدوا في دنياهم وآخرتهم.والآن ينساق الذهن إلى سؤال هو: ماذا كان موقف بنى إسرائيل منه بعد أن جاءهم بما جاءهم به من بينات وهدايات؟لقد حكى القرآن ان موقف أكثرهم منه كان موقف الكافر به الجاحد لرسالته فقال تعالى:

الترجمة الإنجليزية

Falamma ahassa AAeesa minhumu alkufra qala man ansaree ila Allahi qala alhawariyyoona nahnu ansaru Allahi amanna biAllahi waishhad bianna muslimoona

فقوله- تعالى- فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ شروع في بيان مآل أحواله- عليه السلام- وفي بيان موقف قومه منه بعد أن بين- قبل ذلك بعض صفاته ومعجزاته وخصائص رسالته.وأحس: بمعنى علم ووجد وعرف. والإحساس: الإدراك ببعض الحواس الخمس وهي الذوق والشم واللمس والسمع والبصر. يقال أحس الشيء، علمه بالحس. وأحس بالشيء شعر به بحاسته والمراد أن عيسى عليه السلام، علم من بنى إسرائيل الكفر علما لا شبهة فيه.والأنصار جمع نصير مثل شريف وأشراف.والمعنى أن عيسى- عليه السلام- قد جاء لقومه بالمعجزات الباهرات التي تشهد بصدقه في دعوته ولكنه لم يجد منهم أذنا واعية، فلما رأى تصميمهم على باطلهم، وأحس منهم الكفر أى علمه يقينا وتحققه تحقق ما يدرك بالحواس، قال على سبيل التبليغ وطلب النصرة: من أنصارى إلى الله؟ أى من أعوانى في الدعوة إلى الله والتبشير بدينه حتى أبلغ ما كلفنى بتبليغه.قال ابن كثير: وذلك كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر «هل من رجل يؤوينى وينصرني حتى أبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربي» فقيض الله له الأنصار فآووه ونصروه ومنعوه من الأسود والأحمر» .والفاء في قوله فَلَمَّا تؤذن بالتعقيب على الآيات الباهرة. أى أنهم بعد أن رأوا ما رأوا من معجزات عيسى لم يمتثلوا له ولم يتدبروا عاقبة أمرهم بل كذبوه على الفور، وحاولوا قتله تخلصا منه واستمروا على كفرهم.والتعبير بأحس- كما أشرنا من قبل- يشعر بأنه علم منهم الكفر علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس.والمقول لهم مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ هم الحواريون كما يشير إليه قوله- تعالى- في سورة الصف: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وقيل المقول لهم جميع أفراد قومه.وقوله مِنْهُمُ متعلق بأحس. ومن لابتداء الغاية أى ابتداء الإحساس من جهتهم. أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أى أحس الكفر حال كونه صادرا منهم. وقوله إِلَى اللَّهِ متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في أنصارى. أى من أنصارى حال كوني ذاهبا إلى الله أى ملتجئا إليه وشارعا في نصرة دينه.وفي قوله مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ حض لهم على المسارعة إلى نصرة الحق لأنهم لا ينصرونه من أجل متعة زائلة. وإنما هم ينصرونه لأنه يدافع عن دين الله ويبشر به، ومن نصر دين الله، نصره الله تعالى.والآية الكريمة تشير إلى أن الكافرين كانوا هم الكثرة الكاثرة من بنى إسرائيل، بدليل أنه- سبحانه- نسب الكفر إليهم في قوله فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلة غير الظاهرة حتى لكأن عيسى بقوله مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ يبحث عنهم من بين تلك الجموع الكثيرة من الكافرين. وهنا يحكى القرآن أن المؤمنين الصادقين- مع قلتهم- لم يتقاعسوا عن تلبية نداء عيسى- عليه السلام- فقال الله- تعالى- قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ والحواريون جمع حوارى وهم أنصار عيسى الذين آمنوا به وصدقوه، وأخلصوا له ولازموه وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق.يقال فلان حوارى فلان أى خاصه من أصحابه ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الزبير بن العوام:«لكل نبي حوارى وحواريي الزبير» وأصل مادة «حور» هي شدة البياض. أو الخالص من البياض، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق الحوارى. وقالوا في النساء البيض الحواريات والحوريات.وقد سمى- تعالى- أصفياء عيسى وأنصاره بالحواريين لأنهم أخلصوا لله- تعالى نياتهم،وطهرت سرائرهم من النفاق والغش فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص البياض.والمعنى: أن عيسى عليه السلام- لما أحس الكفر من بنى إسرائيل قال لهم من أنصارى إلى الله؟ فأجابه الحواريون الذين آمنوا به وصدقوه وباعوا نفوسهم الله- تعالى-: نحن أنصار الله الذين تبحث عنهم، ونحن الذين سنقف إلى جانبك لنصرة الحق، فقد آمنا بالله إيمانا عميقا، ونريدك أن تشهد على إيماننا هذا، وأن تشهد لنا يا عيسى بأنا مسلمون حين تشهد الرسل لأقوامهم وعليهم.فأنت ترى أن الحواريين لقوة إيمانهم وصفاء نفوسهم قد لبوا دعوة عيسى- عليه السلام- في طلب النصرة دون أن يخشوا أحدا إلا الله.وقولهم- كما حكى القرآن عنهم نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ إشعار بأنهم ما وقفوا بجانب عيسى إلا نصرة لدين الله ودفاعا عن الحق الذي أنزله على رسوله عيسى.وقولهم آمَنَّا بِاللَّهِ جملة في معنى العلة للنصرة أى نحن أنصار الله يا عيسى لأننا آمنا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه هو الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء.وقولهم وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ معطوف على آمنا والشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة فهم يطلبون من عيسى- عليه السلام- أن يكون شاهدا لهم يوم القيامة بأنهم أسلموا وجوههم الله وأخلصوا له العبادة.وأقوالهم هذه التي حكاها القرآن عنهم تدل على أنهم كانوا في الدرجة العليا من قوة الإيمان وصدق اليقين، ونقاء السريرة.
56