سورة البقرة (2): مكتوبة كاملة مع التفسير التحميل

تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة البقرة بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة البقرة مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.

معلومات عن سورة البقرة

سورة البقرة في القرآن الكريم

سورة البقرة هي ثاني سورة من سور القرآن الكريم، وتتألف من 286 آية. تعتبر سورة البقرة من أطول السور في القرآن الكريم، وتحتوي على مواضيع متنوعة تتعلق بالعقيدة والشريعة والأخلاق والتشريعات الاجتماعية.

تتضمن سورة البقرة العديد من الحكم والأوامر الإلهية التي تهدف إلى توجيه الإنسان في حياته وتربيته على القيم الإسلامية. كما تحتوي على قصص وأمثال تعبر عن الحكمة والعبرة للمؤمنين.

من بين المواضيع الرئيسية التي تتناولها سورة البقرة هي الإيمان والتوحيد، والشريعة والأحكام الشرعية، والأخلاق والتربية، والتاريخ الإسلامي والقصص القرآنية.

يعتبر قراءة سورة البقرة والتفكير في مضمونها من الأمور المهمة في الحياة اليومية للمسلم، حيث تحتوي على توجيهات ونصائح تساعد على تحسين الحياة الروحية والاجتماعية.

بالإضافة إلى ذلك، يعتقد الكثيرون أن قراءة سورة البقرة تحمي المنزل وأهله من الشرور والأذى، وتجلب البركة والرزق.

سُورَةُ البَقَرَةِ
الصفحة 34 (آيات من 216 إلى 219)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّوا۟ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَٰعُوا۟ ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُو۟لَٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُوا۟ وَجَٰهَدُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أُو۟لَٰٓئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۞ يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
34

الاستماع إلى سورة البقرة

تفسير سورة البقرة (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي)

الترجمة الإنجليزية

Kutiba AAalaykumu alqitalu wahuwa kurhun lakum waAAasa an takrahoo shayan wahuwa khayrun lakum waAAasa an tuhibboo shayan wahuwa sharrun lakum waAllahu yaAAlamu waantum la taAAlamoona

المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله : { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء } [ البقرة : 214 ] فقد كلفت به الأمم قبلنا ، فقد كلفت بنو إسرائيل بقتال الكنعانيين مع موسى عليه السلام ، وكلفوا بالقتال مع طالوت وهو شاول مع داود ، وكلف ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض .ولفظ { كتب عليكم } من صيغ الوجوب وقد تقدم في آية الوصية . وآل في ( القتال ) للجنس ، ولا يكون القتال إلا للأعداء فهو عام عموماً عرفياً أي كتب عليكم قتال عدو الدين .والخطاب للمسلمين ، وأعداؤهم يومئذ المشركون ، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين ، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون في القتال في أول ظهور الإسلام ، ثم أذن له في ذلك بقوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [ الحج : 39 ] ، ثم نزلت آية قتال المبادئين بقتال المسلمين في قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } [ البقرة : 190 ] كما تقدم آنفاً .هذه الآية نزلت في واقعة سرية عبد الله بن جَحش كما يأتي ، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة ، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله : { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] ، { كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] ، { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } [ البقرة : 180 ] . فعلى المختار يكونُ قوله : { كتب عليكم القتال } خبراً عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله { وهو كره لكم } الآية ، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده ، أو إنشاءً أُنُفاً لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } إذْن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له .وقوله : { وهو كره لكم } ، حال لازمة وهي يجوز اقترانها بالواو ، ولك أن تجعلها جملة ثانية معطوفة على جملة : { كُتب عليكم القتال } ، إلا أن الخبر بهذا لما كان معلوماً للمخاطبين تعين أن يكون المراد من الإخبار لازم الفائدة ، أعني كتبناه عليكم ونحن عالمون أنه شاق عليكم ، وربما رجح هذا الوجه بقوله تعالى بعد هذا : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .والكره بضم الكاف : الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ومثله الكَره بالفتح على الأصح ، وقيل : الكُره بالضم المشقة ونفرة الطبع ، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل مَّا بأذى أو مشقة ، وحيث قُرىء بالوجهين هنا وفي قوله تعالى : { حملته أمه كرها ووضعته كرها } [ الأحقاف : 15 ] ولم يكن هنا ولا هنا لك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال الحماسي العُقَيلي: ... بكُره سراتنا يا آل عمرونُغاديكم بمُرْهَفَة النِّصَال ...رووه بضم الكاف وبفتحها .على أن قوله تعالى بعد ذلك { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } الوارد مورد التذييل : دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئياً من جزئيات أن تكرهوا شيئاً .وقد تحمل صاحب «الكشاف» لحمل المفتوح في هذه الآية والآية الأخرى على المجاز ، وقرره الطيبي والتفتازاني بما فيه تكلف ، وإذ هو مصدر فالإخبار به مبالغة في تمكن الوصف من المخبر عنه كقول الخنساء: ... فإنما هي إقْبَالٌ وإدْبَارأي تُقبل وتُدبر .وقيل : الكُره اسم للشيء المكروه كالخبز . فالقتال كريه للنفوس ، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذَّاته ونومه وطعامه وأهله وبيته ، ويلجىءُ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح ، ولكن فيه دفع المذلَّة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم ، وفي الحديث " لا تَمَنَّوْا لِقَاء العدوّ فإذا لقيتم فاصبروا " وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم قال العُقَيلي: ... ونَبِكي حينَ نَقتُلكم عليكمونَقتلكم كأنَّا لا نُبالي ... ومعلوم أن كراهية الطبع الفعلَ لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة .ثم إن كانت الآية خبراً عن تشريع مضى ، يحتمل أن تكون جملة { وهو كره } حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلاً عليهم ، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم ، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال ، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية ، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كَرِهوا الصلح واستحبوا القتال ، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيراً لهم بأن الله أعلم بمصالحهم ، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال ، فحذف ذلك لقرينة المقام ، والمقصود الإفضاء إلى قوله : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم ، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ، ويكون في الآية احتباك ، إذ الكلام على القتال ، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حِبٌّ لكم ، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم ، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح الحديبية ، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبه : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } [ البقرة : 217 ] .وقوله : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشيء عن قوله : { كتب عليكم القتال وهو كُره لكم } ، لأنه إذا كان مكروهاً فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك .وجملة { وعسى } معطوفة على جملة { كتب عليكم القتال } ، وجملة { وهو خير لكم } : حالية من { شيئاً } على الصحيح من مجيء الحال من النكرة ، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين ، وإن كان سبحانه غنياً عن البيان والتعليل ، لأنه يأمر فيُطاع ، ولكن في بيان الحكمة تخفيفاً من مشقة التكليف ، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد ، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته ، إذ يكره الطبع شيئاً وفيه نفعه وقد يحب شيئاً وفيه هلاكه ، وذلك باعتبار العواقب والغايات ، فإن الشيء قد يكون لذيذاً ملائماً ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك ، وقد يكون كريهاً منافراً وفي ارتكابه صلاح . وشأن جمهور الناس الغفلة عن العاقبة والغاية أو جهلهما ، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب .فإن قلت : ما الحكمة في جعل أشياء كثيرةٍ نافعةٍ مكروهةً ، وأشياء كثيرةٍ ضارةٍ محبوبةً ، وهلا جعل الله تعالى النَّافعَ كلَّه محبوباً والضار كلَّه مكروهاً فتنساقَ النفوسُ للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنُكفى كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال؟ .قلت : إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث ، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خِلْقِه الإنسانَ صالحاً للأمرين وأَراه طريقي الخير والشر كما قدمناه عند قوله تعالى : { كان الناس أمة واحدة } [ البقرة : 213 ] ، وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كَوَّنه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى : { فيه بأس شديد ومنافع للناس } [ الحديد : 25 ] ، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات ، وجعل الكمال الإنساني حاصلاً عند حصول جميع الصفات النافعة فيه ، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقيةُ الصفات النافعة منه أو اضمحلت ، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتِبُ النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه ، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسَب الناسُ وفعلوا قال تعالى : { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } ( 100 ) .وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال ، وأُحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب ، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتِبُ الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال أبو الطيب: ... ولا فضل فيها للشجاعة والندىوصبرِ الفتى لولا لقاء شَعُوب ...فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس .ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو المعبر عنه بالازدواج ، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال تعالى : { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [ الرعد : 3 ] وأما حصوله في المعاني ، فإنما يكون بحصول الصفة من بين معنيي صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة .والفضائل جعلت متولدة من النقائص؛ فالشجاعةُ من التهور والجبننِ ، والكرمُ من السرف والشح ، ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه ، لأنه يكون أقل من الثلث ، إذ ليس كلَّما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة ، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تينك الصفتين المتضادتين وذلك عزيز الحصول ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات ، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها .ووراء ذلك فالله حدد للناس نظاماً لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله ، فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال : «الدنيا مزرعة الآخرة» وبهذا تكمل نظرية النقض الذي نقض به الشيخ الأشعري على شيخه الجبائي أصلهم في وجوب الصلاح والأصلح فيكون بحث الأشعري نقضاً وكلامنا هذا سَنَداً وانقلاباً إلى استدلال .وجملة { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } تذييل للجميع ، ومفعولا { يعلم } و { تعلمون } محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما ، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعاً والمنافر ضاراً .والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير ، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فتطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها ، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة ، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه .

الترجمة الإنجليزية

Yasaloonaka AAani alshshahri alharami qitalin feehi qul qitalun feehi kabeerun wasaddun AAan sabeeli Allahi wakufrun bihi waalmasjidi alharami waikhraju ahlihi minhu akbaru AAinda Allahi waalfitnatu akbaru mina alqatli wala yazaloona yuqatiloonakum hatta yaruddookum AAan deenikum ini istataAAoo waman yartadid minkum AAan deenihi fayamut wahuwa kafirun faolaika habitat aAAmaluhum fee alddunya waalakhirati waolaika ashabu alnnari hum feeha khalidoona

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَمن أهم تفاصيل الأحوال في القتال الذي كتب على المسلمين في الآية قبل هذه أن يعلموا ما إذا صادف القتال بينهم وبين المشركين الأشهرَ الحرمَ إذ كان محجراً في العرب من عهد قديم ، ولم يذكر الإسلام إبطال ذلك الحجر؛ لأنه من المصالح قال تعالى { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام يَسْھَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ المائدة : 97 ] فكان الحال يبعث على السؤال عن استمرار حرمة الشهر الحرام في نظر الإسلام .روى الواحدي في «أسباب النزول» عن الزهري مرسلاً وروى الطبري عن عروة بن الزبير مرسلاً ومطوَّلاً ، أن هذه الآية نزلت في شأن سَريَّة عبد الله بن جَحْش ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في ثمانية من أصحابه يتلقّى عيراً لقريش ببطن نَخْلَةَ في جمادى الآخرة في السنة الثانية من الهجرة ، فلقي المسلمون العير فيها تجارة من الطائف وعلى العير عمرو بن الحَضْرَمِيِّ ، فقتل رجل من المسلمين عَمْراً وأسر اثنين من أصحابه وهما عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وفر منهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وغنم المسلمون غنيمة ، وذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فعظم ذلك على قريش وقالوا : استحل محمد الشهر الحرام وشنعوا ذلك فنزلت هذه الآية . فقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليهم الغنيمة والأسيرين ، وقيل : رد الأسيرين وأخذ الغنيمة .فإذا صح ذلك كان نزول هذه الآية قبل نزول آية { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [ البقرة : 216 ] وآية { وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم } [ البقرة : 190 ] بمدة طويلة فلما نزلت الآيتان بعد هذه ، كان وضعهما في التلاوة قبلها بتوقيف خاص لتكون هذه الآية إكمالاً لما اشتملت عليه الآيتان الأخريان ، وهذا له نظائر في كثير من الآيات باعتبار النزول والتلاوة . والأظهر عندي أن هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها وأنها تكملة وتأكيد لآية { الشهر الحرام بالشهر الحرام } [ البقرة : 194 ] .والسؤال المذكور هنا هو سؤال المشركين النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحديبية ، هل يقاتل في الشهر الحرام كما تقدم عند قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } . وهذا هو المناسب لقوله هنا { وصد عن سبيل الله } إلخ وقيل : سؤال المشركين عن قتال سرية عبد الله بن جحش . فالجملة استئناف ابتدائي ، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام ومناسبة موقعها عقب آية { كتب عليكم القتال } [ البقرة : 216 ] ظاهرة .والتعريف في ( الشهر الحرام ) تعريف الجنس ، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في قوله : { قتال فيه } ، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة ، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله ( فيه ) يجعلها في قوة المعرفة .فالمراد بيان أيِّ شهر كان من الأشهر الحُرم وأيِّ قتال ، فإن كان السؤال إنكارياً من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر ، وإن كان استفساراً من المسلمين فكذلك ، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر ، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهْوَ لا يختص بشهر دون شهر .وإنما اختير طريق الإبدال هنا وكان مقتضى الظاهر أن يقال : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام لأَجل الاهتمام بالشهر الحرام تنبيهاً على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال؟ لاَ لأَجل القتال هل يقع في الشهر وهما متآيلان ، لكن التنقديم لقضاء حق الاهتمام ، وهذه نكتة لإبدال عطففِ البيان تنفع في مواقع كثيرة ، على أن في طريق بدل الاشتمال تشويقاً بارتكاب الإجمال ثم التفصيل .وتنكير ( قتال ) مراد به العموم ، إذ ليس المسؤول عنه قتالاً معيناً ولا في شهر معين ، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس . و ( فيه ) ظرف صفة لقتال مخصصة له .وقوله : { قل قتال فيه كبير } إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحاً حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير ، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ ، وإنما لم يعرف لفظ القتال ثانياً باللام مع تقدم ذكره في السؤال ، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب وهو ظرف ( فيه ) ، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها إلاّ التنصيصَ على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها ، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد ، قال التفتازاني : فالمسؤول عنه هو المجاب عنه وليس غيره كما توهم بناء على أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، لأن هذا ليس بضربة لازم يريد أن ذلك يتبع القرائن .والجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين ، واعتراف وإبكات إن كان السؤال إنكاراً من المشركين ، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيثَوِّروا بذلك العرب ومن في قلبه مرض .والكبير في الأصل هو عظيم الجثة من نوعه ، وهو مجاز في القوى والكثير والمسن والفاحش ، وهو استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس ، شبه القوي في نوعه بعظيم الجثة في الأفراد ، لأنه مألوف في أنه قوى ، وهو هنا بمعنى العظيم في المآثم بقرينة المقام ، مثل تسمية الذنب كبيرة ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « وما يعذَّبان في كبير وإنه لكبير » الحديثَ .والمعنى أن القتال في الأشهر الحرم إثم كبير ، فالنكرة هنا للعموم بقرينة المقام ، إذ لا خصوصية لقتال قوم دون آخرين ، ولا لقتل في شهر دون غيره ، لا سيما ومطابقة الجواب للسؤال قد أكدت العموم ، لأن المسؤول عنه حُكْم هذا الجنس وهو القتال في هذا الجنس وهو الشهر الحرام من غير تفصيل ، فإن أجدر أفراد القتال بأن يكون مباحاً هو قتالنا المشركين ومع ذلك فهو المسؤول عنه وهو الذي وقع التحرج منه ، أما تقاتل المسلمين فلا يختص إثمه بوقوعه في الشهر الحرام ، وأما قتال الأمم الآخرين فلا يخطر بالبال حينئذٍ .والآية دليل على تحريم القتال في الأشهر الحُرم وتقرير لما لتلك الأشهر من الحرمة التي جعلها الله لها منذ زمن قديم ، لعله من عهد إبراهيم عليه السلام فإن حرمة الزمان تقتضي ترك الإثم في مُدَّته .وهذه الأشهر هي زمن للحج ومقدماته وخواتمه وللعمرة كذلك فلو لم يحرم القتال في خلالها لتعطل الحج والعمرة ، ولذلك أقرها الإسلام أيام كان في بلاد العرب مشركون لفائدة المسلمين وفائدة الحج ، قال تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } [ المائدة : 97 ] الآية .وتحريم القتال في الشهر الحرام قد خصص بعد هذه الآية ثم نسخ ، فأما تخصيصه فبقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عن ، المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه إلى قوله : الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } [ البقرة : 191 ، 194 ] . وأما نسخة فبقوله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عهدتم من المشركين ، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر إلى قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 1 ، 5 ] فإنها صرحت بإبطال العهد الذي عاهد المسلمون المشركين على الهدنة ، وهو العهد الواقع في صلح الحديبية؛ لأنه لم يكن عهداً مؤقتاً بزمن معين ولا بالأبد ، ولأن المشركين نكثوا أيمانهم كما في الآية الأخرى : { ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول } [ التوبة : 13 ] . ثم إن الله تعالى أَجَّلهم أجلاً وهو انقضاء الأشهر الحرم من ذلك العام وهو تسعة من الهجرة في حجة أبي بكر بالناس ، لأن تلك الآية نزلت في شهر شوال وقد خرج المشركون للحج فقال لهم { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } فأخرها آخر المحرم من عام عشرة من الهجرة ، ثم قال : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } أي تلك الأشهر الأربعة { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } فنسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم ، لأن المشركين جمع معرف بلام الجنس وهو من صيغ العموم وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة على التحقيق ، ولذلك قاتل النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفاً في شهر ذي القعدة عقب فتح مكة كما في كتب الصحيح . وأغزى أبا عامر إلى أَوْطاسَ في الشهر الحرام ، وقد أجمع المسلمون على مشروعية الغزو في جميع أشهر السنة يغزون أهل الكتاب وهم أولى بالحرمة في الأشهر الحرم من المشركين .فإن قلت : إذا نُسخ تحريم القتال في الأشهر الحُرم فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع « إن دِماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حَرام كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا »فإن التشبيه يقتضي تقرير حُرمة الأشهر . قلت : إن تحريم القتال فيها تَبَع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها . والقتال الظلمُ محرم في كل وقت ، والقتال لأجل الحق عبادة فنُسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم .وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة ، إذ العمرة أكثرها في رجب ولذلك قال : { قتال فيه كبير } واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي صلى الله عليه وسلم الحجَّ على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة ، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال في الأشهر الحرم؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة . وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلاّ للمسلمين وهم لا قتال بينهم ، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج ، فتسميته نسخاً تسامح ، وإنما هو انتهاء مورد الحكم ، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين ، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الأشهر الحرم في خطبته ، وقد تعطل حينئذٍ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم ، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج . فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلَّفة قلوبهم من مصارف الزكاة بالإجماع لانقراضهم .إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكَّتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو ، فإن المشركين استعظموا فعلاً واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه ، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرام ليس لذات الأشهر ، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة ، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه ، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها ، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتل في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتيَّة بصد المسلمين ، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حراماً وحَرَّم لأجل حجها الأشهرَ الحرم ، وأخرجوا أهل الحرم منه ، وآذوهم ، لأحْرِياء بالتحميق والمذمة ، لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعاً لغيرها . وقد قال الحسن البصري لرجل من أهل العراق جاء يسأله عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل ينجسه ، وكان ذلك عقب مقتل الحسين بن عليّ رضي الله عنهما «عجباً لكم يا أهل العراق تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البعوض» .ويحق التمثل هنا بقول الفرزدق: ... أَتَغضَبُ إِنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتاجِهارا ولم تغضَبْ لقتل ابن خازم ... والمعنى أن الصد وما عطف عليه من أفعال المشركين أكبر إثماً عند الله من إثم القتال في الشهر الحرام .والعندية في قوله : { عند الله } عندية مجازية وهي عندية العِلم والحُكم .والتفضيل في قوله : { أكبر } : تفضيل في الإثم أي كل واحد من تلك المذكورات أعظم إثماً .والمراد بالصد عن سبيل الله : منع من يريد الإسلام منه ونظيره قوله تعالى : { توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به } [ الأعراف : 86 ] .والكفر بالله : الإشراك به بالنسبة للمشركين وهم أكثر العرب ، وكذلك إنكار وجوده بالنسبة للدهريين منهم ، وتقدم الكلام عن الكفر وضابطه عند قوله تعالى : { إن الذين كفروا سواء عليهم } [ البقرة : 6 ] إلخ .وقوله { به } الباء فيه لتعدية { كُفْر } وليست للظرفية والضمير المجرور بالباء عائد إلى اسم الجلالة .و { كُفر } معطوف على { صد } أي صد عن سبيل الله وكفر بالله أكبر من قتال الشهر الحرام وإن كان القتال كبيراً .و ( المسجد الحرام ) معطوف على ( سبيل الله ) فهو متعلق ب ( صد ) تبعاً لتعلق متبوعه به .وعلم أن مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال : وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله ، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها ، بأن قُدم قوله ( وكفر به ) فجعل معطوفاً على ( صد ) قبل أن يستوفَى صد ما تعلق به وهو ( والمسجِد الحرام ) فإنه معطوف على ( سبيل الله ) المتعلق ب ( صد ) إذ المعطوف على المتعلَّق متعلِّقٌ فهو أولى بالتقديم من المعطوف على الاسم المتعلَّق به ، لأن المعطوف على المتعلَّق به أجنبي عن المعطوف عليه ، وأما المعطوف على المتعلِّق فهو من صلة المعطوف عليه ، والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم ، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام ، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهمِّ فالأهمِّ ، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة؛ لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم ، وجحد لرسالة رسول الله ، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم { أجعل الآلهة إلهاً وَاحداً إنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجاب } [ ص : 5 ] فليس الكفر بالله إلا ركناً من أركان الصد عن الإسلام فلذلك قدم الصد عن سبيل الله ثم ثنَّى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دَلَّ عليه الصدُّ عن سبيل الله بدلالة التضمن ، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام ثم إخراج أهله منه . ولا يصح أن يكون «والمسجد الحرام» عطفاً على الضمير في قوله ( به ) لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام فإن الكفر يتعدى إلى ما يُعبد ومَا هو دين وما يتضمن ديناً ، على أنهم يعظمون المسجد الحرام ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز .وقوله : { وإخراج أهله منه } أي إخراج المسلمين من مكة؛ فإنهم كانوا حول المسجد الحرام؛ لأن في إخراجهم مظالم كثيرة فقد مرض المهاجرون في خروجهم إلى المدينة ومنهم كثير من أصابته الحمى حتى رفعت من المدينة ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على أن التفضيل إنما تعلق بوقوع القتال في الأشهر الحرم لا بنفس القتل فإن له حكماً يخصه .والأهل : الفريق الذين لهم مزيد اختصاص بما يضاف إليه اللفظ ، فمنه أهل الرجل عشيرته ، وأهل البلد المستوطنون به ، وأهل الكرم المتصفون به ، أراد به هنا المستوطنين بمكة وهم المسلمون ، وفيه إيماء إلى أنهم أحق بالمسجد الحرام ، لأنهم الذين اتبعوا ملة من بنى المسجد الحرام قال تعالى : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } [ الأنفال : 34 ] .وقوله : { والفتنة أكبر من القتل } تذييل مسوق مساق التعليل ، لقوله : { وإخراج أهله منه } ؛ وإذ قد كان إخراج أهل الحرم منه أكبر من القتل؛ كان ما ذكر قبله من الصد عن الدِّين والكفر بالله والصد عن المسجد الحرام أكبر بدلالة الفحوى ، لأن تلك أعظم جرماً من جريمة إخراج المسلمين من مكة .والفتنة : التشغيب والإيقاع في الحيرة واضطراب العيش فهي اسم شامل لما يعظم من الأذى الداخل على أحد أو جماعة من غيرهم ، وأريد بها هنا ما لقيه المسلمون من المشركين من المصائب في الدين بالتعرض لهم بالأذى بالقول والفعل ، ومنعهم من إظهار عبادتهم ، وقطيعتهم في المعاملة ، والسخرية بهم والضرب المدمي والتمالىء على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم والإخراج من مكة ومنع من أموالهم ونسائهم وصدهم عن البيت ، ولا يخفى أن مجموع ذلك أكبر من قتل المسلمين واحداً من رجال المشركين وهو عَمرو الحضرمي وأسِرهم رجلين منهم .و ( أكبر ) أي أشد كِبَراً أي قوة في المحارم ، أي أكبر من القتل الذي هو في الشهر الحرام كبير .جملة معترضة دعا إلى الاعتراض بها مناسبة قوله : { والفتنة أكبر من القتل } لما تضمنته من صدور الفتنة من المشركين على المسلمين وما تتضمنه الفتنة من المقاتلة التي تداولَها المسلمون والمشركون . إذ القتال يشتمل على أنواع الأذى وليس القتل إلاّ بعض أحوال القتال ألا ترى إلى قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [ الحج : 39 ] فسمى فعل الكفار مع المسلمين مقاتلة وسمى المسلمين مقاتَلين بفتح التاء ، وفيه إعلام بأن المشركين مضمرون غزو المسلمين ومستعدون له وإنما تأخروا عنه بعد الهجرة ، لأنهم كانوا يقاسون آثار سني جدب فقوله { لا يزالون } وإن أشعر أن قتالهم موجود فالمراد به أسباب القتال ، وهو الأذى وإضمار القتال كذلك ، وأنّهم إن شرعوا فيه لا ينقطعون عنه ، على أن صريح لا يزال الدلالة على أن هذا يدوم في المستقبل ، و ( حتى ) للغاية وهي هنا غاية تعليلية .والمعنى : أن فتنتهم وقتالهم يدوم إلى أن يحصل غرضهم وهو أن يردوكم عن دينكم .وقوله : { إن استطعوا } تعريض بأنهم لا يستطيعون رد المسلمين عن دينهم ، فموقع هذا الشرط موقع الاحتراس مما قد تُوهِمُه الغاية في قوله : { حتى يردوكم عن دينكم } ولهذا جاء الشرط بحرف ( إن ) المشعر بأن شرطه مرجو عدم وقوعه .والرد : الصرف عن شيء والإرجاع إلى ما كان قبل ذلك ، فهو يتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما زاد على المفعول بإلى وعَن ، وقد حذف هنا أحد المتعلِّقين وهو المتعلق بواسطة إلى لظهور أنهم يقاتلونهم ليردوهم عن الإسلام إلى الشرك الذي كانوا عليه ، لأن أهل كل دين إذا اعتقدوا صحة دينهم حرصوا على إدخال الناس فيه قال تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [ البقرة : 120 ] ، وقال : { ودوا لو تكفرون كما كفروا } [ النساء : 89 ] .وتعليق الشرط بإن للدلالة على أن استطاعتهم ذلك ولو في آحاد المسلمين أمر مستبعدُ الحصول لقوة إيمان المسلمين فتكون محاولة المشركين ردَّ واحد من المسلمين عناء باطلاً .اعتراض ثان ، أو عطف على الاعتراض الذي قبله ، والمقصدُ منه التحذير ، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقَّبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين ، أعقبه بالتحذير منه ، وجيء بصيغة { يرتدد } وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قُدر حصوله لا يكون إلاّ عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلاّ بعناء ، ولم يلاحظ المفعول الثاني هنا؛ إذ لا اعتبار بالدين المرجوع إليه وإنما نيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أيِّ دين ومن يومئذٍ صار اسم الردة لقباً شرعياً على الخروج من دين الإسلام وإن لم يكن في هذا الخروج رجوع إلى دين كان عليه هذا الخارج .وقوله ( فَيمُتْ ) معطوف على الشرط فهو كشرط ثان .وفعل حبط من باب سمع ويتعدى بالهمزة ، قال اللغويون أصله من الحبط بفتح الباء وهو انتفاخ في بطون الإبل من كثرة الأكل فتموت من ذلك ، فإطلاقه على إبطال الأعمال تمثيل؛ لأن الإبل تأكل الخضر شهوة للشبع فيئول عليها بالموت ، فشبه حال من عمل الأعمال الصالحة لنفعها في الآخرة فلم يجد لها أثراً بالماشية التي أكلت حتى أصابها الحبط ، ولذلك لم تقيد الأعمال بالصالحات لظهور ذلك التمثيل .وحَبَطُ الأعمال : زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعاً ، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله : { في الدنيا والآخرة } .فالآثار التي في الدنيا هي ما يترتب على الإسلام من خصائص المسلمين وأولها آثار كلمة الشهادة من حُرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليه بعد الموت والدفن في مقابر المسلمين .وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخُوَّة التي بين المهاجرين والأنصار وولاء الإسلام وآثار الحقوق مثل حق المسلمين في بيت المال والعطاء وحقوق التوارث والتزويج فالولايات والعدالة وما ضمنه الله للمسلمين مثل قوله : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] .وأما الآثار في الآخرة فهي النجاة من النار بسبب الإسلام وما يترتب على الأعمال الصالحات من الثواب والنعيم .والمراد بالأعمال : الأعمال التي يتقربون بها إلى الله تعالى ويرجون ثوابها بقرينة أصل المادة ومقام التحذير؛ لأنه لو بطلت الأعمال المذمومة لصار الكلام تحريضاً ، وما ذكرت الأعمال في القرآن مع حبطت إلاّ غير مقيدة بالصالحات اكتفاء بالقرينة .وقوله : { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } عطف على جملة الجزاء على الكفر ، إذ الأمور بخواتمها ، فقد ترتب على الكفر أمران : بطلان فضل الأعمال السالفة ، والعقوبة بالخلود في النار ، ولكون الخلود عقوبة أخرى أعيد اسم الإشارة في قوله : { وأولئك أصحاب النار } .وفي الإتيان باسم الإشارة في الموضعين التنبيه على أنهم أحرياء بما ذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة .هذا وقد رتب حبط الأعمال على مجموع أمرين الارتداد والموت على الكفر ، ولم يقيد الارتداد بالموت عليه في قوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقط حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } [ المائدة : 5 ] وقوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } [ الزمر : 65 ] وقوله : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 88 ] .وقد اختلف العلماء في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته ورجع إلى الإسلام ، فعند مالك وأبي حنيفة أن من ارتد من المسلمين ثم عاد إلى الإسلام وتاب لم ترجع إليه أعماله التي عملها قبل الارتداد فإن كان عليه نذور أو أيمان لم يكن عليه شيء منها بعد عودته إلى الإسلام ، وإن كان حج قبل أن يرتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحج ولا يؤخذ بما كان عليه زمن الارتداد إلاّ ما لو فعله في الكفر أخذ به . وقال الشافعي إذا عاد المرتد إلى الإسلام عادت إليه أعماله كلها ما له وما عليه .فأما حجة مالك فقال ابن العربي قال علماؤنا إنما ذكر الله الموافاة ( ) شرطاً ههنا ، لأنه عَلَّق الخلود في النار عليها فمن أوفى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية ، ومن أَشرك حبط عمله بالآية الأخرى فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين اه يريد أن بين الشرطين والجوابين هنا توزيعاً فقوله : { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } جواب لقوله : { ومن يرتدد منكم عن دينه } . وقوله : { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } جواب لقوله : { فيمت وهو كافر } ، ولعل في إعادة { وأولئك } إيذاناً بأنه جواب ثان ، وفي إطلاق الآي الأخرى عن التقييد بالموت على الكفر قرينة على قصد هذا المعنى من هذا القيد في هذه الآية .وفي هذا الاستدلال إلغاء لقاعدة حمل المطلق على المقيد ، ولعل نظر مالك في إلغاء ذلك أن هذه أحكام ترجع إلى أصول الدين ولا يكتفى فيها بالأدلة الظنية ، فإذا كان الدليل المطلق يحمل على المقيد في فروع الشريعة فلأَنه دليل ظني ، وغالب أدلة الفروع ظنية ، فأما في أصول الاعتقاد فأخَذَ من كل آية صريحَ حكمها ، وللنظر في هذا مجال ، لأن بعض ما ذكر من الأعمال راجع إلى شرائع الإسلام وفروعه كالحج .والحجة للشافعي إعمال حمل المطلق على المقيد كما ذكره الفخر وصوبه ابن الفرس من المالكية .فإن قلت فالعمل الصالح في الجاهلية يقرره الإسلام فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحِكيم بن حزام " أسْلَمْتَ على ما أسلمتَ عليه من خير " فهل يكون المرتد عن الإسلام أقلَّ حالاً من أهل الجاهلية؟ فالجواب أن حالة الجاهلية قبل مجيء الإسلام حالة خُلُو عن الشريعة فكان من فضائل الإسلام تقريرها .وقد بني على هذا خلاف في بقاء حكم الصحبة للذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا إلى الإسلام مثل قُرة بن هبيرة العامري ، وعلقمة بن عُلاثة ، والأشعث بن قيس ، وعيينَةَ بن حصن ، وعَمْرو بن معديكرب ، وفي «شرح القاضي زكريا على ألفية العراقي» : وفي دخول من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مُسلماً ثم ارتدَّ ثم أسلَم بعد وفاة الرسول في الصحابة نظر كبير اه قال حُلولو في «شرح جمع الجوامع» ولو ارتد الصحابي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإيمان بعد وفاته جرى ذلك على الخلاف في الردة ، هل تحبط العمل بنفس وقوعها أو إنما تحبطه بشرط الوفاة عليها ، لأن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم فضيلة عظيمة ، أما قبول روايته بعد عودته إلى الإسلام ففيها نظر ، أما من ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإسلام في حياته وصَحِبه ففضل الصحبة حاصل له مثل عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح .فإن قلت : ما السر في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية مع خلو بقية نظائرها عن ثاني الشرطين ، قلت : تلك الآي الأخر جاءت لتهويل أمر الشرك على فرض وقوعه من غير معين كما في آية { ومن يكفر بالإيمان } [ المائدة : 5 ] أو وقوعه ممن يستحيل وقوعه منه كما في آية : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 88 ] وآية { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] فاقتصر فيها على ما ينشأ عن الشرك بعد الإيمان من حبْط الأعمال ، ومن الخسارة بإجمال ، أما هذه الآية فقد وردت عقب ذكر محاولة المشركين ومعالجتهم ارتدادَ المسلمين المخاطبين بالآية ، فكان فرض وقوع الشرك والارتداد منهم أقرب ، لمحاولة المشركين ذلك بقتال المسلمين ، فذكر فيها زيادة تهويل وهو الخلود في النار .وكانت هذه الآية من دلائل النبوة ، إذا وقع في عام الردة ، أن من بقي في قلبهم أثر الشرك حاولوا من المسلمين الارتداد وقاتلوهم على ذلك فارتد فريق عظيم وقام لها الصديق رضي الله عنه بعزمه ويقينه فقاتلهم فرجع منهم من بقي حياً ، فلولا هذه الآية لأَيسوا من فائدة الرجوع إلى الإسلام وهي فائدة عدم الخلود في النار .وقد أشار العطف في قوله : { فيمت بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أن الموت يعقب الارتداد وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد فيعلم السامع حينئذٍ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية ، فتكون الآية بها دليلاً على وجوب قتل المرتد .وقد اختلف في ذلك علماء الأمة فقال الجمهور يستتاب المرتد ثلاثة أيام ويسجن لذلك فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب قُتل كافراً وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه سواء كان رجلاً أو امرأة ، وقال أبو حنيفة في الرجل مثلَ قولهم ، ولم ير قتل المرتدة بل قال تسترق ، وقال أصحابه تحبس حتى تُسلم ، وقال أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وطاووس وعبيد الله بن عمرو وعبد العزيز بن الماجشون والشافعي يقتل المرتد ولا يستتاب ، وقيل يستتاب شهراً .وحجة الجميع حديث ابن عباس مَن بدل دينه فاقتلوه وفعلُ الصحابة فقد قاتل أبوبكر المرتدين وأحرق علي السبائيَّة الذين ادَّعَوْا ألوهية عليّ ، وأجمعوا على أن المراد بالحديث مَن بدل دينه الذي هو الإسلامْ ، واتفق الجمهور على أن ( مَنْ ) شاملة للذكر والأنثى إلاّ من شذ منهم وهو أبو حنيفة وابن شُبرمة والثوري وعطاء والحسن القائلون لا تُقتل المرأة المرتدة واحتجوا بنَهي رسول الله عن قتل النساء فخصوا به عمومَ مَن بَدَّل دينه ، وهو احتجاج عجيب ، لأن هذا النهي وارد في أحكام الجهاد ، والمرأةُ من شأنها ألا تقاتل ، فإنه نهي أيضاً عن قتل الرهبان والأحبار أفيقول هؤلاء : إن من ارتد من الرهبان والأحبار بعد إسلامه لا يقتل؟وقد شدد مالك وأبو حنيفة في المرتد بالزندقة أي إظهار الإسلام وإبطال الكفر فقالا : يقتل ولا تقبل توبته إذا أُخذ قبل أن يأتي تائباً .ومن سبَّ النبي قُتِل ولا تُقبل توبته .هذا ، واعلم أن الردة في الأصل هي الخروج من عقيدة الإسلام عند جمهور المسلمين؛ والخروجُ من العقيدة وتركُ أعمال الإسلام عند الخوارج وبعض المعتزلة القائلين بكفر مرتكب الكبيرة ، ويدل على خروج المسلم من الإسلام تصريحه به بإقراره نصّاً أو ضمناً فالنص ظاهر ، والضمن أن يأتي أحد بلفظ أو فعل يتضمن ذلك لا يحتمل غيره بحيث يكون قد نص الله ورسوله أو أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلاّ عن كافر مثل السجود للصنم ، والتردد إلى الكنائس بحالة أصحاب دينها .وألحقوا بذلك إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به ، أي ما كان العلم به ضرورياً قال ابن راشد في الفائق } «في التكفير بإنكار المعلوم ضرورةً خلاف» . وفي ضبط حقيقته أنظار للفقهاء محلها كتب الفقه والخلاف .وحكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدينَ وجدَه غير صالح ووجد ما كان عليه قبلَ ذلك أصلحَ فهذا تعريض بالدين واستخفاف به ، وفيه أيضاً تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة ، فلو لم يُجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئاً زاجراً مثل توقع الموت ، فلذلك جُعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلاّ على بصيرة ، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه ، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى : { لا إكراه في الدين } [ البقرة : 256 ] على القول بأنها غير منسوخة ، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام .

الترجمة الإنجليزية

Inna allatheena amanoo waallatheena hajaroo wajahadoo fee sabeeli Allahi olaika yarjoona rahmata Allahi waAllahu ghafoorun raheemun

قال الفخر : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان ، أحدهما : أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا ، فهل نطمع منه أجراً أو ثواباً؟ فنزلت هذه الآية؛ لأن عبد الله كان مؤمناً ومهاجراً وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهداً ( يعني فتحققت فيه الأوصاف الثلاثة ) . الثاني : أنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله : { كتب عليكم القتال } [ البقرة : 216 ] أَتبع ذلك بذكر من يقول به اه ، والذي يظهر لي أن تعقيب ما قبلها بها من باب تعقيب الإنذار بالبشارة وتنزيه للمؤمنين من احتمال ارتدادهم فإن المهاجرين لم يرتد منهم أحد . وهذه الجملة معترضة بين آيات التشريع .و ( الذين هاجروا ) هم الذين خرجوا من مكة إلى المدينة فراراً بدينهم ، مشتق من الهَجْر وهو الفراق ، وإنما اشتق منه وزن المفاعلة للدلالة على أنه هجر نشأ عن عداوة من الجانبين فكل من المنتقِل والمنتقَل عنه قد هجر الآخر وطلب بُعده ، أو المفاعلة للمبالغة كقولهم : عافاك الله فيدل على أنه هجر قوماً هَجراً شديداً ، قال عبدة بن الطيب: ... إنَّ التي ضَرَبَتْ بيتاً مُهاجَرَةًبكوفةِ الجند غَالت وُدَّها غول ... والمجاهدة مفاعلة مشتقة من الجَهْد وهو المشقة وهي القتال لما فيه من بذل الجهد كالمفاعلة للمبالغة ، وقيل : لأنه يضم جُهده إلى جُهد آخر في نصر الدين مثل المساعدة وهي ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر للإعانة والقوة ، فالمفاعلة بمعنى الضم والتكرير ، وقيل : لأن المجاهِد يبذل جهده في قتال من يبذل جهده كذلك لقتاله فهي مفاعلة حقيقية .و ( في ) للتعليل .و ( سبيل الله ) ما يوصل إلى رضاه وإقامةِ دينه ، والجهاد والمجاهدة من المصطلحات القرآنية الإسلامية .وكرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء . وجيء باسم الإشارة للدلالة على أن رجاءهم رحمةَ الله لأجل إيمانهم وهجرتهم وجهادهم ، فتأكد بذلك ما يدل عليه الموصول من الإيماء إلى وجه بناءِ الخبر ، وإنما احتيج لتأكيده لأن الصلتين لما كانتا مما اشتهر بهما المسلمون وطائفة منهم صارتا كاللقب؛ إذ يطلق على المسلمين يومئذٍ في لسان الشرع اسم الذين آمنوا كما يطلق على مسلمي قريش يومئذٍ اسم المهاجرين فأكد قَصدُ الدلالة على وجه بناء الخبر من الموصول .والرجاء : ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله ، فإن وعد الله وإن كان لا يخلف فضلاً منه وصدقاً ، ولكن الخواتم مجهولة ومصادفة العمل لمراد الله قد تفوت لموانع لا يدريها المكلف ولئلا يتكلوا في الاعتماد على العمل .

الترجمة الإنجليزية

Yasaloonaka AAani alkhamri waalmaysiri qul feehima ithmun kabeerun wamanafiAAu lilnnasi waithmuhuma akbaru min nafAAihima wayasaloonaka matha yunfiqoona quli alAAafwa kathalika yubayyinu Allahu lakumu alayati laAAallakum tatafakkaroona

استئناف لإبطال عملين غالبين على الناس في الجاهلية وهما شرب الخمر والميسر وهذا من عداد الأحكام التي بينها في هاته السورة مما يرجع إلى إصلاح الأحوال التي كان عليها الناس في الجاهلية ، والمشروع في بيانها من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى يَسْھَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 178 ] إلى آخر السورة ، عدا ما تخلل ذلك من الآداب والزواجر والبشائر والمواعظ والأمثال والقصص؛ على عادة القرآن في تفنن أساليبه تنشيطاً للمخاطبين والسامعين والقارئين ومن بلغ ، وقد تناسقت في هذه الآية .والسائلون هم المسلمون؛ قال الواحدي : نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل متلفة للمال ، فنزلت هذه الآية ، قال في «الكشاف» : فلما نزلت هذه الآية ترك الخمر قوم وشربها آخرون ثم نزلت بعدها آية المائدة ( 90 ) : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر . } وشرب الخمر عمل متأصل في البشر قديماً لم تحرمه شريعة من الشرائع لا القدر المسكر بله ما دونه ، وأما ما يذكره علماء الإسلام أن الإسكار حرام في الشرائع كلها فكلام لا شاهد لهم عليه بل الشواهد على ضده متوافرة ، وإنما جرأهم على هذا القول ما قعدوه في أصول الفقه من أن الكليات التشريعية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعرض هي مما اتفقت عليه الشرائع ، وهذا القول وإن كنا نساعد عليه فإن معناه عندي أن الشرائع كلها نظرت إلى حفظ هاته الأمور في تشريعاتها ، وأما أن تكون مراعاة باطراد في غير شريعة الإسلام فلا أحسب ذلك يتم ، على أن مراعاتها درجات ، ولا حاجة إلى البحث في هذا بيد أن كتب أهل الكتاب ليس فيها تحريم الخمر ولا التنزيه عن شربها ، وفي التوراة التي بيد اليهود أن نوحاً شرب الخمر حتى سكر ، وأن لوطاً شرب الخمر حتى سكر سكراً أفضى بزعمهم إلى أمر شنيع ، والأخير من الأكاذيب؛ لأن النبوءة تستلزم العصمة ، والشرائع وإن اختلفت في إباحة أشياء فهنالك ما يستحيل على الأنبياء مما يؤدي إلى نقصهم في أنظار العقلاء ، والذي يجب اعتقاده : أن شرب الخمر لا يأتيه الأنبياء؛ لا يشربها شاربوها إلا للطرب واللهو والسكر ، وكل ذلك مما يتنزه عنه الأنبياء ولأنها يشربونها لقصد التقوى لقلة هذا القصد من شربها .وفي سفر اللاويين من التوراة وكلم الله هارون قائلاً : خمراً ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا . فرضاً دهرياً في أجيالكم وللتمييز بين المقدس والمحلَّل وبين النجس والطاهر .وشيوع شرب الخمر في الجاهلية معلوم لمن علم أدبهم وتاريخهم فقد كانت الخمر قوام أود حياتهم ، وقصارى لذَّاتهم ومسرة زمانهم وملهى أوقاتهم ، قال طرفة :ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عُوَّدِيفمنهن سبقي العاذلات بشَربة ... كُمَيْتتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِوعن أنس بن مالك : حرمت الخمر ولم يكن يومئذٍ للعرب عيش أعجب منها ، وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر . فلا جرَم أن جاء الإسلام في تحريمها بطريقة التدريج فأقر حقبةً إباحة شربها وحسبكم في هذا الامتنانُ بذلك في قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [ النحل : 67 ] على تفسير من فسر السَّكَر بالخمر . وقيل السَّكَر : هو النبيذ غير المسكر ، والأظهر التفسير الأول . وآية سورة النحل نزلت بمكة ، واتفق أهل الأثر على أن تحريم الخمر وقع في المدينة بعد غزوة الأحزاب بأيام ، أي في آخر سنة أربع أو سنة خمس على الخلاف في عام غزوة الأحزاب . والصحيح الأول ، فقد امتن الله على الناس بأن اتخذوا سكراً من الثمرات التي خلقها لهم ، ثم إن الله لم يهمل رحمته بالناس حتى في حملهم على مصالحهم فجاءهم في ذلك بالتدريج ، فقيل : إن آية سورة البقرة هذه هي أول آية آذنت بما في الخمر من علة التحريم ، وأن سبب نزولها ما تقدم ، فيكون وصفها بما فيها من الإثم والمنفعة تنبيهاً لهم ، إذ كانوا لا يذكرون إلاّ محاسنها فيكون تهيئة لهم إلى ما سيرد من التحريم ، قال البغوي : إنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تَقَدَّم في تحريم الخمر " أي ابتدأَ يُهيىء تحريمها يقال : تقدمت إليك في كذا أي عرضتُ عليك ، وفي «تفسير ابن كثير» : أنها ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة أي معرضة بالكف عن شربها تنزهاً . وجمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النساء وقبل آية سورة المائدة ، وهذا رأي عمر بن الخطاب كما روى أبو داود ، وروَى أيضاَ عن ابن عباس أنّه رأى أن آية المائدة نسخت { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] ، ونسخت آية { يسألونك عن الخمر والميسر } ، ونُسب لابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زين بن أسلم .وذهب بعض المفسرين إلى أن آية البقرة هذه ثبت بها تحريم الخمر فتكون هذه الآية عندهم نازلة بعد آية سورة النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وإذ كانت سورة البقرة قد نزلت قبل سورة النساء وسورة المائدة ، فيجيء على قول هؤلاء أن هذه الآية نزلت بعد نزول سورة البقرة وأنها وضعت هنا إلحاقاً بالقضايا التي حكى سؤالهم عنها .وأن معنى فيهما إثم كبير } في تعاطيهما بشرب أحدهما واللعب بالآخر ذنب عظيم ، وهذا هو الأظهر من الآية؛ إذ وُصف الإثم فيها بوصف كبير فلا تكون آية سورة العقود إلاّ مؤكدة للتحريم ونصاً عليه؛ لأن ما في آيتنا هذه من ذكر المنافع ما قد يتأوّله المتأوّلون بالعذر في شربها ، وقد روي في بعض الآثار أنّ ناساً شربوا الخمر بعد نزول هذه الآية فصلّى رجلان فجعلا يهجران كلاماً لا يُدْرَى ما هو ، وشرِبها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر من المشركين ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه فزعاً ورفع شيئاً كان بيده ليضربه فقال الرجل : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله وآلى : لا أطعمها أبداً ، فأنزل الله تحريمها بآية سورة المائدة .والخمر اسم مشتق من مصدر خَمَر الشيءَ يخمرُه من باب نصر إذا ستَره ، سمي به عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذف بالزبد فصار مسكراً؛ لأنه يَستر العقل عن تصرفه الخَلْقي تسمية مجازية وهي إما تسمية بالمصدر ، أو هو اسم جاء على زِنة المصدر وقيل : هو اسم لكل مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أوْ عصير غيره أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر أو غيرهما من الأنبذة وتُرك حتى يختمر ويُزبد ، واستظهره صاحب «القاموس» . والحق أن الخمر كل شراب مسكر إلا أنه غلب على عصير العنب المسكر؛ لأنهم كانوا يتنافسون فيه ، وأن غيره يطلق عليه خَمر ونبيذ وفضيخ ، وقد وردت أخبار صحيحة تدل على أن معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التمر ، وأن أشربة أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب ، وهي من التمر والزبيب والعسل والذرة والشعير وبعضها يسمى الفضيخ ، والنقيع ، والسُّكَرْكَةَ ، والبِتْع . وما ورد في بعض الآثار عن ابن عمر : نزل تحريم الخمر وبالمدينة خمسة أشربة ما فيها شراب العنب ، معناه ليس معدوداً في الخمسة شرابُ العنب لقلة وجوده وليسر المراد أن شراب العنب لا يوجد بالمدينة . وقد كان شراب العنب يجلب إلى الحجاز ونجد من اليمن والطائف والشام قال عَمرو ابن كلثوم :ولا تُبِقي خُمور الأَنْدَرِينوأندرين بلد من بلاد الشام .وقد انبنى على الخلاف في مسمى الخمر في كلام العرب خلاف في الأحكام ، فقد أجمع العلماء كلهم على أن خمر العنب حرام كثيرها إجماعاً وقليلها عند معظم العلماء ويحد شارب الكثير منها عند الجمهور وفي القليل خلاف كما سيأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى ، ثم اختلفوا فيما عداها فقال الجمهور : كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام وحكمه كحكم الخمر في كل شيء أخذاً بمسمى الخمر عندهم ، وبالقياس الجلي الواضح أن حكمة التحريم هي الإسكار وهو ثابت لجميعها وهذا هو الصواب .وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وسفيان الثوري : يختص شراب العنب بتلك الأحكام أما ما عداه فلا يحرم منه إلا القدر المسكر ، هكذا ينقل المخالفون عن أبي حنيفة ، وكان العلماء في القديم ينقلون ذلك مطلقاً حتى ربما أوهم نقلهم أنه لا يرى على من سكر بغير الخمر شيئاً ، ويزيد ذلك إيهاماً قاعدة أن المأذون فيه شرعاً لا يتقيد بالسلامة وربما عضدوا ذلك بمنقول قصص وحوادث كقول أبي نواس :أباح العراقي النبيذ وشربه ... وقال حَرامان المدامة والسَّكْرُولكن الذي استقر عليه الحنفية هو أن الأشربة المسكرة قسمان ، أحدهما محرم شربه وهو أربعة : ( الخمر ) وهو النيء من عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذَف بالزبد ، ( والطِلاء ) بكسر الطاء وبالمد وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه ثم ترك حتى صار مسكراً ، ( والسَّكَر ) بفتح السين والكاف وهو النيء من ماء الرطب أي من الماء الحار المصبوب على الرطب ثم يصير مسكراً ، ( والنقيع ) وهو النيء من نبيذ الزبيب ، وهذه الأربعة حرام قليلها وكثيرها ونجسة العين لكن الخمر يكفر مستحلها ويحد شارب القليل والكثير منها ، وأما الثلاثة الباقية فلا يكفر مستحلها ولا يحد شاربها إلا إذا سكر .القسم الثاني الأشربة الحلال شربها وهي نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ ولو أدنى طبخة ، ونبيذ الخليطين منهما إذا طبخ أدنى طبخة ، ونبيذ العسل والتين والبُرّ والشعير والذُّرة طُبخ أم لم يطبخ . والمثلث وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، فهذه الأربعة يحل شربها؛ إذا لم يقصد به اللهو والطرب بل التقوي على العبادة ( كذا ) أو إصلاح هضم الطعام أو التداوي وإلا حرمت ولا يحد شاربها إلا إذا سكر .وهذا التفصيل دليله القياس ، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد ، وأما الحد فلا وجه للتفصيل فيه لأنه إن كان على السكر فالجميع سواء في الإسكار ، على أنه يلزم ألاّ يكون الحد إلا عند حصول السكر وليس في الآثار ما يشهد لغير ذلك ، وإن كان الحد لسد الذريعة فلا أرى أن قاعدة سد الذريعة تبلغ إلى حد مرتكب الذريعة قبل حصول المتذرع إليه . وتَمسكُّ الحنفية لهذا التفصيل بأن الأنبذة شربها الصحابة هو تمسك أوهى مما قبله ، إذ الصحابة يحاشون عن شرب المسكرات وإنما شربوا الأنبذة قبل اختمارها ، واسم النبيذ يطلق على الحلو والمختمر فصار اللفظ غير منضبط ، وقد خالف محمد بن الحسن إمامه في ذلك فوافق الجمهور . وربما ذكر بعضهم في الاستدلال أن الخمر حقيقة في شراب العنب النيء مجاز في غيره من الأنبذة والشراب المطبوخ ، وقد جاء في الآية لفظ الخمر فيحمل على حقيقته وإلحاقُ غيره به إثبات اللغة بالقياس ، وهذا باطل ، لأن الخلاف في كون الخمر حقيقة في شراب العنب أو في الأعم خلاف في التسمية اللغوية والإطلاق ، فبقطع النظر عنه كيف يظن المجتهد بأن الله تعالى يحرم خصوص شراب العنب ويترك غيره مما يساويه في سائر الصفات المؤثرة في الأحكام .فإن قالوا : إن الصفة التي ذكرت في القرآن قد سوينا فيها جميع الأشربة وذلك بتحريم القدر المسكر وبقيت للخمر أحكام ثبتت بالسنة كتحريم القليل والحد عليه أو على السُّكر فتلك هي محل النظر ، قلنا : هذا مصادرة لأننا استدللنا عليهم بأنه لا يظن بالشارع أن يفرق في الأحكام بين أشياء متماثلة في الصفات ، على أنه قد ثبت في «الصحيح» ثبوتاً لا يدع للشك في النفوس مجالاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة " رواه النعمان بن بشير وهو في «سنن أبي داود» وقال : " الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة " رواه أبو هريرة وهو في «سنن أبي داود» ، وقال : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " رواه ابن عمر في «سنن الترمذي» ، وقال أنس : لقد حُرِّمت الخمر وما نجد شراب العنب إلا قليلاً ، وعامة شرابنا فضيخ التمر . كما في «سنن الترمذي» . وأما التوسع في الخمر بعد الطبخ ، فهو تشويه للفقه ولطخ ، وماذا يفيد الطبخ إن كان الإسكار لم يزل موجوداً .وصف الله الخمر بأن فيها إثماً كبيراً ومنافع . والإثم : معصية الله بفعل ما فيه فساد ولا يرضى الله ، وأشار الراغب إلى أن في اشتقاق الإثم معنى الإبطاء عن الخير ، وقال ابن العربي في تفسير سورة الأعراف : الإثم عبارة عن الذم الوارد في الفعل ، فكأنه يشير إلى أن الإثم ضد الثواب ، وظاهر اصطلاح الشريعة أن الإثم هو الفعل المذموم في الشرع ، فهو ضد القربة فيكون معنى { فيهما إثم كبير } أنهما يتسبب منهما ما هو إثم في حال العربدة وحال الربح والخسارة من التشاجر .وإطلاق الكبير على الإثم مجاز ، لأنه ليس من الأجسام ، فالمراد من الكبير : الشديد في نوعه كما تقدم آنفاً .وجيء بفي الدالة على الظرفية لإفادة شدة تعلق الإثم والمنفعة بهما؛ لأن الظرفية أشد أنواع التعلق ، وهي هنا ظرفية مجازية شائعة في كلام العرب ، وجعلت الظرفية متعلقة بذات الخمر والميسر للمبالغة ، والمراد في استعمالهما المعتاد .واختير التعبير بالإثم للدلالة على أنه يعود على متعاطي شربها بالعقوبة في الدنيا والآخرة .وقرأ الجمهور { إثم كبير } بموحَّدَة بعد الكاف وقرأه حمزة والكسائي ( كثير ) بالثاء المثلثة ، وهو مجازاً استعير وصف الكثير للشديد تشبيهاً لقوة الكيفية بوفرة العدد .والمنافع : جمع منفعة ، وهي اسم على وزن مَفعلة وأصله يحتمل أن يكون مصدراً ميمياً قصد منه قوة النفع ، لأن المصدر الميمي أبلغ من جهة زيادة المبنى . ويحتمل أن يكون اسم مكان دالاً على كثرة ما فيه كقولهم مَسْبَعة ومَقْبَرة أي يكثر فيهما النفع من قبيل قولهم مَصْلَحة ومَفْسَدة ، فالمنفعة على كل حال أبلغ من النفع .والإثم الذي في الخمر نشأ عما يترتب على شربها تارة من الإفراط فيه والعربدة من تشاجر يجر إلى البغضاء والصد عن سبيل الله وعن الصلاة ، وفيها ذهاب العقل والتعرض للسخرية ، وفيها ذهاب المال في شربها ، وفي الإنفاق على الندامى حتى كانوا ربما رهنوا ثيابهم عند الخمارين قال عُمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي :ولسنا بشَرْببٍ أمَّ عمرو إذَا انْتَشَوْا ... ثِيابُ الندامَى عندهم كالمغانمولكننا يا أمَّ عمرو نديمنا ... بمنزلة الريَّان ليس بعائموقال عنترة :وإذا سَكِرْتُ فإنني مُستهلك ... مالي وعِرضي وافِرٌ لم يُكْلَمِوكانوا يشترون الخمر بأثمان غالية ويعدون المماكسة في ثمنها عيباً ، قال لبيد : ... أُغْلِي السِّبَاءَ بكل أَدْكَنَ عَاتِقٍأَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتَامُها ... ومن آثامها ما قرره الأطباء المتأخرون أنها تورث المدمنين عليها أضراراً في الكبد والرئتين والقلب وضعفاً في النَّسل ، وقد انفرد الإسلام عن جميع الشرائع بتحريمها ، لأجل ما فيها من المضار في المروءة حرمها بعض العرب على أنفسهم في الجاهلية ، فممن حرمها على نفسه في الجاهلية قَيْس بن عاصم المِنْقَري بسبب أنه شرب يوماً حتى سكر فجذب ابنته وتناول ثوبها ، ورأى القمر فتكلم معه كلاماً ، فلما أخبر بذلك حين صحا آلى لا يذوق خمراً ما عاش وقال :رأيتُ الخمرَ صالحة وفيها ... خصال تُفسد الرجلَ الحليمافلا واللَّه أَشْرَبُها صَحِيحا ... ولا أُشْفَى بها أَبدا سَقيماولا أعطي بها ثَمنا حياتي ... ولا أَدعو لها أبداً نديماًفإنَّ الخمر تفضح شاربيها ... وتُجنيهم بها الأمر العظيماوفي «أمالي القالي» نسبة البيتين الأولين لصفوان بن أمية ، ومنهم عامر بن الظَّرِب العَدْواني ، ومنهم عفيف بن معد يكرب الكندي عم الأشعث بن قيس ، وصفوان بن أمية الكناني ، وأسلوم البالي ، وسويد بن عدي الطائي ، ( وأدرك الإسلام ) وأسد بن كُرْز القَسْري البَجَلي الذي كان يلقب في الجاهلية برب بجيلة ، وعثمان بن عفان ، وأبو بكر الصديق ، وعباس بن مرداس ، وعثمان بن مظعون ، وأمية بن أبي الصلت ، وعبد الله بن جُدْعان .وأما المنافع فمنها منافع بدنية وهي ما تكسبه من قوة بدن الضعيف في بعض الأحوال وما فيها من منافع التجارة فقد كانت تجارة الطائف واليمن من الخمر ، وفيها منافع من اللذة والطرب ، قال طرفة :ولولا ثلاث هُنَّ من عيشة الفتى ... وجدك لم أَحفل متى قام عُوَّدِيفمنهن سَبْقِي العاذِلات بشَرْبَة ... كُمَيْتتٍ متى ما تُعْلَ بالمَاء تُزْبِدوذهب بعض علمائنا إلى أن المنافع مالية فقط فراراً من الاعتراف بمنافع بدنية للخمر وهو جحود للموجود ومن العجيب أن بعضهم زعم أن في الخمر منافع بدنية ولكنها بالتحريم زالت .وذُكر في هذه الآية الميسر عطفاً على الخمر ومخبراً عنهما بأخبار متحدة فما قيل في مقتضى هذه الآية من تحريم الخمر أو من التنزيه عن شربها يقال مثله في الميسر ، وقد بان أن الميسر قرين الخمر في التمكن من نفوس العرب يومئذ وهو أكبر لهو يَلْهُون به ، وكثيراً ما يأتونه وقت الشراب إذا أعوزهم اللحم للشِّواء عند شرب الخمر ، فهم يتوسلون لنحر الجَزور ساعتئذ بوسائل قد تبلغ بهم إلى الاعتداء على جزر الناس بالنحر كما في قصة حمزة ، إذ نحر شارفاً لعليّ بن أبي طالب حين كان حمزة مع شَرْب فغنته قينته مغرية إياه بهذا الشارف :ألا يا حَمْزَ للشُّرُف النِّوَاءِ ... وهُنَّ معقَّلاتٌ بالفِناءفقام إليها فشق بطنها وأخرج الكبد فشواه في قصة شهيرة ، وقال طرفةُ يذكر اعتداءه على ناقة من إبل أبيه في حال سُكره :فَمَرَّتْ كَهَاةٌ ذات خَيْففٍ جُلاَلَةٌ ... عَقِيلةُ شَيْخخٍ كالوَبيل يَلَنْدَدِيقول وقد تَرَّ الوَظيفَ وساقَها ... أَلَسْتَ ترى أن قد أتيتَ بمُؤْيِدِوقال ألا ماذا ترون بشارب ... شديد علينا بغيه متعمِّدِفلا جرم أن كان الميسر أيسر عليهم لاقتناء اللحم للشرب ولذلك كثر في كلامهم قرنه بالشُّرب ، قال سبرة بن عمرو الفقعسي يذكر الإبل :نُحَابي بها أَكْفَاءَنَا ونُهِينها ... ونَشْرَبُ في أثمانها ونُقَامِرُوذكر لبيد الخمر ثم ذكر الميسر في معلقته فقال :أغلى السِّباءَ بكل أَدْكَنَ عَاتِقٍ ... أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتَامُهاثم قال :وجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها ... بمَغَالِققٍ مُتَشَابِهٍ أَجْسَامُهاوذكرهما عنترة في بيت واحد فقال يذكر محاسن قرنه الذي صرعه في الحرب :رَبِذٍ يَدَاهُ بالقِدَاححِ إذَا شَتَا ... هَتَّاككِ غَايَاتتِ التِّجار مُلَوَّمَفلأجل هذا قُرن في هذه الآية ذكر الخمر بذكر الميسر ، ولأجله اقترنا في سؤال السائلين عنهما إن كان ثمة سؤال .والميسر : اسم جنس على وزن مَفْعِل مشتق من اليُسر ، وهو ضد العسر والشدة ، أو من اليسار وهو ضد الإعسار ، كأنهم صاغوه على هذا الوزن مراعاة لزنة اسم المكان من يَسر يَيْسِر وهو مكان مجازي جعلوا ذلك التقامر بمنزلة الظرف الذي فيه اليسار أو اليسر ، لأنه يفضي إلى رفاهة العيش وإزالة صعوبة زمن المَحْل وكَلَب الشِّتَاء ، وقال صاحب «الكشاف» : هو مصدر كالمَوْعد ، وفيه أنه لو كان مصدراً لكان مفتوح السين؛ إذ المصدر الذي على وزن المفعِل لا يكون إلا مفتوح العين ما عدا ما شذ ، ولم يذكروا الميسر في الشاذ ، إلا أن يجاب بأن العرب وضعوا هذا الاسم على وزن المصدر الشاذ ليعلم أنه الآن ليس بمصدر .والميسر : قمار كان للعرب في الجاهلية ، وهو من القمار القديم المتوغل في القدم كان لعادٍ من قبل ، وأول من ورد ذكر لعب الميسر عنه في كلام العرب هو لقمان بن عَاد ويقال لقمان العادي ، والظاهر أنه ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام ، وهو غير لقمان الحكيم ، والعرب تزعم أن لقمان كان أكثر الناس لعباً بالميسر حتى قالوا في المثل «أيسرُ من لقمان» وزعموا أنه كان له ثمانية أيسار لا يفارقونه هم من سادة عاد وأشرافهم ، ولذلك يشبِّهون أهلَ الميسر إذا كانوا من أشراف القوم بأَيْسار لقمان قال طرفة بن العبد :وهُمُ أَيْسَار لقُمْانَ إذا ... أَغْلَتتِ الشَّتْوة أَبْدَاءَ الجُزُرْأراد التشبيه البليغ .وصفة الميسر أنهم كانوا يجعلون عشرة قِداح جمع قِدْح بكسر القاف وهو السهم الذي هو أصغر من النبل ومن السهم فهو سهم صغير مثل السهام التي تلعب بها الصبيان وليس في رأسه سنان وكانوا يسمونها الخِطاء جمع حَظْوَة وهي السهم الصغير وكلها من قصَب النبْععِ ، وهذه القداح هي : الفذ ، والتَّوْأم ، والرَّقِيبُ ، والحِلْس ، والنَّافِس ، والمُسْبل ، والمُعَلَّى ، والسَّفيح ، والمنيح ، والوَغْد ، وقيل النافسُ هو الرابع والحِلس خامس ، فالسبعة الأوَل لها حظوظ من واحد إلى سبعة على ترتيبها ، والثلاثة الأخيرة لا حظوظ لها وتسمى أَغفالاً جمع غُفْل بضم الغين وسكون الفاء وهو الذي أغفل من العَلامة ، وهذه العَلامات خُطُوط من واحد إلى سبعة ( كأرقام الحساب الروماني إلى الأربعة ) ، وقد خطُّوا العلامات على القِداح ذات العلامات بالشلط في القصَبة أو بالحرق بالنار فتسمى العلامة حينئذ قَرْمَة ، وهذه العلامات توضع في أسافل القداح . فإذا أرادوا التقامر اشتَرَوْا جزوراً بثمن مؤجل إلى ما بعد التقامر وقسموه أَبْدَاءً أي أجزَاء إلى ثمانية وعشرين جُزءاً أو إلى عشرة أجزاء على اختلاف بين الأصمعي وأبي عُبيدة ، والظاهر أن للعرب في ذلك طريقتين فلذلك اختلف الأصمعي وأبو عبيدة ، ثم يضعون تلك القِداح في خريطة من جِلْد تسمى الرِّبابة بكسر الراء هي مثل كنانة النبال وهي واسعة لها مخرج ضيق يضيق عن أن يخرج منه قِدحان أو ثلاثة ، ووكلوا بهذه الربابة رجلاً يُدعى عندهم الحُرْضة والضَّرِيب والمُجيل ، وكانوا يُغْشُون عينيه بمِغْمَضَة ، ويجعلون على يديه خِرقة بيضاء يسمونها المِجْوَل يعصبونها على يديه أو جلدةً رقيقة يسمونها السُّلْفة بضم السين وسكون اللام ، ويلتحق هذا الحُرْضة بثوب يُخْرِج رأسه منه ثم يجثو على ركبتيه ويضع الربابة بين يديه ، ويقوم وراءَه رجل يسمى الرقيب أو الوكيل هو الأمين على الحُرْضة وعلى الأَيسار كي لا يحتال أحد على أحد وهو الذي يأمر الحُرْضة بابتداء الميسر ، يجلسون والأيسارَ حول الحرضة جُثياً على رُكَبهم ، قال دريد بن الصمة :دَفَعْتُ إلى المُجيل وقد تَجَاثَوْا ... على الرُّكبات مطلع كل شمسثم يقول الرقيب للحرْضة جَلْجِلْ القِداح أي حركها فيخضخضها في الرِبابة كي تختلط ثم يفيضها أي يدفعها إلى جهة مَخرج القِداح من الربابة دَفْعة واحدة على اسم واحد من الأيسار فيخرج قِدح فيتقدم الوكيل فيأخذه وينظره فإن كان من ذوات الأنصباء دفعه إلى صاحبه وقال له قم فاعتزِلْ فيقوم ويعتزل إلى جهة ثم تعاد الجلجلة ، وقد اغتفروا إذا خرج أول القداح غُفْلاً ألا يحسب في غُرم ولا في غُنْم بل يُرد إلى الربابة وتعاد الإحالة وهكذا ومن خَرَجت لهم القداح الأغفال يدفعون ثمن الجزور .فأما على الوصف الذي وصفَ الأصمعي أن الجزور يقسم إلى ثمانية وعشرين جزءا فظاهر أن لجميع أهل القدح القامرة شيئاً من أَبْداء الجزور لأن مجموع ما على القداح الرابحة من العلامات ثمانية وعشرون ، وعلى أهل القداح الخاسرة غرم ثمنه .وأما على الوصف الذي وصف أبو عبيدة أن الجزور يقسم إلى عشرة أبداء فذلك يقتضي أن ليس كل المتقامرين برابح ، لأن الربح يكون بمقدار عشرة سهام مما رقمت به القداح وحينئذ إذا نفدت الأجزاء انقطعت الإفاضة وغرم أهل السهام الأغفال ثمن الجزور ولم يكن لمن خرجت له سهام ذات حظوظ بعد الذين استوفوا أبداء الجزور شيءٌ إذ ليس في الميسر أكثر من جزور واحد قال لبيد :وجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها ... البيتوإذْ لا غنم في الميسر إلا من اللحم لا من الدراهم أو غيرها ، ولعل كلاً من وصفي الأصمعي وأبي عبيدة كان طريقة للعرب في الميسر بحسب ما يصطلح عليه أهل الميسر ، وإذا لم يجمع العدد الكافي من المتياسرين أَخَذ بعض من حضر سهمين أو ثلاثة فكثر بذلك ربحه أو غُرمه وإنما يفعل هذا أهلُ الكرم واليسار لأنه معرض لخسارة عظيمة ، إذ لم يفز قدحه ، ويقال في هذا الذي يأخذ أكثر من سهم مُتَمِّمَ الأيسار قال النابغة :إني أُتَمِّمُ أيْساري وأمنحُهم ... مثنى الأيادِي وأَكْسُو الجفنة الأدُماويسمُّون هذا الإتمام بمثْنى الأيادي كما قال النابغة ، لأنه يقصد منه تكرير المعروف عند الربح فالأيادي بمعنى النعم ، وكانوا يعطون أجر الرقيب والحرضة والجَزّار من لحم الجزور فأما أجر الرقيب فيعطاه من أول القسمة وأفضل اللحم ويسمونه بدءا ، وأما الحرضة فيعطى لحماً دون ذلك وأما الجزار فيعطى مما يبقى بعد القسم من عظم أو نصف عظم ويسمونه الريم .ومن يحضر الميسر من غير المتياسرين يسمون الأعران جمع عرن بوزن كتف وهم يحضرون طمعاً في اللحم ، والذي لا يحب الميسر ولا يحضره لفقره سمي البرم بالتحريك .وأصل المقصد من الميسر هو المقصد من القمار كله وهو الربح واللهو يدل لذلك تمدحهم وتفاخرهم بإعطاء ربح الميسر للفقراء ، لأنه لو كان هذا الإعطاء مطرداً لكل من يلعب الميسر لما كان تمدح به قال الأعشى :المُطْعِمُو الضيففِ إذا ما شَتَوْا ... والجاعِلُو القُوتتِ على اليَاسِرثم إن كرامهم أرادوا أن يظهروا الترفع عن الطمع في مال القمار فصاروا يجعلون الربح للفقراء واليتامَى ومَن يُلم بساحتهم من أضيافهم وجيرتهم ، قال لبيد :أَدْعُو بهن لعَاقِرٍ أو مُطْفِلٍ ... بُذِلَتْ لجيراننِ الجميع لِحَامُهافالضَّيفُ والجارُ الجَنيب كأنما ... هبَطا تَبالَةَ مخصِبا أَهْضَامُهافصار الميسر عندهم من شعار أهل الجود كما تقدم في أبيات لبيد ، وقال عنترة كما تقدم :رَبِذٍ يَداه بالقِداح إذا شَتَا ... هَتَّاككِ غَايَات التِّجار ملوحأي خفيف اليد في الميسر لكثرة ما لعب الميسر في الشتاء لنفع الفقراء ، وقال عُمير ابن الجَعد :يَسِرٍ إذا كان الشتاءُ ومُطْعمٍ ... للَّحْم غير كُبُنَّةٍ عَلْفُوفِالكُبُنَّة بضمتين المنقبض القليل المعروف والعلفوف كعصفور الجافي .فالمنافع في الميسر خاصة وعامة وهي دنيوية كلها ، والإثم الذي فيه هو ما يوقعه من العداوة والبغضاء ومن إضاعة الوقت والاعتياد بالكسل والبطالة واللهو والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التفقه في الدين وعن التجارة ونحوها مما به قوام المدنِيَّة وتلك آثام لها آثارها الضارة في الآخرة ، ولهذه الاعتبارات ألحق الفقهاء بالميسر كل لعب فيه قمار كالنّرد ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم« إيَّاكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم » يريد النرد ، وعن علي : النرد والشطرنج من الميسر ، وعلى هذا جمهور الفقهاء ومالك وأبو حنيفة وقال الشافعي : إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسانُ عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراماً وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع المال وأخذه وهذا ليس كذلك وهو وجيه والمسألة مبسوطة في الفقه .والناس مراد به العموم لاختلاف المنافع ، ولأنه لما وقع الإخبار بواسطة ( في ) المفيدة الظرفية لم يكن في الكلام ما يقتضي أن كل فرد من أفراد الناس ينتقع بالخمر والميسر ، بل الكلام يقتضي أن هاته المنافع موجودة في الخمر والميسر لمن شاء أن ينتفع كقوله تعالى : { فيه شفاء للناس } [ النحل : 69 ] . وليس المراد بالناس طائفة لعدم صلوحية أل هنا للعهد ولو أريد طائفة لما صح إلا أن يقال ومنافع الشاربين والياسرين كما قال : { وأنهار من خمر لذة للشاربين } [ محمد : 15 ] .فإن قلت : ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع ، قلت إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء ، لأن الله جعل هذا الدين ديناً دائماً وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرِّعون لمختلف ومتجددِ الحوادث ، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } [ الحجرات : 12 ] ونحو ذلك ، وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل ، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها ، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم ، وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيراً لهم بأن ربهم لا يريد إلاَّ صلاحَهم دون نكايتهم كقوله : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [ البقرة : 216 ] وقوله : { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } [ البقرة : 183 ] . وهنالك أيضاً فائدة أخرى وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم } [ البقرة : 187 ] .{ وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } { فِى الدنيا والاخرة }كان سؤالهم عن الخمر والميسر حاصلاً مع سؤالهم { ماذا ينفقون } ، فعطفت الآية التي فيها جَوابُ سؤالهم { ماذا ينفقون } على آية الجواب عن سؤال الخمر والميسر ، ولذلك خولف الأسلوب الذي سلف في الآيات المختلفة بجمل { يسألونك } بدون عطف فجيء بهذه معطوفة بالواو على التي قبلها .ومناسبة التركيب أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج ، فبينت لهم الآية وجه الإنفاق الحق .روى ابن أبي حاتم أن السائل عن هذا معاذ ابن جبل وثعلبة بن غَنَمَة ، وقيل هو رجوع إلى الجواب عن سؤال عمرو بن الجموح الذي قيل إنه المجاب عنه بقوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين } [ البقرة : 215 ] إلخ ، وعليه فالجواب عن سؤاله موزع على الموضعين ليقع الجواب في كل مكان بما يناسبه .ولإظهار ما يدفع توقعهم تعطيل نفع المحاويج وصلت هذه الآية بالتي قبلها بواو العطف .والعفو : مصدر عَفَا يعفو إذا زاد ونَمَى قال تعالى : { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا } [ الأعراف : 95 ] ، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فَضلَ بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله ، فالمعنى أن المرء ليس مطالباً بارتكاب المآثم لينفق على المحاويج ، وإنما ينفق عليهم مما استفضله من ماله وهذا أمر بإنفاق لا يشق عليهم وهذا أفضل الإنفاق ، لأن مقصد الشريعة من الإنفاق إقامة مصالح ضعفاء المسلمين ولا يحصل منه مقدار له بال إلا بتعميمه ودوامه لتستمر منه مقادير متماثلة في سائر الأوقات وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم ولا يخلون به في وقت من أوقاتهم ، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني ، وفي الحديث : « خيرُ الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غنى وابدأ بمن تَعول » فإن البداءة بمن يعول ضرب من الإنفاق ، لأنه إن تركهم في خصاصة احتاجوا إلى الأخذ من أموال الفقراء ، وفي الحديث : « إنك أنْ تَدَع ورثتَك أغنياء خير من أن تَدَعهم عالة يتكففون الناس » أي يمدون أكفهم للسؤال ، فتبين أن المنفق بإنفاقه على من ينفق عليه يخفف عن الفقراء بتقليل عدد الداخلين فيهم ، ولذلك جاء في الحديث : « وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك » . ولهذا أمر في هذه الآية بإنفاق العفو ، لأنها لعموم المنفقين ، فلا تنافي أن ينفق أحد من ماله المحتاج هو إليه أو جميع ماله إذا صبَر على ذلك ولم يكن له من تجب عليه هو نفقته .وآل في العفو للجنس المعروف للسامعين ، والعفو مقول عليه بالتشكيك؛ لأنه يتبع تعيينَ ما يحتاجه المنفق والناسُ في ذلك متفاوتون ، وجعل الله العفو كلَّه منفقاً ترغيباً في الإنفاق وهذا دليل على أن المراد من الإنفاق هنا الإنفاق المتطوع به ، إذ قد تضافرت أدلة الشريعة وانعقد إجماع العلماء على أنه لا يجب على المسلم إنفاق إلا النفقات الواجبة وإلا الزكوات وهي قد تكون من بعض ما يفضل من أموال أهل الثروة إلا ما شذ به أبو ذَر ، إذ كان يرى كنز المال حراماً وينادي به في الشام فشكاه معاوية لعثمان فأمر عثمان بإرجاعه من الشام إلى المدينة ثم إسكانه بالربذة بطلب منه ، وقد اجتهد عثمان ليسد باب فتنة ، وعن قيس بن سعد أن هذه الآية في الزكاة المفروضة ، وعلى قوله يكون ( أل ) في العفو للعهد الخارجي وهو نماء المال المقدر بالنصاب .وقرأ الجمهور ( قل العفو ) بنصب العفو على تقدير كونه مفعولاً لفعل دل عليه { ماذا ينفقون } ، وهذه القراءة مبنية على اعتبار ذا بعد ( ما ) الاستفهامية ملغاة فتكون ( ما ) الاستفهامية مفعولاً مقدماً لينفقون فناسب أن يجيء مفسر ( ما ) في جواب السؤال منصوباً كمفسره .وقرأ ابن كثير في إحدى روايتين عنه وأبو عمرو ويعقوب بالرفع على أنه خبر مبتدأ تقديره هو العفو ، وهذه القراءة مبنية على جعل ذا بعد ما موصولة أي يسألونك عن الذي ينفقونه ، لأنها إذا كانت موصولة كانت مبتدأ إذ لا تعمل فيها صلتها وكانت ما الاستفهامية خبراً عن ما الموصولة ، وكان مفسرها في الجواب وهو العفو فناسب أن يجاء به مرفوعاً كمفسره ليطابق الجوابُ السؤال في الاعتبارين وكلا الوجهين اعتبار عربي فصيح .وقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } ، أي كذلك البيان يبين الله لكم الآيات ، فالكاف للتشبيه واقعة موقع المفعول المطلق المبيِّن لنوع { يُبَيِّن } ، وقد تقدم القول في وجوه هذه الإشارة في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [ البقرة : 143 ] .أو الإشارة راجعة إلى البيان الواقع في قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } إلى قوله { العفو } ، وقرن اسم الإشارة بعلامة البعد تعظيماً لشأن المشار إليه لكماله في البيان ، إذ هو بيان للحكم مع بيان علته حتى تتلقاه الأمة بطيب نفس ، وحتى يلحقوا به نظائره ، وبيان لقاعدة الإنفاق بما لا يشذ عن أحد من المنفقين ، ولكون الكاف لم يقصد بها الخطاب بل مجرد البعد الاعتباري للتعظيم لم يؤت بها على مقتضى الظاهر من خطاب الجماعة فلم يقل كذلكم على نحو قوله : { يبين الله لكم } .واللام في { لكم } للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقى إلى كامل العقل موضحة بالعواقب ، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين . وبين فائدة هذا البيان على هذا الأسلوب بقوله : { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ، لأن التفكر مظروف في الدنيا والآخرة ، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله { والآخرة } إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل : قل فيهما نفع وضر لكان بياناً للتفكر في أمور الدنيا خاصة ، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين ، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا ، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب وقد ذم رجل الدنيا عنده فقال له : «الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت ببينها الخ» .ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله : { ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو } .ويجوز أن تكون الإشارة بقوله { كذلك لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف ، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجاً لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة ، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة ، لأن التعليق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور .
34